السبت، 11 أبريل 2015

قصة العذراء والليل للأديب المصرى الراحل محمود البدوى








ليلة فى بوخارست

اعتدت أن اتناول طعام الغداء فى مطعم القرن الذهبى فى كونستنزا وهو مطعم صغير رخيص يقع فى شارع كارول وتديره امرأة مسنة .. و كان فيه أشهى الأطعمة إلى قلبى .. الكفتة الرومانى .. والنبيذ الإيطالى المعتق .. والسلاطة الشرقية ..
     وكانت صاحبة المطعم طيبة و سمحة النفس .. عندما أدركت أننى سائح وغريب ولا أعرف لغتها أدخلتنى إلى المطبخ وجعلتنى أختار ما أحب من الطعام .. وقد حفظت لها هذا الجميل .. وأصبحت أركب القطار كل يوم من كارمن سيلفا حيث أصيف لأتغدى عندها .. و أنا شاعر بأننى آكل فى بيتى ..
     وكان عندها فتاتان تعملان فى المطعم .. وكانت كارولينا تجئ قبل زميلتها الينورا .. مبكرة فى الصباح تنسق الموائد وتضع عليها المفارش والزهور .. وكانت أصغر وكانت تتكلم فى صوت ناعم حلو .. وتتحرك فى لين ورشاقة كأنها ترقص ..
     وكانت ترتدى مريلة سوداء لامعة .. وتعرف من الفرنسية ما يكفى للتفاهم .. و عندما تسألها عن طعام لا تعرفه .. يرف على خدها لون التفاح ..!
وبدأت معرفتى بها عندما أعطيتها ورقة من ذات الألف ليى لتفكها .. فلما فكتها أعطيتها ما قيمتة ثلاثين مليما كبقشيش .. فرقصت من الفرح و جرت إلى صاحبة المطعم تريها البقشيش الذى أعطاه لها هذا الأمير الشرقى ..!
     ولا تعجب فقد كنا فى عام 1936 .. و كان الكساد على أشده فى أوربا كلها وكنت تستطيع أن تأكل وجبة غذاء كاملة بهذا المبلغ فى مطعم ال 17 دراخمة فى أثيا .. مع شوب من البيرة النمساوية الفاخرة ..!
     وقد ذهبت كل هذه الأحلام بعد أن تحركت فرق العاصفة ودكت أوروبا ..
     ولم أكن وأنا جالس فى المطعم أطلب من كارولينا أن تقدم لى قائمة الطعام .. أو أسالها ما عندك اليوم .. كنت أدعها تختار لى الوان الطعام بنفسها .. وكانت تصنع لى بعد الغداء فنجانا من القهوة التركية ..  وعندما تفرغ من عملها فى حوالى الساعة الثانية بعد الظهر كانت تجئ لتحادثنى .. وتقدم لى ما جمعته من الكتب المصورة .. من شركات السياحة ..
     ورأيتها فى صباح يوم من أيام الآحاد .. تستحم فى بلاج مامايا .. ولما وقع نظرها علىَّ و أنا أراقبها من شرفة الكازينو ابتسمت .. وبعد أن خرجت من الماء مرت تتهادى أمامى .. كفينوس والماء يقطر من جسمها ولوحت لى بيدها من بعيد و جرت لترتدى ثيابها ..
     ولما قابلتها ساعة الظهر فى مطعم القرن الذهبى .. قالت :
     - اتذهب كل صباح .. الى مامايا ..؟ و تقطع هذه المسافة الطويلة بالأتوبيس ..
     - يوم الأحد فقط ..
     - و كذلك أنا .. أذهب فى صباح الأحد .. إلى هناك .. و سأراك فى الأحد المقبل ..
     - و لماذا .. لاتذهبين إلى كارمن سيلفا .. ؟
     - مامايا .. أرخص وأقرب .. وأنا فقيرة .. كما تعرف ..
     - تعالى لنمضى يوما فى كارمن وفى الليل سنذهب إلى الكازينو ..
     - لا استطيع .. إن كونستنزا مدينة صغيرة ، والجميع يعرفوننى ، وصاحبة المطعم إنسانة طيبة وأنا لا أستطيع تركها ..
     - و لكننى أحب أن أمضى يوما كاملا ..
     - إنك ترانى كل يوم .. تقريبا .. و أنا لا أدع أحدا يجلس على هذه المائدة غيرك ..
     - مرسى .. ولكننى أحب أن نقضى يوما معا .. واختارى أنت المكان ..
     - دعنى أفكر إلى الغد ..
فى الغد سألتها :
ـ هل اخترت المكان ..؟
ـ و هل هذا ضرورى .. أنت ترانى فى كل يوم .. ولك شهر هنا ألم تسأم ..؟!
     ـ لا .. وأنا غريب .. وأحتاج إلى عطفك ..
     ـ إذن سنسافر إلى بوخارست .. و نقضى هناك ليلة واحدة .. ليلة واحدة هناك .. بعيدا ,, بعيدا .. عن الناس ..
     واتفقنا على أن نسافر غدا إلى بوخارست .. دون أن نأخذ حقائب لنكون خفيفين .. وتواعدنا على اللقاء فى داخل المحطة .. فى الساعة الحادية عشرة ليلا لنأخذ آخر قطار ..
     وجاءت فى الميعاد .. وقطعنا تذكرتين فى الدرجة الثالثة .. كرغبتها وإلحاحها علىَّ و نحن عند الشباك .. إذ قالت :
     - أنت طالب .. و فقير .. فلماذا الإسراف ..؟
     و جلسنا مستريحين .. وكانت العربة تكاد تكون خالية من الركاب فأخذنا نتحدث ونضحك بكل حريتنا .. ولم نر الكمسارى إلا مرة واحدة طول الطريق ..
وفى أخريات الليل .. أحست كارولينا بالنوم فتمددت على المقعد ووضعت رأسها فى حجرى ..  وأخذت أمسج بيدى على شعرها .. و أشعر بلذة جبيبة ..
     وكان القطار يمضى فى وادى الدانوب .. وكنا نرى المدن الصغيرة تتلألأ .. والوادى الأخضر تحتنا بادى الروعة .. وكانت نسمات الليل الحلوة تهز المشاعر .. وكل ما حولى يأخذ بلب المسافر .. ولكننى حصرت كيانى كله فى هذا الركن من العربة حيث نجلس .. وحمدت الأيام الطيبة التى جعلتنى أسافر .. وأركب البحر .. وأذهب إلى هذا المطعم لألتقى بكارولينا .. كانت بيضاء طويلة فى لون العاج .. وفى مثل سنى أو تكبرنى بعامين اثنين .. ومامن إنسان شاهدنا معا .. إلا تصور أننا طالبان فى جامعة واحدة .. ذاهبان فى العطلة الصيفية .. إلى رحلة جامعية ..
     ولم يكن أحد يعرف أنها رومانية وأننى مصرى .. إلا إذا سألنا عن ذلك صراحة فقد كنا نتحدث بالإشارة .. بلغة الاسبرانتو .. ونتفاهم بهذه اللغة اكثر من تفاهمنا بأية لغة أخرى .. ومع أننى لم أقل لها أية كلمة غرامية .. ولكنها فهمت بغريزتها أننى متيم بها وأننى أشتهيها من أول لقاء لنا فى المطعم .. وأننى حبست نفسى فى كونستنزا من أجلها وتركت كارمن سيلفيا .. وسينايا .. وإيفورى .. وجورجيو كل هذه المصايف الجميلة لأجلها ,. ولم تصدنى .. بل كانت تشجعنى على توثيق العلاقة بيننا .. وتطورها .. ولم أسأل نفسى .. بعد أن استجابت لرغباتى وركبت معى القطار .. هل تحبنى كما أحبها فإن هذا لم يكن يعنينى على الإطلاق .. ولكننى كنت أثق بها وأراها تحرص على راحتى وتشير علىَّ دائما بالاقتصاد فى المصروف وترينى أرخص وأحسن الفنادق .. والمحلات التجارية .. وتعاملنى كأننى من جنسها فلم تكن تستغلنى أبدا ..
     وأخذت أحدثها عن نفسى .. وعن رحلتى .. فى اليونان .. و تركيا و عن جمال البسفور ..
وسألتنى فجأة وهى ترنو إلىَّ بقوة :
  ـ أمعك مسدس ..؟
  ـ مسدس .. و ما الداعى إليه ..
  ـ أحس بشئ جامد تحت رأسى ..
  وقلت لها بكل بساطة :
  ـ إنه حزام ..
  ـ حزام .. ولكنه سميك ..
  ـ إنه من الجلد السميك وبه جيوب ..
  ـ جيوب لماذا ..؟
  ـ لأضع فيه نقودى كلها .. هات يدك ..
 وجلست ومرت بيدها فوق وسطى وقالت :
  ـ إنها فكرة عظيمة ..
 ـ عرفنى بها صديق .. وأنا أتهيأ للسفر ووجدتها فكرة حسنة فأنا آمن مطمئن فى القطارات والبواخر والفنادق ولا أخشى أن تمتد إلىَّ يد السرقة فى ليل أو نهار لأنه لا أحد يعرف مكان النقود ..
 ـ هذا عظيم  ..!!
 وأخذت أحدثها عن الرحلة .. وكيف نشأت .. وكيف أننى ربحت مبلغا كبيرا فى المراهنة على سباق الخيل .. وخشيت أن يضيع فى المقامرة كما جاء .. فوضعته فى هذا الحزام وركبت البحر ..
ـ وهل المبلغ كبير جدا إلى هذا الحد ..؟
ـ نستطيع أن نطوف به حول العالم ..
ـ إنك سعيد ..
ـ اتركى العمل فى القرن الذهبى وأنا أجعلك أميرة ..
ـ ولماذا لم تضع المبلغ فى البنك ..؟
ـ  هذا أحسن وأسهل .. لأننى ذاهب إلى بلاد مختلفة ..
    ـ كم أنا سعيدة .. إذن سأشترى فساتين ومعاطف   للشتاء من بوخارست .. كم أنا سعيدة ..
وأمسكت بيدها وضغطت عليها ثم أخذت أمسح بها على جبينها وشعرها .. وأغلقت عينيها ونامت .. وبعد ساعة أحسست ببرودة شديدة وخشيت عليها من البرد فخلعت سترتى وألقيتها على صدرها ثم غلبنى النعاس وأنا جالس فى مكانى ..
 وأيقظتنى قبل أن تشرق الشمس وقالت :
 ـ أصح لقد اقتربنا من محطة الشمال ..
 وبعد قليل دخلنا مدينة بوخارست ..
***
وخرجنا من المحطة وركبنا سيارة دارت بنا أكثر من ثلث ساعة فى شوارع المدينة .. ثم قادتنا أخيرا إلى بنسيون صغير فى شارع ضيق .. وعانقت كارولينا صاحبة البنسيون ... ورحبت بى هذه السيدة فى بشاشة .. وأدخلتنا إلى الغرف الخمس التى عندها لنختار منها ما يروقنا واخترنا غرفة بحرية صغيرة منعزلة .. وقالت لى كارولينا وأنا جالس على المقعد الطويل لأستريح قليلا أن البنسيون خال لأن الناس يهجرون بوخارست فى الصيف إلى المصايف .. إذ أن حرها شديد .. وقد شعرت بوطاة الحر فعلا فقد كان جوها كجو القاهرة فى أغسطس ..
وقالت لى كارولينا إن مدام ليتا .. صاحبة البنسيون .. ليست رومانية وأنها كانت تعمل عندها وتركتها منذ سنتين .. للكساد ولسوء حالتها المالية .. حتى عجزت عن أن تدفع لها أجرا .. ولكنها عادت إليها الآن لتمضى معى ليلة ممتعة ..
ورأيت فى البنسيون ثلاث فتيات فيهن واحدة شقراء كأنها مجرية .. ولم اشاهد أى رجل ..
 وأخذت حماما سريعا لأنشط ولأستطيع التجوال فى المدينة .. وخلال ذلك كانت كارولينا قد تزينت .. وخرجنا فى بكرة الصبح نشاهد ما نستطيع أن نراة فى المدينة ..
     وبوخارست مدينة صغيرة لكنها جميلة ويسمونها باريس الصغرى لأنها تشبه باريس الكبرى فى كل شئ .. فى تخطيطها وفى شوارعها ومحلاتها التجارية .. ونسائها الأنيقات الفاتنات اللابسات أجمل الأزياء ..
     وتغدينا وذهبنا إلى البنسيون لنستريح قليلا ثم نستأنف تجوالنا ..
     وكنت قد اشتريت زجاجة عطر غالية لكارولينا .. ورأتها إحدى الفتيات فجرت تخبر زميلتيها .. وجاء الثلاثة ودخلن علينا الغرفة وأخدن يقلبن الزجاجة فى أيديهن وينظرن إليها وكأنها كنز ثمين .. ثم أخذ الثلاثة بداعبن كارولينا .. ويزينها ويضمخن جسمها كله بالعطر .. وينظران إلى ناحيتى وأنا ممدد بكامل ملابسى على السرير ويقلن لها كلاما فى اذنها .. كأننى أعرف لغتهن .. ثم أدركن خطأهن أخيرا فأغرقن فى الضحك ..
     وفجاة سمعت صوت رجل فى الردهة و رأيت وجه كارولينا الضاحك يكفهر و يصفر فجاة ..
     وقالت لى بعد أن خرجت الفتيات من الغرفة دون أن أوجه إليها أى سؤال :
     ـ انه البرتو .. صديق صاحبة البنسيون .. جندى بحار فى البحرية .. ولا أدرى لماذا هو فى بوخارست الآن .. انه عجيب ..
     وخرجت من الغرفة لعلها كانت تريد أن تتأكد من أنه البرتو حقيقة وغابت طويلا وعادت بعد مدة وكانت هادئة كما الفتها ..
     ورأيت البرتو فى الردهة و نحن خارجان .. ومع أنه قابلنى ببشاشة ولكننى لم استرح إلى تعبيرات وجهه .. فقد رأيت فيه وجه أفاق ..!
     ولم تحدثنى كارولينا عنه ونحن نتجول فى المدينة .. ولما عدنا فى الليل رأيناه جالسا فى المدخل كأنه فى انتظارنا .. وكان معه شاب اخر .. وقال إنه أعد لنا العشاء .. ولما عرف أننا تناولنا العشاء فى الخارج أظهر أسفه .. ووقف يتحدث مع كارولينا قليلا .. و قالت لى أنه يريد أن يحيينى بأن يقدم لى بعض الشراب الوطنى فلم ارفض .. وجلسنا جميعا إلى المائدة ..
     وكان البرتو يتكلم الفرنسية والإنجليزية أحسن من كارولينا .. أما زميله فلم يكن يعرف غير لغته .. وشربت كأسين من شرابهم الوطنى .. وهو أبيض كالزبيب .. ولكنه شديد المفعول وعندما ملأ لى الكأس الثالثة رفضت أن أشرب و لم يلح .. وجلس مبتسما يشرب ويدخن ..
    ورفعت المائدة ووضع عليها مفرش أخضر وبقينا فى مكاننا حولها .. وجاءت إحدى الفتيات بورق اللعب ووضعته أمامنا .. وأخذ هو يوزع الورق فى صمت ووضع ورقتين أو ثلاثا .. أمامى ، ثم اخرج كل منهم بعض النقود من جيبه وأخذوا يلعبون ..
    سالنى لما وجدنى لا اشترك فى اللعب :
    ـ لماذا لا تلعب ..؟
    ـ لأننى لا أعرف القمار ..
فنظر إلى كارولينا بغضب .. ثم سألنى فى دهشة :
    ـ ألا تعرف القمار ..؟
    ـ لم العبه فى حياتى ...
    ـ إطلاقا ..؟
    ـ إطلاقا ...
    فنفرت عروق وجهه من الغضب ولكنه كظم غيظة .. وقال بابتسامة صفراء ..
    إذن تتفرج علينا ..
    ولعبوا ساعة .. وطويت المائدة .. و نهضنا جميعا لننام ..
    ودخلت غرفتى .. وغابت كارولينا عنى ثم جاءت .. وكنت قد خلعت ملابسى واستلقيت على السرير .. ولاحظن أنها صامتة وأن المرح قد ذهب عنها .. لم أسالها عن السبب .. وكانت تدخن بشراهة .. وعلى وجهها سمات التفكير العميق .. ثم نهضت وأغلقت باب الغرفة بالمفتاح .. وأنزلت ستر النافذة .. ونظرت إلىَّ مبتسمة .. وقد عاد إليها بشرها سريعا ...
    وأخذت تفك أزرار قميصها .. ثم قالت وهى تسقط الجونلة على الأرض ..
    ـ أتسمح بأن أطفى النور ..؟
    وقد عجبت لهذا من فتاه مثلها .. لها جسم فينوس .. وتعرف أننى رأيتها من قبل أكثر من مرة .. بلباس البحر ..!
     وأطفات النور .. وأخذت تخلع  ملابسها فى الظلام وبقيت بالمقيص ..
     وأخذت تتحرك فى أرض الغرفة .. جيئة وذهابا .. ثم أضاءت المصباح .. ووقفت أمام المرآة وقد عاودها التفكير والقلق .. فتصورت انها عذراء .. وأنها تخشى أن تمر بالتجربة الجديدة ..
    ونظرت فى المرآة طويلا .. وبدلا من أن تسرح شعرها نفشته بيدها وتركته ينسدل على جبينها ويغطى عينيها ..
    وعندما اقتربت منى كانت دافئة ومشتاقة .. وكأنها تنتظر هذه الساعة كما انتظرتها ...
    وقالت وقد أسبلت عينيها فى الظلام :
    ـ أليس عجيبا .. أننى حتى الآن .. لا أعرف اسمك ..؟!
    ـ عبد الحميد ..
    ـ السلطان عبد الحميد .. ؟
    ـ إنه اسم لا يشرف ..
    ـ لماذا .. إنه سلطان .. ؟
    ـ مؤامرات .. خيانة وقتل ..
    ـ إذن .. سأسميك اليوشا ..
    ـ اليوشا ..!؟
    ـ أجل اليوشا .. فيك كل صفاته .. بساطة .. و طيبة .. ونبل ولم أكن أعرف اليوشا هذا الذى تعنية لأننى لم أكن قد قرات " اخوان كارامازوف " بعد .. وسألتها :
    ـ وهل أحب اليوشا ..؟
    ـ طبعا ..
    ـ من ..؟
    ـ كارولينا ..
    ـ وضمتنى إلى صدرها وضحكت ..
    وبدأت أغفو .. ثم خيل إلىَّ .. أننى أسمع نقرا خفيفا على الباب فلما تسمعت جيدا .. و أرهفت اذنى لم أسمع شيئا .. وأغلقت عينى .. محاولا النوم .. وكان قد نال منى التعب .. فأخذنى النعاس و صحوت على صياح شديد .. فقمت فزعا .. ولم تكن كارولينا بجوارى .. ولما اضأت نور الغرفة وجدت الباب مفتوحا .. و كان الصياح قد اشتد فخرجت مهرولا .. فوجدت كارولينا ملقاه على الارض وبجانبها الفتيات .. وكانت الدماء تسيل على وجهها ..
    وكان البرتو واقفا هناك فى البهو .. منتصبا وهو فى حالة هياج وخبل .. وحوله رجلان لم أرهما من قبل ..
    وتقدمت من كارولينا مسرعا .. وفى تلك اللحظة .. دخل رجال البوليس من الباب الخارجى .. وحاول الموجودن اسعاف كارولينا .. ولكنها كانت غائبة عن وعيها تماما ..
    وأخذ رجال البوليس البرتو وانصرفوا .. وحملت عربة الإسعاف كارولينا وأنا بجوارها إلى أقرب مستشفى ..
    وعندما فتحت عينيها وهى راقدة فى المستشفى وجدتنى جالسا .. قرب سريرها  امسح على يديها فى رفق وحنان وسألتنى :
    - هل قبضوا عليه ..؟
    - أجل
    - إنه هارب من البحرية .. و سيسجن ..
    - يسجن ..!؟
    - طبعا .. هل أنت آسف عليه ..؟
    - إنه مسكين .. وهناك جانب للخير .. دائما فى كل إنسان ..
    - آى .. اليوشا .. إنه كان يريد سرقتك وقتلك ..
    - إن هذا لا يغير من الأمر شيئا .. وستنتهى حياتى على أى وجه من الوجوه ولكن من الذى أخبره أن معى نقودا ..؟
    - انا ..
    ونظرت إليها مدهوشا .. وسألتها :
    - أنت ..!؟
    - أجل .. أنا الذى أخبرته فى ساعة ضعف ككل النساء .. واتفقنا على سرقتك والهرب معا .. خارج الحدود .. ولكن عندما هممت بذلك تذكرت شيئا حدث منك فى الطريق .. شيئا بسيطا .. ولكنه أثر فى أبلغ تأثير .. تذكرت انك خلعت سترتك لتغطينى بها وأنا نائمة فى القطار .. أنت الغريب تفعل هذا .. وتصورت مبلغ حقارتى .. وأنا أخون الإنسان الأول الذى التقيت به فى حياتى .. فتراجعت .. ولما نقر على الباب .. ولم افتح له .. ولما عاود الطرق تناومت .. أخيرا خرجت لأواجهه بالحقيقة ..
   وقربت شفتى من شفتى كارولينا .. لأمنعها من الكلام ..!
================================= 
نشرت القصة فى مجلة الجيل الجديدة بالعدد 145 بتاريخ 4/10/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " العذراء والليل " سنة 1956
================================
حارس المحطة

     كان أبو منصور حارس محطة منقباد .. وهى محطة صغيرة على مشارف مدينة أسيوط .. وهى ككل المحطات الصغيرة ألتى على خط الصعيد كئيبة وفقيرة وموحشة فى الليل وفى النهار ..
     وكانت القطارات السريعة لا تقف فى هذه المحطة .. ولكن وجود حامية منقباد فى هذه المنطقة جعل المصلحة توقف بعض هذه القطارات .. لينزل منها الضباط والجنود إلى ثكناتهم القريبة .. كما أن المحطة أصبحت مركز تموين لهذه الحامية .. و لهذا تقف فيها قطارات البضاعة وتفرغ حمولتها على رصيفها ..
     وكان عبد الجليل افندى معاون هذه المحطة رجلا قصير القامة .. أصلع الرأس .. عريض الجبهة .. افطس الأنف .. يضع على عينيه السوداوين منظارا ويرتدى بدلة المصلحة ويخرج من مكتبة الصغير يستقبل القطارات ويودعها ويلوح بيده لعامل الإشارة .. ويرقب السمافور .. ويلاحظ عامل البلوك .. ويعطى التذاكر للمسافرين .. ويعد البضائع النازلة على الرصيف ويفعل كل شى فى المحطة .. لأنه الموظف المسئول فيها .. فهو ناظر المحطة ومعاون المحطة .. وأحيانا يستلم الوردية فى الليل من عامل التذاكر " الروسبيت " وهى شئ ضئيل بائس افنى عمره فى خدمة المصلحة والتصق بقضبانها وأصبح يعيش فى جو المحطات منذ ثلاثين عاما حتى غدا قطعة منها ..
     المناورة .. المنافستو .. السمافور .. البلوك .. الفحم .. الدخان .. العجلات .. البخار .. 88 مر .. 91 متأخر ربع ساعة .. الاكسبريس داخل فى الميعاد ..
     هذا هو حديثه .. وهو قد الف هذا الجو .. واستراح إلى هذه الحياة .. و نسى بؤسه ومتاعبة فى غمرة عمله المتواصل .. و لكنه حط نقمته على الفلاحين فما من واحد من هؤلاء يستطيع أن يركب من محطة منقباد بغير تذكرة .. أو ينزل من القطار بدونها .. إنه يقف لهؤلاء بالمرصاد ..
     ويصيح عندما يضبط واحدا من هؤلاء اللصوص الذين يسرقون مال المصلحة كما كان يسميهم باعلا صوته :
     - يا أبو منصور ..
     ويقبل الخقير من بعيد وهو يذرع الرصيف فى تمهل .. و تبدو قامة مارد ضخم فى غبش الغسق ..
     - خد الواد ده على النقطة ..
     وعندما يسمع الفلاح المسكين كلمة النقطة ينكمش ويستنجد ثم يدفع التذكرة والغرامة ويمضى ..
     ويعود أبو منصور إلى مكانه على الرصيف يفتل شاربه الضخم .. ويرقب الليل الزاحف بعينى صقر ..     
     وكان أبو منصور خفير هذه المحطة منذ خمسة عشر عاما .. وعلى الرغم من أنها تقع فى منطقة تكثر فيها حوادث السطو النهب .. فإنه لم تقع فيها حادثة سرقة واحدة .. فقد كان من اشد الحراس بأسا .. كانت العربات المحملة بالبضائع والماشية تدخل المحطة وعليها حراسها الخصوصيون .. بين كل عربتين أو ثلاث عربات من هذا القطار الطويل يجلس رجل مسلح .. و لكن أبا منصور كان يمر عليهم جميعا واحدا واحدا ويقول بصوته الأجش :
     - ناموا يا جدعان .. فالحارس هو الله ..
     وكان صوته القوى يبعث فيهم الاطمئنان فينامون فعلا و يظل أبو منصور ساهرا وحده ..
     وكانت مدينة أسيوط تتوهج على بعد وهى قائمة عند سفح الجبل .. و تبدو المصابيح كأنها النجوم اللامعة فى سماء حالكة الأديم ..
     وكان على يسار المحطة العزب الصغيرة بنخلها وأكواخها الحقيرة وكلابها التى تظل تنبح طول الليل ..
     وكان الظلام فى الليالى التى لا يظهر فيها القمر يضرب برواقة على كل شى .. ولا ترى إلا بصيصا من النور فى بعض الحقول البعيدة حيث يصطلى الفلاحون بالنيران او يصنعون الشاى على أعواد البوص والحطب ..
     وكان النيل قريبا من المحطة وهو يلتوى فى هذه الجهة .. و بيلغ مجراه حده من الاتساع .. وكانت المراكب الشراعية دائما على سطحه مقبلة مدبرة وأشرعتها البيضاء تخفق فى قلب الليل كالأعلام .. وكان السكون عميقا ..
     وعندما تمر القطارات السريعة وهى تنهب الأرض مصفرة عاوية يظل صفيرها ودوى عجلاتها يتردد صداهما فى الجو مدة ..
     وكان أبو منصور يسمع هذا الصدى يتردد وهو يذرع رصيف المحطة مقبلا مدبرا فى خطوات متزنة ثقيلة وحذاؤه الضخم يضرب فى الأرض .. وعينه على العربات الواقفة فى المنطقة مكدسة بأحمالها .. وكان دركه من كشك المعاون إلى آخر حدود المحطة..
     وكان عطية العبيط – و هكذا كان يلقبه الناس – يعمل متطوعا فى هذه المحطة الصغيرة كفراش وشيال معا فهو يكنس وينظف مكتب المعاون وبعض الأحيان يكنس المحطة كلها ويحمل الحقائب للضباط من المحطة إلى السيارة ويحمل العشاء " لأبى منصور " كل ليلة من بيته ويشتغل مع الحمالين فى نقل البضائع من العربات إلى الرصيف .. وينزل الطرود ويشحنها .. ويقف على طريق السيارات يستوقف هذه السيارات للركاب .. و يذهب إلى مدينة أسيوط يشترى الأسبرين لمعاون المحطة الذى يشكو من صداع مزمن .. فاذا كان فى أسيوط واستبطأ القطار فى العودة جرى فى نفس واحد إلى منقباد .. أو نسى نفسه وذهب إلى شرق الخزان يدير حركة المرور فى الموقف .. ويركب الفلاحين فى سيارات الأجرة الصغيرة .. ويأخذ من كل سائق أجره مهما كان فهو لا ينسى أتعابه أبدا .. ولكنه لا يبالغ فى هذه الأتعاب .. فإذا أعطيته قرشا واحدا حمد ربه وشكر ..
     وإذا انطلق إلى عمل آخر فهو جم النشاط لا يضيع وقته فى المساومات .. وهو مع تفاهته وعبطه يعمل أعمالا تدل على ذكاء مفرط .. فهو يتخذ من سوق منقباد يوم السبت وسيلة طيبة لرزقه .. يقف على شريط المحطة ويأخذ من كل فلاح يعبر الشريط فى طريقة إلى السوق نصف قرش ولا يستثنى من ذلك إلا النساء .. و يقول لهم أن ذلك ضريبة الحكومة .. ويدفع الفلاحون صاغرين ..
     وكان ينام على الرصيف إلى جوار مكتب المعاون وليس على جسمه فى فصل الصيف أو الشتاء سوى جلباب واحد أزرق ممزق الأطراف لكثرة عدوه فى الطرقات .. وهو عارى القدمين بارز الصدر ممتلىء الجسم .. أسمر .. متوسط الطول .. مستدير الوجه .. فى عينه اليمنى حول خفيف .. وفى ساقيه آثار ندوب تمتد إلى قدميه ..
     وكان يظل ساهرا فى المحطة يتحدث مع " أبو منصور " فإذا سمع حركة الإشارات فى البلوك ذهب إلى العامل وظل معه يشربان الشاى الأسود ويدخنان حتى مطلع الفجر ..
     فاذا رأى وهو جالس فى الكشك مركبا شراعيا راسيا على الشط .. ترك صاحبه واندفع إلى المركب كالمجنون .. ويغيب عن المحطة اسبوعا أو أسبوعين ثم يعود فجاة :
     فإذا سئل أين كان طوال هذه المدة :
     قال وعيناه تلتمعان :
     ـ كنت فى مصر ياعم .. عمار يا مصر .. زرت الأسياد ..
     ويجتمع حوله الفلاحون .. و ينطلق يحدثهم عن رحلته فى النيل .. والأشياء التى شاهدها فى القاهرة .. والمساجد التى زارها .. وعيونهم تحدق فى وجهه وأيديهم تلمس ثيابه التى تبركت بالأسياد ..
     يصف لهم المركبات التى تجرى بالكهرباء .. والأنوار التى تخطف الأبصار والمساجد العظيمة والقباب الشامخة .. والقصور التى من الذهب ..
     ويهمهم الفلاحون :
     - من الذهب ..؟
     سأله واحد منهم وقد أخذه العجب :
     ـ أيوه .. وروح شوف ..
     ويقول آخر :
     ياما فى الدنيا ياما .. اللى يعيش ياما شوف ..
     وينتهى الحديث .. ويظل عطيه ساهما بسترجع أيامه الحلوة فى القاهرة ..
     وذات ليلة من ليالى الشتاء كانت البروة على أشدها والظلام مطبقا والرياح تعوى وتصفر .. وكانت أشجار النخيل تتمايل مع الريح وتئن فروعها وتتوجع .. وكنت لا تسمع وأنت واقف فى المحطة إلا صوت الرياح الهوج .. صفير القطارات السريعة وكانت قطارات البضاعة تجلجل عجلاتها على القضبان ووقف قطار من هذه القطارات فى المحطة .. و علم أبو منصور أنه سيظل إلى الصباح .. ولهذا ضاعف انتباهه وأخذ يسمع الليل صوته ويهتف من حين إلى حين :
     ـ من هناك ..؟
     وكان بصره حديدا وسمعه قويا .. و كان الظلام شديدا يضل فيه البصر ولكن إذا مر الاكسبريس وسلط نور الكشاف تحول كل شى فى المحطة إلى نهار مبصر ووقف أبو منصور عند كشك التذاكر يتحدث مع العامل وقد وضع البندقية على كتفه وسمع رنين جرس التليفون فى الكشك وحركة السيمافور وهو يفتح الطريق ..
     وكان الظلام على أشده .. والنجوم كابية فى السماء ولا شئ يبدو غير الجهامة المطبقة .. والليل الذى ليس بعده ليل ..
     وكانت الرياح تصفر فى اسلاك البرق الممتدة بجانب الخط الحديدى .. وتهز الأعمدة وأوراق الأشجار الصغيرة .. وكانت حركة السيمافورات لا تنقطع .. يبدو نورها الأحمر ثم يخبو ..
     وكان أبو منصور قد ارتدى معطفه الثقيل .. وأخذ يذرع الرصيف متمهلا ويمر على قطار البضاعة الواقف هناك عربة عربة ..
     ثم عاد إلى مكانه الأول عند الكشك و هو يمشى ببطء ..
     ثم توقف وعينه على الخط الحديدى وجلس على صندوق من الصناديق الملقاة على الرصيف .. وأنزل بندقيته واعتمد بذقنه عليها وأرسل بصره إلى الشرق
وسمع حسا فلتفت .. و تسمع .. و نهض و نصب قامته .. واتجه إلى مصدر الصوت .. وكان فى العربات الخلفية من قطار البضاعة ..
     ولما اقترب من العربة سمع الحركة بوضوح .. فانزوى بين عربيتين و هتف :
     ـ من هناك ..؟
     فلم يرد عليه احد .. فكرر المناداة .. فسمع على التو حركة شديدة .. ورأى رجلا يجرى على الشريط حاملا شيئا على ظهره ..
     فهتف به :
     ـ قف .. قف ..
     وأرسل طلقة من بندقيته فى الهواء ولكن الرجل ظل يجرى وزاد من سرعته ..
     وكان قطار الاكسبريس قادما من بعيد يطوى الأرض طيا فابتعد أبو منصور عن الخط و رأى الرجل لا يزال يجرى كالمجنون على الشريط .. و لما مر القطار جرى أبو منصور ولمح الرجل ملقى على الشريط .. ولما اقترب منه عرفه ..
     كان عطية العبيط وقد مزقه القطار .. بعد أن أغراه الشيطان على السرقة فى هذه الليلة لأول مرة فى حياته ..
     كان عطيه وهو يحدث الفلاحين عما شاهده فى مصر .. قد أغفل عامدا ذكر الشى الوحيد الذى أسره وفتنه وملك عليه مسالك تفكيره حتى عاوده الحنين إلى رؤيته مرة اخرى .. نساء القاهرة ... بسيقانهن العارية !..
==========================   
نشرت فى مجلة القصة بعددها رقم 12 فى 10/3/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " العذراء والليل " سنة 1956
==========================









النار

     حدث هذا منذ سنوات وأنا فى سن الصبا .. ومرت علىَّ بعد ذلك الأيام والأحداث .. وتغيرت .. وتغيرت الحياة معى .. ونسيت كل ما مر من صور .. ولكن هذا الذى حدث لم أستطع أن أنساه وأنا أتصوره الآن وأرويه كأنه حدث بالأمس .. بالأمس القريب ..
     كان ذلك فى أول يوم فى الشهر .. شهر سبتمبر من عام 1928 .. وكنا فى هذا اليوم نستيقظ مبكرين لندور على عملائنا فى دواوين الحكومة والشركات الكبرى لنحصل منهم على أقساط التأمين ..
     وكنت محصلا فى الشركة السويسرية للتأمين على الحياة .. وعملائى من أحسن العملاء فكانوا يدفعون القسط الشهرى والسنوى بارتياح وثقة .. و ندر منهم من كان يعتذر عن الدفع ..
     و بدأت بوزارة العدل .. ثم انتقلت منها الى المالية .. وكانت الساعة قد اقتربت من التاسعة صباحا .. وأنا أجتاز الدهاليز المظلمة فى تلك الوزارة .. ومشيت فى الطرقة الطويلة فى الدور الأرضى .. وكانت مزدحمة بالرجال والنساء الذين يصرفون ماهياتهم .. ومعاشاتهم فى هذا اليوم من الشهر .. وأحسست وأنا اتحرك بمشقة فى هذا المكان المظلم بيد تجذبنى من الخلف .. فلتفت .. فوجدت عبد الرازق بك وكان رئيسى فى الشركة قبل أن يوظف فى وزارة المعارف ..
     وسألنى :
     - رايح الخزينة .. ؟
     - لا .. أنا طالع فوق .. وبعدين حمر على سعادتك ..
     - طيب أعمل معروف .. أنت كنت صراف هنا .. وتقدر تدخل الخزينة من جوا .. فك لى الورقة دى .. فضة جديدة .. خمسة .. عشرة .. والباقى جنيهات وأنا منتظرك فى المكتب .. وخلص شغلك أولا ..
     ولم أستطيع أن أعتذر .. وتناولت منه الورقة ذات الخمسين جنيها .. ووضعتها فى جيبى .. وصعدت إلى الدور العلوى وأنجزت عملى .. ثم دخلت الخزانة وصرفت الورقة .. جنيهات جديدة وفضة جديدة .. وطويت هذا كله فى كيس من القماش الحريرى الأصفر وضعته فى جيبى .. واتجهت إلى وزارة المعارف حيث مكتب عبد الرازق بك حسين .. ورأيت وأنا أجتاز طرقة الدور الثالث فى مبنى الوزارة هرجا .. وموظفين وفراشين يخرجون من غرفهم مسرعين .. ثم يعودون إليها ..
     وسألت أحد السعاة عن الخبر .. فقال :
     - وكيل الإدارة .. مات بالسكتة القلبية .. وهو على المكتب ..
     - و كيل الإدارة مين ..؟
     - عبد الرازق بك ..
     وبحركة لا شعورية وجدت يدى توضع فى جيبى الأيمن .. لأتحسس النقود .. وتقدمت حتى وقفت مع الموظفين على باب غرفة الميت .. ودخلت مع من دخل الغرفة ..
     ولم يكن هناك إنسان واحد أعرفة فى داخل الغرفة أو خارجها .. فوقفت أفكر فيما أفعله لأسلم  الأمانة ألتى معى إلى أسرة المرحوم .. وكان الموظفون يتحدثون فى التليفون .. و يتحدثون مع بعضهم البعض .. ويطلبون الإسعاف .. ويتصلون بأقرب مستشفى .. و يسألون عن طبيب .. وكل ذلك فى لحظة واحدة ..
     ثم حملوا الرجل أمامى وأنزلوه إلى الدور الأرضى .. وهناك وضعوه فى عربة .. ومضت به مسرعة ..
     وخيم السكون على كل شئ من جديد .. و كأن لم يحدث شئ .. وعادت الحياة تجرى وشعرت وأنا أغادر المبنى الضخم .. وأخرج من شارع الدواوين كله أن المسالة انتهت بالنسبة إلىَّ كما انتهى الرجل .. فى لحظة خاطفة .. وأن الأقدار وضعت هذا الرجل فى طريقى فى بكرة الصباح ليعطينى هذا المبلغ ثم يموت .. فالمبلغ من حقى لأنه منحة من السماء ..
     وأنا لا أعرف ورثه المرحوم .. وربما لو ذهبت إليهم وقدمت لهم المبلغ ظنوا بى الظنون .. وتصوروا أن الخمسين .. كانت مائة .. أو مائتين من يدرى ..؟ فلماذا أجر المتاعب والمشاكل لنفسى .. والرجل موظف .. وما أكثر المرتشين فى الموظفين .. فلابد أن يكون المرحوم منهم .. وبمثل هذه الخواطر أقنعت نفسى وصرفت النظر عن السؤال عن الورثة لأعطيهم المبلغ .. كما صرفت ذهنى عن التفكير فى الموضوع ..
     ولكن عندما نشر نعى الرجل فى صحف بعد الظهر وجدتنى أهتم به وعرفت موعد الجنازة .. ومن أين تتحرك .. وذهبت إلى هناك كأنما كنت أود أن أطمئن على أن الرجل قد مات حقا .. وسمعت الصراخ والعويل .. ووجدت أطفالا صغارا يبكون فى حرقة وعلمت أنهم أبناء المرحوم .. وكان منظرهم يفتت الأكباد .. فقد تركهم عائلهم فجأة دون سابق إنذار ..
     وأحسست بمثل النار تحرقنى .. وتشوينى .. وأنا أشاهد هؤلاء الأطفال الصغار وتصورت أن النار .. تشتغل من هناك .. من جيبى الأيمن حيث وضعت الكيس الحريرى الأصفر وبداخلة النقود .. التى اغتصبتها .. وتحركت يدى .. فى جيبى حتى لمست الكيس ثم دارت به وتصلبت عليه .. ثم رفعته .. إلى أعلى .. ولكن .. فى داخل الجيب .. فى دائرة النار .. وهتفت بأحد الأطفال فعلا لأعطيه المبلغ وأطفئ النار المشتعلة ..
     ولكنه لم يسمعنى .. وكانت الجنازة قد تحركت .. فمشيت وراءها مع المشيعين ..
     وفى المساء ذهبت إلى بيت الرجل .. وجلست مع المعزين .. وعرفت أرملته .. وتصورت أنها تنظر إلىَّ وتقول :
     ـ هات قوت عيالى .. إننا مساكين ..
     ولكننى أبقيت المبلغ معى .. ودارت عجلة الحياة .. وصرفته .. ذهب كما تذهب وتجئ النقود .. لرجل مثلى يعمل فى الشارع ويتنقل من عمل إلى عمل .. ويربح كثيرا ويخسر .. ومرت السنوات و نسيت ما حدث ..
     وحدث ذات مساء أن ركبت قطار الشلال من محطة ملوى .. وكنت فى طريقى إلى القاهرة وأنا معتاد أن أقطع المسافات الطويلة فى الدرجة الثالثة .. فركبت فى العربات الخلفية وجلست بجوار النافذة .. وكان معظم الركاب نائمين ..
     وتحرك القطار .. ثم انطلق كالسهم .. يثير الغبار .. و يطوى المدن طيا ..
     وبعد أن اشرق النور .. رأيت بعض الركاب يتجمعون فى ركن من العربة .. ثم تفرقوا ولم أشغل نفسى بهم .. إذ تصورتها خناقة على شئ ككل الذى يحدث بين الركاب ..
     ثم وجدت رجلا ضخما يدخل العربة ومعه جندى من جنود البوليس والكمسارى .. وابتدأوا يفتشون الركاب .. واحدا .. واحدا .. بعد أن حاصروا العربة من بابيها ..
     ولم أجد راكبا واحدا يعترض على هذا التفتيش غير القانونى .. وكيف يستطيع ذلك هؤلاء الفقراء المساكين ..
     وسألت راكبا يجلس عن قرب ..
     - إية الحكاية ..؟
     -  واحد من الركاب .. سرقت منه ورقة .. بخمسين .. وهو نائم .. وصعد الدم إلى وجهى فجاة .. وشعرت باضطراب عنيف .. و أخذت اتمتم .. ورقة بخمسين ..
     وإذا بالحادث الذى كنت أتصور أننى نسيته قد برز فجاة من أعمق أعماق نفسى .. وأخذت أحدث نفسى :
     ورقة بخمسين .. لازم تنسرق .. ورقة بخمسين بالذات .. بخمسين وكان فى جيبى ورقة واحدة بخمسين جنيها بالفعل وبعض الفكة .. وتصورت كل ما يحدث عندما يفتشنى المخبر .. ويعثر على الورقة .. ورقة بخمسين جنيها كالتى سرقت من الرجل ..
     تصورت كل ما سيحدث .. أدركت أن ساعة الجزاء قد حلت .. فقد سرقت الرجل منذ أكثر من اثنى عشر عاما .. وحرمت عياله من قوتهم .. وكنت أتصور أن كل شئ قد انتهى ..
     ولكن .. إن عين الله لا تفغل ..
     وفى غفله من الركاب وحذر .. أخرجت الورقة ذات الخمسين جنيها من جيبى وأسقطتها من النافذة ..
     وعندما جاء دورى فى التفتيش نظر الىَّ المخبر وقال :
     - لا .. سيبو الافندى ..
     ولم أفتش ..
===========================  
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد رقم 307 بتاريخ 14/10/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " العذراء والليل " سنة 1956
=============================



            
صراع مع الشـر

                      
      كانت الحرب دائرة بين الألمان والإنجليز فى الصحراء الغربية .. وكان الإنجليز وحلفاؤهم يفرون مذعورين كالجرزان أمام ضربات روميل القاصمة .
       وأخذوا يحرقون أوراقهم فى القاهرة ويعدون العدة لنسف الكبارى والمنشآت العامة وتدمير المدن المصرية على أهلها الوادعين .. كانوا ينسحبون انسحابا عاما .. ويعودون من الميدان شاعرين بمرارة الهزيمة ، فيرتكبون فى العاصمة ابشع الجرائم .
      وكانوا وهم يتراجعون فى ذعر يرسلون قوافلهم عـبر الصـحراء تحمل ما تبقى لهم من الرجال والعتاد .
     وخرجت سيارة من هذه السيارات من معسكر العباسية متجهة إلى الميدان وكان بها خمسة من الإنجليز وسائق العربة ، وكانت قد مرت من النفق وهى تمضى سريعا ، فلما صعدت المنحدر واستوت فى أول شارع الهرم تمهلت قليلا .
     وكانت توحيـدة ورفيقتها انشراح عـائدتين الى البيت .. وكانتا تسرعان قبل الغروب وقبل ظلام الحرب .
     مرت بجانبهما السيارة وبعد أن تجاوزتهما قليلا توقفت فجأة ونزل منها جندى بريطانى فى قفزة سريعة وأمسك بتوحيدة .. وهربت رفيقتها مذعورة بين المزارع وهى تولول وتصيح بأعلى صوتها .
     وتجمع الناس فى الشارع ، ولكن الجنود الانجليز كانوا قد حملوا توحيدة إلى السيارة وانطلقوا بها فى سرعة المجنون .
      ونظر الناس بعضهم إلى بعض وكانوا يعلمون أنه ليست هناك قوة يمكن أن تحميهم من هذا العدوان المسلح ، أو تجعلهم يقابلونه بمثله .. فاصفرت وجوههم .
      أما إنشراح فقد جرت إلى منـزل توحيدة وأخبرت زوجها بما حدث فخرج يعدو كالمجنون إلى شارع الهرم .. وهناك طالعه الظلام والسكون فلم يكن هناك أثر لسيارة أو ظلها فوقف يدير عينيه حائرا كالمخبول .. ثم انطلق فى عرض الشارع وقد شرد ذهنه وشلته الفاجعة المباغته عن أى عمل .. وعندما اقترب من النفق رأى جماعة يقفون على واجهة حانوت بقال ويقصون الحادث .. فنظر اليهم فى غيظ
     وقال لنفسه :
     ـ هـذا ما تصلحون له ايها الجبناء .. تتجمعون وتتحدثون كالنساء ..
     وكان قد فكر فى أن يذهب إلى مركز البوليس .. ثم عدل عن هذه الفكرة وهو يقول لنفسه :
      ـ وما الذى سيفعله لى البوليس .. ؟
      لاشىء ..
     السـرير دون أن يشعل النور .. وقد رأى أن يترك البيت كله فى الظلام حتى لا يزعجه المتطفلون والمواسون باسئلتهم السخيفة .. فيزيدونه تعاسة على تعاسه ..
     وكان يدخن والظلام على أشده ونافذة الغرفة مفتوحة .. وألسنة الأنوار الكاشفة تضىء السماء .. ولم يكن فى البيت أحد سواه .. وكان قد تزوج توحيدة منذ خمسة شهور فقط ..
     كانت فقيرة مثله .. ولكنه كان سعيدا بفقرها .. وكان يحبها حبا جما .. كانت كل شىء له فى الحياة .. وكل أمانيه وكل أحلامه .. واستقرت آماله كلها عليها وتجمعت فيها ..
     وكان يعمل فى شركة من شركات الدخان الكبيرة فى منطقة الجيزة .. ولذلك أجر لها هذا المسكن قريبا من الشركة .. ليخرج من عمله طائرا إليها مرتميا فى أحضانها .. فقد كانت تنسيه همومه ومتاعبه ومشاغل النهار كله وما يلقاه فى الحياة والمصنع من عنت واجهاد ..
     وكان يحمل إليها كل شىء بنفسه من السوق حتى لاتخرج من البيت فقد كانت جميلة باسمة كورد الربيع ..
     وكان يغار عليها حتى من شعاع الشمس الساقط على وجهها ..
     ولكنها خرجت اليوم هى وجارتها انشراح لزيارة أمها وذهبت من غير رجعة .. اختطفها الأنذال ..
***   
     وقبل منتصف الليل سمع الباب الخارجى يفتح .. ودخلت توحيدة .. ولم يتحرك من مكانه ولم يبادلها كلمة ..
     وكانت قد اشعـلت نور الردهـة ثم ارتمت على كنبـة ملاصقة للباب .. ولو لم تكن الكنبة مكانها لارتمت على الأرض ، فقد كانت فى حالة من الإعياء التام .. وكان وجهها مصفرا وشعرها منفوشا وملابســها ممزقة فى أكثر من موضع من جسمها .
     وكان من يراها وهى متكورة على الكنبة وقد دفنت رأسها فى الوسادة وقوست ظهرها ووضعت ساقيها تحت فخذيها وتركت ضفائر شعرها محلولة تغطى عنقها وتمتد إلى ظهرها يتصور انها ضربت عارية بالسياط حتى أدمت وحتى تقطعت أنفاسها .
     وكانت قد أدركت بحسها بعد أن دخلت وألقت بنفسها على الكنبة .. أن زوجها سعيد راقد هناك فى الغرفة الأخرى متيقظ .. وقلق .. وتنهش رأسه الخواطر المروعة التى دمرته تدميرا .. وشلت جسمه ومنعته من الحركة ..
     وبقيت فى مكانها الى الصباح .. ومع خيوط الشـمس تحركت ودخلت غرفته .. وكان لايزال على حاله منطرحا بكامل ملابسه على السرير .. وأعقاب السجائر ملقاة فى كل مكان من الغرفة .. وكان وجهـه محتنقا وعيناه حمراوين فى لون الدم .. والدم ينفر من عروق جبهته ، وسحنته سحنة ذئب أغبر حيل بينه وبين فريسته ..
     وقالت له بصوت خافت وهى تتناول قميصا لها من فوق المشجب :
     ـ مش رايح الشغل يا سعيد ..؟
     فلم يرد عليها وأغمض عينيه حتى لايراها .. ورأت وجهه يتقلص على صدره .. وغيرت ملابسها الممزقه وخرجت إلى المطبخ وأعدت له فنجان الشاى الذى تعده له كل صباح ووضعته بجانبه .. وخرجت .. وبعد قليل عادت فوجدت الفنجان لم يمس .. فلم تقل شيئا ..
     وانتابتها نوبة صرع .. وأخذت تنشج وتتمتم بكلام لا معنى له .. كانت تود أن تقول له أن أحدا لم يمسها وأنها قاومتهم وأعملت فيهم أظافرها وأسنانها ولما يئسوا منها ألقوها فى العراء ..
     كانت تود أن تقول له هذا .. ولكنها لم تستطع ..
     ولم يدر بماذا تتمتم .. ولم يسمع شيئا .. كانت نار مشتعلة فى جسمه .. وكان لهب أحمر يشتعل هناك فى رأسه .. وثورة عاتية قد اجتاحته ..
     كان لايفكر فيها ولا يحس بوجودها .. وانما يفكر فى هؤلاء الأنذال الذين دنسوا شرفه ويتصور ما حدث كله على بشاعته .. يتصورهم وهم يضعون أيديهم الدنسة على جسمها ويقضقض ويصر بأسنانه من الغيظ ويود أن يحطم كل ما حوله تحطيما ..
     ورآها تخرج ملابسها من الدولاب وتضعها فى حقيبتها .. ثم سمعها تقول :
     ـ أنا ماشية يا سعيد ..
     ولم يقل لهـا كلمة .. ولم يتحرك من سريره وسمعها تفتح الباب وتخرج ..
***   
     وفى الليلة التالية خرج سعيد فى فحمة الليل .. وكمن فى طريق السيارات الإنجليزية الذاهبة إلى الميدان ، ورأى سيارة تخفف من سرعتها ورأى على ظهرها ثلاثة أو أربعة جنود ، واقترب كالثعلب حتى احتمى فى جذع شجرة وأطلق الرصاص وسمع صرخة مفزعة .. ثم أخذ يعدو بكل قوته ..
     وكانت النيران الحامية تطلق فى أثره .. والأنوار الكاشفة تسلط عليه .. وأصيب فى فخذه ومع ذلك ظل يجرى حتى بلغ منزله.
     وكانت ملابسه قد تلطخت بالدم النازف من جرحه .. وبلغ منه الاعياء مبلغه ومع ذلك شعر براحة نفسية وبفرحة كبرى لأنه انتقم لعرضه وشعر بحنين إلى زوجته وود لها لو أنها كانت معه الآن ليعانقها ..
     وكانت أعصابه قد هدأت وشعر بحنين إلى النوم .. فنام .. واستيقظ فجأة على حركة شديدة على السلم وتسمع وعرف أنهم تقصوا أثره وعرفوا مكانه ..
     واشتد قرع الباب وسمع صياحا بالعربية والإنجليزية وحركة نعال ضخمة تهز الباب .. وأمسك مسدسه وأطلق على نفسه الرصاصة الأخيرة ..
***
     وعنــدما حطمــوا البـاب وجــدوه هنـاك ملطخــا بالـدم .. وعلى فمــه ابتســامة النصـــر ..







=====================================   
نشرت القصة بمجموعة " العذراء والليل " لمحمود البدوى 1956





 

         


فاعـــل خيـــر

 


     اعتدت أن أخرج من منـزلى فى بكرة الصباح وأتريض فى شوارع مصر الجديدة الهادئة مطلقا العنان لأفكارى ..
      فلم يكن هناك شىء يقف بين المرء وأحلام اليقظة فى تلك الساعة من النهار ..
     كنت أنظر إلى الفيلات الجميلة على جانبى الطريق .. وأتخيل نفسى قد شرعت فى بناء واحدة من طرازها فى تلك الأرض الفضاء الممتدة هناك .. ثم حدث خلاف بينى وبين المقاول فى اللحظة الأخيرة فأبى أن يسلمنى المفتاح ..
      فجريت أسحبه إلى ساحة القضاء ومضت الأعوام .. حتى تغيرت معالم المدينة ودخلت الفيلا فى التنظيم ولم يحكم بعد فى القضية ..!
     وانقبضت لهذا الخاطر .. وتركت فكرة الفيلات والمنازل جملة .. وخرجت إلى الهواء الطلق فى الشارع المؤدى إلى المطار وأسرعت قليلا .. وأنا أشعر بنشوة لاحد لها وبقوة الشباب وجبروته ، وبعظمة الإنسان فى كل ما يقوم به من عمل فى هذه الحياة ..
     وكانت الطريق خالية من كل شىء حتى من السيارات التى تنطلق فى هذا الشارع عادة كالصواريخ الألمانية .. وفجأة لمحت شيئا أسود فى ذلك الفضاء الأبيض من الرمال .. فاقتربت منه فإذا به طفل حديث الولادة وكان يعوى كالجرو الصغير ..!
     لاشك أنه ألقى فى فحمة الليل فى ذلك المكان الموحش البعيد عن الأنظار .. ألقته سيارة بكل بساطة .. وعادت من حيث أتت كأنها لم ترتكب جرما .. وشعرت بالأسى والانقباض فتوقفت عن السير ووقفت أكثر من دقيقتين أنظر إلى الطفل المسكين وأفكر فيما أفعل .. ءأنطلق فى طريقى كأنى لم أر شيئا .. أم أذهب إلى مركز البوليس ؟
      ووقعت فى دوامة من الخواطر .. ثم شعرت بشىء يدفعنى دفعا فى الطريق ..
     وخيل إلىّ أننى قد استرحت إلى هذا القرار وأننى لا أسمع بكاء الطفل .. فمضيت أكثر من نصف فرسخ ، ولكن بعد بضع خطوات شعرت بالعرق يتصبب على جبينى وبصياح الطفل يخرق طبلة أذنى .. وقلت لنفسى إننى أكون أكثر جرما ممن ألقى به فى ذلك العراء .. لو تركته على حاله .. وإن الله بعثنى فى الطريق لإنقاذه ..
     فرجعت إلى مكانه وأخذت أتأمله وأستمع إلى صياحه الخافت .. وتذكرت أننى رأيت شرطيا يقف على رأس الطريق فجريت إليه وأخبرته بحادث الطفل .. فنظر إلى ممتعضا وهو يلعننى فى سره .. ثم سار معى إلى هناك ولما لم نجد عربة أو سيارة أجرة رفض الشرطى أن يحمل الطفل فحملته أنا وسرت معه إلى مركز البوليس ..
     وكنا نسير وحيدين وثالثنا الطفل .. ولكن بعد عشرين مترا .. أصبحنا أربعة .. انضم إلينا اثنان من المتطفلين فى الطريق ..
     وبعد عشرة أمتار أخرى .. أصبحنا خمسة .. وبعد بضعة خطوات غدونا عشرة .. ولما دخلنا شوارع المدينة صرنا أكثر من خمسين ..!! وكنت أحمل الطفل والناس يسيرون بجانبى وخلفى ويتهامسون ويشيرون إلى .. أنا الذى فعل الفعلة النكراء ..!
     وكان العرق يتصبب على جبينى وكنت صامتا حزينا .. لا أستطيع أن أنبس بحرف ، وقبل أن نقترب من مركز البوليس .. رأيت امرأة تندفع بقوة وتفسح لنفسها طريقا وسط الجموع .. لقد كانت زوجتى ..
     وصور لنفسك الموقف ونهاية المأساة !
=================================
نشرت بمجموعة " العذراء والليل " لمحمود البدوى ـ الطبعة الأولى 1956 


العذراء و الليل


     حدث منذ عشر سنوات .. وفى خلال الحرب التى كانت دائرة بين الألمان والإنجليز فى الصحراء الغربية أن ركبت قطار الظهر من محطة أسيوط وهو يتحرك فاندفعت فى عجلة إلى أول عربة صادفتنى وأنا فى حالة من الهياج العصبى .. لشدة الحرارة ولما عانيتة من سيارة الاجرة التى اقلتنى إلى المحطة .. و لم أجد مقعدا خاليا فى هذه العربة ولا فى غيرها من عربات الدرجة الثانية .. فوقفت فى الطرقة أمسح العرق المتصبب وأنظر من خلال النافذة إلى مياة الفيضان وقد غمرت القرى والمزارع ..
     وظللت فى مكانى حتى دخل القطار محطة المنيا .. ففتحت زجاج النافذة لأجد شيئا أشربه ..
     ورأيت من بين الواقفين على الرصيف شخصا أعرفه يدعى صلاح .. وكان صلاح هذا جارى فى السكن فى حى المنيرة .. وكان موظفا فى بنك مصر ثم نقل الى المنيا .. ولم أره منذ سنوات .. و قد حسبته توفى لأنه كان كهلا ومريضا دائما .. وكان من أنبل من عرفت من الناس .. وقد أسفت لفراق صحبته
فلما التقى بى فى القطار .. تهلل وجهه وهو يقول :
     ـ فرصة سعيدة .. أنت جاى من البلد ولا إية ..  عال .. عال .. بنت أختى " إعتدال " مسافرة معاك .. وباين القطر زحمه .. لعن الله الحرب ..
     وصعد إلى العربة .. ولم أكن قد رأيت بنت اخته هذه ولكنى رأيت فتاة تمشى وراءه فى ممشى العربة .. فأدركت أنها هى ..
     وتناولت حقيبتها من خالها ووضعتها على الرف .. وأفسحت لها مكانا بجانب سيدة فى الديوان ألذى أقف أمامه .. ووقفت مع خالها أتحدث ..
      وقال لى :
     - أرجوك أن تنزلها فى قطر إسكندرية8.30 وخالها عبد الرحمن مستنيها فى طنطا .. وأنت مش عاوز توصيه .. أختك معاك ..
     ولما صفر القطار سلم علينا ونزل إلى الرصيف وهو يكرر التوصية والدعاء لنا بالسلامة .. ونهضت إعتدال لتودعه من النافذة .. ثم عادت وجلست مكانها ونظرت إليها وهى جالسة وقد غضت من طرفها وعلت وجهها السحابة التى تعترى من يفارق عزيزا .. وتناولت حقيبتى وأعطيتها بعض المجلات المصورة فتناولتها شاكرة وأخذت تقلب البصر فيها ..
     ووجدت شيئا فى الفتاة يجذبنى إليها .. فأخذت أنظر إليها وهى مستغرقة فى المطالعة .. كانت فى سن العشرين أو أكثر قليلا .. طويلة القامة .. رشيقة الجسم .. بيضاء اللون .. و قد اثرت فيها شمس الصعيد قليلا فاكسبتها سمرة خفيفة .. وكانت ترتدى جونلة رمادية وقيمصا أبيض أبرز تقاطيع جسمها كله .. وتلبس جوربا ورديا خفيفا وحذاء فى لونه وكانت وهى جالسة مستريحة بكتفيها على ظهر المقعد .. قد ضمت ساقيها قليلا فظهر انسجامهما و فتنتهما ..
     وكان وجهها الأبيض مستطيلا وفى شفتها السفلى اكتناز ظاهر .. وانثناء بارز إلى الذقن الصغيرة .. وكانت أهدابها تلقى الظلال الخفيفة على خديها الموردين .. وقد ابتدأ يعلوهما غبارالسفر ..
     وكانت تزيح خصل شعرها الأسود الناعم عن جبينها وتقلب صفحات المجلة بأناملها الجميلة .. وشعرت وأنا أنظر إليها وهى مستغرقة فى المطالعة بالارتياح .. ونسيت كل ما لقيته من متاعب .. ونسيت الحرارة والغبار .. وازدحام القطار .. ووقوفى أكثر من ثلاث ساعات على قدمى فى الطرقة .. وقد أقف مثلها حتى يبلغ القطار القاهرة ..
     وكنت أود أن أرى عينى هذه الفتاة فى مواجهتى .. ولكنها كانت تنكس رأسها ورغم مظاهر العافية والانسجام فى الملبس .. فقد كان وجهها يعلوه شىء من السهوم .. أو الحزن .. كمن مسه شئ من الحياة
..
     وفى الواسطى .. نزل من بجانبها من الركاب فجلست بجوارها .. وأخذنا نتحدث ..
***
     وقالت لى أنها كانت فى زيارة قصيرة لخالها .. وأنها راجعة الآن لوالدتها فى طنطا وقد تركتها وحيدة مع أخواتها الصغار .. وأنها تعرف القاهرة جيدا لأنها تلقت تعليمها فى الليسية فرنسية فى مصر الجديدة وخرجت من المدرسة بعد وفاة والدها ..
     وتصورت خال هذه الأسرة بعد موت عائلها وأدركت سر الحزن على وجه الفتاة .. وكان القطار يمضى سريعا وقد غاب قرص الشمس ففتحنا النوافذ جميعها وبدت المزارع والقرى الصغيرة على الخط الحديدى تهتز منازلها و تثير الغبار فى وجوهنا ..
     وكانت الإضاءة فى القطار ضعيفة .. والمصابيح كلها مطلية باللون الأزرق وبدا العشى يزحف ..
     وأخذ القطار يتلوى فى قلب الليل كالثعبان الأسود وعيناه تبرقان فى الظلام ..
      وكنت قد اعتدت على السفر فى مثل هذه القطارات فى فترة الحرب وألفت كل ما فيها من تعاسة ..
     ولكنى الآن وأنا جالس بجانب هذه الفتاة .. شعرت بغير شعور الأمس كنت أكبرها بعشر سنوات فقط .. ولكننى كنت أنظر إليها كأنها فتاتى أو أختى الصغيرة .. رغم أنها غريبة عنى ولم أرها من قبل أبدا .. ولعل ذلك راجع لوجهها العذرى أو للبراءة المطلقة التى تطالعك من عينيها السوداوين ..
     وجلسنا صامتين ولم يكن هناك أحد من الركاب الجالسين معنا فى الديوان ينطق بحرف ..
     وفى خلال هذا الصمت توقف القطار .. ونظرنا من النوافذ فطالعنا الظلام والسكون .. ولم نعرف سبب توقفة .. وقيل لنا أن هناك غارة شديدة على القاهرة ولم نحس بالغارة ولم نسمع صوت أية طيارة ومع ذلك ظل القطار فى مكانة أكثر من ساعة ..
     ولما بلغنا محطة القاهرة كانت الساعة قد جاوزت التاسعة .. وكان قطار الإسكندرية قد سافر ..
     وظهر الحزن على وجه الفتاة لأن القطار قد فاتها .. فأخذت أهون عليها الأمر وذهبت إلى الإستعلامات لأسال عن أول قطار يسافر فى الصباح .. وأثناء عودتى سمعنا صفارة الانذار .. فوقفت معها تحت السقف الداخلى للمحطة ملاصقين للجدار ..
     وأخذت أطمئنها وكانت صامتة وحزينة .. وتقترب منى كلما شعرت بالخوف .. وقالت لى بأنها ستبقى فى المحطة إلى الصباح لتأخذ أول قطار حتى لا تنشغل أمها ..
     ولم أقل شيئا .. ودوت صفارة الأمان .. فعرضت عليها أن نخرج إلى أقرب مطعم نأكل لأننا فى أشد حالات الجوع .. فرفضت .. ثم قبلت .. وعندما خرجنا من باب المحطة .. رأينا الجنود الإنجليز يدخلون فى فصائل إلى الرصيف ..
     فقلت لها :
   ـ هل يرضيك أن تقضى الليل مع هؤلاء ..؟
   ـ فصمتت وسرنا فى الميدان المقفر بمصابيحه الزرقاء الكابية .. كأخين .. أو كعاشقين ..!
***
     وفى خلال العشاء اقنعتها بضرورة تمضية ما بقى من الليل فى بيتى .. إذ لا يعقل أن أتركها وحدها فى المحطة .. كما أنه لا يصح أن تجعلنى أقضى الليل ساهرا معها وأنا على هذه الحالة من التعب ..
     وقلت لها بأنها ستنام فى حجرة الأولاد .. وقد فهمت من هذه العبارة أننى متزوج ورأيت أنه لا مانع من هذه الكذبة حتى لا أدعها عرضة لمصائب الليل وللانجليز السكارى ..
     وحاولنا أن نركب تاكسيا فلم يستمع إلى ندائنا سائق واحد .. كانوا يسرعون إلى الملاهى لانتظار جنود الحلفاء ..!!
     وسرنا فى الشوارع فى وطننا وديارنا كغريبين ..        وكنا نرى الإنجليز السكارى يترنحون بجانب الجدران .. أو يمضون فى اللوريات إلى المعسكرات .. أو يمشون فى جماعات فيغنون بالإنجليزية فى صخب .. وكنا نتحاشاهم ونسير فى الظلام مبتعدين عنهم وكانت " اعتدال " كلما شاهدت أحدهم مقبلا علينا من بعيد تلتصق بى وهى ترتجف ..
     وكنت أقول لها :
     - لا تخافى هكذا ..
     - إنهم أنذال .. والخوف فى هذه الحالة غريزى .. ولا أدرى كيف يكون حالى لو كنت وحدى .. أن الله بعثك لى ..
     ولما وصلنا الحلمية الجديدة .. وفتحت لها باب شقتى الصغيرة .. وطالعها السكون الذى يخيم على المنزل كله .. نظرت إلىَّ فى صمت وسؤال .. كأنها تقول :
     - أين الأولاد ..؟!
     وقرأت فى عينيها الذعر ورجفة العذراء .. وهى تنفرد لأول مرة فى حياتها برجل غريب .. وزاد خوفها لما أدركت أننى وحيد فى الشقة فلا خادم ولا إنسان آخر معى ..
     ولم أقل لها أى كلمة لأجعلها تطمئن أو لأجعلها تعرف أننى كذبت عليها لأخلصها من شر الإنجليز فى الليل .. وإنما تركتها تلمس الاطمئنان والأمان من تصرفى الطبيعى وهدوئى المطلق ..
     وغسلت وجهى من تراب السفر .. وقلت لها :
     ـ سأنام أنا هنا .. فى غرفة الجلوس على هذه الكنبة .. أما أنت فستنامين فى غرفتى ..
     ـ لا .. سأنام أنا هنا ..
     ـ قومى لتستريحى ولا داعى للرفض ..
     وأخرجت بيجامتى وشبشبى من الغرفة .. ودخلت هى لتخلع ملابسها وأغلقت عليها الباب ..
     وبعد قليل خرجت ترتدى قميص النوم .. ورأيتها من مكانى تمضى فى لين إلى دورة المياة ..
     وتمددت على الكنبة أدخن وأفكر فيها .. وقد غير الثوب الذى لبسته أخيرا نظرتى إليها .. وشعرت بهزة عنيفة واضطراب نفسى .. وتصبب العرق ثم شعرت بحلقى يجف كله ..
     وكنت أود أن أفتح الراديو واستمع إلى بعض الموسيقى لأهدىء من ثورة أعصابى .. ولكن الراديو فى غرفتها .. وهذه الغرفة .. أصبحت الآن محرمة علىَّ ..
     ولما رجعت من دورة المياة .. وعرفت أننى لا زلت متيقظا .. قالت بصوت رقيق خافت وهى مارة ببابى :
     - تصبح على خير ...
     ودخلت الغرفة وردت من ورائها الباب .. وأرهفت أذنى .. ولا أدرى لذلك سببا .. وسمعت حركة الأكرة .. ولكننى لم أسمع حركة المفتاح وهو يدور فى القفل ..
     وأصبحت أعنى بالتوافه وبكل حركة دقيقة تعملها فى الغرفة .. و تساءلت لماذا لم تغلق الباب بالمفتاح ..؟! ثم دار بخلدى أنه ربما يكون المفتاح قد سقط من الباب وأنها لم تجده حتى تغلقة ..
     وأطفات السيجارة .. واسترخيت بجسمى كله .. دقائق قليلة محاولا النوم ولكننى لم أستطع وعاودنى التوتر العصبى .. ورغم مشقة السفر وطول الطريق فقد كنت متنبها بكامل حواسى ..
     ونهضت من الفراش لاتمشى .. وأرخى حبل أعصابى المشدود .. ثم أخذت أتصورها بعين الخيال .. وهى نائمة فى غرفتى وعلى سريرى بمنامتها وقد بدت منها كل مفاتنها .. وهتف بى هاتف " إن الظروف قد منحتك فرصة ذهبية .. فرصة الحياة .. فلا تجعلها تفلت منك .. عذراء جميلة .. بل فاتنة .. فى بيتك وفى فراشك فى هذا الليل الساكن .."  وأحسست بشئ يضغط على قلبى .. فتحركت إلى الأمام وخرجت من الغرفة متلصصا إلى الصالة .. وهناك وقفت جامدا كالتمثال .. وذهبت إلى المطبخ لأشرب .. ورأيتها قد غسلت قله كانت هناك وملأتها .. ووضعتها فى النافذة ..
     ولما رجعت إلى الصالة وقفت على بابها أتسمع .. ثم انسبت إلى فراشى مرة أخرى لأحاول النوم من جديد ..
***
     ولكننى لم أنم وظللت أتقلب على جنبى .. وطافت فى رأسى دوامة من الخواطر .. وقلت محدثا نفسى " إن الناس جميعا يسرقون ويغشون ويرتكبون الفحشاء .. لو أتيحت لهم الفرصة .. وقد أتيحت لى الفرصة بكل إمكانياتها ووضع القدر فى فراشى عذراء جميلة .. فلماذا أدعها تفلت من يدى .. إن هذا يكون حماقة و جنونا مطبقا " .. 
     وخرجت حافى القدمين إلى الصالة .. ثم تقدمت إلى غرفتها وعالجت الأكرة فى حذر شديد .. وكنت أتمنى فى تلك اللحظة أن أجد الباب مغلقا بالمفتاح حتى أتخلص من العاصفة التى لفتنى .. ولكن الباب انفرج وتسمرت فى مدخل الباب .. ونظرى قد استقر على السرير وكانت الشرفة مفتوحة فسقط ضوء القمر على الفراش .. ورأيت ساقيها .. وقد دفعت الملاءة الخفيفة تحت قدميها ومدت ساقا .. و ثنت أخرى .. وضغطت برأسها على الوسادة .. فانتشر شعرها وأشرق وجهها ..
     وتقدمت كالمأخوذ حتى اقتربت منها وأحسست بأنفاسها تتردد .. ومددت يدى لألمس رجلها .. فانتابتنى رعشة .. وسمعت كلمات خالها تدوى فى اذنى :
     " اختك معاك.."
     ووجدت شفتى ترددان فى فحيح :
     " أختى .. أختى .. "
     وعادت العاصفة إلى جمجمتى .. ودارت بى الغرفة .. ثم وجدت نفسى ممددا على الكنبة فى غرفة الجلوس .. ولا أدرى كيف حملتنى قدماى إلى هناك ..!!
     وأيقظنى فى مطلع الشمس .. وكانت قد ارتدت ملابسها .. و قالت :
     ـ عاوزه ألحق قطر الصبح ..
     فقلت وأنا فى أشد حالات التعب :
     ـ حاضر .. حالبس حالا ..
     ـ باين عليك مشبعتش نوم .. عندك شاى ..؟ حاعملك شاى ..
     ـ مرسى .. أيوة فيه شاى فى العلبة ..
     وذهبت إلى المطبخ .. وبعد قليل عادت تحمل صينية الشاى ... ووضعتها على المائدة ..
     وجلست تشرب .. تناولت الكوب الزجاجى ., ورفعته إلى شفتيها .. ونظرت إلى شفتيها على الكوب .. وكانت تشرب فى تمهل ..
     وسألتنى لما رأتنى أرفع كوب الشاى إلى شفتى :
     ـ عاوز سكر ..؟
     ـ أيوة ..
     ـ وفين هو السكر .. ملقتش غير دول ..؟
     ـ أنت لازم غلطتى .. وحطيتى السكر فى كبايتك ..
     ـ أبدا والنبى فى كل كباية خرطة ونصف ..
     ـ تسمحى أشوف ..؟
     وتناولت كوبها ورفعته كله إلى شفتى وأنا أضغط على الزجاج وأحاول أن أجرشة وعلا وجهها الاحمرار الشديد ونكست رأسها ..
***
      وعندما ودعتها فى المحطة .. انحنت على يدى لتقبلها ولكننى جذبتها بسرعة ..
      ولما تحرك القطار .. وقفت فى النافذة تودعنى وتلوح لى بمنديلها الأبيض وهى تغالب الدمع ..
========================== 
نشرت القصة فى م . الجيل الجديدة بالعدد 141 بتاريخ 6/9/1954 وفى كتاب " العذراء والليل " سنة 1956
=============================


          

شــــــكوى إلى الســـــــماء


     ذهبت " نعيمة " إلى قسم البوليس لأول مرة فى حياتها .. وكانت قد قطعت المسافة من بيتها إلى القسم مشيا على الأقدام وهى تحمل طفلها الصغير فى جو خانق بالحرارة والغبار ..
      ودخلت باب القسم خائفة تتوجس .. وكانت هناك حركة مستمرة فى الداخل وصياح وأناس يضربون على أقفيتهم ووجوههم .. وعربة واقفة على الباب وحولها جنود مسلحون ..
      وكان بالعربة امرأتان وخمسة رجال وبعض الغلمان .. وكانوا سيرحلون جميعا إلى السجن العمومى .. وعندما وقع نظر نعيمة على المرأتين وحولهما الحراس ارتجفت .. وتخيلت أنها ستلقى نفس المصير ..
     وكانت قد تلقت فى الصباح ورقة صغيرة من شيخ الحارة بدعوتها إلى القسم .. وكانت هذه الورقة بيدها وهى داخلة .. وأمسكت بها كشىء ثمين تعتز به .. ثم قدمتها لأحد العساكر فأشار بيده فى غلظة دون أن يقرأ الورقة إلى باب على اليمين ..
     فدخلت ووجدت نفسها أمام رجل بدين فى رتبة جاويش عابس الوجه .. مغبر السحنة .. وكان يجلس إلى مكتب صغير قد تبعثرت عليه الأوراق وأمامه نفر من الناس واقفون فى استكانة وقلق .. وكان يتحدث مع شخص من هؤلاء بصوت عال خشن .. فلم يلق باله إلى نعيمة وهى منزوية بجوار المكتب ذليلة منكسرة ..
     ولاحظ وجودها .. فنظر إليها نظرة سريعة ثم نكس رأسه على الأوراق .. ولما فرغ من التحقيق وصرف الواقفين أمامه .. سألها بصوت ارتجفت له :
     ـ نعم .. فيه حاجة ..؟
     فقدمت له الورقة بيد ترتعش دون أن تنبس
     ـ أنت الست نعيمة ..؟ .. تفضلى ..
     وغير من لهجته وخشونته وقدم لها كرسيا ..
     وجلست ونظرها على الأوراق التى يقلبها بين يديه ..
     ـ ما الذى تريدينه فى هذه الشكوى ..؟
     ـ أما النقود .. أو الحبس .. ما دام طلقنى .. أنا مسكينة وليس لى فى الدنيا غير ربنا ..
     ـ وكيف نعثر عليه ..؟.. أنت تعرفين أنه مجرم .. مرة فى الإسكندرية .. ومرة فى الإسماعيلية ..
     ـ انه الآن فى بيته .. أصنع معروفا .. أنا مسكينة ..
     ـ حاضر .. سأساعدك .. هاتى الختم ..
     وأخذ يكتب شيئا كان قد أعده فى ذهنه .. ولذلك كتب سريعا .. وتناول منها الختم وختم ..
     وقال :
     ـ اتفضلى .. انتهينا ..
     وانصرفت وهى تدعو له ..
***  
     وكانت تنتظر شيئا سريعا عاجلا ينقذها من محنتها ويخفف عنها بلوى فقرها .. ولكن مضى أسبوع وشهر .. وشهر آخر ولم تتلق شيئا .
     فعادت إلى شيخ الحارة .. وإلى مركز البوليس .. وإلى من تقابله من الموظفين فى المحافظة وكانوا جميعا يهزون أكتافهم ويقولون لها :
     ـ الورق مشى من عندنا ..
     وأخيرا عثرت على الأوراق فى ركن فى المحافظة .. وسألها الموظف :
     ـ ما الذى تريدينه .. لقد تنازلت عن حقك قبل زوجك .. تنازلت عن النفقة وعن كل شىء .. اليس هذا ختمك ..؟!
     ـ أنا .. أنا ..؟
     وكادت المسكينة تجن .
     لقد استغل الجاويش فى القسم فرصة جهلها وبساطتها وكتب هذا التنازل بعد أن اتفق مع زوجها على هذا ..
     وأخذ بها الغيظ والحنق كل مأخذ .. وخرجت إلى الطريق شاردة بائسة ..
     وقالوا لها اكتبى عريضة للمحافظ .. وللمأمور .. فكتبت .. وكتبت فى كل يوم .. كانت تكتب مظلمة .. وكانت تنتظر الرد والخلاص من محنتها .. ولكن لم يرد عليها أحد .. ولم يسأل عنها انسان ..
     وضاقت بها سبل العيش .. وكادت تموت هى وطفلها جوعا ..
     وكانت تمضى الليل وهى تبكى وتنتفض من البرد .. ومن الجوع .. ومن الخوف .. الخوف من المجهول .. ومن البشر .. ومن كل ما يخبئه لها القدر ..
     وكان الجوع يمزق أحشاءها .. وكانت تبيع كل ما تملك لتطعم طفلها الصغير .. فلما نفد كل ما عندها ولم يعد هناك شىء تبيعه طار عقلها من الفزع لمجرد تصورها أن الطفل سيموت جوعا ..
     ووقع بالفعل ما كانت تخشاه .. فقد مضى يوم كامل على الطفل ولم يأكل فى خلاله شيئا .. وكان يعوى وأحشاؤه تتمزق من الصباح .. وأخيرا رحمه الله ونام بعد منتصف الليل .. وظلت هى ساهرة بجواره تفكر وتدبر .. حتى أصبحت وهى أتعس مخلوقة على ظهر الأرض .. ووجدت أنها لو ظلت فى البيت دقيقة بعد ذلك ستجن من القلق والأفكار السوداء .. فتركت الطفل نائما ..
     وخرجت فى بكرة الصبح .. ومشت فى الشوارع الساكنة حتى اقتربت من ميدان السيدة .. ولازت بالمسجد .. ورأت أناسا يخرجون من المسجد بعد الصلاة .. ونساء واقفات على الباب وحول الجدار .. وأيديهن ممدودة .. ورأت النقود توضع فى هذه الأيدى الممدودة فى صمت وهدوء وفى غفلة من الناس المشغولين بشئون معاشهم فى هذه المدينة الكبيرة ..
     ومر برأسها خاطر فى مثل خطف البرق .. ماذا لو غطت وجهها ومدت يدها وأخذت قرشا من انسان لتطعم به طفلها الذى سيموت اليوم حتما ان لم يطعم .. قرش واحد ليس إلا ..
      وترقرت فى عينيها الدموع واحتبست أنفاسها واشتدت ضربات قلبها .. وبحركة لاشعورية مدت يدها .. وخيل اليها أنها ظلت دهرا كاملا ويدها هكذا ممدودة للناس .. وخيم سكون مطبق قطع صلتها بالوجود كله .. بالناس وبالضجيج الصاخب الذى أخذ يعج به الميدان ..
      وغامت عيناها وجف حلقها .. وأخيرا سمعت صوتا آتيا من بعيد ..
     ـ يظهر أنك مسكينة يا بنتى ..
     ورفعت وجهها ووجدت رجلا يلبس حلة أنيقة وينظر إليها طويلا ..
     ـ لماذا تستجدين ..؟
     ـ لأطعم طفلى ..
     ـ تعال يا بنتى .. اشتغلى عندى .. وأنا أكفيك هذا السؤال .. ونظرت إليه طويلا ولم تنبس ..
     وأخذ الرجل يطيل إليها النظر فى اشتهاء الذئب لحم فريسته .. ثم قال :
     ـ أنت خائفة .. أنا متزوج وعندى أولاد تعالى أريك الست فى البيت ..
    ومـع هذا رفضت .. فمضى فى سبيله دون أن يعطيها شيئا ..
***    
     وقضت وقتا طويلا بجوار المسجد وهى تمد يدها ولا أحد يعطيها أى شىء .. وكان كل من يراها من الشبان والرجال ينظر إليها فى اشتهاء دون أن يعطيها مليما واحدا .. وكثير منهم كان يغازلها بكلام مفضوح ..
     وطلب منها رجل قصير يمسك بيده حقيبة مكتظة بالأوراق ويضـع على عينيه منظارا أسود أن ترافقه إلى بيته ..!
     فودت لو تبصق على وجهه ..
     ورجعت إلى البيت وهى تجر أذيال الخيبة وقد جف ريقها .. ولما وقع نظرها على الطفل وهو راقد على حشية فى الغرفة دون حراك ودون حس جرت إليه وضمته إلى صدرها .. ولما شعرت بأنفاسه الرقيقة وأدركت أنه لايزال حيا .. عاودتها عبراتها .. بكت بكاء الفرح .. فلا شىء فى الوجود يتعادل وطفلها هذا !..
     وقبلته وضمته إليها فى حنان .. ونام فى حضنها إلى الصباح ..
                                     ***           
     وخرجت مبكرة والطفل على صدرها .. ومضت فى الشوارع تستجدى وانقضى النهار كله .. دون أن تعطى .. ودون أن تأكل شيئا .. وكانت ترى الناس يمرون أمامها وتتساءل :
      أهؤلاء بشر حقا ..؟
     كانت تود أن تفعل أى شىء لتأكل وتطعم طفلها ..
     انهارت أعصابها وتخاذلت وبلغ منها الجوع منتهاه ، كانت تود أن تسرق وترتكب الفحشاء فى سبيل لقمة ..
     ومضى اليوم كله وهى جائعة .. ورجعت إلى البيت تندب حظها ولم تنم إلا غرارا ..
     وفى الصباح خرجت تحمل طفلها .. وتجر رجليها متخاذلة شاردة .. وفى منعطف الطريق قابلها رجل متأنق .. فغطت وجهها ومدت إليه يدها فنظر إليها قائلا :
     ـ أنت مسكينة وجائعة .. تعالى اشتغلى عندى ..
     ـ وهذا يا سيدى ..
     وأشارت إلى طفلها ..
     ـ معك ..
     ومشت معه إلى بيته .. وقدمها إلى زوجته وسرت بها الزوجة كثيرا لأنها كانت تبحث من مدة طويلة عن خادمة .. وبعد يومين أودعت الطفل فى ملجأ قريب بناء على مشورة السيد ..
     وكانت تعمل فى نشاط وسرعة .. ومضت الأيام فى أسعد حال ..
     وحدث أن مات والد الست .. وكان من أعيان المنيا .. فسافروا إلى هناك على عجل ..
     وعاد الزوج بعد ثلاثة أيام ومعه نعيمة ليباشر عمله وترك زوجته فى جنازة والدها .. وأصبحت نعيمة تدير شئون البيت فى غياب ستها .
     ومرت الأيام وطال غياب الزوجة لنزاعها مع أخواتها على الإرث .. وأخذ الزوج يعطف على نعيمة ويغازلها .. وهى تجهل بغيته .. ثم كشف عن حبه لها وهيامه بها ففرت منه .. فمازال وراءها يغريها ويطاردها كالذئب ويهددها بالطرد حتى ضعفت واستجابت لرغبته وأصبحت تنام فى فراش ستها ..
     وفى صباح يوم الجمعة ذهبت إلى الملجأ كعادتها لترى طفلها .. فعلمت أنه مات بالأمس .. فرجعت باكية .. وفكرت فى خطيئتها فى الليلة السابقة .. وقرنت الخطيئة بموت الطفل ..
     ولكن منير " سيدها " كان فى أعماقة أكثر سرورا بموت الغلام .. وأصبحت المرأة له وحده ومازال يستغل ضعفها وسذاجتها حتى أصبح يعاشرها حتى بعد أن عادت زوجته من سفرها ..
     ومضى عام .. وعام مثله والحياة تجرى ..
     وذات يوم أحست نعيمه بشئ فحدثت منير عنه فتجهم وجهه ولكنه لاينها حتى تستيقن .. فلما استيقنت نزل عليه الخبر كالصاعقة .. فايقظة من غفوته وفكر فىالتخلص منها بأسرع ما يمكن وبأيسر حيلة .. وكان من عادة زوجته أن تضع نقودها فى دولابها وتتركه مفتوحا وأحيانا تضع النقود الصغيرة على المناضد فى غرفة الطعام وغرفة الزينة .. و تجد هذه النقود دائما كاملة فى مكانها .. فلم يكن فى البيت أحد غير نعيمة .. وكانت نعيمة أمينه مخلصة فى نظر ستها ..
     وذات يوم وجدت الست النقود ناقصة .. فكتمت الخبر عن زوجها .. و بعد ذلك اختفت فكة كانت تضعها على الشفونير .. وضاع منها خاتم ذهبى تركته سهوا فى الحمام ..
     وحدثت زوجها منير .. فهز كتفيه وقال متهكما :
     - يا أنا السارق .. يا أنت .. يا الست نعيمة ..!
     - وبعدها ..
     - نطردها ..
     - نطردها ..! يا شيخ مسكينة .. ليس لها أحد فى الدنيا .. نحاذر منها وهذا يكفى ..
     وبعد يومين فقدت قلادة ثمينة من الزوجة .. فطارت إلى زوجها منير وحدثته بالسرقة ..
     - ضرورى نبلغ البوليس ..
     وسمعت الفتاة بسرقة القلادة ..
     فصعقت فلما اتهمتها الست صراحة صرخت :
   ـ أنا أسرق ..؟ أنا مظلومة .. حرام عليكم .. حرام .. و سالت دموعها و طردها منير فخرجت إلى الطريق .. حيث لا بيت ولا إنسان ..
     وعملت فى البيوت خادمة .. وفى كل شهر كانت تدخل بيتا جديدا .. ولما كبر بطنها و تضخم عجزت عن الخروج وعن العمل .. وأصبحت فضيحتها على وشك الذيوع ..
     وكانت تبكى وتستغفر حتى تقرحت عيناها من البكاء ..
     وعرفت سرها المرأة ألتى تسكن فى بيتها . فقالت لها :
     - اشكيه .. يا بنتى للنيابة .. اشكيه ..
     وسألتها نعيمة فى سذاجة :
     - فين النيابة ..؟
     - فى باب الخلق يا بنتى ..
     وذهبت نعيمة إلى باب الخلق وهناك جلست بجوار كاتب عمومى .. و كتب لها الكاتب الشكوى .. وأعطته ثلاثة قروش .. وأخذت منه الورقة ومضت فى الميدان .. وكان مزدحما برجال البوليس المسلحين .. كان اليوم يوم محاكمة بعض الطلبة .. وكان الميدان أشبة بمعركة حربية .. جنود الخيالة و الرجالة .. وبيدهم العصى الغليظة والبنادق .. يطوقون الميدان .. وحول هؤلاء يقف من بعيد جمهور غفير من الناس ..
     ومضت نعيمة فى زحمة الناس بورقتها وكانت أفواج الناس تدفعها من جانب إلى جانب .. واعتقدت أنه لا بد لها أن تسلم الورقة بيدها إلى النيابة وإلا ضاعت .. وفى ذلك الوقت كان بعض المسجونين الأحرار فى طريقهم إلى داخل المحكمة .. ورآهم الناس فهتفوا لهم وصفقوا وهجموا على العربة ألتى تقلهم موجا يدفعه موج ..
     وأمر الضباط الجنود بتفرقة هذه الجموع .. فأعملوا عصيهم فى الناس .. فى وحشية وقسوة .. فتفرق هؤلاء مذعورين إلى الحوارى والأزقة .. وأصابت عصا حامية نعيمة .. فمضت تولول مذعورة .. كانت تجرى بكل قوتها كالمجنونة .. وفى تلك الأثناء صدمتها عربة نقل كبيرة كانت تجرى مسرعة .. فسقطت مضرجة بالدماء وكانت فى يدها الورقة مرفوعة إلى السماء ..
========================= 
نشرت القصة فى كتاب " العذراء والليل " سنة 1956
=========================


 


















دار لنج

     استيقظ سكان قرية الرحمانية على حركة غير عادية فى منزل الشيخ عبد المجيد رضوان .. فقد كان الخدم ينظفون الدوار ويرشون الساحة التى أمامه .. وينفضون ما على الأبواب والشبابيك من أتربة .. ويخرجون الكراسى والأرائك من الحجرات وينظفونها ثم يعيدونها إلى الداخل ويغسلون فناجيل القهوة وأكواب الشربات على طاولة كبيرة ..
     وعرف أهل القرية سبب هذه الحركة المبكرة فى بيت الشيخ عبد المجيد .. عرفوا أن ابنه أحمد سيعود اليوم من لندن بعد غيبة دامت سبع سنوات .. وسر الفلاحون لهذا الخبر فقد كان الشيخ عبد المجيد رجلا محبوبا من أهل القرية لأنه كان محسنا ويعمل لخير الجميع فقد بنى لهم مسجدا ومدرسة وعزبة نموذجية ..
***
    وفى الساعة الرابعة خرجت سيارة الشيخ عبد المجيد إلى المحطة .. وفى الساعة الخامسة والنصف رأى الفلاحون السيارة تتهادى على الجسر ووراءها سحابة من الغبار .. ثم استدارت ودخلت الساحة ووقفت أمام البيت .. و نزل الدكتور أحمد ولكنه لم يكن وحده كما تصور الفلاحون فقد كانت معه سيدة شقراء الشعر وبلا جورب ..
     وفى المساء امتلات الدار بالمهنئين فاستقبلهم الشيخ عبد المجيد مرحبا ولم يخرج أحمد .. فظنه الناس متعبا من السفر فلم يلحوا فى السلام عليه وتركوه يستريح ..
     وفى الصباح جلسوا أمام البيت تحت أشعة الشمس فلما خرج عليهم أحمد أسرعوا نحوه مهنئين .. ولكنه تباعد .. واكتفى بأن رفع يده إلى صدغه مسلما واجتازهم مسرعا دون أن يمد يده إلى أحد منهم .. ولحقت به بعد قليل السيدة الشقراء وكانت ترتدى بنطلونا فتأبط ذراعها ومضى بها إلى خارج القرية ..
     وكان الشيخ عبد المجيد جالسا أمام بيته ورأى ابنه وهو يمر على أهل قريته دون أن يسلم عليهم ويعانقهم .. ورأى زوجة ابنه ترتدى البنطلون فى هذه القرية المصرية الصغيرة فذهل وكاد يجن من الغيظ .. ولكنه كتم عواطفه وصمت ..
***
     استقبل سيدات الأسرة زوجة أحمد بالترحاب والمودة .. و قد ظنن أول الأمر أنها سائحه .. ثم عرفن بعد ذلك أنها زوجته .. وأنها إنجليزية فزاد سرورهن بها .. وكانت اخته زينب – وهى الوحيدة التى تعرف الإنجليزية بين السيدات – تعنى بها وتعمل لها كأنها خادمة خاصة تهيئ لها ملابسها وترتب لها حاجاتها وتحمل لها صينية الشاى بنفسها وتعمل كل شئ فى سبيل راحتها وتكريمها كضيفة ..
     ولكن " مدام أحمد " كانت تنظر إلى هذا كله باستخفاف وبرود .. وتعامل الجميع كأنهم من طينة غير طينتها وبشر غير الذى انحدرت منه ..
     كانت تنظر إليهم باحتقار وكانوا كلما أحسنوا إليها وازدادوا حفاوة بها أمعنت فى كبريائها ..
     وأخيرا قررت زينب تركها وشأنها دون رعاية وقابلت برودها ببرود مثله .. و احتقارها باحتقار أشد ..
     وكان الدكتور أحمد يجلس فى الصالة على كرسى طويل واضعا رجلا على رجل وفى فمه الغيلون الذى لايبارح فمه ساعة من نهار أو ليل وكان يدخل عليه والده وهو جالس هكذا فلا يتحرك ..
     ويجلس الشيخ عبد المجيد ويستمع فى انتباه شديد إلى الحديث الذى يدور بين ابنه أحمد وزوجته الإنجليزية ويرى دخان الغليون وهو يتصاعد كثيفا فى سماء الصالة ..
     ومن اللحظة الأولى عرف جميع البيت معنى كلمة " دارلنج " فقد كانوا يسمعونها مائة مرة فى الساعة من الدكتور أحمد ومن زوجته " ماى" ولكثرة ما سمعوها من ماى سموا أحمد " دارلنج " ..
     وذات صباح كان الشيخ عبد المجيد يشرب قهوته المعتادة بعد الإفطار وكانت " ماى " فى حجرتها وكان الدكتور أحمد جالسا أمام والده واضعا رجلا على رجل وحذاؤه الأيمن فى وجه أبيه .. وكان يدخن الغليون وتحرك ليلتقط شيئا فاحتك حذاؤه بثوب والده فقال :
     - سورى .. داد..
     - توت آت اول دارلنج ..
     قالها الشيخ عبد المجيد فى تؤدة وبلهجة سكسونية وهو لا يعرف حرفا واحدا من الإنجليزية .. وكانت ابنته زنيب واقفة فرأت هذا وسمعته فغشى عليها من فرط الضحك ..
***
     وكان كل ما يقوم به ويعمله أحمد وزوجته من عادات شاذة محتملا فى البيت والقرية لولا أن أبصر الشيخ عبد المجيد زوجه ابنه خارجة من البيت ذات صباح وهى ترتدى الشورت كأنها فى بلاج فلوريدا ..
     فصعق الشيخ من الفضيحة .. وأرسل فى طلب ابنه حسن فى الحال .. فلما حضر قال له :
      ـ خذ هذا المبلغ واعطه لأخيك ليفتح لنفسه عيادة فى مصر .. وأعد له السيارة ليلحق قطر خمسة ..
   ـ وعندما خرج الدكتور أحمد مع زوجته إلى المحطة لم يودعهما أحد من الأسرة أو من أهل القرية ..
============================= 
نشرت القصة فى كتاب العذراء والليل سنة 1956
=============================


العزبة الجديدة

انطلق " سامح " بعربته الصغيرة فى الطريق الزراعى بين الإسكندرية ورشيد .. وكان هواء الصيف الرخى يحمل إليه نسمات البحر فى ساعة الأصيل .. وتبدو المزارع النضرة عن يمينه جميلة منسقة فى ابداع ونظام كأنما رسم خطوط المحاريث .. على الأرض رسام ..
ورأى وسط الحقول فيللا أنيقة مبنية على أحدث طراز .. فأعجبه منظرها .. وتمنى أن يقيم لنفسه واحدة من طرازها فى عزبته الجديدة التى اشتراها منذ أسبوع .. والتى يتجه إليها الآن .. وهو مفعم بالسرور والأمل ..
وكانت الطريق خالية أمامه .. ولكنه لم يكن يسرع بسيارته .. كان يسير سيرا هادئا .. ويستمتع بكل ما حوله من مناظر خلابة .. وكانت تعترضه من حين إلى حين العربات الكارو .. بإطارها الكاوتشوك .. محملة بالدريس .. والخضار .. وعربات المازوت .. والسيارات الصغيرة التى تحمل الدخان .. والسمك إلى التجار ..
وكانت زوارق الصيادين .. تتهادى عن بعد فى البحيرة .. وقد نشرت أشرعتها وألقت شباكها .. ورغم أنه من سكان الإسكندرية وعاش حياته فيها .. وله عزبة على ترعة المحمودية .. فإنه لم يكن يعرف منطقة أدكو ورشيد .. وقبل أن يصل إلى رشيد إنحرف إلى اليمين وسار بين المزارع على جسر غير مرصوف ..
وبعد أن قطع بضعة كيلو مترات .. خيل إليه أنه ضل الطريق .. وكان قد جاء إلى العزبة قبل ذلك مرتين لمعاينتها .. ولكن الطرق أمامه الآن كلها متشابهة فاختلط عليه الأمر .. وسأل وهو حائر عن " سيدى عقبة " وهى قرية على مسافة قليلة من عزبته .. فأشار عليه أحد الفلاحين بأن يعود من حيث جاء ثم يعبر قنطرة ويتجه إلى الشرق .. فأدار السيارة وسار وهو يتلفت عسى أن يهتدى إلى الكوبرى الصغير الموصل إلى العزبة ..
وعندما عبر الكوبرى وأصبحت العزبة على مسافة كيلو واحد .. لم يعرفها تماما فقد كانت الحقول كلها متشابهة .. ووجد صبية فلاحة جالسة بجانب الحقل تشوى الأذرة .. وظهرها إلى الطريق .. وعينها على ساقية دائرة .. وسألها :
ـ فين عزبة المأمور ..؟
فأدارت له رأسها .. وتلفتت وتوقفت عن تحريك الأذرة فى النار .. وقالت فى صوت ناعم :
ـ العزبة اللى جنبنا على طول ..
وعجب لنفسه كيف لم يعرف عزبته ..
وسألها .. وقد أحس بالجوع :
ـ تدينى كوز درة ..
ـ اتفضل ..
ووضع فى يدها قرشا ..
ـ أنا مش بياعة ..
ـ لكن لازم تاخدى ثمنه ..
ـ دى حاجة بسيطة .. مالهاش ثمن ..
وواجهته بعينيها الخضراوين ووجهها الصبوح :
ـ باين مافيش حد فى عزبة المأمور .. الخفير راح مشوار .. جاى حالا .. وأسطى الماكينة راح يجيب جاز .. من أدكو ..
ـ يعنى مافيش حد ..
ـ مافيش .. أصل العزبة اتباعت من يومين لواحد بيه من إسكندرية .. ولسه ماجاش يشوف حاله .. حضرتك عاوز منهم حاجة .. كلنا مع بعض والخفير فى عزبة المأمور خالى ..
ـ أيوه .. أنا البيه اللى من إسكندرية واللى اشترى العزبة ..
ـ شرفت يابيه شرفت ..
وظهر على وجهها السرور .. وقالت :
ـ الذرة اللى باشويها .. زارعينها احنا فى أرضك .. أرضنا لسه ما تطلعش درة ..
ـ والمحصول كويس ..؟
ـ كويس .. دا كله نصف فدان .. بناكل منه ..
ثم أخذت تحدق فيه كأنها تلوم نفسها .. لأنها لم تعرفه قبل أن يعرفها بشخصه .. فقد رأته من قبل .. وهو يعاين الأرض منذ أسبوعين .. ولكنه الآن غير ملابسه وخلع منظاره الأسود .. فتغير شكله .. وحياها ونزل بالسيارة إلى جوار الشاليه الخشبى المقام فى عزبته ..
ودفع باب الشاليه فوجده مغلقا بالمفتاح .. فتراجع يبحث عن شىء يجلس عليه .. وكانت الفلاحة ترقبه من الساقية .. وكأنها عرفت غرضه فجرت وأحضرت له كرسيا من الكشك الذى فى عزبتها .. وجلس عليه وهو يشكرها ..
ـ أعمل لحضرتك شاى ..؟
ـ كتر خيرك .. عاوز أشرب بس ..
ورآها وهى تمضى مدبرة .. خفيفة الحركة رشيقة .. وشعرها الطويل يتدلى مضفورا وراء ظهرها .. وكان فى عنقها كردان من تراب الكهرمان الأصفر وعلى رأسها منديل مطرز .. وكانت أشبه بالعروس المجلوة .. ولكن بزينة طبيعية فلا أصباغ ولا ألوان .. وكانت تتكلم بحرية .. دون كلفة كما علمتها الطبيعة ودون خجل .. لأنها سافرة وتعمل فى الحقل .. واعتادت على مواجهة الرجال ..
وجاءت له بالماء فى كوب من الزجاج على صينية نظيفة أنيقة .. فعجب وكأنها عرفت ما يدور بخلده ..
فقالت :
ـ دول بتوع مدكور بيه .. كان الأول فرحان بالعزبة .. وجايب فيها كل حاجة .. حتى الثلاجة والراديو .. وبعدين زهق ومشى .. ونشوفه دلوقت كل شهرين مرة .. أوعى حضرتك تعمل زيه .. فلوسك تضيع فى البحر ..
ـ لا .. أنا فلاح .. وابن فلاح .. وحتشفينى هنا كل يوم ..
ـ مبروكة عليك .. مبروكة .. والخفير بتاع حضرتك راجل كبير وطيب ومابقولش كده علشان أنه خالى .. حتشوفه طيب .. والمأمور .. كان ميعرفشى حاجة فى الزراعة .. وكل ساعة .. يغير الخفير .. وأسطى الماكينة .. ووكيله .. كان حرامى .. ياما صرف فلوس .. ياما .. والشاليه بنيه كويس .. خالص .. وكان عاوز يجيب دينامو .. وينور بالكهربا .. أهو جاى خالى عبد الكريم ..
وعندما شاهد عبد الكريم سامح من بعيد أسرع فى مشيته .. وسلم .. وفتح الشاليه .. وأخذ سامح يحادثه .. فى شئون العزبة ..
وكانت بهية قد حملت الصينية وسارت إلى بيتها .. وجلس سامح .. فى شرفة الشاليه .. يرقب الليل وهو يزحف فى بطء وسكون .. وأحس وهو جالس بالتعب .. فقرر أن يمضى الليل فى العزبة وأرسل عبد الكريم ليجىء له ببعض الطعام .. من أدكو .. ولكن قبل أن يعود عبد الكريم دخلت عليه بهية تحمل صينية وضعتها أمامه ..
ـ إيه ده ..؟
ـ عشاك يا بيه ..
ـ من غير ما تقولى ولا حاجة .. وليه التعب ..؟
ورأى على الصينية زوجا من الحمام المشوى .. وخبزا .. وجبنا .. فدفع يده فى جيبه .. وأخرج ورقة بخمسين قرشا .. وقال لبهية :
ـ خذى ..
ـ آخذ إيه ..؟
 خذى ..
 كل حاجة عندك بالفلوس ..
ورفضت أن تأخذ منه النقود وتركته وهى تضحك ..
*** 
واستيقظ فى الصباح .. قبل الشروق .. وتفقد زراعة الأرز فى مزرعته .. والأراضى البور .. التى تغسل .. وتستصلح للزراعة .. وشاهد وهو يمشى على حافة القناة .. بهية وزوجها .. فحياهما ..
*** 
وعندما أخذ طريقه إلى الإسكندرية .. فى الضحى .. قرر أن يعود إلى العزبة بعد يومين ومعه زوجته وأولاده .. ليمكثوا فيها جميعا .. حتى يفرغ من أعماله ..
وجاءت الأسرة .. فرحة .. ثم بدأ الملال .. فالمكان مقفر .. وبين العزبة وبين العمران .. مراحل .. ومراحل .. ولا سبيل للتسلية .. ولا شىء يرى .. غير أسراب الطيور .. وهى تعبر أجواز الفضاء متجهة إلى الشرق .. ثم السواقى الدائرة والطنابير .. وماكينات الرى .. والثيران والأبقار .. والجاموس .. فى الحظائر وفى الحقول ولا شىء غير ذلك ..
وكان سامح يجلس مع زوجته مديحة وأولاده الثلاثة .. فى شرفة الشاليه ونظرهم إلى الحقول ..
وكانت الزوجة تسلى نفسها بعمل بلوفر للأطفال .. والأولاد يلعبون فى القنوات .. أو يجلسون مع بهية .. فى الساقية .. وكانت تلاعبهم وتركبهم حمارا صغيرا .. وتظل النهار كله تعنى بهم ..
وكان سامح يرى بهية وهى تلاعب أولاده فى مرح وهناء كأنهم من لحمها ولا تفكر فى التفاهات التى تشغل بال زوجته مديحة وتعذبه .. ويعجب لفوارق الحياة ..
ورجع يذكر زواجه بمديحة منذ ثلاثة عشرعاما .. وكيف بدأ بغرام عنيف .. فى فترة الخطوبة .. والزفاف .. ثم تطور إلى لا شىء .. لا شىء على الاطلاق .. وهو الآن يعمل ويدور كهذا الثور الدائر .. فى الساقية ليجلب المال من أعماق الأرض .. لزوجته .. لتصرفه فى اسراف وبذخ .. لتشترى الجواهر .. وعقود الماس .. والفساتين الفاخرة .. والعطور الغالية .. والجوارب الأمريكية .. والكماليات التى لا يستعملها أحد ..
وعندما يعود متعبا .. منهوكا من عزبته فى كفر الدوار .. لايجد صدرها ليستريح عليه .. وإنما يجد الفواتير من هانو وأتنيوس .. وتطلب منه مرافقتها إلى كازينو سان استفانو لمشاهدة فرق الرقص الجديدة .. وما من مرة جلس بجوارها فى السيارة أو الفراش .. إلا وأحس ببرودة الجماد .. ويعجب أين ذهبت الحرارة التى كانت على شفتيها عندما كان يقبلها .. فى فترة الخطوبة .. اختلاسا فى السينما أو فى البيت فى غفلة من أهلها .. أين ذهبت هذه الحرارة وكيف ماتت عواطفها بسرعة .. لقد كان يحس وهو جالس بجوارها فى ذلك الوقت .. بمثل النار تسرى فى لحمه .. أما الآن فهى بجواره كأنها تمثال من الرخام البارد ..!
فما أعجب الحياة ..!
ونظر إلى بهية وهى جالسة مشرقة .. حلوة .. دون أصباغ ودون أحمر على الشفاة .. وبكحل طبيعى فى العينين .. وهى تضحك .. وتحمد الله على رغيف الخبز .. وقطعة من الجبن .. وتتحدث فى حرية طبيعية دون كلفة فى كل ما تعرفه عن الحياة .. وتعمل مع زوجها فى الحقل وتعينه فى البأساء والضراء .. وإذا وقع له مكروه .. ذهبت معه .. إلى المستشفى .. ووقفت معه فى المحكمة .. وانتظرته أمام مركز البوليس .. فى كل مكان تقف بجانبه .. تشد أزره فى الحقل وفى خارج الحقل ..
هذه هى الزوجة .. فكيف تتقدم الحياة فى الريف وتتأخر فى المدينة ..؟ كيف ..؟ وإذا مرض سهرت الليالى الطوال تمرضه حتى يشفى .. وإذا بارت زراعته .. صبرت معه فى جلد حتى يهل العام الجديد .. فيأتيهما الله بالعوض ..
كيف تتقدم الحياة والمرأة فى الريف وتتأخر فى المدينة .. كيف ..؟
وود وهو جالس هكذا .. لو يزحف حتى يقترب من بهية .. ويضع رأسه على صدرها .. فإنه فى حاجة إلى حنانها .. ود لو يمر بيده على ذراعها ويمسح على .. ساقيها وفخذيها .. ود هذا .. ونسى أنها زوجة رجل آخر ..
*** 
ولم تستطع مديحة هانم أن تمكث فى العزبة أكثر من ثلاثة أيام .. فأرجعها سامح إلى الإسكندرية مع الأولاد .. وعاد إلى العزبة وحده .. لأنه سيشرع فى ضم الأرز ..
وكان يعود من الحقول فى المساء .. ويتمدد فى الشرفة .. متمتعا بما حوله من مناظر طبيعية فاتنة .. وكانت بهية تخدمه لأن خفيره ليست له زوجة .. كانت تعمل له القهوة .. والشاى .. وتقدم له العشاء .. وتحادثة فى حرية وكأنها من طبقته .. فإذا فرغت من عملها عادت إلى بيتها .. وجلست تنتظر زوجها .. ونظرها يلاحقه .. من بعيد .. ويتابعه ..
كانت تبادله النظرات فى اعجاب وصمت وكان يكبرها بأعوام قليلة .. وتراه سيدها ومالك لبها ولكنها لا تحب أن تخون زوجها .. رغم كل شىء ..
وكان وهو جالس وحده .. يفكر فى بهية .. وفى العزبة .. وفى العمل والحياة والمال والجهاد فى سبيله .. وفى هذه الأشياء كلها .. التى يشغل بها الناس ويتقاتلون عليها .. وانتهى من تفكيره بأن الانسان أنانى جشع .. وأنه يستطيع فى هذا البيت الذى تسكنه بهية .. وفى كهف .. وفى ظل شجرة .. أن يكون سعيدا .. سعادة مطلقة .. وأكربه أنه يعيش كالآلة .. وأنه يشقى ليجمع ثروة .. ولا شىء غير هذا .. وكل هذا باطل .. باطل الأباطيل ..
وذكر طفولته .. وكيف نشأ فى أحضان الطبيعة وترعرع بين ربوعها وكيف أن أمه كانت تستقبل بوجهه القمر .. وتدعو الله أن يحفظه من الشقاء ومن البؤس .. ولكنه شقى وتلوث عندما انتقل إلى المدينة وعاش فيها ..
ورأى بهية قد نهضت عندما قدم زوجها من الحقل .. ومدت العشاء .. وجلست مع زوجها تأكل على ضوء المصباح البترولى .. وبعد العشاء أخذا يتحدثان وانضم إليهما عبد الكريم وجلسوا الثلاثة مدة .. ثم انصرف عبد الكريم بعد صلاة العشاء .. ودخل الزوج إلى القاعة .. وظلت بهية وحدها برهة .. ثم حملت المصباح ودخلت القاعة وراء زوجها .. وردت الباب .. وأحس سامح بمثل النار تسرى فى جسمه .. وهو يرى هذا .. ولم يكن يدرى لذلك سببا .. وراعه أنه عندما ذهب إلى الفراش لم ينم .. وظل ساهرا يتقلب .. على مثل الجمر ..
وقبل الفجر .. رأى نورا يتحرك على حائط غرفته .. وكانت نافذته الغربية مفتوحة .. فتحرك من الفراش وأطل من النافذة .. فأبصر ببهية ممسكة بالمصباح .. ثم وضعته فى طاقة بجانب الباب .. وأخذت جرة .. وملأتها من ماء الساقية .. ورجعت .. ووضعت الجرة فى فناء البيت .. وكان الفناء نصف مسقوف .. وليس له باب .. وجاءت بطشت .. وكوز .. وأطفأت المصباح .. وأخذت تخلع ثيابها .. فأدرك أنها تود أن تستحم .. قبل أن يطلع النور ..
وكان يود أن يغمض عينيه وهو يراها مجردة من ثيابها .. على ضوء الفجر .. ولكنه لم يستطع ..
وصبت الماء على جسمها وهى جالسة القرفصاء .. ثم انتصبت .. وتناولت ثوبها .. ودخلت القاعة بسرعة وأغلقت الباب ..
*** 
ولم يستطع سامح بعد هذه الليلة أن يبعد صورة بهية عن خياله .. فقد ملكت عليه لبه وشغلت مسالك تفكيره .. وكان يتعذب .. ولا يستطيع أن يبوح لها بحبه .. وهيامه بها ..
***
ومرت الأيام .. وذات مساء .. كان واقفا بجوار ماكينة الرى الرئيسية .. كانت تعاكس .. وتتوقف كثيرا .. وكلفته كثيرا من تغيير قطع الغيار .. ففكر فى شراء ماكينة جديدة بدلها .. وكان الأسطى يديرها وسامح يقف وراء الحدافة .. فانقطع السير فجأة وهى دائرة فى أقصى سرعتها .. وضرب سامح فى صدره .. فارتمى على الأرض فاقد الوعى .. وجرى خفير عزبته .. وبعض الفلاحين وحملوه إلى فراشه .. وكان الدم ينزف من صدره .. ولما رجع إلى رشده .. أمر عبد الكريم بأن يحضر له طبيبا من رشيد .. ولا يخبر الست بما حدث لأنه لايريد أن يزعج الأولاد ورجاه أن يصرف من تجمع خارج الشاليه من الفلاحين لأنه يود أن يستريح فى هدوء .. والمسألة بسيطة ولكن الكلام يؤذيه ..
وانصرف الجميع وكانت بهية تمرضه .. وزوجها يحمل لها الماء النقى من الطلمبة ..
وجاء الطبيب فغسل الجرح وأمره بالراحة التامة .. فى الفراش .. وأعطاه بعض المقويات .. ووعده بالمرور عليه حتى يشفى ..
وأصبح سامح حبيس الفراش .. ومع ذلك لم يبتئس .. وعجب لكونه لا يفكر فى زوجته وأولاده البعيدين عنه كما فكر فى بهية .. وفى السعادة التى تغمره لقربها منه .. ومن فراشه وهو مريض .. وكانت تقدم أقراص الدواء .. وتحادثه وترفه عنه ..
***
وذات ليلة علم من حديثها معه أن زوجها ذهب لمقابلة صاحب الأرض فى دمنهور .. وكان عبد الكريم قد ذهب يحرس المحصول فى الجرن .. وأصبحت بهية وحدها معه .. فى هذا الليل الريفى الساكن ..
وشعر بيده تتحرك .. وتمسك بيدها .. وتمر عليها فى رفق .. وتركت يدها فى يده .. شفقة به ..
وسألها :
ـ أنت من رشيد .. يا بهية ..؟
ـ أيوه .. يا سيدى ..
ـ وأمك وأبوك عايشين ..؟
ـ ماتم من زمان ..
ـ وعبد الغفار من بلدك ..؟
ـ أبدا ..
ـ أمال لقاكى فين ..؟
ـ كده النصيب .. أهلى صيادين .. وأهله فلاحين .. لكن كده النصيب ..
ـ وبتحبيه ..؟
ـ حضرتك تعبان .. ومتتكلمشى كتير ..
ـ دا عجوز وزى أبوك .. ومش ممكن تحبيه ..!
ـ اشترانى بالفلوس .. زى ما أنت كنت عاوز تشترى منى كوز الدرة بالفلوس ..
ـ عاوزك تعيشى معايا على طول .. يا بهية ..
ـ إزاى ..؟
ـ تجوزينى ..
ـ وعبد الغفار .. نوديه فين .. نموته ولا تشترينى منه بالفلوس ..؟
ـ ليه الكلام ده .. أنا عايش هنا علشانك .. عارفه كده .. ولا .. لأ ..؟
ـ دلوقت بتتكلم كتير .. وقبل كده .. ماكنتش بتكلمنى أبدا .. كده إيه اللى جرى ..؟
ـ ما قدرتش أحوش نفسى أكثر من كده .. وخايف أموت .. قبل ما .. خايف أموت ..
وخفت صوته .. وأغمض عينيه .. وشحب لونه .. فانحنت عليه وقد سرت فيها رعدة الخوف .. لتتأكد من أن أنفاسه لا زالت تتردد ..
***  
وهنا أحست بذراعه اليمنى تدور عليها وتشدها إلى صدره .. وبذلت مجهودا جبارا فى التخلص منه .. فلم تكن الخيانة الزوجية سهلة عليها كما يتصور .. ولكنه ظل ممسكا بها .. وقاومته برفق أولا ثم بعنف .. وظل يزحف على الفراش ممسكا بها وهى تقاوم .. فجرته وسقط معها على الأرض وظلت تصارعه .. ونهضت فنهض معها ليلقيها على الفراش .. فدفعته بقوة .. فارتطم فى عمود السرير وسقط والدم ينزف منه ..
وعندما جاءت عربة الإسعاف .. حملوه على المحفة .. وكانت بهية ترقبه من النافذة .. وقد وضعت طرف ثوبها بين أسنانها لتكتم صرخة قوية خرجت من أعماقها ..!!
=======================
نشرت القصة فى مجلة الجيل الجديدة بالعدد 152 بتاريخ 22/11/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " عذارى الليل " سنة 1956
======================
  





ذكريات من الدانوب

تركت بوخارست ذات ليلة فجأة .. فقد وجدت نفسى وحيدا فى مدينة كبيرة بلا غاية ولا أمل ..
وركبت القطار وهو يتحرك .. ولهذا اندفعت إلى الداخل كالقذيفة وجلست فى أول عربة صادفتنى وأنا الهث ولا أحس بشىء مما حولى .. ثم رجعت لنفسى ووجدت أننى لست وحيدا فى العربة .. فقد كان فى الديوان اثنان غيرى .. رجل وامرأة .. وكانت المرأة تجلس فى مواجهتى والرجل بعيدا عنها فى الركن الأيمن .. وكان مظهرهما يدل على أنهما سائحان مثلى ..
وكان الرجل ذا سحنة سكسونية .. كان مكتنز اللحم مدور الوجه يبلغ الخمسين من عمره .. وكان مستغرقا فى المطالعة ..
أما المرأة فقد كانت شابة فى الثلاثين أو أقل .. طويلة القامة .. ملفوفة العود .. شقراء الشعر .. وكانت تستدير إلى النافذة وقد ألقت أمامها على النضد الخشبى الصغير ببعض المجلات الأمريكية .. وصوبت إلىّ وأنا جالس نظرة سريعة ثم عادت إلى النافذة ترمق مدينة بوخارست وهى تسبح فى الليل الحالم ..
وكنت لا أزال ممسكا بمقبض الحقيبة فى يدى وعلى وجهى دلائل الارتباك كمن يركب القطار بغير تذكرة .. فلما اقترب القطار من محطة الشمال نهضت لأضع الحقيبة على الرف .. ولمست وأنا أفعل ذلك ثوب السيدة .. فاعتذرت لها بالإنجليزية .. فردت علىّ بانجليزية أصيلة .. فسررت وقلت لنفسى لقد وجدت أخيرا من يتكلم اللغة التى أجيدها .. بعد ثلاثة شهور قضيتها فى الدانوب وأنا أتكلم بالإشارة كالأخرس ..
وأخرجت علبة سجائرى واستأذنتها فى أن أشعل سيجارة .. وكان الرجل الآخر فى كتابه غافلا عمن حوله فلم أشأ أن أستأذنه ..
وبعد قليل أشعلت لها سيجارتها وأخذنا نتحدث .. وكانت تسألنى مئات الأسئلة بعد أن علمت أننى مصرى .. ولم أسألها عن جنسيتها وإن كنت قد خمنت أنها إنجليزية أو أمريكية ..
وكان الرجل الجالس هناك فى الركن لايشترك معنا فى الحديث ولا يلقى علينا حتى نظرة ..
وبعد ساعة غيرت مكانى وجلست بجوارها ملتصقا بها .. وكانت قد فتحت حقيبتها الصغيرة .. وأخذت ترينى مجموعة من الصور التقطتها فى بودابست ووارسو وسهول الدانوب وقالت لى أنها ستكمل هذه المجموعة فى البوسفور ..
وكنت أتحدث معها فى نشوة .. وازداد التصاقا بها وأشتم رائحة عطرها وألمس برأسى شعرها .. وكانت النافذة التى تليها مفتوحة والنجوم تتألق فى السماء والقطار يسبح فى لج الليل متهاديا ليطيل من أمد سعادتنا ..
وكنا مستغرقين فى حلم ممتع .. وتصورنا أن القطار يمضى بنا وحدنا إلى أرض الأحلام .. ونسينا الرجل الثالث الجالس فى ركن من العربة ..
ولما كنا سنقطع الليل كله فى السفر ولا نصل كونستنزا إلا فى الصباح فقد دعوتها إلى عربة الطعام للعشاء ..
وجلسنا هناك أكثر من ساعتين نتحدث ونشرب الجعة ..
ونهضنا لنرجع مكاننا .. وفى الممر الطويل أمسكت بيدها فتركتها فى يدى لينة رخوة .. وجلسنا متلاصقين كما كنا .. وكان رفيقنا فى العربة قد أطفأ المصباح الكهربائى الذى بجواره وأغلق كتابه واستلقى وراح فى سبات عميق ..
ولم أكن أود أن أنام أو أحرم نفسى من لذة الحديث مع أستر .. فى ذلك الجو الشاعرى الجميل فأطفأت نور الديوان كله .. واضطجعت مسترخيا حالما .. وشعرت بها بعد قليل تميل بصدرها على صدرى فتركتها مستريحة ..
وأغمضت عينى ورحت أتذكر الفنادق فى كونستنزا أو كارمن سيلفيا لأتخير الفندق الذى سننزل فيه معا أنا وأستر ..
وتخيرت الفندق بالفعل وكان صغيرا وجميلا على البحر .. ورأيت أن نبقى فيه أسبوعا قبل سفرنا إلى استانبول ..
وتحركت أستر .. وشعرت بوجهها ملقى على صدرى .. وأدركت أنها نامت .. وأخذت أنظر إلى عينيها الزرقاوين ووجهها الجميل .. ثم قربت وجهى من شفتيها .. وقبلتها قبلة خفيفة .. خوفا من أن تصحو وتحس بفعلتى ..
وراعنى أنها فتحت عينيها ونظرت إلىّ فى سرور واستسلام .. فأطبقت على شفتيها ورحنا فى عناق طويل الأمد ..
***  
وفى الصباح .. فتحت عينى .. فوجدتها قد استيقظت وغيرت ملابسها وأخذت توقظ الرجل الثالث الجالس معنا وتداعبه .. وكان لايزال مستغرقا فى النوم ..
وسألتها بعد أن استيقظ وذهب إلى الحمام :
ـ من هذا الرجل .. أو تعرفينه من قبل ..؟
ـ أنه زوجى .. باكستر ..! ألم أقدمك إليه ..؟ يا للعار ..!
وتصبب جسمى عرقا .. وشعرت بالعار حقا .. وبالخزى لكل ما حدث ..
====================== 
نشرت القصة فى كتاب " عذارى الليل " سنة 1956
=======================   















سوق السبت


     كان غطاس أحد تجار الأقمشة الذين يذهبون إلى سوق السبت فى قرية رافع .. وهى قرية صغيرة فى قلب الصعيد .. وكان أول من يدخل سوق القرية بحماره الرمادى الأشهب .. وأول من يجلس تحت المظلة الطويلة فى ساحة السوق .. وآخر من يبرح السوق من التجار ..
     وما من قروى لم يعرف غطاس أو يتعامل معه .. أو يشترى منه « غزلية » أو ثوب دمور أو جلابية زفير .. وما من قروية لم تشتر منه طرحة أو منديل رأس .. أو جلد الفيل ..
     ـ صباح الخير ..
     ـ خير عليكى ..
     ـ جايباها منين الجلابية دى ..
     ـ من عند غطاس ..
     وكان غطاس يتردد على سوق السبت منذ سنين .. وهو آمن مطمئن على بضاعته وماله .. لأن القرية آمنة وعمدتها الشيخ مهران .. رجل قوى مرهوب الجانب ..
     فما من حادثة قتل أو سطو أو سرقة وقعت فيها وهو عمدة ، وما من حادثة واحدة سجلها دفتر الأحوال فى المركز ..
     وكان الفلاحون يذهبون بمواشيهم إلى الحقول ويعودون    منها فى ظلام الليل فلا يعترضهم مخلوق .. ويكومون المحاصيل فى الأجران ويتركونها فى حراسة الغلمان .. ولا يجرؤ انسان على الاقتراب منها أو مد يده إليها فالجميع يعيشون فى أمان مطلق ..
     وكان الشيخ مهران مع قوته وجبروته تقيا عادلا .. يأخذ من الأقوياء للضعفاء ، ويسوى الأمور بين الناس على أحسن وجه .. وكان الجميع يعتبرونه أبا كبيرا .. حتى قلت المنازعات والخصومات بين الفلاحين أمام القضاء ..
     ولذلك روع الناس وذهلوا عندما وجد غطاس مقتولا ذات يوم وهو عائد من السوق ..
     وكان الشيخ مهران فى ذلك الوقت مريضا مرضا خطيرا حتى يئس أهله من شفائه وصوتوا عليه فعلا ذات ليلة ..
     ولذلك كتم وكيل العمدة عنه الحادث وهو يرتعش من مجرد تصوره ما سيحدث لو علم .
     وعلم العمدة أخيرا بالحادث فثار ثورة عنيفة ..
     وسأل الشيخ عبد الرازق وكيل العمدة ..
     ـ هل عرفت القاتل .. ؟
     ـ الولد عبد الموجود .. كان بايت فى المسطاح .. جنب الجسر .. ومر عليه غطاس ..
     ـ عبد الموجود لا يجرؤ على قتل فرخة وأنا حى .. يا شيخ الخفر هات لى فطوم ..
     وأسرع شيخ الخفر لاحضار فطوم ..
     وكانت فطوم أرملة فى العقد السادس من العمر .. تسكن فى شرق البلد فى بيت على الجسر .. ولها ابن وحيد يدعى عليان .. وكان يعمل فى المزارع والنجوع البعيدة .. فى الغرب .. على العدوة الأخرى من النيل .. وكان فاسدا شريرا بدد فدانين تركهما له أبوه على « الغوازى » وفى المواخير فى المدينة ..
     ولم تكن أمه فطوم تراه إلا قليلا .. لأنه كان يقضى الليل حيثما اتفق .. وكان مع الجراة الشديدة وحب المغامرة والتسلط ـ وهى الصفات التى ورثها عن أبيه ـ يخشى الشيخ مهران .. ولهذا هجر القرية ..
     وكانت فطوم تملك على امتداد بيتها أربعة قراريط تزرعها بنفسها طماطم.. وبامية .. وملوخية .. وفجلا .. وبعض اللفت .. وتسقيها بسهولة من ماء الترعة .. وتعيش من ثمن هذا الخضار قانعة راضية .
     وكان أهل القرية يرونها وهى ترفع وجهها إلى السماء ... داعية على ولدها العاق .. وكانت سافرة الوجه جسورة .. لم ينحن ظهرها بعد .. وقد اكتسبت من العمل المتصل فى حقلها الصغير صحة وقوة ..
***
     دخلت فطوم على العمدة .. بعد أن وضعت بجانب الباب عصاها الطويلة من الجريد .. وكانت هذه العصا تلازمها دائما .. لأنها تحرس بها الخضار الذى تزرعه من الفروج .. والأوز والبط ..
     وقالت وهى تحدق فى العمدة الراقد فى الفراش ..
     ـ عوافى يا بو محمد ..
     ـ عوافى .. يا فطوم .. لسه برضه قاعدة شديدة يا فطوم ..
     ـ الصحة ليك يابو محمد ..
     ـ فين عليان .. ؟
     ـ ما عرفش يا حضرة العمدة .. لى شهرين ماشفته .. ولا وقع عليه نظرى.. قطيعه .. ربنا يفتكره برحمته .. ويأخذه .. قطيعه تقطعه ..
     ـ الخفير اللى على البحر شافه معدى فى العشية ..
     ـ أبدا .. يا حضرة العمدة .. أبدا .. واللّه ماجه .. وحياة الشيخ العريان.. وسيدى جلال ..
     ـ طب روحى يا فطوم ..
     ـ اللّه يخليك لينا .. ويشفيك .. ويوتق حزامك ..
وخرجت فطوم .. واجتازت ساحة الدوار .. ومشت متئدة الخطو رابطة الجاش .. من العرصة إلى الجسر وعصاها الطويلة فى يدها ..
***
     ولم يصدق الشيخ مهران ما قالته فطوم .. وظل يبحث عن القاتل .. وبعد بضعة أيام وكان لا يزال مريضا فى فراشه .. سمع بكاء امرأة فى ساحة البيت .. فسأل عنها .. وعرف أنها نرجس زوجة غطاس .. جاءت لتشكو حالها .. وأمر بادخالها عليه .. فدخلت لابسة السواد وخلفها ثلاثة أطفال وعلى صدرها رضيع ..
     وقالت وهى تبكى :
     ـ جتلك بأولاد غطاس المساكين .. يا حضرة العمدة .. مين يوكلهم كلهم .. ودم أبوهم راح هدر .. ؟؟
     ونظر الشيخ مهران إلى الأطفال اليتامى .. وتأثر وأخذ منه الحزن .. وقال لنرجس وهو يعطيها بعض النقود :
     ـ خدى .. وروحى .. يا نرجس .. وانا عارف اللى علىّ ..
     ـ دا كان بيجى السوق على حسك .. من عشرين سنة ما انسرقتش معزاية من بلدك ..
     ـ روحى .. يا نرجس ..
     ـ ربنا يبارك فيك .. ويشفيك ..
     وخرجت نرجس تجر أطفالها ..
***
      وبعد أيام قليلة عرف الشيخ مهران القاتل .. ولم يكن غير عليان الذى خطر بباله لأول وهلة .. وعرف الشيخ مهران أن عليان بعد أن قتل غطاس وسرق الثلاثين جنيها التى كانت معه فى جيبه .. ألقى كيس القماش فى النيل.. وذهب إلى صاحب له فى النجع ..
     وظل الشيخ مهران وهو فى فراشه يتقصى أخبار عليان حتى علم ذات ليلة أنه عبر النيل فى غبش الظلام ومعه بندقيتة وذهب من شروق البلد إلى أمه.. فأرسل الخفراء ليطوقوا البيت ..
     وقال لشيخ الخفر :
     ـ عاوزه .. حى ..
     وبعد قليل علم الشيخ مهران أن عليان أحس بالخفراء قبل محاصرة بيته .. وهرب كالثعلب ..
     وخشى الشيخ مهران أن يفلت منه القاتل إلى الأبد .. فتحرك من الفراش وهو ينضح عرقا .. وتناول بندقيته وخرج من بيته .. ولما رآه خفير الدرك جرى وراءه ليرافقه ..
     فقال له الشيخ مهران :
     ـ خليك يا عباس .. وخذ بالك من النقطة .. وقل لشيخ الخفر أن رجع فاضى .. يطوق جنينة عبد الكريم .. يمكن الولد فيها ..
     وسار الشيخ مهران على الجسر وحده .. وكانت مياه الفيضان تغمر الأرض كلها والظلام رهيبا .. وكان الرجل مع مرضه يمشى قويا وقد جمع حواسه كلها فى باصرته .. وكان قد لبس رداءًا خفيفا أسود .. وتلثم .. وتمنطق بحزام وضع فيه أكثر من مائة طلقة .. فإنه يعرف جيدا الرجل الذى يطارده ..
     وكان يفكر فى الأرملة المسكينة نرجس وأطفالها .. والظلام الذى شملهم والبؤس الذى تردوا فيه .. والجوع الذى ينتظرهم دون جريرة أو ذنب جنوه فى الحياة ..
     وكان يغلى غيظا لمجرد تصوره أن عليان هذا الشرير .. سيفلت منه دون أن ينال القصاص .. كان يريد أن يجتث الشر من جذوره .. وتحت تأثير هذا وهو مريض .. وسار وقد شعر بقوة خارقة تدفعه إلى التقدم .
     وبعد ساعتين عثر على عليان فى ماكينة رى .. وأدرك الشيخ مهران بعد الرصاصات الأولى التى أطلقاها .. أن المجرم منبطح على سطح الماكينة ويحتمى بصهريج المياه والاقتراب منه فى هذه الحالة انتحار مؤكد .. فدار يتلصص ويخوض فى القنوات .. حتى تسلق مرتفعا يشرف على بناء الماكينة .. وأطلق الرصاص .. وتصارع الرجلان صراع الجبابرة ..
     وأدرك عليان من أول رصاصة أطلقت أنها ليست بندقية شيخ الخفراء ولا بندقية خفير .. وأن الذى أمامه رجلا آخر .. رجلا كان يخشاه أكثر من الموت .. ويتصور أنه لن يترك الفراش أبدا .. وأنه راقد هناك .. ولكنه تحرك وجاء ليطارده .. وصوت بندقيته يدوى وقد خرج إليه وحده .. وليس معه خفير واحد .. لا ليقبض عليه وانما ليفعل شيئا آخر ..
     وثار عليان وأطلق الرصاص فى جنون .. ولكن الشيخ مهران أسكته إلى الأبد .. فخر فى معجنة للطوب صريعا ..
***
      ورجع الشيخ مهران يمشى على الجسر وحده وقد سكن الليل وعاد السكون يلف كل شىء ..
     وخرجت القرية كلها على صوت الرصاص تستطلع الخبر .. وعلموا أن العمدة المريض .. خرج وحده فى الليل .. وقتل عليان ..
     وسار الشيخ مهران على الجسر .. وخلفه الفلاحون يباركونه .. وقبل أن يدخل مدخل القرية صوبت إليه رصاصة .. وسقط ..
***
     ورأى الناس فطوم .. واقفة على سطح بيتها وبيدها بندقية .. وكانت منتصبة القامة .. شامخة الأنف .. وكان منظرها وهى واقفة يلقى الرعب فيمن حولها .. فلم يجرؤ انسان على الاقتراب منها ..
===============================  
نشرت القصة فى مجلة الثورة 9/9/1954 وبمجوعة قصص لمحمود البدوى " العذراء والليل " وأعيد نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
================================















السفينة

لم تكن سفينة عائمة فى البحر وإنما كانت سفينة ثابتة على الأرض .. على مساحة لا تزيد على ثمانين مترا .. وفى هذا القطاع الصغير فى حارة الشيخ ريحان بعابدين أقام أحد المهندسين الفنانين منزلا شاهقا من ستة أدوار على طراز السفينة مستدق من الأمام ومن الخلف دائرى الفرندات والشرفات .. يخيل إليك وأنت تراه من بعيد أنه يسبح فى الجو ..
وفى هذا المنزل العجيب أقمت سبع سنوات من عمرى فى الدور السادس والأخير منه ..
وكانت صاحبة البيت سيدة سمراء تعيش مع زوجها فى السودان فلما مات جاءت إلى القاهرة ..
وكانت هذه السيدة من أنبل وأكرم من عرفت من النساء وكانت تقيم فى شقة واسعة فى منزل ملاصق للسفينة .. وكنت أدفع لها ايجار الشقة الذى لا يزيد على جنيهين فى الشهر من باب صغير يقع بين الدور الرابع والخامس ويوصل إلى بيتها ..
وكانت تعود وتقرضنى أضعاف هذا المبلغ فى خلال الشهر إذا ما احتجت لنقود .. ولم تكن تسأل عن ايجار أو تطالب أحدا من السكان فى أول الشهر .. وكان يسكن فى الدور الأول قومسيونجى وقد تأخر عليه ايجار سنتين وما طالبته فلما قلت لها :
ـ أنت ربيت عند الرجل عادة عدم الدفع ..
قالت :
ـ لا .. يا ابنى .. إنه لا يكسب فى هذه الأيام .. كما كان من قبل .. فهل أجور عليه أنا والزمان .. دعه يدبر طعامه .. وغدا سيدفع ما فى ذلك شك ..
وكان يسكن تحتى رجل فى عقده الخامس .. وكان أعزب .. وموظفا فى مصلحة حكومية .. وكان متبرما وساخطا على الحياة والناس .. ولا شك أنه كان يلقى كل ضروب الذل والهوان من رؤسائه فى العمل فقد كان منكس الرأس ذليلا .. وما رأيته إلا ثملا .. يترنح من فرط الشراب ..
وكان يسكن تحت هذا شاب يشتغل فى شركة بيع المصنوعات وتقوم على خدمته أخته ومعهما أخ صغير فى المدرسة .. وهى أسرة هادئة ريفية المنبت تعيش فى حالها ..
ويسكن تحت هذه الأسرة شاب أجنبى متزوج حديثا من رومية مثله .. يعمل ميكانيكيا وصاحب ورشة صغيرة لإصلاح السيارات فى شارع القاصد .. وهو دائم الشجار مع زوجته العروس .. دائم الضرب لها .. لسبب ولغير سبب ..
وكانت المعركة تبدأ فى الليل وقبل النوم عادة .. فإذا اشتد الضرب خرجت الزوجة من باب شقتها مذعورة فى قميص نومها .. وتجرى حافية القدمين على السلم .. حتى تصل إلى أى شقة مضاءة .. فإن وجدت جميع السكان نائمين .. قرعت الباب الصغير الموصل إلى صاحبة البيت .. وتفتح لها السيدة .. وتأخذها عندها إلى الصباح ..
وكانت هذه الرومية ذات جمال صارخ .. وزوجها قمىء ضئيل .. ولا شك أنه كان يحس فى أعماقه بعجزه وضآلته ..
وكنت الوحيد فى السفينة الذى يتلقى الإزعاج كله .. لأنها كانت تصعد السلم مندفعة ولا تجد شقة مضاءة سوى شقتى .. فتهز بابى فى اضطراب .. وهى تبكى .. فكنت أدخلها فى شقتى وأغلق عليها الباب وأنزل إلى الزوج لتهدئته ..
وكان يسكن فى الدور الثانى أسرة تركية مكونة من أرملة وابنتها التى تعدت سن الزواج وكانتا لا تخرجان إلا قليلا ولا يراهما السكان إلا نادرا ..
وكان الموظف السكير بعد أن يعود من عمله ويستريح .. يقف فى المنور يغازل أخت الساكن الذى تحته .. وكانت الفتاة حلوة وسوداء الشعر غزيرته ولكنها كانت ريفية خجولة ولا ترد على مغازلاته حتى بنظرة .. وهذا يزيده تعلقا بها وولها ..
وكان بجوار السفينة .. منزل من طابق واحد قد تهدم نصفه .. وفى هذا البيت كانت تقيم أرملة تسمى بأم حسنية .. ولها غلام يعمل فى مطبعة مصر بشارع الدواوين .. وحسنية بنتها فتاة فى الثامنة عشر من عمرها .. ويسكن مع هذه الأسرة الفقيرة .. عم إسماعيل وهو أعمى فى سن الخمسين ضخم الجسم طويل القامة ..
وكان يبرح البيت مبكرا ويجلس فى مقهى صغير بجوار جريدة المقطم يشرب الشيشة ويتحدث مع العمال وحوذية النقل الذين يكثرون فى هذه المنطقة ..
وكانت حسنية فتاة بيضاء تعد فتنة فى النساء .. وكانت تعرف محاسن جسمها .. ولها طريقة فريدة فى لبس الملاءة وطيها .. والسير بها فى الشارع .. وكان شبان الحى يغازلونها بالكلام الخفى .. والصريح وهى لا ترد على أحد منهم ..
وكان كساب أكثر الشبان مغازلة لها .. وهو عاطل يجلس طول اليوم على باب حلاق فى ناصية الشارع .. ومعه اثنان أو ثلاثة من العاطلين التافهين مثله .. يغازلون السيدات المارات فى الطريق .. ويتحدثون فى السياسة .. وهى أسهل الأحاديث على هؤلاء التافهين ..
وكان كساب هذا جبانا .. فلا يجرؤ على ملاحقتها ومغازلتها إلا إذا عرف أن عم اسماعيل خرج من البيت .. ولم تكن الفتاة تلتفت إليه اطلاقا أو تعير بالها لما يقول ..
وكان جمال حسنية فريدا .. وحسنها محط الأنظار .. وكان لها صوت ناعم وضحكة تدوى كرنين الفضة الخالصة .. وكانت كأنما نحت جسمها مثال فنان ماهر ..
وكان هذا الجسم يتحرك فى الشارع مائة مشوار فى اليوم .. يجىء بالكبريت .. والصابون .. والملح .. وابرة الوابور .. والملوخية .. والفلفل الأحمر .. والفجل .. والجرجير .. والبطيخ .. والعنب .. والشمام .. لسكان السفينة جميعا .. فقد كانت أمها تخدم الأدوار الخمسة فى السفينة .. عدا دورى السادس .. كما كانت البوابة التى تحرس السفينة وتأخذ الرسائل من البوسطجى .. وتمسح السلم ..
وكانت أم حسنية تحيينى فى الصباح والمساء .. أنا الساكن الجديد وتظهر مودتها الزائدة نحوى .. ومع ذلك ظللت شهرين أنظف شقتى الصغيرة بنفسى .. وأتردد فى استدعائها .. فلما جاء دور الغسيل .. أعطيتها المفتاح .. وكنت أعود بعد الظهر فأجد البيت كله مغسولا وممسوحا بالجاز .. ثم أصبحت تطبخ لى ..
وكانت حسنية معها تساعد فى يوم الغسيل .. وتحضر لها الأشياء من السوق ..
*** 
ومرت الأيام وأصبحت أرى حسنية مع أمها .. فى المطبخ .. وجالسة إلى طشت الغسيل .. وناشرة الملابس فى الشرفة .. ومخرجة الفراش إلى الشمس .. وهى ترتدى القميص الأبيض .. والجلابية الزرقاء .. حافية القدمين .. أو لابسه الشبشب أو القبقاب .. وبخلخال يرن فى الساق أو بدونه ..
على أنها كانت دائما بصحبة أمها ..
*** 
وفى عصر يوم .. سمعت طرقا على بابى .. ولما فتحت الباب .. وجدت حسنية واقفة وحدها على العتبة .. وابتدرتنى بقولها :
ـ أمى تعبانة شوية .. وبتقول لحضرتك .. عاوز حاجة من السوق ..؟ أكل ..؟
ـ أيوه .. تجيبى زبادى .. وعنب .. بس أدخلى .. واعملى قهوة .. أولا ..
وظلت واقفة على الباب تنظر إلىّ ..
ـ أدخلى .. يا حسنية .. خايفة منى ..
ـ أنت لأ .. أمى عارفاك كويس ..
ـ أمال واقفة ليه ..؟
ـ أصلى ما أعرفش أعمل قهوة .. وحاتكسف ..
ـ مش مهم تكون مظبوطة خالص ..
ودخلت .. لأول مرة بيتى وحدها .. وشعرت بعد دقيقة بالأمان وأخذت تجىء بعد ذلك كثيرا وحدها .. تصنع لى القهوة قبل الغروب .. وترتب الشقة .. وتتحدث وتضحك .. وتخرج النقود من محفظتى وتعدها .. وتقول :
ـ أنا عاوزة قد دول .. وأسافر ..
ـ على فين ..؟
أسكندرية .. بور سعيد .. أى بلد .. بعيد عن كساب .. وكل أولاد الكلب ..
وكنت أعرف أنها تتعذب من هذه السخافات الصبيانية ..
وتظل فى شقتى حتى تسمع أمها تصيح :
ـ يا بت يا حسنية .. يا مضروبة فى قلبك ..
فتهبط السلم مسرعة ..
ولم تكن حسنية مضروبة فى قلبها كما كانت تنعتها أمها .. بل هى التى كانت تضرب قلوبنا جميعا وتوجعها ..
*** 
وذات يوم .. عدت بعد الظهر كعادتى .. فوجدت حسنية وحدها فى الشقة .. وقالت وهى تضع الطعام على المائدة ..
ـ أوعى تعيب على الأكل .. دانا طابخة النهارده وحدى ..
ـ وأمك مالها ..؟
راحت مع عمى إسماعيل القصر .. طالعله خراج .. مسكين ..
وابتدأت حسنية تتحرك فى الشقة الصغيرة فى رشاقة وسرعة .. تضع الأطباق على المائدة .. ودورق الماء .. والجرجير .. والملاحة وكنت ألاحظ حركتها .. وأنظر إليها نظرة جديدة .. وأشعر باضطراب .. وهى تتحرك أمامى مع أنى انفردت بها فى الشقة قبل ذلك مرارا .. أكان ذلك لغياب عم اسماعيل .. وأمها .. ولأنى آمن جانبهما فترة من الزمن لم أكن أدرى .. ولكننى شعرت براحة نفسية بالغة لغياب هذين عن الحى كله ..
وكانت حسنية مرتدية جلابية زرقاء .. وتعصب رأسها بمنديل فى لون ثوبها .. وكان الثوب قصيرا .. وهى تمشى حافية .. فبدت سيقانها العارية .. كما خلقها الله بكل جمالها وسحرها ..
وسألتنى وقد بدأت أتذوق الطعام :
ـ إزى الأكل ..؟
حلو جدا .. زيك ..
ـ وأنت كمان حتبقى زيهم ..
ـ أنا باقول الصدق .. من غير غرض ..
ـ مكنتش عاوزه الجمال ده .. اللى معذبنى ومليش راجل يحميه .. أخوى صغير وعمى إسماعيل زى ما أنت شايف أعمى ومسكين .. ومبقلوش حاجة من الكلام اللى باسمعه من الناس .. لأنه لما يثور يبقى مجنون ..
ـ عمك هو ..؟
ـ لأ ..
أقعدى كلى معايا ..
ـ مين .. أنا ..؟
ـ أيوه .. أقعدى ..
وضحكت ..
ـ بتضحكى ليه ..؟ أقعدى ..
ـ أنا أقعد معاك ..؟ دانا خدامة ..
ـ مين قال كده ..؟ إن ماكنتيش حاتكلى مش واكل ..
ونهضت .. وكانت واقفة بجوار المائدة ..
ـ يالا .. خلينا ناكل ..
وأمسكت بيدها .. وكانت لينة رخوة .. وسحبتها برفق فأسبلت عينيها .. وظهر الخجل على وجهها .. ولما رفعت أهدابها وجدت النار تشتعل فى عينى ..
وكانت يدى تضغط على ساعدها ..
ولم أحس بنفسى وأنا أقترب منها وأطوقها بذراعى ..
وكانت فى تلك اللحظة قد التصقت بالحائط ..
ولم آكل .. واكتفيت برضاب شفتيها ..
***
وشغلت بحسنية وأصبح يضايقنى معاكسة الشبان لها .. وكنت أثور .. وأود أن أضع حدا لعذابها .. فأضرب كساب هذا حتى يموت .. ولكننى كنت أخاف وأفكر فى المستقبل والحياة .. وأخشى كل ما يخشاه الجبناء .. وكانت المسكينة .. تتعذب وتشقى فى صمت ..
وكنت أسمع كساب .. يقول وأنا مار فى الطريق ..
ـ دا وصل للدور السادس .. اتمتع يا أبو عفان .. اتمتع ..
ولا أستطيع أن أفعل شيئا .. لأننى موظف فى شركة كبيرة وأعيش فى رخاء ودعه .. وكانت حسنية تختلس الوقت اختلاسا لتنفرد بى .. تذهب إلى صاحبة البيت فى المنزل المجاور ثم تتحين الفرصة وتطلع إلى شقتى بعد أن تنفذ من الباب الصغير بين البيتين .. وتعود من نفس الطريق .. وكنت أضمها إلى صدرى فى الظلام .. وأهمس فى أذنها بالكلام خوفا من أن يسمعنا أحد .. وكانت تقول لى :
ـ خذنى .. بعيدا عن هنا .. بعيدا .. وسأكون جاريتك كما أنا الآن .. أبعدنى عن هذا الجو .. إن جمالى نقمة علىّ وحدى .. أننى لا أريد أن أسبب العذاب لأمى المسكينة التى تعيش بقوت يومها .. ولا لعم إسماعيل الضرير الفقير .. الذى لا حول له فى الحياة ولا قوة .. أننى أشقى بسبب هذا الجمال الذى لا أجد من يحميه وأتمنى لو أشوه .. أتمنى لو أشوه .. تصور أن كل شاب يرانى فى الطريق يتصور أن لا شىء يفعله لامتلاكى أكثر من أن يمد يده نحوى .. أو يشير إلىّ بأصبعه .. مجرد إشارة .. لأرتمى فى أحضانه .. تصور هذا وقدر بنفسك عذابى .. لماذا هذا ..؟ لأننى فقيرة .. لماذا ..؟
ولكننى عندما أضع رأسى على صدرك .. أنس كل شىء .. أنس كل هذا لأعيش فى هذه اللحظة السعيدة التى أختلسها اختلاسا .. هذه اللحظة التى تمر سريعة كالحلم اللذيذ ..
ولكننى لم أفعل شيئا لأنقذ حسنية من عذابها .. وكنت جبانا ..
*** 
وسمعت مرة الساكن الذى تحتى يقول لحسنية وقد وجدها على السلم وحدها :
ـ مش عاوز منك حاجة يا بنتى .. بس أشوف فخادك .. أشوفهم بس .. وخدى الخمسة جنيه دى .. خديها ..
وهبطت السلم مذعورة ..
وعندما جاءتنى فى اليوم التالى قصت علىّ ما حدث ..
ـ شايف السكران المجنون .. عاوز إيه ..؟
وضحكت .. وجعلتها تضحك ..
***  
وكان كساب .. مستمرا فى وقاحته ومغازلته لها ..
وكان يغيظة منها أنها تحتقره ولا ترد عليه اطلاقا .. وكان يتصور أنها سهلة مبذولة للجميع ولكنها تمتنع عليه وحده .. وزاده هذا حقدا عليها وتشجع على ملاحقتها وسبها .. عندما عرف أن عم إسماعيل يذهب كل يوم إلى قصر العينى ليغير على الجرح ..
*** 
وذات ليلة انفجر غيظه وكمن لها وهى مارة فى الطريق وألقى على وجهها ماء النار وهرب فى الظلام ..
ولكنه لم يشاهد جالسا على باب الحلاق فى اليوم التالى .. فقد خنقه عم إسماعيل وألقى بجثته بجوار الجدار ..
وتشوه جمال حسنية كما تمنت .. لنفسها ..
========================  
نشرت القصة فى مجلة الجيل الجديد بالعدد 149 بتاريخ 1/11/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " عذارى الليل " سنة 1956
======================= 









الغريق

جلست فى مقهى كرياكو .. على ترعة الابراهيمية .. فى انتظار السيارة العمومية الذاهبة إلى المنيا .. ولم يكن بالمقهى سواى وناظر المحطة عبد السيد أفندى وأثينا زوجة كرياكو .. وكنا فى وقت الظهيرة والشمس حامية .. وجلس الناظر يشرب الزبيب ويمز بالفول السودانى والفاصوليا .. ويتحدث مع زوجة صاحب الخمارة .. وسحبت أنا كرسيا وجلست خارج القهوة تحت شجرة الجميز على الترعة أستروح النسمات من " بحرى " وأنظر إلى الماء المتدفق وكنا فى شهر أغسطس وفى بداية الفيضان .. وكان الخط الحديدى على الضفة الشرقية فى مواجهتى وكنت أرى أسلاك البرق تهتز والسيمافورات تتحرك حركة أتوماتيكية كلما اقترب القطار .. وكانوا يغيرون الفلنكات على مدى خمسة كيلو مترات أو ستة من المحطة .. فأخذت القطارات تهدىء من سرعتها وهى تجتاز هذا المكان .. وكان المزلقان على مسافة مائة متر منى .. وكنت أرى الخفير المسكين يتحرك ببطء كلما سمع الجرس يدق فى الكشك .. ويسحب الباب الذى يتحرك بعجلات على القضبان .. ثم يعود فيفتحه .. من الجانبين عندما يعبر القطار .. وأعجب لهذه الطريقة البدائية فى عصر الذرة .. ولمحت الخفير وهو يسحب الباب .. للمرة السابعة أو الثامنة فى أقل من ساعة .. ومر قطار الديزل .. ورأيت الناس يجرون بعد أن مر القطار .. فى كل اتجاه .. وسمعت من يقول :
ـ الديزل أكل واحد ..
وتجمع الناس على الخط .. ثم جاء بعضهم إلى القهوة .. وأخذ كل واحد يعلق على الحادث بما عنده .. والرجل الذى فرمه القطار ملقى هناك على الشريط غارق فى دمه ولم يفكر إنسان فى أن يغطى جثته .. حتى " بجرنال " .. ومنهم من نعته بالبهيم .. ومنهم من ألقى اللوم على خفير المزلقان وأمر بشنقه .. ومنهم من قال هكذا أجله .. ولكل أجل كتاب ..
وجاءت السيارة وركبتها ووجدت كل الركاب يتحدثون عن الحادثة كأنهم شاهدوها بأعينهم .. ويصبون لعناتهم على الخفير الذى لم يغلق المزلقان .. ولم يكن فيهم واحد رأى الحادث أو كان على قرب منه .. ولكن هكذا الناس .. يندفعون مع التيار .. وكان هناك راكب واحد لاذ بالصمت .. فلم يعلق بشىء .. ولم ينطق بحرف .. وكان جالسا بجوارى وقد أمسك بمنديل محلاوى لف فيه شيئا ووضعه فى حجره .. وكان يرتدى لبدة حمراء .. وجلبابا أسمر .. وكان وجهه صامتا لا يعبر عن شىء .. وأحسست برغبة فى التدخين فأخرجت العلبة .. وقدمت لهذا الرجل سيجارة .. فتناولها شاكرا .. وقلت وأنا أشعل له السيجارة :
ـ إن الخفير أغلق المزلقان أمامى ..
ـ أنا أعرف ذلك ..
ـ هل ركبت من هناك ..؟
ـ كنت خفير مزلقان .. مثله .. وأعرف حليم .. وهو من أحسن الخفراء فى المصلحة ..
ـ إنه معذور .. وعمله شاق .. وكله مسئولية ..
ـ أجل .. ولكن الناس لا يعرفون النظام .. ولا يحبون أن يخضعوا لأى قيد حتى ولو كان القيد لإنقاذ أرواحهم .. ويستوى فى ذلك الفلاح الأمى والأفندى المتعلم .. الفلاح يسحب وراءه الجاموسة ويتخطى القضبان والسريع يصفر على مسافة قريبة منه .. والأفندى المتعلم .. يطلب منك أن تفتح له البوابة ليمر بسيارته .. ويقول فى الحاح :
" يا أخى ما تفتح القطر لسه بدرى عليه "
وهو لايعرف أن الاكسبريس يظهر فجأة ويمر فى ثلاثة أرباع الثانية .. ثلاثة أرباع الثانية .. وأنت ترى البوابة .. وكم تستغرق من الوقت لفتحها وقفلها ..
ـ ولماذا تركت العمل ..؟
ـ هكذا شاءت الأقدار ..
ـ حادث .. وفصلت بسببه ..
ـ لم أفصل .. أنا الذى تركت الخدمة ..
وصمت وغامت عيناه .. ورأيت الأسى على وجهه .. وقال وهو ينفث الدخان وينظر من نافذة السيارة .. إلى شىء بعيد .. هناك ..
" كنت فى مزلقان الابراهيمية .. وهو مزلقان قبل محطة أسيوط مباشرة وكنا فى بداية الفيضان كما ترى الآن .. وكانت السكة الحديد فى مشرف وتحته حوشه .. تغمر بالماء فى زمن الفيضان .. وكنت فى الكشك عندما لمحت فى ساعة الضحى .. غلمانا صغارا .. من تلاميذ المدارس .. قادمين من بعيد .. جاءوا ليستحموا فى هذا المكان .. لأن المياه " خسيسة " وكلهم لايعرفون العوم .. وخلعوا ملابسهم .. ونزلوا .. وأخذوا يستحمون ويلعبون وهم فرحين بماء الفيضان .. ومكثوا كثيرا فى الماء .. وكنت أسمع ضحكاتهم وأراهم يجرون مسرورين جذلين .. وأعجب لحيوتهم ونشاطهم وأسر لهم وأنس بهم ..
وفجأة سمعت صراخا .. فتلفت .. فرأيت واحدا من الغلمان يستغيث وكان رأسه .. يرتفع على سطح الماء .. ثم يغوص .. فأدركت أنه انجرف إلى المياه الغزيرة .. وأنه هالك .. وفى اللحظة التى هممت فيها بأن أنزل إليه وأتناوله .. دق الجرس فى الكشك .. وكان القطار الذى سيمر فى تلك اللحظة هو السريع .. وقد يمر فى خطف البرق كالسهم .. فى ميعاده وقد يتأخر عشر دقائق .. ولكن إذا تركت البوابة وهى على الطريق العمومية .. فماذا يحدث لو مر القطار ودهم عربة أتوبيس بها أكثر من ثلاثين راكبا .. أو عربة ملاكى .. فقتل أسرة .. أو مزق جماعة من الفلاحين يمرون غافلين على الشريط .. ماذا يحدث لو تركت البوابة مفتوحة ونزلت لأنقذ الغلام المسكين .. ووقفت بضع ثوان أتردد .. وأفكر فى اللقمة التى آكلها من المصلحة .. والغلام أمامى يطفو .. ثم يغوص .. ويستغيث ولا مغيث سواى .. فقد تركه رفاقه جميعا وهربوا ..
وكانت رأسه تتحرك فقط .. سوداء على سطح الماء .. ثم وجدت نفسى أسحب العجلات .. وأغلق البوابة ..
وعندما فرغت من هذا بسرعة .. ونظرت إلى الماء .. كان الغلام قد غطس واحتواه الماء .. ونزلت وسحبته .. وكان قد فارق الحياة .. وكان جميل المحيا صبوح الوجه .. ولكن وجهه كان يعبر عن الغيظ الشديد .. فقد ضغط بأسنانه على لسانه .. غيظا .. منى .. ومن نذالتى ..
وعندما جاء أبوه .. ووجدنى قد غطيته بالحشائش .. نظر إلىّ بعينين داميتين ولم ينبس .. وكنت أود فى تلك اللحظة لو يبصق على وجهى أو يركلنى بحذائه ..
ونظر إلى العسكرى الذى يرافقه .. وقال :
ـ هو أنت جايبنى علشان أشوف ممدوح .. وهو كده .. وهو كده متغطى بالحشيش .. ومابيتكلمش .. ماتقول من الأول يابنى أنه مات .. مات ..
وانكب على ابنه يغمره بقبلاته الممزوجة بدموعه وربت على خده وقال بصوت خافت :
ـ ممدوح .. سامحنى يا ابنى .. كنت بتخرج معاى كل يوم جمعة تتفسح والجمعة دى سيبتك وحدك .. سامحنى .. يا ابنى .. وسامح الناس .. أنت كنت حبيبى .. وبتسمع كلام أبوك .. فسيب لسانك .. سيبه ..
وتحرك فك الغلام .. وعاد لسانه إلى وضعه الطبيعى ..
وحدث هذا أمامى .. وشاهدته بعينى رأسى .. وتحركت وأنا شاعر بالخزى .. وجلست فى الكشك .. وأنا أتصبب عرقا كالمحموم ..
***   
وكنت كلما سحبت بعد ذلك البوابة لأغلق المزلقان .. أحس بيدى تتصلب على الحديد ..  وأرى الغلام هناك تحتى فى الحوشة .. ورأسه تطفو وتغوص .. وأصبحت أسمعه .. يستغيث بى فى الليل والنهار .. وأحلم به وأهذى .. ومرضت وتلفت أعصابى .. فتركت العمل فى المصلحة .. واشتغلت بالفلاحة .. وتزوجت .. ولكنى لم أنجب .. وما أحسب الله سيرزقنى .. بغلام قط ..
وصمت الرجل .. وكنت أود أن أقول له .. إن الألم هو الذى يخلق الإنسان .. ويجعله فوق مستوى الآخرين ..
ولكننى وجدت أنه قد لايفهم هذا الكلام .. فلذت بالصمت مثله .. وصمت الركاب جميعا .. فقد بدت مدينة المنيا من بعيد ..
===================== 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 353 بتاريخ 29/11/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " العذراء والليل " سنة 1956
======================= 
























الخنزير

     اشتغلت فى غمرة الحرب العالمية الثانية فى شركة البحار السبعة للتأمين البحرى ، وهى شركة كبيرة لها فروع فى معظم الموانىء المصرية ، وكان مكتب الشركة فى بور توفيق .. وتشغل الشركة خمس أو ست حجرات فى طابق أرضى على شاطىء البحر .. وكانت غرفتنا تطل على القنال ..
     وكنت فى حجرة صغبرة مع أربعة آخرين فيهم مصرى آخر وفتاتان أجنبيتان .. وكان العمل فى الشركة يسير منتظما وسريعا .. ولكن الإيراد قل بسبب الحرب ، والمراكب تحولت عن القناة ودارت حول رأس الرجاء الصالح .. ومع ذلك كنا نعمل فى الصباح وبعد الظهر ..
     وكان رؤوف " بك " مدير الشركة فى السويس رجلا ضخم الجسم ، مدور الوجه ، أصلع الرأس ، حاد النظرات ، صارما ، عابس الوجه أبدا من أصل تركى ، وكان يكره المصريين ويحتقرهم ..
     وكان يقرأ فى الصحف ويسمع الراديو ، وهو يذيع غرق البواخر فيثور .. ويصب نقمته علينا .. وكان يجىء فى الساعة التاسعة صباحا من كل يوم ومعه كلب أبيض .. وكان منزله قريبا من الشركة ، فكان يقطع هذه المسافة مشيا على الأقدام .. وكان الكلب يظل معه فى المكتب ساعة أو أكثر .. ثم يدخل علينا به .. ويشير على واحد منا بأن يعيده إلى البيت ..
     وكان فى المكتب فراشون وسعاة .. ولكنه كان يتعمد أن يكلفنا بهذا العمل ليذلنا . وكان يدخل علينا المكتب مرة أو مرتين فى اليوم ، ولم نكن نشعر به اطلاقا وهو داخل ، كان كأنه يزحف بجسمه الضخم على بطنه ، ولم يكن يسمع لصوت أقدامه حس ..
     وكان مع جهله وغبائه ، يسمعنا كلاما موجعا .. ويحب أن يرى كل واحد مكبا على عمله .. وكان ينتقد كل ما نقوم به من عمل ، وكنا نكرهه ونود أن تبتلعه الأرض ، كما كنا نكره الكلب الذى يذلنا به أكثر من صاحبه ، وكان يسكن فى فيلا أنيقة من طابقين .. ومتزوجا من صبية أجنبية لا تتجاوز الثلاثين ربيعا ، وكان لمنزلهما حديقة أنيقة تحيط بها مناظر غاية فى الروعة ..
     كان المدير متأنقا فى ملبسه وله كرش ضخم يزحف به إلى الأمام .. يجيد كل اللغات ويذهب إلى نادى الجعران كل ليلة .. وهو ناد أرستقراطى .. يذهب إليه ليرقص ويلعب القمار ويتظاهر هناك وسط الفرنجة بوجاهته وغطرسته ..
     وكانت زوجته تذهب معه أحيـانا ، ولكن غالبا ما كانت تبقى فى
فيلتها الأنيقة ، أو تخرج بزورقها الصغير فى عرض البحر للنزهة . وكانت " اسبور " أنيقة حالمة ، وكانا يعيشان معا شبه منفصلين ، فقد كان لكل منهما هوايته فى الحياة ..
     هو مقامر فظ الطباع ، يحب المجتمعات .. وهى منفردة وادعة ، تحب الطبيعة ومجاليها الرائعة .. تجلس فى النهار فى حديقة منزلها تطالع أو ترسم بعض اللوحات الفنية ، وفى الغروب تخرج بزورقها فى عرض البحر ..
     كنت إذا رأيتها فى وسط الزورق وهى واقفة عند الدفة ، وقد حلت جدائل شعرها ، واستقبلت الشمس الغاربة بوجهها ، تحسبها حورية خارجة من البحر ..
***
     وكنا نمضى الأيام فى حياة رتيبة فى بور توفيق والسويس .. والحرب دائرة على أشدها .. وهزائم الإنجليز تترى فى كل مكان ، وجنودهم فى الموانىء المصرية مذعورين كالجرزان .. يصخبون ويعربدون .. وكلما توالت هزائمهم اشتد ضجيجهم وصخبهم وهم يسكرون ويمرحون فى المدينة ..
     وكانت الفتاتان اللتان تعملان معنا فى المكتب قد انطلقتا مع هؤلاء الجنود وصحبت كل واحدة فى نزهتهـا أختهـا الصغرى والكبرى ..
وأحيانا أمها ..! كان كل شىء يدور فى طاحونة مادية ..
     كان الناس يعيشون بحسهم ويلمسون أوراق البنكنوت بأيديهم ، وهم يحسبونها كل شىء فى الحياة ..
***
     وكنت أذهب إلى منزل مدير الشركة وأحمل إليه بعض الأوراق ، أو أحادثه فى بعض الشئون ، وكان دائما يحب أن يظهرنا أمام زوجته فى مظهر العبيد .. وكنا نتحمل هذه الاهانة بغيظ مستعر ..
     وكنت أراها صباح كل يوم وأنا ذاهب إلى المكتب جالسة فى حديقة منزلها فأحييها ، وكانت ترد تحيتى باسمة ..
     ومضت الأيام رتيبة مملة ، وكنت أسكن فى شقة صغيرة فى بور توفيق ، وندر ما أذهب إلى السويس ، وكان الظلام يلف المدينة فى وشاحه الأسود فى الليل ، والهدوء المطلق المخيم عليها فى النهار ، وكنت أقضى النهار فى المكتب ، وبعد الغروب أتمشى فى المدينة ثم أذهب لأنام .. وكنت أمشى دائما على شط القنال حالما مفكرا ..
    كان كل شىء يدل على أن هذه الحرب ستطول ، وأن هذه المجزرة البشرية ستنتهى على أبشع صورة .. وكان وجود هؤلاء الذين يسمون أنفسهم جنود الحلفاء فى هذه المدينة ، وفى غيرها من المدن المصرية ، يحملنى على الغيـظ المسـتعر .. ومنظرهم يبعث القرف إلى نفسى ..
وكنت أتمنى هزيمتهم على أبشع صورة .. انهم يمثلون الظلم والاستعباد
والفساد بكل صوره البشعة ..
     وكنت أتمشى ذات ليلة على شط القنال كعادتى عندما لمحت زوجة مدير الشركة واقفة بزورقها على بعد قليل منى ، وكنت أود لو أغير طريقى ، ولكنها رأتنى وهتفت بى فى صوت حلو .. فاقتربت .. وكانت واقفة فى وسط الزورق وقد ألقت مرساه إلى الشاطىء .. وكانت ترتدى بنطلونا أزرق وقميصا قصير الأكمام .. ووجهها يلمع وعليه آثار عرق كأنها كانت تعانى جهدا مضنيا ..
     وقالت وعيناها مصوبتان إلىَّ :
     ـ مراد أفندى ..
     ـ نعم ..
     ـ اللنش تعطل ..
     واقتربت من الزورق صامتا دون أن ألقى نظرة عليها ، وحاولت إدارة الماكينة فلم أستطع ، فقلت لها وأنا يائس :
     ـ خليه إلى الصباح ..
     وخرجت من الزورق ولامست أقدامها الأرض المعشوشبة .. وتسلقت المنحدر ، واستوت على الطريق ..
     وعلى رأس المنحدر سمعتها تنادينى ، فتقدمت نحوها ..
     ـ تعال روح معايا .. أنا خايفة ..
     ـ خايفة ..؟
     ـ أجل .. من الظلام .. ومن الجنود السكارى .. أرجوك ..
     ومشيت معها .. وكان الظلام رهيبا حقا .. ولم يكن هناك شىء يسمع والساعة تقترب من الثامنة مساء .. والطريق الطويل الذى يطوق المدينة قاتما موحشا ، وهى تسير بجانبى صامتة .. وترمينى بين فينة وأخـرى بنظرات جانبية طويلة .. وكنت أرى عينيها تلتمعان فى الظلام ، ووجهها يلمع بوضوح فى الليل الساكن ..
     كانت طويلة القامة رشيقة الحركة .. وكان جسمها لينا مرنا ، وحركتها رشيقة ، وبدا لى وأنا سائر بجوارها أن أرى أينا أطول فاقتربت منها حتى كاد يلامس كتفى كتفها .. وقبل منزلها بشارعين .. توقفت وهممت بالانصراف ..
     قالت :
     ـ تعال لغاية البيت أرجوك ..
     وألحت .. فرفضت ..
     ـ أنت خايف منه ..؟
     ـ طبعا ..
     ـ هل يخيفك هذا الثور ..؟ انه لاشىء فى نظرى ..!
     ـ ولكنه فى نظرنا كل شىء ، انها لقمة العيش ، وأنت لاتعرفين
الفقر أو الجوع ..
     ومدت يدها .. وقالت بصوت حلو :
     ـ شكرا ..
     وسلمت عليها وانصرفت وابتلعنى الظلام ..
***
     وكنت كلمـا ذهبت إلى منزلها لبعض العمل استبقتنى لتتحدث معى .. وكانت تكلفنى ببعض أعمال صغيرة ، وتسر جدا عندما أقوم بها على وجه سريع ..
     ومضت الأيام ..
     وذات مساء .. رأيتها خارجة بالزورق فى عرض البحر ، ولما شاهدتنى من بعيد .. أشارت إلىَّ بأن أقترب .. ولما اقتربت منها ألقت بالزورق إلى المرساة ودعتنى إلى الركوب ..
     فرفضت وألحت ..
     فقلت لها :
     ـ ان هذا جنون ..! قد يشاهدك أحد ..
     ـ سأسير بالزورق إلى نهاية المدينة من الشمال وانتظرك هناك ..
     ولم تسمع جوابى وسارت .. وتبعتها وأنا مدفوع بقوة لاقبل لى على
ردها .. ووجدتها راسية هناك فى جوف الخليج ، فركبت بجوارها وسارت فى عرض البحر .. وبعد قليل أوقفت المحرك ، وقالت وهى تنظر إلىَّ :
     ـ دعنا نتمتع بجمال الطبيعة المحيط بنا ..
     ولم يكن هناك جمال حولى سواها .. وأشعلت سيجارة وزمتها بين شفتيها الحالمتين ، وكانت تعرف أننى لا أدخن ، ومع ذلك قدمت لى سيجارة فأشعلتها ، وأنا أنظر خلال الدخان الأزرق إلى أعماق عينيها وأغوار نفسها ..
     وسألتنى وقد ألقت بنظرها بعيدا ..
     ـ أتحب الحياة ..؟
     ـ أجل ..
     ونظرت فجأة إلى شىء أسود يطفو على الماء ..
     ـ أنظر ..
     ونظرت إلىَّ فى خوف ..
     ـ لا تخافى .. انه حيوان القرش ..
     ولكنها ارتعدت وارتمت على صدرى والتصقت بى .. وبعد برهة وجدت شفتيها تحت شفتى ، فضغطت عليهما فى عنف وغبنا عن الوجود .. 
***
     ومضى اسبوع كامل لم أرها فيه ، وانشغلت بالحياة وما يجرى فيها فنسيتها ..
     وذات غروب كنت نازلا من سلم بيتى الصغير فشاهدتها مارة فى الشارع .. وانتظرت حتى اقتربت منها وسألتنى :
     ـ أهذا بيتك ..؟
     ـ نعم ..
     ـ ما أجمله ..؟
     ـ ..........
     ـ أتقيم وحدك ..؟
     ـ أجل ..
     ـ غدا سأخرج بالزورق .. وانتظرك هناك ..
     ـ أرجوك أن تعفينى من هذا أرجوك ..
     ـ ألا تزال تخاف من هذا الخنزير ..
     ـ طبعا ..
     ـ انه ليس برجل على الاطلاق ، سأنتظرك غدا عند الخليج .. بعد الغروب ..
***  
     وترددت فى الذهاب ، ثم ذهبت أخيرا وكانت هناك .. وكانت لى
بكل جسمها ونفسها ..
     ولمحت وأنا خارج معها من الزورق شخصا يرقبنا عن بعد ثم يختفى فى الظلام ، وكان فى شكله ومشيته بعينه زوجها ، ولكننى كتمت ما رأيت عنها .. واضطربت ضربات قلبى ..
     وودعتها وفى رأسى خواطر مروعة ..
***  
     وذهبت إلى المكتب فى الصباح وأنا أحاول أن أبدو طبيعيا ، واجتهدت أن أقرأ شيئا على ملامح الرجل يدل على أنه كان يراقبنا ليلة أمس .. ولكننى وجدته على حاله ، فأيقنت أننى أخطأت النظر واطمأن قلبى ..
***   
     وأخذت تجىء بعد ذلك كلما سنحت لها الفرصة ، وكنت أحذرها من مغبة هذا ، ولكنها كانت لاتسمع كلامى ..
     وسألتنى مرة :
     ـ أتحبنى يا مراد .. أم تنتقم منه فى شخصى ..؟
     ـ أقول لك الحق .. أننى لا أعرف ..
     ـ وظهر على وجهها الغضب ، وارتدت وشاحها .. وخرجـت
معها إلى الباب الخارجى .. وفوجئنا ونحن نجتاز العتبة بزوجها فى أسفل
الدرج ..
     ونظر إلىَّ باسما ثم أخرج غدارته فى لمح البصر وصوبها .. وارتمت هى فى تلك اللحظة على صدرى ، فأصابتها الرصاصة وهوت إلى الأرض ، وأخرجت مسدسى وأطلقته سريعا وأطلق هو .. ورأيته وهو ساقط ..
     وسقطت أنا على حافة السور مثخنا بالجراح ..

====================================  
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " عذارى الليل " سنة 1956
==================================== 

دروس خصوصية

     قضيت مرحلة دراستى الثانوية فى المدرسة السعيدية بالجيزة . ومع تاريخ هذه المدينة الحافل الذى تمتد جذوره إلى عهد الفراعنة .. فإنها مدينة كئيبة فقيرة لاتسر المقيم فيها ولا العابر بها .. ولا أذكر أننى مررت بها عرضا ورأيت فيها ما يبهج النفس .. حتى وجوه الناس تجد فيها هذه الكآبة المظلمة ..
     ومع هذا فأنا أعود وأذكر هذه المدينة بعد عشرين عاما .. كنت فى دراستى للبكالوريا .. وأود أن أنهى هذه المرحلة من التعليم .. فلم أكن أشعر بأى حب للمدرسة .. وكنت أخرج مع زملائى من الفصول فى آخر النهار .. ونسير فى شارع المدارس .. ونجد فى مواجهتنا عند محطة الترام العمومية .. التى نأخذ منها الترام إلى بيوتنا .. لافتة صغيرة معلقة على إحدى الشرفات التى تطل على الميدان :
" دروس خصوصية فى اللغة الفرنسية " .. 
     وكنت أرى هذه اللافتة كل يوم وأنا أهم بركوب الترام .. وظلت معلقة أمام بصرى وتترك أثرها فى نفسى عدة شهور .. حتى وجدت نفسى فى أصيل يوم أتجه إليها .. وصعدت إلى الدور الثانى فى ذلك المنزل الصغير الذى كان يطل على الميدان .. وضغطت الجرس .. وفتحت لى الباب سيدة أجنبية .. وكلمتها بخليط من الإنجليزية والفرنسية عن بغيتى .. فقادتنى وهى تبتسم ودون أن تسمع كلامى إلى الداخل ..
     وأجلستنى فى حجرة صغيرة .. وقالت بالفرنسية :
     ـ انتظر لحظة ..
     وأدركت لأول وهلة أنها حجرة الدروس الخصوصية .. فقد كان هناك مكتب صغير وضع بجانب الحائط فيما يلى الباب مباشرة .. وحوله كرسيان من الخيرزان وأريكة قديمة .. وكان على المكتب بعض الكتب فى اللغة الفرنسية .. وكثير من كتب الاجرومية .. ثم بعض الروايات الإنجليزية المقررة على البكالوريا .. ومحابر ومساطر .. وأقلام من الرصاص .. ومساحة وبرجل .. ثم أبرز شىء على المكتب .. وهو منبه كبير خيل إلىَّ أنه كان فى يوم من الأيام ساعة حائط .. وكان يشير إلى الساعة الرابعة والربع .. بعد الظهر .. وكان كل شىء فى الحجرة قد وضع فى غير نظام أو ترتيب كأنه فى مخزن فى الأوبرا .. وعجبت لما رأيته .. وفى غمرة خواطرى دخل علىَّ الأستاذ .. وكان يمسح عينيه ولا شك أنه كان نائما .. وكان بدينا ووجهه منتفخا ومدورا كالرغيف .. وكان فى الخمسين من عمره .. ويرتدى بنطلونا رماديا وقميصا أبيض مفتوح العروة .. وحيانى وجلس إلى المكتب ..
     وقلت له :
     ـ أريد دروسا فى الفرنسية ..
     فقال :
     ـ وى ..
     وفتح دفتر مذكراته وهو يفرك عينيه ، ودون إسمى واسم مدرستى ..
     ونظر إلى المنبه وهو يقول :
     ـ أتحب أن تبدأ الدرس الأول الآن .. والساعة كزملائك .. بثلاثين قرشا ..
     فلم أر أى وجه للرفض فقد كان السعر رخيصا .. وجلست إلى المكتب .. وابتدأ الدرس ..
     وفى خلال ذلك دخلت علينا السيدة التى فتحت لى الباب .. وقدمت لى فنجانا من القهوة السمراء .. كما يسميها الفرنسيون .. وكانت ترتدى ثوبا قصيرا .. وتمشى دون أن تسمع لخفها صوتا .. ولمحتها بعين المراهق سريعا وهى تضع القهوة على المكتب ثم نكست رأسى فى الكتاب ..
     وأعطانى الأستاذ بعض الاجرومية .. والمطالعة .. وفى فترة انشغالى بهذا نظرت إلى المنبه فوجدتها الساعة الخامسة والثلث .. فنظر إلىَّ الأستاذ مبتسما .. وقال :
     ـ لقد انتهى الدرس الآن .. وإلى يوم الإثنين ..
     فنهضت وقد عجبت لمضى الوقت بمثل هذه السرعة .. وأعطيته جنيها .. وانصرفت ومعى كراساتى ..
                                     ***      
     وجئت فى الميعاد لآخذ الدرس الثانى .. والثالث .. وهكذا مرت الأيام .. وكنت أجد هذه السيدة الأجنبية فى البيت دائما .. وكانت هى التى تفتح لى الباب وتقودنى إلى حيث يوجد الأستاذ .. وكنت أنظر إلى ساقيها العاريتين وإلى جسمها وهو ينساب أمامى .. وأمشى وراءها فى صمت .. وكنت أجد بعض الأحيان تلميذين أو ثلاثة ينتظرون فى الردهة .. حتى يجىء دورهم .. فقد كانت اللافتة التى فى الشرفة ملفتة للنظر .. كما أن اللافتة التى فى الداخل .. وهى تلك السيدة الحسناء.. أكثر الفاتا .. لقد كنا جميعا تلاميذ مراهقين .. قادمين من الريف لنتعلم فى مدينة القاهرة .. هذه المدينة الكبيرة ولم نكن نعرف فيها أنثى واحدة أو نجرؤ على محادثة أية امرأة فى الطريق ..
     وكنت قد أدركت بعد الدرس الرابع أو الخامس .. أن الأستاذ ليس فرنسيا .. بل هو فى الغالب .. مالطى إذ كان يدرس الإنجليزية أيضا .. بجانب الفرنسية .. وكان نطقه فيه لكنة .. وأجروميته ضعيفة .. ولم يكن قد درس فى الجامعة أو حتى فى أية مدرسة ثانوية .. ومع ذلك فقد واصلنا أنا وغيرى من الطلبة الدرس .. وكنا كلما فكرنا فى الانقطاع نجد أنفسنا مسوقين إلى هذا البيت بقوة خفية .. وكانت السيدة التى تفتح لنا الباب وعلى ثغرها ابتسامة هى السبب .. كانت هى الطعم الذى وضعه الأستاذ فى المصيدة .. لاصطيادنا .. ولم نكن نعرف أهى زوجته أو معشوقته .. ولكننا لم نكن نجد فى هذا المنزل أحدا سواهما .. وكان لاشك قد درس وعرف ما نعانيه من قوة الحرمان الجنسى فأغرانا بهذه الأنثى .. وجعلنا نراها فى مباذلها كلما دخلنا المنزل ..
     وكان هو يجلس إلى مكتبه كالصنم يدخن ولا يتحرك .. وهى التى تروح وتجىء أمامنا وتأخذ منه النقود .. وتجىء لنا بكتب الاجرومية .. وتدخل كل واحد منا إلى حصته ..  
     وكان الدرس عبارة عن ستين دقيقة كاملة .. ولكنا كنا نلاحظ دائما أن هذه الساعة الميقاتية تمضى سريعا ..
     ثم اكتشفنا أخيرا أن هذا الأستاذ المالطى يغشنا .. يغافلنا ونحن نضع وجهنا فى الكتاب ويقدم المنبه .. ثلث أو ربع ساعة .. فى كل حصة .. فيسرق منا عشرين دقيقة فى كل ساعة ..
     وكان أول مكتشف له وهو يفعل ذلك زميلا لنا فى المدرسة يدعى عبد الحى .. وكان أضعف طالب فى اللغة الفرنسية وأكثر مشاغب فى الفصل .. وكان يكره المدرسين الأجانب ويعاكسهم ويسبهم بالعربية .. فلما عرفوا بعض معانى هذه الكلمات من كثرة تكرارها منه .. أخذ يسبهم بلهجته الصعيدية التى لا يعرفها أحد ..
     وكان عبد الحى هذا من أعز أصدقائى .. فقد كنا من أقليم واحد .. وكان من أكثر المواظبين على الدروس الخصوصية .. وكان درسه دائما من السادسة إلى السابعة .. ولم يكن يعتنى بهندامه مثلنا أو يتأنق فى ملبسه وهو ذاهب إلى الدرس .. كى يلفت إليه نظر السيدة الحسناء ، بل كان خشنا فى ملبسه وفى حديثه معها .. حتى تصورنا أنه لايفكر فى المرأة اطلاقا ..
      وكنا نحن نصفف شعرنا ونلبس أحسن ملابسنا ونحن ذاهبون إلى هناك .. ونبتسم فى وجه هذه الفرنسية .. ونحادثها بالكلمات الفرنسية القليلة التى حفظناها عن ظهر قلب .. ونغازلها .. ولكنها كانت تتلقى محاولاتنا بابتسامة عذبة وحركات لاتقطع الأمل ..
    وكنا نزداد كل يوم غراما بها وولها .. حتى أصبحت شغلنا الشاغل فى هذه المرحلة من حياتنا ..  
     وكان عبد الحى بعد أن ضبط المدرس وهو يقدم المنبه .. قد أشاع هذه الفضيحة فى المدرسة .. حتى أصبح كل تلميذ يذهب إلى هذه الدروس الخصوصية متنبها .. ينظر إلى المنبه طوال الدرس ..
     وكان الأستاذ المالطى يثور ويصيح فى وجوهنا :
     ـ لقد صدقتم عبد الحى .. أنا أقدم المنبه .. كيف ..؟ أنه كذاب .. وحمار أيضا .. ولن يتعلم شيئا .. حتى لو درس مائة سنة ..
     وكان هذا حقا ، فإن عبد الحى قد ترك المدرسة بعد أن يئس من الكتب .. وانصرف للحياة .. وهو الآن يملك نصف عمارات الضاحية التى أقيم فيها ..
     وكان هذا حقا ، فإن عبد الحى قد ترك المدرسة بعد أن يئس من الكتب .. وانصرف للحياة .. وهو الآن يملك نصف عمارات الضاحية التى أقيم فيها ..
     وكانت محاولاتنا مع " لوسين " زوجة الأستاذ أو " معشوقته " .. تذهب كلها عبثا .. فقد كنا صبيانا تنقصنا التجارب وفهم المرأة وألاعيبها .. وكانت هى تتزين لنا وتتمخطر فى مشيتها وتكشف عن مفاتنها لتلهب فينا النار .. ولتجعل الجذوة دائما مشتعلة ..
     وكان البيت مع توالى الدروس فيه يوميا .. من الرابعة إلى الثامنة مساء .. يبدو ساكنا وكانت معظم نوافذه المطلة على الشارع مغلقة .. فى النهار والليل ..
     وكنا نجلس فى الصالة المضاءة دائما بمصباح كهربائى صغير .. حتى رابعة النهار .. فإذا جاء ميعاد الدرس .. دخل كل واحد منا فى دوره إلى حجرة الأستاذ ..
     وكنا نرى " لوسين " وهى رائحة وغادية فى البيت .. ترتدى الروب المفتوح وفى فمها السيجارة .. وقد حلت شعرها وتركته ينسدل على كتفيها .. وكانت تحدثنا مبتسمة وعيناها تلمعان .. وتسألنا عن مدى تقدمنا فى الدرس .. وتقلب فى الكتب التى بين أيدينا .. ثم تنساب فى خفة إلى المطبخ لتصنع القهوة ..
     وكانت فى أيام الحر اللافحة .. تلف رأسها بفوطة مبلولة .. وتلبس قميصا قصيرا إلى ما فوق الركبة .. وتقول لنا وعيناها ناعستان .. وهى تلعق الثلج :
     ـ أننا فى جهنم .. أى حرارة ..
     وكنا نود أن تظل هذه الجهنم أبدية .. لنراها فى هذا القميص القصير أبدا ..
     وكان زوجها ذلك المالطى .. وقد نسيت أسمه .. كالدرفيل .. ضخما .. بليدا .. كثير النعاس .. غبيا .. ولا أدرى كيف وقع عليها وربما يكون قد اصطادها من البحر على ظهر مركب ..
     وكان الأستاذ فى يوم السبت يفرغ من الدروس فى الساعة السابعة لأنه يتعشى مع لوسين فى الخارج ..
     وكنا نراها فى ذلك اليوم لابسة أجمل ملابسها .. وقد تزينت كأنها إحدى غادات السينما .. وكانت تكثر من مداعبتنا فى ذلك الوقت والضحك معنا .. حتى يبلغ سرورنا أشده ..
***  
     وذات مساء انتهيت من الدرس كعادتى .. واتخذت طريقى إلى الخارج .. وكان البيت ساكنا ولم يكن فى الصالة أحد من التلاميذ .. فأدركت أنها آخر حصة .. وفى أثناء اجتيازى الممر إلى الخارج .. سمعت همسا من ناحية المطبخ .. فتلفت ورأيت شبحين هناك .. فاقتربت منهما وعرفت رأس عبد الحى .. وكان يطوق لوسين ويشدها إليه بذراعيه القويتين وهى تذوب بين أحضانه ..
     وكانت لوسين هذه فى تمنعها علينا .. بعد أن اشعلت فينا النيران هى التى دفعتنا بعد ذلك بشهر إلى أن نذهب إلى " أثينا " فى حى البغاء .. وكانت أثينا هذه امرأة يونانية ولا أدرى لم اخترناها بالذات ألأن جسمها الأغريقى كان كثير الشبه بجسم لوسين .. أم لأنها كانت تعاملنا برقة .. وتفهم أننا لازلنا صغارا ..
***  
     وكنا نجلس فى ردهة منزلها فى انتظار دورنا كأننا فى الدرس .. وكان عبد الحى معنا .. وكان يكثر من الشغب والعراك معها .. وكانت تضربه على صدره بيدها وتسبه باليونانية والعربية .. وتظهر أمامنا كأنها تبغضه من كل قلبها ..
     وكانت تنعته بالبغل وتبقيه دائما فى الآخر ..
     وقد نسيت جسم أثينا الأغريقى وأنا أكتب هذه الصفحات .. ولكن صوتها وهى تتعارك مع عبد الحى لا يزال صداه فى أذنى .. فقد كان خشنا .. أقرب إلى صوت الرجال ..
     ولم نعجب حينما عرفنا بعد ذلك بسنوات أن أثينا التى كانت تأخذ من كل واحد منا ريالا .. كانت لا تأخذ شيئا من عبد الحى على الاطلاق لأنه كان رجلها ..
     وقد عرفت من هذا الدرس المرأة والحياة ..
===========================================
نشرت فى 1/8/1954 بمجلة الرسالة الجديدة وأعيد نشرها فى كتاب " العذراء والليل " سنة 1956
========================================= 



















صرخة فى الليل

جلس إبراهيم فى ركن منعزل فى  حانة " ديانا " يدخن .. بعد أن فرغ من العشاء ومن الشراب .. وكان يبدو عليه القلق والشرود .. إذ أنه موفد صباح الغد فى مأمورية مصلحية إلى أقصى الصعيد قد تستغرق منه شهورا ولم يكن يحب أن يبرح العاصمة أو يترك ملاهيها وحاناتها .. فهو يتبذل فيها على هواه دون أن يعرفه أو يلاحظه أحد ..
أما فى الريف فإن خطواته محسوبة عليه .. لأنه معروف للجميع .. راح المفتش .. وجاء المفتش .. وهكذا فالكل يحصى عليه حتى أنفاسه ..
وهو من هذا النفر من الموظفين الذين تراهم بكثرة فى دواوين الحكومة .. يجلسون على الكراسى الجلدية ولا يقومون بأى عمل على الاطلاق .. وليست لديهم أية موهبة أو كفاية وميزتهم الوحيدة أنهم يرتدون بدلات أنيقة وقمصانا حريرية ويتكلمون فى أرستقراطية وترفع .. ولهذا احتفظ " إبراهيم " فى الحانة بطابعه .. بهندامه الأنيق المميز .. وبغطرسته الجوفاء ..
وكانت الساعة قد اقتربت من العاشرة والشتاء فى صميمه ومع هذا فقد كان المكان مزدحما وفى كل دقيقة يرد زبائن جدد ..
وكان جميع العمال فى الحانة فى حركة مستمرة .. فعامل " البار " يمسح الأكواب ويملؤها بالشراب وماسح الأحذية ينقر على صندوقه ويدور به بين الموائد ..
وكان هناك رجل واحد يلبس الملابس البلدية فى هذا الوسط الافرنجى .. ويقف فى الزاوية اليمنى على " فرن الكباب " وينفخ فى النار ..
  وامتلأ جو الحانة بالدخان .. دخان السجائر .. ودخان النار .. وبرائحة الكحول ..
وكان هناك رجل بائس مكتئب يعزف على الكمان .. فى هذا الجو الصاخب .. يعزف وحده .. ويسمع وحده .. فما أحس به انسان منذ دخل " البار " ..
وبعد كل فاصل موسيقى ينهض ببدلته المرقعة ويدور على الجالسين وقد مد بيده اليمنى طبقا صغيرا .. وأمسك فى يسراه بآلته الموسيقية .. ومع مظهره البائس وشيخوخته فما عطف عليه أحد من الجالسين فى المكان ..
*** 
واشتد قلق " ابراهيم " فتحرك من مكانه ثم عاد فجلس .. وفى تلك اللحظة ظهر شبح أنثى وراء الستار المسدل على الباب .. ثم انفتح الباب ودخلت امرأة تمسك بيدها طفلة صغيرة .. يمشى أمامها غلام من عمال الحانة يدلها على الطريق ..
وتقدمت المرأة ببطء وهى تشعر بالخفر والخزى معا .. تجر طفلتها جرا .. وقد نكست رأسها وسارت بضع خطوات بين الموائد ثم جلست ذاهلة حيث أشار الغلام ..
وكانت قد أعطت " إبراهيم " ظهرها ومالت بجنبها وغضت من طرفها ..
وكان من يراها يدرك لأول وهلة أنها تدخل مكانا عاما لأول مرة فى حياتها ..
ورفعت رأسها ودارت بها فى القاعة .. ثم عادت ونكستها سريعا ..
وكان " إبراهيم " ينظر إليها بعينى الذئب ويقيسها طولا وعرضا .. وينقل بصره بين أجزاء جسمها ..
وبحركة عصبية هتف بالغلام الذى دخل مع هذه المرأة وقال له بصوت غليظ :
ـ من الذى معها ..؟
ـ ابنتها .. يا بيه ..
ـ غور فى داهية أنت وهى ..
ـ لم .. يا بيه .. لم ..؟ أننى منذ ساعة أحنن فيها .. ما كانت قابلة أبدا .. إنها سيدة محترمة .. وهذه أول مرة فى حياتها ..
ـ لا أريدها .. غور فى داهية .. أنت وهى ..
ـ يا بيه .. إنها كنز ..
ـ إذن تذهب معى وحدها .. وتترك البنت هنا .. هذا هو الشرط .. هذا هو الشرط ..
ـ أمرك .. سأقول لها ذلك ..
وذهب الغلام إليها .. وأخذ يهمس فى أذنها بشىء .. وطال الهمس .. وظهر على وجهها الغضب وانفعلت ثم لانت ملامحها واستكانت ..
وكانت جائعة ذليلة مسكينة وقد حاولت أن تطعم طفلتها .. وحاولت بكل الوسائل الشريفة أن تعمل ولكنها لم توفق إلى أى عمل .. فلم يبق أمامها شىء آخر تفعله سوى هذا ..
وشعرت بالذلة .. وودت لو تبكى وتصرخ .. ولكنها كتمت أنفاسها وكتمت عواطفها .. وتركت طفلتها فى الحانة وذهبت مع الرجل إلى بيته ..
*** 
وبقيت الطفلة وحدها .. وكان قد بهرها المكان بأنواره البراقة .. ولكن بعد أن بارحتها أمها شعرت بالفراغ والوحشة .. فسالت عبراتها .. ثم سمع بكاء متقطع .. ثم نشيج عال .. ولم يكن فى الحانة انسان يسمع هذا البكاء أو يهتم به .. فقد كان صاحب الحانة مشغولا بعملائه والساقى مشغولا بالشاربين ..
وأخذ الجمهور الجالس فى الحانة يسمع بكاء طفلة .. وظهر الامتعاض على الوجوه .. وسمع صاحب الحانة أصوات الاستنكار .. وخشى أن يفقد زبائنه فتحرك حركة سريعة وأمسك بيد الطفلة .. ودفعها وكأنه يتلصص إلى الخارج ..
*** 
وخرجت الطفلة وحدها فى قلب الليل المظلم .. وصراخها يشتد وأنينها يقطع نياط القلوب .. وأخذت تعدو فى الشارع وتصيح :
ـ ماما .. ماما ..
ولم يكن هناك أحد يسمع أو يحس بصراخها ..
*** 
كانت السيارات تمضى فى طريقها كالسهام النارية .. وأنوار المصابيح تلمع فى الظلام .. والحوانيت تغلق أبوابها .. وكل شىء ذاهب لينام ..
ولمحت الفتاة وهى هائمة على وجهها ظل امرأة فى الناحية المقابلة من الشارع ينسحب ببطء تحت نور المصباح .. فتصورتها أمها .. وصاحت بها .. وانطلقت نحوها وهى تعبر الشارع وتعدو كالجرو الصغير .. وفى تلك اللحظة مرت سيارة من سيارات الليل فى سرعة خاطفة .. وصدمت الفتاة وألقت بها بجانب الرصيف ..
*** 
وعادت الأم إلى الحانة فلم تجد طفلتها .. فهرولت كالمجنونة إلى الشارع وأخذت تجرى وتنادى بصوت حاد مزق سكون الليل :
ـ بنتى .. بنتى ..
وطالعها الظلام والسكون ..
*** 
وبصرت بشىء متكور هناك تحت المصباح .. ولم تكن تدرى أحى هو أم ميت .. ولكنها عرفت أنها هى بنتها وفلذة كبدها ..
وقبل أن تبلغه سقطت .. فاقدة النطق والحركة ..
*** 
وفى تلك اللحظة مر عازف الكمان البائس .. يعزف وحده كما كان فى الحانة .. ولكنه لم يكن يعزف لحنا راقصا كما كان هناك .. بل كان يعزف اللحن الجنائزى المشهور وعيناه تدمعان ..
======================
نشرت القصة فى كتاب " عذارى الليل " سنة 1956
====================== 






المصراع الأيسر


     نهض " سعيد " من فراشه مبكرا وأخذ يرتب الشقة الجديدة التى انتقل إليها ليلة أمس وكانت مكونة من غرفة واحدة فسيحة وصالة فى إحدى العمارات بمصر الجديدة ..
     وكان قد عثر عليها بعد مشقة وطول بحث .. وسر بها كثيرا لأنه سيجعل منها استوديو ومسكنا له .. وأخذ ينقل كتبه وأدوات الرسم .. ووضع اللوحة فى الفراندة .. وحولها كراسى من القش .. وشازلونج عليه حشية .. ثم علق الصور الزيتية فى الصالة .. وبعد أن انتهى من ذلك جلس يستريح فى الفراندة .. ويتطلع إلى ما حوله .. وكان يشعر براحة نفسية .. وباللذة التى يحس بها كل متنقل إلى شقة جديدة .. وكانت العمارات التى فى الشارع عالية مثل عمارته ..
     وبدأ السكان يفتحون النوافذ ويخرجون إلى الشرفات .. وكانوا خليطا من المصريين والأجانب .. ورأى فى المنازل المواجهة له بعض الوجوه الجميلة فانتعش ونسى أنه لم يأخذ حاجته من النوم ..
     وكان قد درس فى مدرسة الفنون الجميلة وفى المدرسة الإيطالية .. وعشق الرسم منذ الطفولة .. واتخذ المذهب الواقعى .. وكان منذ تخرج يبحث عن عمل ليأكل منه .. ثم يرسم فى الفراغ .. ويبيع لوحاته .. ولكنه لم يجد أى عمل .. وساءه هذا .. وساءه أكثر أنه سيتبطل .. وسيظل عالة على والده فى القرية حتى بعد أن يتخرج .. وأصبح رجلا .. ورأى أن يخطو خطوة عملية .. فاتفق مع ثلاثة من زملائه .. على أن يفتحوا معرضا صغيرا يبيعون فيه لوحاتهم .. وأجروا محلا بستة جنيهات فى الشهر .. بجوار دار من دور السينما .. ولكن مضت الشهور الأولى وهم لايحصلون حتى على إيجار الدكان .. وتراكمت عليهم الديون .. وحجز صاحب المحل على ما فيه من صور وأدوات وباعها فى المزاد ..
     وفى اليوم المحدد للبيع هرب الثلاثة وبكوا من التأثر كأن الذى يباع فى المزاد هو أثاث " مرغريت غادة الكاميليا ".. ولكن سعيد لم ييأس كلية .. فأخذ يرسل صوره إلى حوانيت بيع اللوحات فى شوارع شريف وعدلى وقصر النيل .. وكان يبيع بعضها ويعيش من ثمنها ومما يرسله له والده فى القرية حتى يحصل على عمل ثابت ..
     وكان يزيد حالته المالية سوءا أنه لا يجد فى هذا الجو الشرقى .. إلا الموديلات المحترفات .. اللواتى يتقاضين أجورا على رسمهن .. ومنهن من تبالغ فى الأجر .. وكان يضايقه هذا ويزيده ألما .. وكان يحلم بالحصول على موديل من عائلة .. تفهم المسألة على أنها عمل وفن وتجرد من كل حس حيوانى ..
*** 
     ولما عاد إلى حجرته .. فى المساء .. وجلس فى الفراندة فى الظلام ـ لأنه لم يكن قد أدخل النور الكهربى بعد ـ رأى فى البيت الملاصق له .. امرأة .. تتحرك فى غرفتها .. وكان المصراع الأيسر من النافذة هو المفتوح .. وكانت ترتدى ملابس سوداء وعلى رأسها طرحة قد أدارتها حول جيدها وأسدلتها على صدرها .. وبدا وجهها فى هذا السواد متألقا كالمصباح .. وكانت كأنها عائدة من حفلة حداد أو تعزية فى ميت .. وأخذت تروح وتجىء فى الغرفة وهى بكامل ثيابها ثم أخذت تتجرد من ملابسها قطعة قطعة .. ولعلها كانت مطمئنة تماما إلى أنه لا أحد يراها .. لأنها تمهلت وهى تفعل ذلك ..
     وبقيت مدة طويلة وهى بملابسها الداخلية .. ثم جلست على حافة السرير وأخذت تخلع الجورب .. وكان سعيد يرى أناملها وهى تتحرك فى لين على ساقيها .. وأعجبه قوامها الممشوق وفتنة جسدها .. واحتفاظها بنضارتها وشبابها مع أنها تجاوزت سن الثلاثين ..
     وتأمل محاسنها .. كانت طويلة القامة ممشوقة الجسم .. سوداء الشعر .. ملفوفة الساقين والفخذين .. صغيرة القدمين .. وكان وجهها طويلا .. وأسنانها بيضاء جميلة .. وعيناها سوداوين ناعستين فيهما كل مفاتن المرأة المصرية وسر لهذا الوجه الأبيض الجميل الذى يلبس الطرحة ويرتدى السواد .. وتمنى لو تكون موديلا له .. ونام وصورة هذه المرأة فى مخيلته ..
     وكان يرسم فى الصباح والمساء ويقضى نهاره فى العمل والتنقل على عملائه التجار الذين يعرضون لوحاته .. فإذا آوى إلى فراشه فى الليل استغرق فى النعاس ..
     وكان قبل أن ينتقل إلى مصر الجديدة يسكن فى الحلمية .. وهناك عرف فتاة فى المنزل الذى يسكنه وأحبها من كل قلبه .. فلما انتقلت مع عمها إلى حلوان .. لأنها كانت يتيمة وتعيش فى كنفه كره الحى بعدها .. وبحث عن مسكن آخر .. وكانت " فتحية " تحبه .. ونسيت فى صحبته أحزانها .. موت والدها .. وغرق زوجها .. والحياة الذليلة التى تحياها فى بيت عمها .. نسيت كل هذا عندما التقت به .. وكانت تعرف أنه رسام وفنان .. يرسم النساء وحتى البغايا منهن وهن عرايا .. لأنه يرسم العرى .. ولكنها رغم هذا كله أحبته ولم تستطع أن تقاوم حبه وكان سعيد بحبها ويعدها للمستقبل .. وقد أتاحت له الحياة فرصة الانفراد بها أكثر من مرة .. ولكنه لم يتعد معها .. الحب العذرى .. لأنه كان يراها أصلح زوجة له .. لأنها تفهمه كفنان وتقدر عمله ..
     وكانت قد أعطته عنوان سكنها فى حلوان والتليفون الذى يمكن أن يكلمها فيه .. فلما انتقل إلى مصر الجديدة عرفها بعنوانه .. وطلب أن يقابلها فى القاهرة .. وانتظرها عند حلوانى فى قصر النيل .. وجاءت وعرض عليها أن يريها مسكنه الجديد .. وركبا المترو إلى هناك ..
***  
     وسرت بالبيت كثيرا .. وبالحى الذى فيه .. وجلست على الكرسى الطويل تستريح .. ورأت على اللوحة .. رسم امرأة عارية لم يكمل بعد فسألته وهى تديم النظر إلى الصورة :
     ـ من الذاكرة ..؟
     ـ لا .. إنها صورة طبيعية ..
     ـ وصاحبتها تجىء إلى هنا .. وتأخذ هذا الوضع ..؟
     ـ بالطبع وهى مع الأسف أجنبية .. وأتمنى أن تكون مصرية ..
     ـ وتحترمها بعد ذلك لو رأيتها فى مجتمع .. أو قابلتها فى أى مكان ..؟
     ـ بالطبع .. ما فى ذلك شك ..
     ـ وتتزوجها ..؟
     ـ إذا كنت أحبها ..
     ـ بعد أن تخلع ملابسها هكذا ..؟ وتصبح عارية ..؟
     ـ إن هذا العمل يزيدها رفعة فى نظرى ..
     ـ أرجوك .. أسكت .. أننا لسنا فى باريس ..
     ثم سألته :
     ـ وهذه المرأة تعيش .. من هذا العمل ..؟
     ـ إلى حد ما .. وقد تعجبين إذا عرفت أنها متزوجة .. حديثا ..
     ـ وزوجها يأتى معها ..؟
     ـ لا ..
     ـ أنه لا يحبها ..
     ـ لماذا ..؟
     ـ لأنه يتركها للآخرين .. يونانية ..؟
     ـ إيطالية .. ولها ولدان ..
     ـ عجيب ..!!
     وتحركت فى دلال ثم عادت ووقفت أمام الصورة .. وقالت :
     ـ سألتقى بها يوما ما .. وأعرف السر الذى فى عينيها ..
     ـ هل تنبهت إليه ..؟
     ـ انه واضح .. وما أعمق سرها ..
     ـ فى عين كل امرأة مثل هذا السر ..
     ـ حتى فى عينى ..؟
     ـ حتى فى عينيك .. دعينى أرى ..
     ـ واقترب منها .. وأمسك بكلتا يديها .. ونظر إلى أعماق عينيها .. وجاوبت على نظراته بنظرة مثلها .. ورأى فيهما الرقة .. والصفاء .. واقترب منها وشدها إليه .. فأفلتت منه فى دلال .. وهى تقول :
     ـ صاحبتك شايفانا .. وبعدين تزعل منك ..
     ـ حغطيها ..
     ـ ولو .. لايمكن تبوسنى ودى هنا ..
     ولم يعجب لهذا التصرف من امرأة ..!!
     وكانت هناك رواية الطاحونة الحمراء معروضة فى سينما .. بالقاهرة .. عن حياة الرسام هنرى تولوز .. فعرض عليها أن يشاهدا الفيلم معا فى حفلة الساعة 6 فقبلت .. وشاهدا الرواية .. وجلسا فى الكراسى الخلفية .. وهى بجانبه .. وتشابكت أيديهما وتضاغطت فى الظلام .. وهو يشعر بلذة حبيبة .. ورأى فى عينيها .. بريقا أخاذا لم يشاهده من قبل أبدا .. وتحت تأثير هذا البريق وجد نفسه ينحنى عليها ويقبلها .. وشعر بحلاوة القبلة ولذتها .. وكان يود أن يستزيد من هذه الحلاوة ولكنها دفعته عنها فى رفق .. وهى تقول :
     ـ خلينا نشوف الفيلم ..
     وعجب وساءل نفسه .. لماذا هذه القبلة لذيذة .. وهو قد قبلها من قبل مرارا .. فى بيته .. ولم يشعر بمثل هذه الحلاوة ..
     وسألته وهما خارجان :
     ـ أعجبك الفيلم ..؟
     ـ عظيم .. ولكننى أفضل كتاب البير  لامور عليه .. وقد قرأته .. أكثر من مرة .. وكونت لنفسى صورا ذهنية لم تعرضها الشاشة .. ولم تبلغها بعد .. لقد قصرت عنها .. وهذا ما يجعلنى أطمئن على مستقبل الكتاب رغم مساوىء الحضارة ..
*** 
     ومشيا إلى محطة باب اللوق وأركبها القطار .. وأخذ يذرع الشوارع وحيدا حتى ركب آخر مترو إلى مصر الجديدة ..
     كان يشعر بالسعادة وقرر فى تلك اللحظة أنه لا يستطيع أن يعيش إلا وفتحية معه تحت سقف واحد ..
***  
     ولكن فى الجانب الآخر ومن المصراع الأيسر من النافذة .. كان يرى المرأة الأخرى .. تروح وتجىء أمامه .. فى النهار والليل .. وأخذت تحتل جانبا من حياته وفكره .. ثم أخذت تشغله حتى عن نفسه وعمله .. وكان يمضى الساعات الطويلة .. ناظرا إليها ..وكأنها تجذبه إليها بقوة المغناطيس .. وسرعة جذبه .. ووجد نفسه أسيرا لها ومتيما بها ولم يستطع تعليل هذا الحب العنيف .. وهذا التحول المفاجىء .. إلا بكونه رأى فى وجهها الأبيض وجسدها شيئا لم يشاهده فى امرأة أخرى ..
     وسأل عنها .. وعرف أن اسمها " الهام " .. وأنها أرملة وزوجها توفى منذ خمسة أعوام .. ولم تشأ أن تتزوج بعده .. وقد ترك لها زوجها ثروة كبيرة فهى ليست فى حاجة إلى رعاية رجل ..
     وكانت فتحية تتردد على سكنه وتجلس بجواره وهو يرسم اللوحات وينقل عن مشاهير الرسامين .. وقد اكتسبت من طول عشرتها له ثقافة فنية .. فكانت تعرف صور .. كوخ .. ورامبرانت .. ورفائيل .. ومعظم الأعمال الخالدة للمشاهير وكان يتمنى أن يرسمها بكامل ملابسها ولكنها كانت تمانع .. فعرض عليها أن يرسمها بكامل ملابسها .. فقبلت وجلست أمامه .. ثلاث جلسات طويلة .. وكانت الصورة رائعة .. فسرت بها جدا .. وكانت ترى صور النساء العرايا فى الأستوديو .. وتغار .. وتتمنى أن تكون بينهن ..
     وكانت تعرف مفاتنها وتعرف أنها لو رسمت أمامه عارية .. سينسى صاحبات هذه الصور .. ويصبح لها وحدها ..
     فلما قال لها ذات يوم : " أننى لا أستريح إلا إذا رسمتك عارية ..
     قالت له :
     ـ على شرط ألا تعرضها ..
     ـ وهل يعقل أننى أعرضك على الناس ..!!
     ـ وحتى هنا .. أرجو أن تغطيها دائما .. وتخفيها عن زوارك ..
     ـ بالطبع هذا ما سيحدث .. وسأجعل ستارا خفيفا على الجسد .. وما من إنسان سيعرفك .. حتى لو رآك فى معرض عام للصور .. وأنت تشغلين نفسك بالأوهام .. والحياة كبيرة وكبيرة جدا .. وفيها ملايين من النساء سواك .. فمن الذى سيشغل نفسه بصورتك ويبحث ويتساءل عنها .. اطمئنى تماما ..
      واقتنعت ..
     ودخلت وراء الستر لتخلع ملابسها .. ورسم وتأمل ثم استغرق فى عمله .. حتى شعر بالتعب .. وبثقل الفرشاة فى يده .. وكانت هى مسترخية صامتة .. ولا يدرى أحلامها ..
     وألقى الفرشاة جانبا وتمطى وأغلق عينيه ووضع رأسه على حافة الحامل .. ونعس .. خمس دقائق أو عشر .. وعندما صحا وذهب إليها .. وجدها مغلقة عينيها ونعسانة .. فجثا على ركبتيه واقترب منها .. ومر بشفتيه فى خفة على شفتيها .. ففتحت عينيها ببطء .. ووجدته يقبلها ..
     وسألته فى دلال :
     ـ أنت بتعمل كده .. مع كل اللى بترسمهم ..؟
     ـ طبعا ..
     ـ أنت شيطان ..
     وشدته إليها .. وضغطت عليه بذراعيها العاريتين .. وأخذ يقبل كل جزء من جسمها فى جنون .. ويمزج رضابه برضابها .. وعرقه بعرقها .. وعندما ضمها إليه ورأت فى عينيه الرغبة التى كانت تعذبه أسلمته نفسها .. ولم يعرف مغبة عمله .. لأنه راح فى دوامة من اللذة ..
     وعندما جلس بعد ذلك بأيام أمام اللوحة .. لم يستطع أن يكمل الصورة الرائعة .. التى بدأها لها .. وظلت الصورة على الحامل ناقصة ..!!
*** 
     وكانت الهام هانم .. فى الجانب الآخر ومن المصراع الأيسر .. قد أخذت تشغله عن كل شىء وتحتل كل تفكيره حتى تمكنت منه كلية .. وأصبح يرى صورتها تلاحقه فى كل مكان يذهب إليه .. وكان يراها فى بيته كأنها تطل عليه من البراويز التى فى الأستوديو ..
     ورآها مرة .. تطل عليه من الحامل فألقى بالفرشاة وأخذ يبكى .. وذات يوم كان يعانق فتحية فخيل إليه أنه يرى الهام .. تنظر إليه من فوق رأسه وعلى شفتيها ابتسامة ..!!
     وذات ليلة رآها من الشرفة تصلى فى غرفتها وهى مرتدية ثوبا أسود وقد غطت رأسها ويديها بطرحة .. وأخذ يحدق فيها ويتأمل مفاتن جسمها التى أبرزها الثوب الضيق وأطال التحديق والنظر .. ثم ارتمى على الفراش .. وأخذ يبكى .. لأنه لم يرع حرمة الصلاة .. ولم يذكر أنها واقفة أمام .. الله ..
     وخجل من نفسه لأنه طاوع الشيطان فجعل يشتهيها وينظر إلى جسمها .. حتى وهى تصلى ..
     وبكى كثيرا واستغفر ربه ..
*** 
     وعندما استيقظ فى الصباح .. وضع الحامل .. بجوار النافذة وأخذ يرسم لها صورة كما يراها من وراء المصراع الأيسر .. وكان فى حمى الحب وناره .. وكان يرسمها وهى جالسة فى غرفتها .. فإذا خرجت منها لبعض شئونها انتظرها حتى تعود وأخذ يرسم .. وظل على ذلك اسبوعا .. بطوله .. وقد حبس نفسه .. وتفرغ لعمله حتى أصبح فانيا فيه باذلا له كل جهده .. وخيل إليه أنه يغمس الفرشاة فى زوايا قلبه ويرسم .. وكانت الفرشاة مطواعة والألوان متناسقة .. والظلال رائعة .. وعندما أكمل الصورة تنفس الصعداء .. فقد عمل أعظم شىء فى حياته .. ولكن التعب والجوع كانا قد نالا منه فلم يستطع الخروج وزحف إلى الفراش وتمدد عليه ..
***
     وكان هناك معرض للفنانين فى الجزيرة فأشار عليه أصحابه بعرض الصورة .. فتردد أولا .. ثم حملها بنفسه إلى المعرض .. ونالت الجائزة الأولى .. وأصبحت محط أنظار الزوار .. وتحدث عنها الفنانون فى كل مكان ..
     وتقدم أحد عشاق الصور ليشتريها .. ولكن سعيد رفض أن يبيعها وعرض زائر آخر مبلغا مغريا لم يحلم به .. عرض 500 جنيه .. ولكنه رفض أيضا .. وقال له أصحابه " إنك مجنون فى حاجة إلى  قرش واحد من هذه الجنيهات .. وتستطيع بهذا المبلغ أن تعيش سنة فى بحبوحة وأن تنشل نفسك من البؤس الذى أنت فيه .."
     ولكنه أصر على الرفض ، وكتب على الصورة :
" لا تباع "
*** 
     وبعد أن انتهت أيام المعرض نقلها إلى بيته .. وهو يطير من السعادة .. فقد كانت الصورة بالنسبة له هى كل شىء فى الحياة ..
*** 
     وعاش لإلهام .. ومرت الأيام وهو لا يفكر إلا فيها ولا يعيش إلا لأجلها .. وذات ليلة .. لمحها .. فى غرفتها .. وكانت ترتدى قميصا أبيض لأول مرة .. ومعها رجل .. ورأى الرجل يقبلها .. ويضمها إليه بعنف وهى تحاول الإفلات منه ضاحكة فى دلال الغوانى .. ولمحت سعيد وهو يرقبها .. فظهرت على وجهها سحنة لبؤة ..!!
     وقالت للرجل الذى معها .. بصوت عال :
     ـ تصور المجنون الممسوخ ده .. دائما يلاحقنى بنظراته .. حرم علىَّ أطلع البلكونة .. تصور أنه بينام فى الفراندة ..
     وسحبت المصراع الأيسر وأغلقته فى وجهه بعنف .. وسمع سعيد صوت الهام لأول مرة .. كان خشنا كريها وسمع ضحكتها السوقية .. فانهارت كل أحلامه .. ولم يشعر بنفسه وهو يمسك سكينا حادة وينهال على صورتها ضربا وتمزيقا ..
================================================
نشرت القصة فى مجلة " الجيل الجديد " بالعدد رقم 156 فى تاريخ 20/12/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " عذارى الليل " سنة 1956
=======================================




رسالة من الميدان

     جلست فى القطار السريع العائد من فلسطين ، مرسلا البصر عبر النافذة إلى الصحراء والتلال والكثبان الرملية التى لايحدها النظر ..
     وكنت قد خرجت لتوى من المستشفى العسكرى بعد إصابة بالغة فى جبهة القتال .. ومنحـت إجازة طويلة أسترد خلالها عافيتى ..
     وجلست منفردا منـزويا فى ركن من العربة ، بعيدا عمن حولى من الركاب دائرا حول نفسى كالقوقعة ..
     وكنت أحمل رسالة عزيزة وضعتها فى جيب سترتى ، رسالة من صديقى الضابط الشهيد محى الدين .. الذى كان يحارب معى فى نفس الجبهة .. وكان قد كتبها لوالدته قبل أن يخـوض المعركة .. يستودعها ابنه الصغير وزوجته التى لم تستمتع بعد بالحياة .. وكان يتوقع الموت .. فقد كنا نحارب عدوا جلب أحدث الأسلحـة وأشـدها فتكا بذخيرة فاسدة .. ومع ذلك كنا نقاتل قتال الأبطال .
     وكانت صورة المعارك الدامية قد طافت بذهنى وأنا أنظر عبر السهول الفسيحة الممتدة إلى ما لا نهاية .. والقطار ينهب الأرض نهبا.. وكنا فى يوليو والجو خانقا .. والركاب المدنيون الجالسون معى فى نفس الديوان .. يلعنون مصلحة السكك الحديدية لأنها رفعت المراوح الكهربائية التى فى القطار .. ويسبون كل شىء .. وكنت أسخر من هذه الرفاهية .. فلم أكن أحس بشىء ذا بال .. فقد تعودنا على الخشونة بكل ضروبها .. فلم يكن يرهقنى أن لا أجد مروحة فى عربة .. وكنت أسخر من هؤلاء الركاب .. وأغتاظ من تفاهة تفكيرهم .. وزادنى غيظا أن بعضهم لم يكن يحس بشىء مما نحن فيه من هول .. لم يكن يدرى أن هناك حربا فى فلسطين دائرة على أشدها ..
     وعندما خرجت من نطاق المحطة وهبطت إلى المدينة .. مدينة القاهرة فى الليل .. رأيت الأنوار والأضواء .. والملاهى والمواخير .. والمراقص الدائرة ، وازداد حنقى فقد كنا نقاتل فى جبهتين منفصلتين بكليتنا عن الوطن الذى ندافع عنه.
***
     ونمت فى بيتى إلى الصباح .. وكنت أحمل فى حقيبتى ساعة محيى الدين الذهبية ومحفظته .. وحجابا صغيرا صنعته له أمه قبل سفره إلى الجبهة .. وقلما من الأبنوس ومفكرته الصغيرة .. وهى كل الأشياء العزيزة التى تخصه .. والتى أفرغتها من جيوبه قبل أن يحمله الجنود على نقالة إلى المستشفى الميدانى .. فأخرجت هذه الأشياء ووضعتها فى حقيبـة صغيرة واتجهت إلى بيت صاحبى فى ضاحية القبة .
     وصـعدت سلالم المنزل الصغير الأنيق وقلبى يعصره الألم ..
     وجلست فى غرفة الصالون وحيدا .. بعد أن فتحت لى الخادم الباب .. وسمعت وأنا جالس صوت الراديو يردد بعض الأغانى الشائعة .. ما هذا .. أيجهلون كل شىء ؟! ..
     ودخلت علىّ السيدة والدة محيى الدين بردائها الأسمر السابغ ، وكانت تعرفنى .. فلما رأتنى ظهر على وجهها البشر
     وقالت :
     ـ انت يا بنى .. وازى محيى ..؟
     ولم أقل شيئا .. واستمرت هى ترحب بى مسرورة .. وأدركت بعد دقيقة واحدة من مجلسى معها أنها تجهل أن ولدها مات .. وكانت متلهفة على سماع أخباره .. وأسقط فى يدى .. كيف أحدثها بخبره .. ولو حدثتها وهى فى غمرة نشوتها لقتلتها من هول الصدمة .. فكتمت الخبر .. وأخذت أروى لها مختلف الأحاديث عنه . .
     وسألتنى :
     ـ ومتى سيأتى ..؟
     قلت :
     ـ بعد شهرين ..
     وذاب قلبى حسرات .. وتذكرت كل ما كنت أحمله فى جيوبى من هدايا لأسرتى .. وأخرجتها وقدمتها لوالدة محى الدين على أنها مرسلة من ابنها .. لها ولزوجته ..
     وجرت بالهدايا إلى الزوجة فى الداخـل ، وهى تصيـح ، بصوت طروب :
     ـ شوفى يا اعتـدال .. إيه اللى باعتولك جوزك ..
     وسمعت صوتا رقيقا ناعما يقول من فرجة الباب :
     ـ مرسى .. مرسى خالص ..
     وأخذت أنظر إلى هؤلاء الناس المتلهفين على أخباره ، والمتوقعين قدومه فى كل لحظة ، الذين يتصورون كل شىء إلا أنه مات وراقد هناك تحت الثرى ..
     ومرت فى خيالى صور .. وذكريات ..
     وعندمـا ودعت الوالدة .. وحملت ابن محى الدين وقبلته وهبطت سلم البيت .. وخرجت إلى الشـارع .. كن واقفـات فى الشـرفة لوداعى ..
***
     ولم تبرح صورة محى الدين وصورة أسرته ذهنى بعد ذلك أبدا .. كانت تشغل تفكيرى كله .. وقررت أن أفعل شيئا سريعا حاسما لأريح أعصابى .. قررت أن أعود إلى جبهة القتال لأنتقم له ..
     وعدت إلى فلسطين .. واشتركت فى المعركة الكبرى .. وقتلت كثيرا من اليهود .. وشعرت بنشوة النصر ولذة الانتقام .. وفى حمى المعركة  أصبت بشظية فغبت عن الوجود وحملت وأنا فى الغيبوبة إلى المستشفى ..
                           ***                        
     وعندما فتحت عينى وعـدت إلى رشـدى ، وجدت نفسى فى مستشفى الحلمية العسكرى .. وبجوارى تقف سيدة شابة فى لباس الممرضات .. وكان وجهها كالبدر ، ونظرت اليها طويلا وعرفتها .. كانت زوجة محيى الدين ..
***
     اننى أعيش الآن فى منـزل محيى الدين .. مع والدته الكريمة ، وابنه الصغير ، وزوجته التى أصبحت زوجتى ، وعزيزة على منذ تلك اللحظة الخالدة فى تاريخ الإنسان ، وأشعر أنهم لم يفقدوا شيئا .. كما أشعر أننى أديت الرسالة التى حملتها معى من الميدان .






=================================
نشرت القصة بمجموعة " العذراء والليل " لمحمود البدوى المنشورة فى عام 1956
=================================









ليلة فى الصحراء

حدث ذات ليلة من ليالى الربيع .. وكنت أركب العربة الخلفية فى المترو الذاهب إلى مصر الجديدة .. وأجلس على مقعد بالدرجة الأولى .. وكان فى هذا القسم خمسة أو ستة من الركاب متناثرين كما اتفق على المقاعد ..
وكانت هناك سيدة تجلس أمامى وبجانبها طفلة نائمة .. وبعد محطة روكسى أخذت السيدة توقظ الطفلة .. ولكنها لم توفق .. فقد كانت الصغيرة تفتح عينيها ثم تغلقهما فى نفس اللحظة .. وابتسمت الأم وظهر على وجهها الحيرة فقد كانت الطفلة فى السادسة والسيدة بجانبها أشياء اشترتها من السوق وليس حمل هذا كله بالشىء الهين ..
ومع ذلك فعندما استدار المترو وأصرت عجلاته على القضبان بعد فندق هليوبوليس بالاس .. وضعت الأم طفلتها على صدرها وتهيأت للنزول .. ولكنها لم تستطع الوقوف .. لأنها كانت تمسك فى الوقت نفسه بالأشياء التى تسوقتها من الحوانيت ..
وابتسمت واحمر خداها وبدت منها آهة خفيفة تنبىء عن يأسها من حالها .. وكنت الوحيد الذى يرقب هذا فى العربة ولم أكن أدرى أأشفقت على السيدة الجميلة أم على الطفلة النائمة .. وأنا أقول للسيدة بصوت خافت :
ـ اتفضلى أنزلى .. وأنا أناولها لك ..
فنظرت إلىّ نظرة سريعة وخيل إلىّ أنها ترانى لأول مرة .. وفتحت شفتيها ثم أطبقتهما .. وانسدلت أهدابها مع هذه الحركة .. ولم أسمع بأذنى كلمة " مرسى " .. فقد قبلت بصوت ناعم ممزوج بالخجل ..
وحملت عنها الطفلة .. وأمسكت هى بالأشياء التى معها .. ونزلت إلى الرصيف لتتناول منى الفتاة وأنا واقف على سلم العربة .. ونظرت إلىّ بعينيها ومدت ذراعا واحدة .. ولكنى وجدت أن من القسوة أن أحملها فوق طاقتها فنزلت من العربة وتحرك المترو وسار فى طريقه ..
ـ هات عنك بأه .. مرسى خالص ..
ـ إزاى حتقدرى تشيليها .. هو البيت بعيد ..؟
لأ .. خطوتين ..
ـ إذن حشيلها لغاية الباب ..
فلم تقل شيئا .. وكان معى كراسة وكتاب فأخذتهما منى لأحمل الفتاة دون مشقة .. وأسرعت فى الشارع القليل الضوء أمامى .. وكانت تتلفت .. وأدركت أنها تبحث عن خادم أو بواب ليحمل الطفلة .. ولكنها لم تجد أى إنسان .. فقد كان الشارع مقفرا .. وعلى باب البيت وضعت ما تحمله من أشياء وتناولت منى الطفلة ..
وغمغمت بكلام لم أتبينه تماما .. فقد كانت حواسى كلها مركزة على البريق الذى يشع من عينيها .. وعدت فى الشارع الطويل المظلم وحدى ونسيم الربيع يداعب أوراق الأشجار ..
***
وبعد أن دخلت بيتى تذكرت أننى نسيت الكراسة والكتاب معها ولم أعر هذه المسألة التفاتا .. وكانت زوجتى طريحة الفراش منذ يومين .. وحرارتها مرتفعة والدكتور يشتبه فى حالة تيفود .. فحرصت على أن أوفر لها الراحة التامة .. وأن أعزلها عن الأطفال .. وابتدأنا بعد أن تأكدنا من التيفود نستعمل الكورمايسين .. ووجدت نفسى أتفرغ لها بكليتى .. فقد كان هذا أول مرض لها منذ أن تزوجنا .. ولم يكن يضايقنى شىء سوى أن خبر مرضها انتشر فى الأسرة .. فجاءت أمها وخالتها الكبرى والصغرى وأختها وبنت خالتها .. وأصبح البيت كخلية النحل .. وبطل سحر الكورمايسين أمام هذه الفوضى .. فقد كانت كل سيدة تبدى رأيها فى المرض .. وتلعن الأطباء .. وتصف الدواء الذى استعملته فى مثل هذه الحالة .. وكانوا كلما وجدوها تشم أنفاسها يعطونها المرق .. والدجاج .. واللحوم فى غيابى .. فكانت تنتكس وبدلا من أن تشفى فى اسبوع .. استمرت مريضة خمسة أسابيع .. وكنت فى حالة تعاسة تامة إذ أن أعصابى كانت تتحطم فى النهار من الزوار والبحث عن الدواء وفى الليل من السهر بجانب فراش المريضة ومراقبة الأطفال .. وكنت أفكر فى هؤلاء وفى مصيرهم المحزن .. إذا ماتت الأم .. وكانت حالتهم تروعنى .. فإن ثلاثة أطفال أكبرهم فى الخامسة كان مشكلة كبرى بالنسبة لى ..
وفى دوامة من هذا التفكير المعذب .. كنت أعيش فى النهار والليل .. وفى الساعة العاشرة بالضبط .. وأنا أذكر هذه اللحظة كأنها حدثت بالأمس .. دق جرس التليفون .. وكنت أتصور أن أحد الأقرباء يسأل عن صحة زوجتى .. فنهضت متثاقلا .. ورفعت السماعة فسمعت صوتا رقيقا :
ـ حضرتك الأستاذ جعفر ..؟
ـ أيوه يا أفندم ..
ـ طيب .. أنت نسيت عندنا حاجة ..
ـ أنا .. حاجة إيه ..
ـ كتاب ونوتة محاضرات ..
ـ حضرتك مين ..؟
ـ أنا الست اللى قابلتها فى المترو من كام يوم .. وشلت منى الطفلة ..
ـ وعرفتى تليفونى إزاى ..
ـ كنت بقلب فى الكتاب النهاردة بالصدفة .. فلقيت عليه اسم فى أول الصفحة قلت لازم دا إسمك .. وطلبتك من الدليل ..
ـ طيب يا ستى مرسى ..
ـ أبعتلك الكتاب إزاى ..؟
ـ مش مهم أبدا .. أنا قريته والنوتة مالهاش قيمة .. ماتشغليش نفسك بالمسألة دى ..
ـ لكن لازم أبعتهملك .. عنوان حضرتك ايه ..؟
ـ يا ستى ما تشغليش نفسك بالمسألة دى خالص .. أرجوك ..
ـ يعنى مش عاوز تدينى العنوان ..؟
ـ لأ .. لأن المسألة مش عاوزة تعب .. أورفوار ..
ووضعت السماعة ..
والواقع أنى شعرت بعد هذه المحادثة بشعور المحموم .. عندما يضع على رأسه كيس الثلج لتلتقط حرارته .. فقد شعرت ببعض الارتياح النفسانى .. وأسفت لأننى خاطبتها بجفاء .. فإن سيدة كاملة التهذيب تريد أن ترد الأمانة إلى أهلها .. كان يجب أن أكون معها أكثر رقة .. ولكن لماذا حدثتنى هى ولم تدع ذلك لزوجها ..؟ وهل قطعت بأنها متزوجة .. وزوجها حى .. وإذا كان موجودا فهل من اللازم أن تحدث المرأة زوجها عن كل صغيرة وكبيرة ..؟ ودارت فى رأسى هذه الخواطر وأنا جالس وحدى فى ردهة البيت .. ولم أدر لماذا أعرت هذه المحادثة العارضة أكثر مما تستحق ..
***  
وفى الليلة التالية سمعت صوتها فى نفس الميعاد .. ولم أدر لماذا اختارت هذه الساعة بالذات .. ومن العجب أننى كنت معها أكثر جفاء من الليلة السابقة .. ولما وضعت السماعة لمت نفسى مرة أخرى .. وكنت أود أن تعاود دق الجرس .. لأعتذر لها .. ومع دقات الساعة فى الليلة التالية سمعت صوتها .. وعاملتها فى هذه المرة بلطف .. واستمرت محادثتنا ثلث ساعة .. ولم أعطها العنوان .. ولم تبدو منى أو منها كلمة غزل واحدة .. ومع هذا فإننى كنت أشعر براحة تامة لهذه المحادثة وبأنها تزيح عن كاهلى متاعب النهار كله .. فكنت أنسى معها نفسى .. ومتاعبى كزوج وأب ورب أسرة .. ولعلها كانت تفعل مثلى وتنسى نفسها كأم فى هذه اللحظة .. وتعيش فى حلم ربع ساعة من يومها ..
*** 
وفى ليلة من الليالى بعد أن وضعت السماعة ودخلت غرفة زوجتى لأزيد من الأغطية وجدتها متيقظة .. وابتدرتنى بقولها :
ـ كنت بتكلم مين ..؟
ولم أكن مهيأ نفسى لهذا السؤال .. إذ لم أكن أتصور أنها ساهرة .. فاضطربت .. وأخيرا قلت :
ـ كانوا بيسألوا عنك .. بيت خالك فى شبين ..
ـ مسمعتش صوت الترنك .. دا جرس عادى ..
ـ مختيش بالك كويس .. دا ترنك ..
ـ أنت كنت بتكلم واحدة ست .. وكل ليلة .. بتكلمها .. ليه الكذب .. أستنى لما أموت .. أبق اعمل اللى أنت عاوزه ..
وأبيض وجهى من الخجل وأنكرت .. ودافعت عن نفسى بكل قوة .. ولكنها أخذت تبكى وتسيل عبراتها على خديها .. وشعرت بجرمى .. وكنت معتادا أن أتمدد بجوارها .. لأقيس حرارتها وأعطيها الدواء .. كل أربع ساعات .. ولكن فى هذه الليلة رفضت أن أقترب منها ..
ففرشت اللحاف ونمت على الأرض ..
*** 
وبعد هذه الليلة .. كنت أسمع التليفون يدق فى الساعة العاشرة تماما .. فلا أتحرك .. ولا أرد .. وكان جرسه يستمر دقيقة أو دقيقتين ثم يصمت ..
*** 
ومرت الأيام وشفيت زوجتى .. ولفرحتى بشفائها نسيت الحادث ..
وحدث فى أحد الأيام .. وكنت فى عيادة الدكتور عزمى أعالج أسنانى أن لمحت سيدة فى غرفة السيدات تحدق فى وجهى بقوة .. ثم مرت على فمها ابتسامة خفيفة ..
ونظرت إليها وتذكرتها .. لقد كانت سيدة المترو .. ولم تكن معها الطفلة هذه المرة .. بل كانت مع سيدة كبيرة لعلها أمها .. ولتشعرنى بأنها عرفتنى أخذت تتحدث بصوت عال ..
وجاء دورها فى الدخول على الدكتور فدخلت مع مرافقتها .. ولم تمكث طويلا .. وعندما مرت علىّ وهى خارجة كانت نظرتها حالمة .. وكأنها ردت بنت العشرين ربيعا .. عذراء خفرة .. كان فستانها بديعا ومنسجما .. ووجهها أكثر جمالا مما رأيته .. ولم يكن فى أسنانها علة مما جعلنى أتيقن أنها جاءت مرافقة للسيدة الأخرى .. وكانت تتردد على العيادة مع هذه السيدة فى أيام السبت والإثنين والأربعاء .. ولم أبادلها كلمة واحدة .. ولكننى كنت أشعر بانتفاضة كلما سمعت صوتها ..
وخيل إلىّ أنها تتحدث إلىّ وحدى .. وأننى لو لم أكن موجودا لما جاءت .. ولم أكن أجلس مع الرجال فى العيادة بل كنت أجلس فى الصالة .. على كرسى صغير لا أغيره .. وكنت أراها فى مواجهتى وأنا جالس أقلب فى أى مجلة أجدها .. وكانت نظراتنا تلتقى عرضا أكثر من مرة فى هذه الجلسة الصامتة .. ولم أكن أستطيع أن أحلل هذه العاطفة أو أستطيع تفسيرها .. أنا الرجل المتزوج .. الذى يحب زوجته ويحب أطفاله ويسعى لإسعادهم .. إذ لم يكن بينى وبين هذه المرأة ما يسمى بالحب .. لكننى شعرت أنها عندما جاءتنى هزتنى .. وكنت أشبه نفسى بساعة الحائط المعلقة فى بهو كبير .. ومضى عليها أكثر من عشر سنوات وهى واقفة .. ثم جاء من حرك بندولها .. فمشت .. وأصبحت تدق بانتظام .. وهذا ما حدث لى على وجه الدقة فإننى أصبحت أتحرك وأعيش وأعمل بأمل وغاية مرجوة ..
*** 
وكنت أخرج مع زوجتى بعد أن شفيت .. ونتريض بسيارتى الصغيرة لأجعلها تسترد كامل صحتها .. واشتاقت أن تمضى أسبوعا فى الإسكندرية عند أهلها .. فأخذنا الأولاد وذهبنا إلى هناك ..
وذات مساء خرجت معها أتنزه بعد أن تركنا الأولاد فى رعاية جدتهم .. ولا أدرى لماذا طرأت عليها فكرة أن نواصل السير إلى استراحة شل فى الطريق الصحراوى .. وأن نمضى الليلة هناك .. فأدركت أنها تود أن تستعيد ذكرياتها .. وأن تسترد مكانتها عندى .. فقد قضينا فى هذه الاستراحة الليلة الأولى من زواجنا .. ولم أرفض طلبها .. واتصلت بوالدتها وقلت لها أننى سنمضى الليلة فى الخارج .. وزودت العربة بالبنزين .. وانطلقنا فى الطريق بسرعة هادئة ..
كنا فى الربيع وبقيت أيام ثلاثة على شم النسيم .. والطريق الصحراوى خاليا أمامنا .. وليس به إلا بعض العربات القليلة ومع ذلك لم أسرع .. وزحف علينا الظلام وأنا أقترب من الاستراحة ..
*** 
وفى أثناء سيرنا رأيت من بعيد عربة سوداء واقفة فى الطريق .. وبجانبها رجل وامرأة .. ولما اقتربنا تقدمت المرأة ولوحت لنا بيدها .. ولم أر أن أتوقف .. ولكن زوجتى ألحت بالوقوف لأنها شعرت بعطف على السيدة فى هذا الليل .. وبين الاستجابة والرفض توقفت بعد أن جاوزت العربة الأخرى بثلاثين مترا ..
ونزلت وحدى ورجعت إلى حيث تقف السيدة والرجل .. وعندما اقتربت .. رأيت وجها أعرفه جيدا .. كان وجه السيدة التى التقيت بها فى المترو .. ورافقتها حاملا طفلتها إلى بيتها .. وعندما وقع بصرها علىّ عرفتنى .. ولكنها لم تظهر ذلك أمام الرجل ..
وقال لى الرجل أن العربة تعطلت بهما فى الطريق ولا يدرى السبب مع أن الموتور كان فى الورشة منذ يومين فقط .. وتناولت منه البطارية ورفعت غطاء المحرك وقلت له بعد أن عالجت ادارتها :
ـ أى محاولة منا فى هذا الظلام لمعرفة السبب عبث .. وأنا ذاهب مع زوجتى إلى استراحة شل فقط .. فتفضلا معنا .. وفى الصباح نرى ماذا حل بالعربة ..
وأزحنا عربتهما عن الطريق وركبنا إلى الاستراحة ..
*** 
وجلسنا فى شرفة الاستراحة على مائدتين متقاربتين .. كان زوجها متوسط العمر ممتلىء الجسم نوعا .. يبدو رجل أعمال .. وكان يكرر لى الشكر فى كل لحظة .. أما عفاف زوجته .. فقد كانت ترتدى فستانا أصفر قليلا وعليه وشاح أسود .. زادها جمالا وفتنة ..
وكانت تنظر إلىّ فى عذوبة صامتة .. وكانت الشرفة خالية تقريبا إذ لم يكن وقت مرور عربات الشركة .. ودعانى الرجل إلى البار لأشرب معه كأسا .. ولم أكن أحب الشراب فى البار .. لأنه طبيعة المدمن .. ولكننى تناولت معه كأسا واحدة من الويسكى .. وشرب هو كثيرا وتحدث .. وكانت زوجته فى خلال ذلك جالسة مع زوجتى .. هناك فى ركن من الشرفة .. ورأيت أنهما استغرقتا فى الحديث .. وتآلفتا .. وكان نظر عفاف يلف ويدور ثم يستقر علىّ .. فأغلق عينى وأرى وجهها فى قاع الكأس ..
*** 
صعدت مع زوجتى قبلهما لننام .. ولم يكن بالفندق نزلاء سوانا .. وكانت زوجتى متعبة فنامت وأغلقت النور .. وجلست فى الشرفة أنظر إلى الصحراء الفسيحة أمامى وقد بدت فى الظلام كبحر أسود عظيم الظلمات .. ثم رأيت عفاف تخرج فى الناحية الأخرى إلى الشرفة .. وكانت ترتدى روبا حريريا أزرق على قميص ملتصق بجسمها ويشف عما تحته .. ورأيت صدرها فى لون المرمر ونعومته .. وقد انشق عنه القميص .. وقد لفت شعرها فى عصابة بيضاء .. ورأتنى دون شك وأنا جالس هناك أنظر إلى الصحراء .. ولم أسمع حس زوجها فتصورت أنه لايزال فى البار .. وظللت ساهرا حتى اطفئت أنوار الدور الأرضى من الاستراحة وأغلق البوفيه .. وخيم الظلام والسكون .. وبقى فقط نور الكشاف يرسل ضوءه الباهر عبر الصحراء ..
*** 
وكانت الساعة قد جاوزت الواحدة صباحا عندما سمعت نقرا خفيفا على باب الغرفة .. فتحركت وأضأت المصباح الجانبى .. وفتحت الباب .. فوجدت عفاف على العتبة .. وكانت حافية وبالروب المفتوح .. وعندما وقع نظرى على صدرها ضمت ثوبها .. وقالت :
ـ سلوى هانم صاحية ..؟
ـ نامت والله من شوية .. عاوزة حضرتك حاجة ..
وهمست :
ـ سيجارة ..
ـ لمنصور بيه ..؟
ـ ليه ..
وجريت وأعطيتها العلبة ..
ـ واحدة كفاية .. بس علشان أنام ..
ـ معاكى كبريت ..
ـ ولعها أنت ..
واحمر وجهى وأشعلت السيجارة .. فتناولتها وزمتها بين شفتيها ..
ورأيت بريق عينيها يختلط مع الدخان الأزرق وأنفاسها العالية .. ولم أسمع حس أقدامها وهى تبتعد .. وأغلقت الباب بالمفتاح ..
***
واستيقظت مبكرا قبل الشروق .. ونزلت إلى الحديقة الصغيرة التى خلف الاستراحة وجلست هناك وحدى .. تحت الأشجار .. أفتح صدرى للهواء وأنعم بالسكون والجمال .. وكنت أعرف أن زوجتى لاتصحو قبل الثامنة .. إذ أن المرض أثر على أعصابها .. ومع خيوط الشمس الأولى النافذة بين أوراق الشجر .. رأيت عفاف مقبلة من بعيد ..
وقالت مغمغمة وهى تقترب :
ـ قاعد هنا ليه .. لوحدك ..؟
ـ سلوى بتصحى متأخرة .. وأنا قاعد أتمتع بالجمال ..
ـ فين ..؟
ـ فى هذه الحديقة .. فى الهواء .. فى ...
ونظرت إليها وقطعت الكلام :
ـ منصور بيه .. لسه نايم ..؟
ـ من الفجر راح مصر ..
ـ إزاى ..؟
ـ لقى عربية رايحه بدرى .. فركب يجيب عربية جيب ولا ونش ..
ـ مين أشار عليه بكده ..؟
ـ ميكانيكى .. لقاه هنا ..
ـ دا حمار .. عربيتكم .. مفهاش حاجة أبدا ..
ـ وعرفت إزاى ..
ـ عارف من الليل .. وكنت أقدر أدورها ساعتها ..
وليه مادورتهاش ..؟
ـ كنت تعبان .. إن كان معاكى المفاتيح أجيبها هنا .. واضربيله تليفون ..
ـ المفاتيح فوق ..
ـ هاتيها من فضلك ..
ـ لما أشرب الشاى .. أنت مستعجل ليه ..
ووقفت بجوارى تنظر إلى الأشجار .. وقالت :
ـ أترى هذه الحديقة الصغيرة التى نبتت فى الصحراء .. كم هى جميلة .. أتمنى أن يكون لى واحدة مثلها .. وفى وسطها بيت صغير .. فى قلب الريف بعيدا عن صخب المدينة ..
ـ هذا ما تمنيته قبلك .. كلما دعانى صديق إلى عزبته .. ورأيت الجمال والهدوء والروعة تحيط بالإنسان .. ولكننى أعرف الريف فالناس هناك لايدعونك تتمتعين بالجمال والهدوء اطلاقا .. لايتركونك فى سلام .. وإن كنت لا تسببين الضرر لأحد ولا تؤذين حتى بعوضة .. وفى الليل لا تنامين .. تسمعين صوت الرصاص ..
ـ متوحشين ..
ـ ليس هذا التوحش فى ريف مصر وحدها .. بل فى كل مكان فى الأرض .. طبيعة الحياة والإنسان .. أرى فى عينيك النوم ..
ـ لم أنم اطلاقا .. كنت خايفه وحدى ..
ـ وكان فين منصور بك ..؟
ـ من البار إلى الميكانيكى .. وجئت عندكم بالليل .. وأنا أتصور أن سلوى هانم لسه صاحية .. وكنت أود أن أنام معها فى الغرفة ونطردك ..
ـ عندما طلبت السيجارة .. لم أكن أتصور أنك تدخنين ..
ـ إننى لا أدخن اطلاقا ..
واصفر وجهى .. وقلت :
ـ هيا نشرب الشاى ..
ـ شوف سلوى هانم صحيت ولا لسه ..
وصعدت إلى زوجتى فوجدتها لاتزال نائمة فتركت لها ورقة بأنى ذاهب إلى العربة المتعطلة .. وإن كنت أعرف أننى سأعود قبل أن تصحو ..
وشربت الشاى .. وجاءت لى عفاف بمفتاح العربة .. وقالت وأنا أخرج بعربتى :
ـ أنا ذاهبة معك ..
ـ ليه ..؟ خليكى بلاش تعب ..
ـ أنا أعرف أسوق .. وإن دارت أجيبها ..
فنزلت من العربة وفتحت لها الباب الخلفى .. لتركب وحدها فى الخلف .. فركبت وهى تغالب انفعالها .. وسرنا .. ووصلنا إلى عربتها وعالجت الموتور ودار بعد ربع ساعة .. وهى تنظر إلىّ مستغربة لهذه البراعة .. ولكن قبل أن تسير العربة لاحظت أن احدى العجلات الأمامية فارغة من الهواء ..
ولم ينفع المنفاخ .. ورأينا أن نستبدل العجلة بالاستبن .. وجلست لأفك الصواميل .. وكانت هى تساعدنى .. وجلست على الأرض مثلى ولمحت وهى جالسه فخذيها .. وبياض بشرتها وسرت فى جسدى النار .. ولكننى كنت أقاوم الرغبة بأعصاب قوية وإرادة من فولاذ .. كان الطريق خاليا .. والصحراء مقفرة وليس فى المكان سوانا ..
وعندما أخذنا ندفع العجلة بعيدا عن منحدر قريب .. طارت من أيدينا فوقعنا معا على الرمال .. متجاورين متلاصقين .. والنار تشتعل فى عيوننا وقاومتنى .. وقاومتها .. قاومنا الرغبة والاشتهاء معا .. وعلى قدر ما التصقنا ابتعدنا ودرنا أربع دورات أو خمس على الرمال ..
*** 
وعندما جاء زوجها فى العربة الجيب كانت شمس الضحى قد ارتفعت وكنت جالسا وحدى تحت عامود الفنار .. وشمس الربيع أخذت تحمى .. ولكننى لم أكن أحس بنارها .. وكانت زوجتى جالسة وحدها تشرب الشاى فى الشرفة .. وعفاف فى عربتها تملأ خزان البنزين .. ورأيت حبات الرمال .. لاتزال عالقة بشعرها .. لم تشأ أن تزيلها ..
وعندما استدار منصور بعربته ليأخذ طريق القاهرة لمحنى وأنا جالس فحيانى .. ولوحت له بيدى اليمنى وأنا أتحسس بيدى الأخرى موضع أسنان حديثة انغرست فى لحمى ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 178 بتاريخ 23/5/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " العذراء والليل " سنة 1956
====================== 



 



























أفيون

كان الأستاذ علام محررا فى جريدة يومية كبرى من جرائد القاهرة الصباحية .. وكان يراجع الأخبار الداخلية التى ترد من المندوبين فى كل الأنحاء .. ويكتب لها العناوين .. ويبرزها بالحبرين الأسود والأحمر .. ويخرج الصفحة السادسة الخاصة بالأخبار والحوادث وهى أهم صفحة فى الجريدة .. وعليها تتركز أنظار القراء ..
وعندما يجلس إلى مكتبه فى الساعة الخامسة من كل مساء تنقطع صلته بالخارج .. ويعيش فى هذه الدوامة التى لا ترحم .. وعندما ينزل إلى المطبعة فى الساعة الثامنة تكون حواسه كلها قد تجمعت على صفحته وتركزت فيها " لتوضيبها " ودفعها إلى ماكينة الصب فى الميعاد .. ويسمع حركة العمال على ماكينات اللينوتيب .. والأسطوات يزيتون آلات الطباعة الضخمة ويعدونها للدوران .. ومهندس الماكينات هناك يرقب هذا .. وهو يدخن وقد تهيأ للعمل الجدى إلى الصباح ..
وكان علام لا يحس بشىء مما حوله .. فحواسه كلها تتركز على صفحته وحيويته كلها تفنى فيها وتعمل لها .. حتى يفرغ منها ..
*** 
وعندما يخرج من الجريدة فى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحا .. ويركب سيارة إلى بيته فى السكاكينى .. تكون أعصابه قد أرهقت وجسمه قد تحطم من التعب .. فينام كالمخمور إلى الساعة الواحدة بعد الظهر ..
وعندما يتحرك ويفتح عينيه على الحياة من جديد .. يجد الناس جميعا راجعين إلى بيوتهم للراحة .. وفى هذه الساعة يبدأ هو يتحرك ويتهيأ للذهاب إلى الجريدة .. وكان يؤلمه أنه لا يجد الفراغ ليقرأ .. ويعيش الحياة كما يعيشها الناس .. لايجد الفراغ ليأكل هنيئا .. ولا يجد الفراغ لينام مستريحا .. ولا يجد الفراغ حتى للحب الذى من أجله يعيش كل انسان .. وكان بجواره فتاة حلوة .. ولكنه لم يجد الوقت لمغازلتها .. وقد أغلقت فى وجهه النافذة .. بعد أن يئست منه ..
*** 
كان يؤلمه أنه لايعيش كما يعيش الناس .. يقضى الليل فى هذه الخلية الدوارة التى تتحرك بسرعة الآلة .. يقضى الليل وسط الحبر والورق والحروف والرصاص .. وآلات الكبس .. وآلات الطبع .. وفى كل يوم كان يقرر بينه وبين نفسه أن يستقيل .. ولكنه يجد نفسه مسوقا إلى العمل سوقا كأنه مطوق بالحديد .. وعندما يقلق يظهر عليه التعب فيثور .. وتحمر عيناه ويتعارك مع زملائه فى العمل حتى يصل إلى رئيس التحرير .. وكان رئيس التحرير يعرف طباعه فيقابله بابتسامة مشرقة .. ويهدىء من ثورة غضبه .. ولكنه فى أشد حالات غضبه .. كانت الصفحة السادسة تخرج نموذجية وليس فيها خطأ فنى واحد ..
*** 
وكان يعرف أن الصحافة رسالة عظيمة والصحفى الفنان خالق .. ومبدع وأشبه بالرسول .. ويستطيع أن يدك العروش .. ويهز العالم أجمع .. ويكتب التاريخ من جديد .. وهو النور الوحيد الذى يبقى فى الظلام .. عندما تخفت جميع المصابيح وتتحطم .. وهو الكائن المعبر عن وجود الحضارة وتقدم البشرية .. وهو يعرف هذا ولذلك كان يعمل ويضحى بكل شىء ..
ثم وجد نفسه قد أحب فتاة حبا جارفا وتزوج .. وكان يؤلمه أنه يتركها وحدها فى الليل .. ويتعذب لهذا .. ووجد نفسه فى جذب وشد ثم انقطع عن الذهاب إلى الجريدة .. وبعث بالاستقالة .. وعمل فى شركة من الصباح إلى الساعة الواحدة فقط .. وأحس بالراحة والحب .. ولذة النوم والمطالعة كما يشاء الإنسان ويرغب .. دون أن يخضع لقيد الساعة والزمن وسيطرة الآلة .. أحس أنه تحرر .. وذهب بعد ذلك بأيام ليطلب مكافأته ويودع زملاءه فى العمل .. ونزل إلى المطبعة .. ومرت أمامه الصفحة السادسة بعد أن جمعت ووضبت .. وفى أثناء دفعها على العربة إلى المكبس انقلبت على الأرض .. ونظر العمال بعضهم إلى بعض وأصفرت وجوههم .. فقد ضاع مجهود ساعات فى لحظة .. وستتعطل الجريدة ولن تلحق بقطار الصحافة .. وسيثور المدير ورئيس التحرير وكل من فى الدار .. وظل علام ينظر إلى الحروف الملقاة على الأرض .. ويقاوم ما بداخل نفسه من رغبة بكل ما يملك من قوة .. ظل أكثر من ثلاث دقائق لايطرف ولا ينبس .. ومسح العرق المتصبب وقد أخذته الدوامة الكبرى .. ثم تحرك ووقف على الرخامة كعادته دون أن يدرى .. وأخذ يلقى تعليماته إلى العمال .. وكان يحبهم ويحبونه .. وبقوة سحرية جبارة جمعت الصفحة من جديد .. ودخلت ماكينة الصب وتسلل علام وخرج من المطبعة دون أن يحس به إنسان ..
***
وفى اليوم التالى خرج إلى عمله الجديد مبكرا .. وسمع باعة الصحف يصيحون بجرائد الصباح .. الجمهورية .. الأخبار .. وكان اسم جريدته الحبيبة يطن فى أذنه .. وكأنما أراد الباعة اغاظته فعلى صياحهم .. وكان يحاول أن يسد أذنيه .. ولكن هيهات ..
وعندما عاد إلى بيته كان بحالة غير طبيعية .. وأخذ يتعارك مع زوجته .. ويثور لأتفه سبب .. ووجد الجرائد والمجلات موضوعة على نضد فى الغرفة وكأنه يراها لأول مرة .. فصاح فى زوجته بغضب :
ـ مش عاوز الواد دا يجيب جرايد تانى .. مش عاوز ..
*** 
وذات يوم وجد ورقة تركها زميل له فى الجريدة يخبره فيها بأن يمر على الخزينة ليقبض المكافأة .. ووجد نفسه فى المساء يسير فى الشارع الحبيب الذى تسلطت عليه الأنوار من بروج الصحف .. ودخل جريدته .. ولكن بدلا من أن يمر على الخزينة نزل توا إلى المطبعة .. ووقف أمام الرخامة وسمع زملاؤه صوته المألوف :
" يا إبراهيم عبد اللطيف .. يا أديب يا فنان .. فيه خبر حلو علشانك جايزة القصة .. وكتاب جديد لطه حسين .. الساعة بقت كام .. عاوزين نكبس الصفحة .."
*** 
وطلب فنجاله الأول من الشاى .. ولكن عندما جاء به الفراش ووضعه أمامه على الطاولة .. لم يره .. ونسيه تماما .. فقد كان مستغرقا بكليته فى الصفحة السادسة ..
====================== 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 549 بتاريخ 16/6/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " عذارى الليل " سنة 1956
========================


































الباشمهندس

سكان حى عابدين القدامى يعرفون الباشمهندس .. فقد كان سمسار المنازل والغرف المفروشة فى ذلك الحى .. بل أشهر سماسرة المنازل على الاطلاق .. وكان يتخذ له محلا مختارا فى شارع عبد الدايم عند بقال رومى يدعى نيكولا .. يبيع البقول والخمور .. ويتخذ من قبو مظلم فى الدكان شبه حانة ..
وقابلت إبراهيم السمسار لأول مرة منذ عشرين عاما وأنا خارج من عملى .. وكان جالسا عند نيكولا على كرسى قديم فى واجهة المحل .. يرتدى جاكتة بنية مقطوعة عند الكوع الأيمن .. وتحتها جلباب أبيض بخطوط سوداء رفيعة ويضع على رأسه طربوشا قصيرا ذيل بالعرق وامتص من غبار الطريق .. وحذاؤه أصفر وليس فيه خروق تخرج منها أصابعه  ولكنه تركه من غير رباط .. لأنه كان يخلع نعليه وهو جالس على الكرسى بعد أن يعود من المشوار ..
وكان أبيض مستطيل الوجه أحمر الشعر أخضر العينين .. ولعله من أصل شركسى .. فلم تكن لهجته فى الحديث عربية .. وكان يعرف القراءة والكتابة ويدون فى دفتر صغير مواعيد الزبائن ويخص لكل زبون صفحة ..
وعندما قابلته وعرف مطلبى كتب اسمى فى الصفحة السابعة عشرة .. وكان يظننى طالبا ولذلك كتبه مجردا من كل لقب .. فلما عرف أننى موظف فى أكبر بنوك المدينة .. أضاف لقب بك بخط كبير .. وكان أمينا دقيقا فى عمله .. فما يتخلف عن ميعاد قط .. على الرغم من أنه سكير مدمن .. وكان يعرف أكرم الأسر الافرنجية التى تؤجر غرفة واحدة من سكنها لتستعين بايجارها على مواجهة الحياة .. ولهذا عرفته .. فقد كنت أحب أن أقيم مع تلك الأسر الطيبة فى هدوء واطمئنان ..
وكان يخرج بى أحيانا من منطقة عابدين إلى حى سليمان باشا فقد أجر لى غرفة عند سيدة ايطالية بدينة فى شارع النمر .. وأسكننى مرة أخرى فى قصر النيل عند أرملة يونانية .. فلما قلت له أننى سأتركها فى نهاية الشهر لأنها تلعب القمار فى شقتها .. ذهل وظل يلعنها ساعة .. وقال لى أنه لن يذهب إليها بعد ذلك بأى إنسان ..
وكان مستقيما لا يحب المجون .. ويحب أن يكون عملاؤه من طرازه وكان يعجب من كثرة تنقلى من غرفة إلى غرفة .. ومع ذلك فما كان يتذمر وهو يصعد بى مئات الدرجات إلى الطوابق العليا .. ويتنقل من شارع إلى شارع .. ويظل يدور فى الحى ثلاث ساعات أو أربع .. دون أن يظهر عليه التعب .. مع أنه قد جاوز الخمسين .. فإذا عدنا إلى المكان الذى تحركنا منه .. اندفع إلى داخل البقالة كالقذيفة ليشرب كأسين .. ويخرج وعيناه تلمعان .. ووجهه ينضح بالعرق ..
وكان نيقولا البقال لا يطمئن إلىّ ويخشى أن يقدم كاسات الخمر أمامى لمن يشربون عنده خلسة .. فلما اشتريت منه زجاجات الجعة .. وطمأنه إبراهيم .. كان يجلسنى مع زبائنه المختارين فى داخل المحل .. ويقدم إلى ثلاثة أو أربعة من الزبائن يترددون عليه يوميا فى فترة الغداء .. أردأ أنواع الكونياك .. والنبيذ .. والزبيب .. ويتركهم يعبثون فى الجبنة الرومى والزيتون .. وبرميل الطرشى .. وهم واقفون حول طاولة المحل .. كان منهم موظف فى وزارة الأوقاف فى قسم الاعانات الخيرية .. ثم شخص نحيل قصير يبيع الكتب القديمة فى قلب القاهرة .. ويسكر بثمنها ..
وكان يتردد على البقال ثلاثة أو اربعة من حوذية العربات الكارو التى تقف فى شارع قولة .. يدخل الواحد منهم بجلبابه الأزرق وقامته الضخمة .. ويقف بجانب الطاولة دون أن ينبث بشفة .. ويضع له نيكولا الكأس .. متخفيا وراء البرميل فيرفعه إلى فمه مرة واحدة ويمسح شفتيه بظهر يده .. ويخرج ليجلس فى الظل على ناصية حارة البلانسة .. حيث يتجمع سرب من النساء فى العصر لملء صفائح الماء من الحنفية العمومية ..
وكان الأطفال يقفزون حول الحنفية كالكتاكيت .. وكان معظم النساء دميمات سمينات يظهر الفقر بوضوح على ملابسهن الرخيصة ووجوهن الباهتة ..
وكن كثيرا ما يتعاركن .. ويتدخل الحوذية فى فض المعركة .. أو يشتركن فيها .. وكنت أسمع فى كثير من الحالات الزعيق والصراخ يصم الآذان .. ولا أرى أية معركة حقيقية ..
***
ولم يكن ابراهيم السمسار .. يتخلف عن البقال أو يختفى من الحى .. فى أى يوم .. وعلى الرغم من أنه سكير فإنه كان يأتى حتى فى حالات مرضه .. وكان يقول لى إذا لم أعمل فمن الذى يطعمنى ويطعم فراخى .. لا شك أننا سنتسول جميعا ..
وقد استمرت معرفتى به أكثر من سبع سنوات .. وما رأيته متكاسلا وكنت أعطيه من النقود ما يطلب .. وكان يرضى بالقليل .. وكنت أعرف أنه يسكن فى حجرة فى حارة الشيخ عبد الله .. ولكننى لم أكن أعرف فى أى منزل فى الحارة تقع هذه الحجرة .. ولم يكن هناك موجب لمعرفتها لأننى كنت أجده عند البقال كلما طلبته ..
*** 
وأسكننى فى آخر جولة له عند سيدة سويسرية .. كانت تشتغل ممرضه خصوصية .. وتقيم فى حى قصر النيل .. فى بيت مكون من ثلاث غرف .. وهى فى الرابعة أو الخامسة والثلاثين من عمرها .. ولا تمكث فى مسكنها إلا قليلا .. فقد كان معظم عملها فى الخارج .. وكانت أحيانا تغيب عن البيت أسبوعا بطوله ..
وفى هذا البيت حططت ترحالى أخيرا .. وشعرت بالاستقرار .. بعد طول تنقلى من مسكن إلى مسكن .. وأصبحت لا أرى إبراهيم السمسار إلا نادرا .. وكان إذا احتاج إلى بعض النقود .. يجيئنى فى مسكنى .. أو فى محل عملى .. فقد غدا لطول عشرته لى واخلاصه الشديد من أحسن أصدقائى ..
وكان يعرف أننى استرحت .. عند هذه السيدة السويسرية .. فيقول وهو يبتسم :
ـ الحمد لله .. استرحنا من طلوع السلالم ..
وكانت هذه السيدة .. نظيفة متأنقة فى مسكنها وملبسها .. وتبذل أقصى الجهد لراحتى .. وتركت لى التليفون ومكتبها الصغير ورفعت كل ما بينى وبينها من كلفة فى الحديث .. وأصبحت تنادينى باسمى المجرد وكنت أراها رائحة وغادية أمامى فى قميص النوم .. ومع ذلك فلم أكن أشعر نحوها بأية عاطفة لأنها مع جمالها كانت باردة كالثلج ..
ودخلت غرفتى ذات يوم .. لتقول لى :
ـ إن سيدة تريدك ..
فنظرت إليها مستغربا .. وسألتها :
ـ أين ..؟
ـ على الباب الخارجى ..
وخرجت مهرولا .. فوجدت فتاة ترتدى ملاءة سوداء وقدمت لى ورقة فى استحياء ..
وقرأت الورقة .. وكانت من ابراهيم السمسار يقول فيها أنه مريض جدا وأنه أرسل لى ابنته لأعطيها بعض النقود لسوء حالته ..
وسألتها :
ـ أبوك .. تعبان ..؟
ـ خالص ..
ـ دقيقة واحدة .. لغاية ما البس .. لازم أشوفه ..
ولبست مسرعا .. وتقدمت أمامى لترينى البيت ..
وسألتها :
ـ ومين معاه دلوقت ..؟
ـ مفيش حد ..
ـ وأمك ..؟
ـ ماتت من زمان .. وأبوى ما تجوزش تانى ..
ـ مفيش غيرك ..؟
ـ مافيش غيرى .. أنا اللى باخدمه ..
*** 
ومشت أمامى فى الحارة .. وابتدأت أشم رائحة القمامة والماء القذر الملقى بجانب الجدران .. وشعرت بالغثيان .. ولكننى تابعت السير وراء الفتاة .. فقد كانت وادعة ذليلة .. يبدو البؤس والفقر الأسود من مشيتها وحركتها .. وقد أدركت الآن أن هذا الرجل .. هذا السمسار السكير كان يعيش فقط ليطعم هذه ويكسوها .. وكان يشتغل حتى وهو مريض لهذه .. فلم يكن له غرض آخر فى الحياة ..
ووقفت أمام بيت قديم من ثلاث طوابق .. وقالت :
ـ اتفضل ..
ودخلت وراءها إلى فناء البيت .. ومشت إلى حجرة على يمين الداخل .. وفتحت الباب .. ووجدت إبراهيم ممددا هناك فى زاوية من الحجرة على طريحة بالية .. وكانت النافذة الوحيدة المطلة على الفناء مغلقة .. ولذلك تبينت وجهه بعد جهد ..
وسلمت عليه .. وشكرنى بصوت ضعيف .. وقلت له :
ـ حاسس بإيه ..؟
ـ مش عارف والله ياسى عبد الرحمن .. همدان خالص .. وبالليل باشعر بسخونة شديدة .. أنا حاسس مفيش فايدة المرة دى .. وأترك لك أمينة المسكينة .. مالهاش حد بعد ربنا .. غيرك ..
وكانت أمينة واقفة فى ركن من الحجرة .. تنظر إلى أبيها وفى عينيها الأسى الصامت .. وأخذت أفكر فى الذى أفعله لهذا الرجل المسكين .. ورأيت أن أذهب إلى أقرب طبيب .. وحينما هممت بالذهاب .. سمعت طرقا شديدا على النافذة .. وصوت أنثى تزعق :
ـ أنت يا بنت يا أمينة ..
واحمر وجه أمينة وأسرعت إلى الخارج .. وسمعت الصوت الحاد يردد :
ـ فين الإيجار ..؟
وهمس إبراهيم وهو يدور بعينيه فى ألم :
ـ مين يا بنت ..؟
ـ .....
ـ مش قادرة .. تستنى لغاية ماتحرك ..
واشتد زعيق المرأة دون أن يرد عليها أحد .. ثم ذهبت .. وخرجت إلى الطبيب .. وجاء وهو يتأفف .. ونظر إلى المريض من بعيد .. ثم قال لى إن حالته ميئوس منها .. والأحسن أن أحاول نقله إلى المستشفى وكتب له دواء .. فخرجت معه لاحضاره من الصيدلية ..
ولم أستطع نقله إلى أى مستشفى مجانى .. فقد رفضه الجميع .. بحجة أنه لا توجد أمكنة .. وصاحبة البيت تطالبهم بايجار الحجرة وتهددهم بالطرد فى كل ساعة .. والمريض قد اشتد عليه المرض .. وأصبح مذهولا لايحس بشىء مما يجرى حوله .. ووقعت الصاعقة كلها على رأس الفتاة المسكينة .. التى لم يكن لها أحد فى هذه المدينة الكبيرة .. سوى والدها .. حتى مرض وعجز عن الكسب .. وتركها الآن لقسوة الحياة ..
وكنت أعود المريض كل يومين أو ثلاثة .. وأرى حالته تزداد سوءا وأسمع عراك صاحبة البيت وتهديدها بالطرد .. وأمينة تقابل هذا كله بالبكاء الصامت ..
*** 
وذات مساء رأيت وأنا داخل عفش الحجرة ملقى فى فناء البيت .. وتركت صاحبة البيت للمريض الحشية التى ينام عليها فقط وأخرجت الباقى .. ولم يكن المريض يقوى على الحركة .. وقد ذهل عن كل شىء حوله .. وكانت أمينة تعول .. وعندما رأتنى صمتت ..
ورأيت أن استدين مبلغا صغيرا لأدفع لهذه المرأة الشرسة الإيجار .. وخرجت لأبحث عن النقود .. وعندما عدت فى الليل .. كان إبراهيم قد انتهى .. ودفناه فى الصباح .. وكانت جنازته فقيرة بائسة مثله ..
وفى أول الشهر أعطيت أمينة بعض النقود .. لتدفع منها أجرة الحجرة وطلبت منها أن تأتى إلى بيتى كلما احتاجت إلى شىء .. ورأيت أن أبحث لها عن عمل كفراشة فى أية مدرسة للبنات ..
وجاءتنى بعد أسبوعين .. وفتحت لها السيدة السويسرية الباب .. وأدخلتها فى الصالة .. وأخذت أحادثها بعطف .. والسيدة جالسة معنا ثم أعطيتها بعض النقود .. لتعيش منها إلى أن أعثر لها على عمل ..
وجاءت بعد ذلك بأيام وقالت لى السيدة السويسرية بعد أن فتحت لها الباب وانتحت بى جانبا :
ـ ولماذا لا تجعلها تقيم هنا حتى تجد لها عملا .. أنت حتقعد تكد عليها ..
ورأيت أن الفكرة حسنة .. فبعنا عفشها وحملت ملابسها .. وجاءت لتقيم عندى ..
ورتبت لها السيدة أريكة لتنام عليها فى غرفة المائدة .. وغيرت ملابسها .. وبدت أنيقة جميلة كالعروس .. كانت تبقى فى الشقة دائما ولا تبرخها إلا مع السيدة فى يوم الأحد .. وبعد شهر أصبحت كواحدة منا .. ولم تكن تفعل لى شيئا أكثر من غسل ملابسى .. وإعداد فنجان الشاى فى الصباح .. فإنها لم تكن تعرف الطهى .. وكانت السيدة تجىء لها بالطعام من الخارج .. وكنت أود أن أدفع لهذه السويسرية أكثر من الجنيهين اللذين أدفعهما لإيجار الغرفة نظير طعام الفتاة ..
فكانت تقول لى :
ـ وكيف تعيش .. أنا أعرف أن ماهيتك صغيرة .. بس عجل وابحث لها عن عمل ..
وأخذت أبحث .. ومرت الأيام .. وازداد عطفى لها .. وكانت السيدة السويسرية ترانى أضحك مع الفتاة وأمازحها .. وأحاول أن أمسح أحزان قلبها .. وكنا نخرج فى مساء الجمعة نحن الثلاثة إلى سينما صيفية قريبة .. وكانت السيدة السويسرية تحاول دائما أن تجلس على الكرسى الملاصق لى .. ولكننى كنت أجلس أمينة بجوارها .. وأجلس أنا بعيدا .. وكنت ألاحظ امتعاضها ..
وكلما مرت الأيام ازداد عطفى على الفتاة وكانت براعمها تتفتح أمامى كزهرة الصباح الجميلة .. وتغيرت بعد أن شبعت .. وأصبحت أنثى ناضجة .. وكانت تضحك من كل قلبها .. وهى تقلد المدام فى حديثها معى بالفرنسية .. وكنت أعيش مع هاتين المرأتين .. قانعا بالحديث .. والمتعة الروحية .. ولذة من يرعى يتيمة مسكينة ويدفعها فى أمان إلى طريق الحياة .. وعلى الرغم من أن السويسرية كانت تخرج أمامى من الحمام بالروب المفتوح .. فإننى ما اشتهيتها أبدا ..
***
وسررت عندما ألحقت أمينة بالعمل فى مدرسة للبنات لأننى كنت أخاف عليها من مكوثها طول اليوم فى المنزل وحدها ..
*** 
ومرت الشهور ونحن سعداء .. كانت تجىء فى العصر وأفتح لها الباب .. فتنظف البيت مرة أخرى وراء المدام .. فقد تعلمت منها النظافة الجنونية .. وتغسل لى ما اتسخ من ملابسى ومناديلى .. وتصنع لى فنجانا من القهوة ..
وكنت أسألها :
ـ مبسوطة يا أمينة فى المدرسة ..؟
ـ خالص .. الست سميرة .. إنسانة .. وحلوة والنبى .. وليه ما تتجوزهاش ..؟
وكنت أضحك لهذه البساطة ..
ـ وهل قالت لك أنها عايزة عريس ..؟
ـ طبعا .. أمال عايزة إيه فى الدنيا .. غير العريس ..
ـ عقبال عريسك ..
واحمر وجهها وتركتنى ودخلت المطبخ ..
*** 
وفى الليالى التى كانت تعود فيها الممرضة السويسرية من عملها مبكرة .. كنت أترك أمينة معها وأخرج لأجلس مع بعض أصحابى فى المقهى .. وأعود فى ساعة متأخرة من الليل .. فأجد الممرضة ساهرة فى الصالة .. وتقول لى :
ـ وليه السهر .. وأنت بتصحى بدرى ..؟
ـ كنت فى السينما ..
ـ فيه سينمات لغاية دلوقت ..؟ دى الساعة واحدة ..
وكان من عادتها إذا عدت من سهرتى فى الخارج .. وكانت ساهرة أن تدخل غرفتى قبلى .. لترتيب السرير .. وتحمل لى دورقا من الماء المثلج .. ثم تقف تتحدث معى دقيقة أو دقيقتين .. بصوتها الناعم الخافت .. وابتسامتها الرقيقة التى اكتسبتها بحكم عملها كممرضة .. وعندما أشرع فى خلع ملابسى .. كانت تتركنى .. ثم تعود لتستأنف الحديث .. ولتطفىء نور الغرفة إذا سهوت وتركته مضاء ..
ولم تكن تخجل إذا رأتنى فى الصباح وأنا عارى الصدر أقوم ببعض التمرينات الرياضية وكانت تنظر إلى هذا كشىء طبيعى ..
وكنت أود بعد أن اشتغلت أمينة أن أسكنها عند أرملة أعرفها فى حى الحلمية الجديدة لتعيش مع بناتها .. ولكن السويسرية رفضت .. وقالت لى :
ـ ليه .. هى مضايقانى فى إيه .. دى بالعكس مساعدانى خالص فى تنظيف البيت .. خليها والسنة الجاية أنا مسافرة سويسرا ومش راجعة تانى .. حنبقى نفارق بعض طبيعى .. 
ولم أقل شيئا .. وهكذا عاشت أمينة معنا .. وكان السكان جميعا يتصورون أنها خادمة عند السويسرية .. وتركت الأيام تجرى ..
***
وعدت ذات ليلة فى الساعة العاشرة مساء .. فلم أجدهما .. فتصورت أنهما ذهبتا إلى السينما .. ولما عادتا سألت الممرضة فقالت :
ـ كان فيه حالة مستعجلة .. وخدت أمينة معاى ..
ـ وضرورى تخديها معاك ..
ـ إيه .. أنت بتغير عليها ولا إيه ..؟
وضحكت فى تدلل .. وأظهرت اشمئزازى من هذا السخف .. فدخلت غرفتى .. وتركتهما .. وسمعت بعد دقيقة ضحكا عاليا ..
ثم تكرر غياب أمينة مع الممرضة .. كانت تخرج بها .. وقد البستها أحسن فساتينها .. وأنقتها وعطرتها ..
وتأخرتا ذات ليلة .. وغلبنى النوم قبل أن تعودا .. ولما استيقظت فى الصباح نهرت أمينة حتى بكت ومنعتها من الخروج كلية فى الليل والنهار ..
*** 
استيقظت صباح يوم من أيام الجمعة متأخرا .. وكانت أمينة تقدم لى شاى الصباح .. ولكنها لم تأت .. فتحركت من الغرفة بعد أن سمعت بكاء ينبعث من غرفتها ..
ولما ذهبت إلى هناك .. كانت منبطحة على الأريكة تتقيأ .. والممرضة واقفة بجوارها .. تحادثها .. بصوت خافت .. وكان وجهها أصفر وعيناها فى لون الدم .. ولما أحست بى الممرضة .. سألتها :
ـ فيه إيه .. أكلت حاجة ..؟
ـ أبدا ..
 أكلملها الدكتور ..؟
فوضعت يدها على ذراعى وسحبتنى إلى خارج الغرفة ..
وقالت وهى تهمس وعلى فمها ابتسامة صفراء :
ـ دى حاجات نسائية .. متفهمهاش أنت .. لأنك غير متزوج ..
ـ ماذا تعنين ..؟
 ـ أنها حبلى ..
وكأنما لدغتنى عقرب .. فأمسكت بذراعيها وقلت لها بصوت يرعد وأنا أهزها بعنف :
ـ ومن الذى فعل فيها هذا .. أنت مجرمة .. إنها يتيمة مسكينة وأنت تعرفين هذا .. فلماذا فعلت هذا ..؟
ـ أنت المجرم ..
وضغطت عليها .. فقالت بانفعال :
ـ لى سنتان معك .. فى بيت واحد فهل أحسست بوجودى .. وشعرت بى .. وأنا أفعل كل شىء لارضائك .. وعندما جاءت تحولت إليها ..
ـ إنك حمقاء .. إنها أمانة فى عنقى .. وأعاملها كأخت ..
ـ تزوجها الآن .. أو استدع الطبيب ليجهضها ..
ـ وهل هذا هو انتقامك ..؟
ـ إنه أحسن انتقام .. أننى أشعر بلذة لا حد لها .. عندما أعرف وقع هذا الخبر عليك .. وأعرف عذابك ..
واشتد ضغطى على عنقها واشتد صراخها .. وفى خلال ذلك سمعت نافذة الشرفة فى غرفة أمينة تفتح وجسما ثقيلا يسقط على الأرض ..
======================= 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بتاريخ 22/8/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " عذارى الليل " سنة 1956
=======================

  












اسم القصة                       رقم الصفحة 
ليلة فى بوخارست     .............   2
حارس المحطة     ..............     12
النار  .............................   18
صراع مع الشر  ..................   23
فاعل خير ........................    28
العذراء والليل         ...........    30
شكوى إلى السماء.......     ......  38
دارلنج  ......................        46
العزبة الجديدة  ...................   49
ذكريات من الدانوب ...............   59
سوق السبت    ..................    62
   السفينة  ........................  67
الغريق    .......................... 76
الخنزير  ............................ 81
دروس خصوصية  .................  88
صرخة فى الليل   ..................  95
لاتباع ( المصراع الأيسر )  ........  99
رسالة من الميدان  ................  108
ليلة فى الصحراء    .... ............112  
أفيون   ............................. 124
الباشمهندس     ..............       128







 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق