السبت، 11 أبريل 2015

قصة رجل للأديب المصرى الراحل محمود البدوى




رجل

                           Agricolae Vinum Vetus Habeـ
ـ من الذى يدرس لك اللاتينى ..؟
ـ مستر هنتر ..
ـ واليونانى ..؟
ـ رايت ..
ـ إجبارى ..؟
ـ لا .. اختيارى ..
ـ قلت لك ألف مرة إن من الخير لك دراسة الحقوق ، ما الذى ستستفيده وتفيده من الآداب وكلية الآداب فى هذا البلد ..؟
واستاءت حكمت من زوجها أشد الاستياء ، وقد كان دائما يلوم أخاه على التحاقه بالآداب ويؤنبه فى كل حين ، وكانت تعرف أن حسنى شديد الحساسية يتأثر من أتفه الأشياء ، فرمت زوجها بنظرة حادة فصمت ، ورأت أن تغير مجرى الحديث بلباقة فقالت :
-      أستاذ ..! أجئت بالتذكرة ..؟
تعنى تذكرة حفلة المعهد الموسيقى الخاصة بالسيدات ..
فرفع حسنى وجهه عن كتابه ، وكان قد أطرق بعد تعنيف أخيه وتقبضت سحنته ، وقال وهو يحاول بجهد أن يرسم بسمة ولو خفيفة على شفتيه :
ـ سأجئ بها الليلة ..
فقال أخوه :
    ـ وهل تظن أنك تستطيع الجمع بين الجامعة والموسيقى ..؟
-      ولم لا ..؟
- عندى أنك لا تستطيع .. فالدراسة هنا تختلف عن الدراسة الثانوية التى تعرفها .. فالأحسن أن تضع الموسيقى جانبا ، وتعنى بدروسك الجامعية ويكفى ما أضعته من سنين فيما لا يجدى ..
فتميزت حكمت حنقا ، ما الذى جرى لزوجها اليوم حتى يتحامل على أخيه هكذا ..؟ فهو وإن كان أخاه الأكبر ويقوم منه مقام الأب ، ولكن حسنى أشرف على العشرين ، وأصبح له رأيه الخاص فى شئون حياته ودراسته ، والدراسة ميول ورغبات قبل ان تكون فائدة واستفادة وخيرا يرجى ونفعا ماديا يتطلب ، ورمقت حسنى بعطف ، وقد وجم وتقبض وأخذ يفور داخل نفسه ويغلى ، ولما انصرف زوجها إلى مخدعه ليستريح بعد الغذاء ، بقيت معه تحادثه وتلاطفه ، فما تحب أن تدعه وحيدًا ساعة شجنه ..
وبدأت تسأله فى رقة :
-      ما الذى ستعزفه غدا ..؟
     ـ بشرف عثمان بك .. وسماعى نهاوند .. وقطع وصفية ..
ـ وحدك ..؟
وقد مدت عنقها نحوه باسمة وما كانت تتصوره إلا رجل الفن ..
ـ لا .. طبعا مع الفرقة ..
وأخذت تجاذبه أطراف الحديث حتى سرى عنه ، ولما حانت ساعة التمرين فى المعهد ، بارح المنزل ..
***
-      دودييز .. مى صول .. مى صول ..
-      .....
-      دودييز ..
بعنف وغضب ..
فوضعت حكمت يدها على حافة البيان وكفت عن العزف ونظرت إلى حسنى باسمة وقالت بهدوء :
-       أكان أستاذك يعلمك بمثل هذه القسوة ..؟
-       وأشد من ذلك ..
وقد ابتسم رغم أنفه وأردف :
-       أعيدى القطعة مرة أخرى ..
على أنها كررت نفس الغلطة ، فكبح جماح نفسه ، ونهض عن كرسيه ووقف بجانبها ، وطلب منها قراءة النوتة ..
فصمتت .. ثم قرأت فى صوت خافت متقطع .. وغلطت مرتين ..!
ـ والآن اعزفى ..
فابتدأت أناملها اللينة تتحرك على البيان ، ولكن بحركة عصبية بادية ، فلقد كان دائما يثير أعصابها وما تدرى لذلك سببا ، وكان قد قرب منها حتى وقف عند رأسها وكاد يلاصقها وعينه إلى النوتة ، فإذا أخطأت أرجعها ، فكانت ترجع وهى مغيظة حانقة !.. ومدت يدها إلى شعرها الذى سقط على جبينها فدفعته إلى الوراء ، فتحول عن النوتة على حركة يدها واستقر وجهه على رأسها ، وكانت ترتدى رداء ورديا لف جسمها وأبرز تقاطيعه وبان منه جيدها ونحرها ، فعلق بصره بعنقها ثم خفضه إلى ظهرها ، وكانت العروة واسعة فظهرت بشرتها الناصعة مشربة بحمرة الدم الجارى فى عروقها ، فأحس باضطراب دمه فجأة ، وبقى وجهه مستقرا على جسمها بشراهة ، وقد تبين تكوينه وتناسقه ومبلغ فتنته ، وما نظر قبل اليوم إلى هذا الجسم أبدا ، إنه كان يمضى معها الوقت محدثا ضاحكا ، على أنه ما كان يعير باله لجسمها مطلقا ، ولكنه الآن أحس بإحساس آخر ، وشعر بشعور جديد ، وأشرف على دنيا أخرى ، فوقف فى مكانه شاردا وقد بدات ضربات قلبه تشتد وأنفاسه تتلاحق وعيناه تدور ، وكانت قد أحست ، بغريزتها ، حاله ، فأخذت يداها تتحركان على البيان فى حركة آلية رتيبة ، وقد ارتعش جسمها كله .. على أن حركة يديها على البيان ورجليها على مزودات الصوت خففا من وطأة الأمر على نفسها ، بيد أنها أحست بعد أن صافحت وجهها أنفاسه ، وهو مائل بوجهه على النوتة ، أن ضربات قلبها ستمزق صدرها لو استمرت على ذلك دقيقة أخرى ، وكان قد جمد فى ذلك الوقت واستحال تمثالا ، فاختفت النوتة عن بصره ، وتراقصت الصور على الحائط وغام كل شيء أمام عينيه .. وأخذت يداها تفتر عن التوقيع تدريجيا .. وأن البيان أنه احتضار .. وكفت عن العزف ..
ـ دو دييز .. دو دييز ..
وضرب بجمع يده على البيان فجلجل ..
وأعادها الصوت الحاد لصوابها ..
وبارح الغرفة يهرول كالمخبول .. فدفنت وجهها فى البيان وأخذت تبكى بكاء مخنوقا ..
***
       خرجت حكمت أثناء فترة الاستراحة تبحث عن حسنى لتهنئه من كل قلبها ، فلقد عزف مع الفرقة قطعتين رائعتين تصورت فى خلالهما أن كمانه وحده الذى يشدو ويغرد فوجدته واقفا فى الممر يتحدث مع بعض السيدات وعلى وجهه آيات البشر والمرح ، فوقفت ترقبه من بعيد وهو يتحدث فى هدوء واتزان على عادته ، حتى شعرت بضربات قلبها تشتد وساورها إحساس لم تسترح معه إلى وجوده مع هاته النسوة ، هل هو إحساس الغيرة ..؟ وعجبت لنفسها أتغار على حسنى ..؟ إنه كثيرًا ما حدثها عن سيدات وأطرى فيهن ومدح ، ونعت بعضهن بالجمال والفتنة والسحر ، فما أحست بالغيرة ولا شعرت بالاستياء ، بل على العكس من ذلك كان الحديث يشوقها وكانت تحب دائما أن تسمع رأيه فى المرأة !.. فما الذى اعتراها الآن ..؟ تدافعت ضربات قلبها واشتد وهو منصرف عنها إلى النسوة ، لقد جاء بها إلى الحفلة ليدعها وحيدة وسط هذا الجمع الثرثار ، ليس عندها أعصاب تحتمل كل هذه الثرثرة .. وكان لا يزال مقبلا على النسوة ومدبرا عنها ، فتحولت بوجهها قليلا فعل الذى استاء ، على أنها أخذت تسارقه الطرف ، وكان قد لمحها فاستأذن ولحق بها فسرها هذا جدا وصافحته بحرارة ..
-       لم يبق ما أشترك فيه .. الأوفق أن نتروح ..
-       كما تحب ..
فانطلقا إلى البيت ..
ونزلا من الترام عند الشارع الموصل للمنزل ، وكان فى طرف مصر الجديدة يلاصق الصحراء وينعزل عما يجاوره من أبنية ، والليلة مقمرة ، والجو ساج ، والسماء صافية ، والطبيعة ضاحكة ، فاستراحا لمنظر السماء وسكون الصحراء وهدوء الليل ، وأحست لأول مرة وهى تماشيه بإحساس لم يعترها مطلقا ، وهى التى ترافقه دائما إلى السينما وحفلات التمثيل وعند شراء حاجاتها ، لأنها تشعر معه بالحرية التى تشعر بها الأخت مع أخيها الأصغر – فقد كانا متقاربين فى السن – ولذا كانت تفضل مصاحبته على زوجها الذى يكتم أنفاسها فى الطريق ..!! فكلما رآها تتباطأ فى سيرها وهى تقطع الميادين أو تتمهل عند ركوب الترام ، رماها بنظرة قاسية تجفل لها وترتاع وينخلع قلبها وترجع للمنزل ساخطة ناقمة تقول فى سرها " يظن الناس جميعا عمالقة مثله يقطعون الشارع فى خطوة ..! " أما حسنى فرقيق لين كثير الصبر والأناة ، يصحبها إلى شيكوريل ، ويراها وهى تقلب نظرها فى القبعات وهى حيرى بين أيها أجمل ..
ـ حسنى .. دى كويسه ..؟
ـ جدا .. لون أزرق جميل يناسب بشرتك وشعرك ..
فترمقه بعين ناعسة وتضعها على رأسها ، وخدها يرف بلون الأرجوان .. ثم تلقيها على الخوان وتقف لحظة مفكرة .. وتعود إلى غيرها من القبعات ..
ـ ولكن هذا صنف أحسن يا حسنى ..؟
ـ عندك حق ..
ـ ولكن ثوبى السنجابى يناسب هذه ..؟
ـ خذيها إذا ..
فتتناولها وتقلبها بين يديها ثم تضعها .. ثم تبتاعها أخيرًا ..
وهو يرقبها باسما ..
وعندما يبلغان المنزل وقبل أن تغير ملابسها :
ـ حسنى .. القبعة رديئة النوع ..
مع بعض الخجل ..
    فيعلم أنها كانت تفكر فى مصير القبعة المسكينة طول الطريق ..!
ـ صحيح  ..؟ سأغيرها لك ..
ـ لا .. سأروح معك .. العصر ..
ـ طيب ..
وهو يكاد يرقص من الضحك ..
لقد كان يطاوعها دائما فى كل شيء ، ومن هنا كانت تحب أن تصحبه فى كل ما يعن لها من شئون ، وهى تشعر أبدا أنها ترافق أخاها ، ولكنها أحست الآن وهما عائدان للمنزل ، بإحساس لم تستطع أن تتبين كنهه بالدقة ، فجفلت من نظراته إليها وارتاعت ، وشعرت لأول مرة بسلطانه عليها وسطوته ونفوذه وغلبته ، وهما وحيدان فى غمرة الليل ..
وعلى حافة الصحراء الموحشة .. أخذت تحس بأنه أقوى منها ، وكان من قبل ندها وقرينها .. أحست برجولته لأول مرة فى حياتها وكادت تلمسها .. لقد بدأت تشعر لأول مرة ، بعد ثلاث سنوات ، أنها تماشى رجلا .. ورجلا غريبا عنها ، فارتاعت وأسرعت فى مشيتها حتى بلغا المنزل صامتين ..
شعرت حكمت بعد هذه الليلة أنها لا تستطيع أن تجلس منعزلة مع حسنى كما كانت تفعل ذلك من قبل بكل بساطة ، فإذا اضطرت للجلوس معه لتقرأ وتتحدث ودخل عليهما زوجها احمر وجهها خجلا واضطربت .. ما معنى هذا ..؟ كانت ترى أنها ترتكب شيئا لا يليق ، كانت تشعر أنها ترتكب جرما لا يغتفر ، فكانت إذا أحست بحركة مفتاح زوجها فى الباب ، قامت بدافع باطنى مبهم ومشت خلسة إلى المطبخ .. إنها لا تود أن يراها جالسة معه وقد بدأت تقرأ فى نظراته معانى التقريع والتأنيب والزجر – مع أن نظرات الرجل لم تتغير – أخذت تشعر بأنها بدأت تقوض عش الزوجية الهنى ، تقطع حبل الزوجية الممدود ..
كانت تستيقظ مبكرة وأول ما يلاقيها وجه حسنى وهو يروح ويجئ فى البهو وبيده كتاب ، فإذا بصر بها توقف عن القراءة وحياها باسما ، كان دائما يبش فى وجهها ويلاقيها ووجهه فائض بالبشر وعينه لامعة ، على أن هذا كله عطف الأخ على أخيه وحنان الأخ على أخيه ، بيد أنها أدركت الآن أن الابتسامة التى ترسم على شفته عندما يقع بصره عليها لها معنى آخر غير المعنى الأخوى والعطف الأخوى .. فبريق العينين عند اللقاء ورجفة الشفة عند الكلام ، وتهدج الصوت فى خلال الحديث ، واختلاج العضلات ساعة الدرس ، تعبر هذه كلها عن معنى آخر ، معنى تفهمه حكمت كل الفهم ولكنها تغالط .. تغالط مكرهة وتصرفه عن ذهنها ..
لقد وضح فى نظرها مركز الغلام وتحدد موقفه بالدقة ، فهو دخيل ، لا أكثر ولا أقل ، عليه أن يبعد عن العش الزوجى والمسكن الزوجى بسلام يجب عليه أن يتركها مع زوجها ، حياتها وسعادتها ومنى نفسها ، زوجها المحامى البارع الذى قضت معه خمسة أعوام من عمرها وهى أسعد زوجة ، عطف ورجولة وإشباع ، فما الذى توده بعد ذلك ..؟ لا شيء ..! هذا الفتى لا تستطيع أن تصمد أمام نظراته التى تنفذ إلى أعمق أعماقها ، وتستقر فى سويدائها ، وتهزها فى طياتها ، هذه النظرات التائهة الشاردة ، تبحث دائما عن شيء فى أعماق نفسها ، موجهة دائما إلى خباياها لتسبر أغوارها .. إنه يعرف ، ولا أحد غيره يعرف ، دخيلة نفسها ، دائما يقرأ خواطرها ، يعرف سرها ، يعرف ما يدور بخلدها وما يجيش بين ضلوعها وما يتحدث به قلبها ، بيد أنه يطوى نفسه بين جنبيه ويصمت ، ويقف على بابها يحرن .. لا .. لا .. لابد وأن تباعد الشقة وتغير السبيل ، ولابد وأن تجعله يحس أن الشقة طويلة شاقة والطريق عسير ..
لقد انقلب الغلام الغر فى نظرها رجلا بين يوم وليلة .. ووقف الرجل على باب المرأة يتردد ، ولكنها ليست المرأة التى يقف على بابها .. لا .. لا .. نظراته التائهة الشاردة تبحث عن شيء فى أعماقها ، صوته المتهدج يحتاج لمجاوبة صوتها ليصفو ، شفته المختلجة تبحث عن شفتها لتستقر ، جسمه الملتهب يتعطش .. لا .. اهتز عودها اللين لهذه الخواطر وأرجف .
لابد أن تباعد الشقة وتغير السبيل ، إنه دائما صامت يفكر ليفكر فيها ، وساهم ليحلم بها ، وقارئ مستغرق ليقرأ خواطرها ، وعازف على الكمان ليناديها ..
ولكنها لن تلبى النداء ..!
***
ولما رجع من المعهد فى الساعة السابعة ، جلس فى شرفة غرفته يطالع ، وكانت جالسة فى غرفتها تحيك بعض الملابس الصوفية فبصرت به لما دخل ورأته وهو جالس فى الشرفة ، ولكنها عزمت على أن تدعه وحيدا وأن تتحاشى منذ اليوم الجلوس معه وحدها ، فلا ترافقه إلا مع زوجها ، منى نفسها وقلبها .. ولكنها شعرت بعد دقائق بالضيق والضجر وأحست بالوحشة .. فتوقفت عن الحياكة ورمته بنظرة ، وكان مستغرقا فى كتابه ، وعادت لعملها فى صمت ، وقد أحست بازدياد ضربات قلبها وتدفق الدم فى عروقها ، فانقطعت عن الحياكة وصوبت إليه بصرها ، وكان على حاله لم يغير جلسته ولم يرفع وجهه عن كتابه .. إنه لم ينظر إليها مطلقا ، لم يجاوب على نظراتها بنظرة ، وبدأت تغضب ، بدأت تغتاظ .. على أنها واصلت عملها فى حنق .. وتوقفت ابرتها فى يدها أكثر من مرة ، وتزاحمت عليها خواطرها وأقبل بها ذهنها وأدبر ، لماذا يخاطبها منذ شهر بقسوة ويكلمها بعنف وهو الرقيق اللين ..؟ لم يتحاشى مقابلتها ويفتر عن حديثها وهو المحدث الوامق ..؟ لم يتأخر فى الليل ويغيب بالنهار ويلزم الصمت ، وهو المحب للبيت الكثير الكلام ..؟ لم تختلج عضلاته وتتلاحق أنفاسه وتلمع عيناه ..؟ أواه .. لم لم ..؟؟ ما الذى جرى له ..؟ ما الذى طرأ عليه ..؟ كانت عيناه ترتفع عن الكتاب لتأخذ الصحراء بنظرة خاطفة ثم تعود للمطالعة .. ألقت الصوف عن حجرها ووضعت رأسها على يدها وأخذت تفكر ، حتى أحست أن جو الغرفة سيخيفها ، وأن دقات قلبها ستقف إلى الأبد .. لا .. إن قوة خفية جارفة تدفعها نحوه فكيف تردها ..؟
فنهضت إليه ..
ـ دائما فرجينيا ولف ..
فرفع وجهه عن الكتاب وقد أيقظه صوتها الناعم ، وقال ووجهه ضاحك :
ـ ما الذى تودين أن أقرأه .. ادجار ولاس ..؟
ـ لا .. طبعا ..
وكانت تعرف شدة تهكمه بالأدب الأجوف الفارغ ..
وأضافت وهى تجلس قبالته :
ـ وإنما .. كفى فرجينيا ..؟
ـ لا أستطيع ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى أحبها جدا ..
فوجف قلبها ورف لونها وأدارت الكلام على وجوه أخر ..
    ومضيا ساعة فى حديث ممتع حتى قرب موعد العشاء فتعشيا فى الشرفة ، وكان عشاؤها معه ، لأن زوجها يتعشى عشاء خفيفا قبل نومه مباشرة ، وتعشت الجاريتان أيضا ونامتا فبقيا وحيدين ..
       وكانت الليلة مقمرة والصحراء هاجعة والريح رخاء وإن كان الشتاء قد حل .. على أن السماء كانت تغشاها السحب الخفيفة التى أخذت تتكاثف وتشتد بالتدريج فقال وعينه إلى الأفق :
ـ ستأخذنا السماء ..
ـ لا أظن هذا ..
وإن كانت على يقين من ذلك ، ونهض عن كرسيه ومشى إلى جرس عند الباب فضغط عليه وعاد مكانه ..                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                        
ـ ما الذى تريده ..؟
ـ كوب ماء ..
ـ ولكن نجمه نامت ..
ـ سأقوم لأشرب ..
ونهض فوضعت يدها على عاتقه ..
ـ سأجيء لك بالماء ..
ـ هذا لا يمكن ..
فرشقته بنظرة طويلة فأذعن ..
       وقامت فأحست بقطرات المطر على يدها فسرها هذا ، ولما جاءت بالماء شربه مرة واحدة وأعطاها الكوب وعينه ضاحكة شاكرة ، فوضعتها على نضد فى الغرفة ، ثم تقدمت إلى باب الشرفة الزجاجى فأغلقته عليه ، وكان متجها إلى الصحراء ، ولكنه انتبه على حركة الباب وهو يغلق ، فابتسم وبقى فى مكانه ، على أن المطر كان قد اشتد فنهض عن الكرسى ومشى إلى الباب ووقف عنده ، وهى قبالته ترقبه ضاحكة ، والمطر يبلل شعره وينحدر على خديه ، وكان أبيض طوالا صلب العود قوى الجسم عريض الجبهة براق العينين عادى الملامح مرسل الشعر فى غير نظام ، ووضع يده على الزجاج ورجاها أن تفتح فهزت رأسها رافضة .. وقد تهدلت خصل شعرها .. ولمعت عيناها .. وتورد وجهها .. وكان المطر قد انهمر فعاد يتوسل فكررت الرفض ، وقربت وجهها من الزجاج ليصل إليه الصوت من فرجات الخشب ، وقالت بصوت ممزوج بضحكاتها الفضية :
ـ إنك تحب جاربو .. وجاربو تحب المطر ..
فوضع وجهه قرب الزجاج وسأل :
ـ أحب من ..؟
ـ جاربو ..
ـ أحب من ..؟
فلم تجب ووضعت وجهها على الزجاج وحدقت فيه شاردة ، فانحنى وألصق خده بالزجاج لتصل إليه أنفاسها ، فوضعت خدها على خده ، وحرك خده فحركت خدها ، وتحول مقربا شفتيه ببطء فقربت شفتيها حتى كانت الشفة على الشفة ..
وبقيا هكذا مدة ، وقد استراحت لذلك وسكنت جوارحها وذهب عنها وعيها ، فأسبلت جفنيها وأخذت شفتيها ترجف على الزجاج تدريجيا حتى غابا عن بعضهما ..
وبقى على هذا الحال أكثر من دقائق ثلاث ولما رجع إلى نفسه ودفع الباب ألفاه مفتوحاً .. على أنه لم يعرف الذى فتحه ، وكانت حكمت قد ردت عليها بابها ..
***
نهضت حكمت عن فراشها قبل الفجر بقليل جافلة مذعورة ، فقد رأت حسنى فى نومها يطوقها بذراعيه ويضمها إلى صدره بقوة وهى تتمنع وتصيح ، وجلست مرتاعة فى الردهة ودموعها تتساقط على مهل حتى تنفس الصبح فأيقظت إحدى الجوارى واشتغلت معها بإعداد الإفطار ..
واستيقظ زوجها عند السابعة فدفعت إليه جريدة الصباح ، وهى تتكلف بسمة شاحبة ، وجلست أمامه حتى أعدت المائدة فنهضا إليها ، ولكن حسنى كان لم يصح بعد ، واليوم يوم جمعة وأخوه اعتاد الإفطار معه فى هذا اليوم من كل أسبوع ، وانتظرا حتى قربت الساعة الثامنة وهو لا يزال نائما ، فقال عاصم لزوجه :
ـ صحيه ..
فرمقت زوجها بنظرة لم يفهم معناها ومضت عنه وهى تقول فى نفسها " أى أحمق ..!" ومشت إلى غرفة حسنى وقلبها يضطرب بين ضلوعها ورجلاها تخذلانها ، وفتحت بابه برفق ودخلت ، وبدا لها أن تغلق الباب وراءها على أنها تصورت عينى زوجها تتبعانها فتركت المصراع كما هو ، وكان نائما على السرير ووجهه مصفر وشعره الطويل منفوش ، وأنفاسه عاليه وأجفانه مقرحة ، وغطاؤه منحسر عن صدره ، فتقدمت على مهل حتى وقفت عند رأسه ، وحاولت أن تهتف باسمه ولكن صوتها خانها ، فوقفت ساهمة ، على أنها ذكرت زوجها على المائدة فاستجمعت شجاعتها وقالت بصوت راعش :
ـ ح ... حسنى ..
وكان مستغرقا فى نومه ..
ـ حسنى ..
وبدأت ترجف ..
ففتح عينيه بثقل عظيم ، وتحرك إنسانهما ببطء .. ببطء حتى انقشعت الغشاوة عن بصره واستقرت عيناه على محياها فذابت ملامح وجهه وشاع فى كيانه السرور فتألق جبينه ولمعت عيناه ، لقد انتقل من حلم إلى حلم ..
ـ هيا لتفطر ..
وقد أشرق وجهها .. إنها لا تستطيع أن تواجهه إلا باسمة .. ومشيا إلى المائدة مترافقين وجلسا جنبا إلى جنب كالعادة على أنهما أحسا بنظرات الزوج تبحث فى دخيلة نفسيهما عن شيء ..! وذعرا ..
وخيم الصمت على المائدة ..
***
       عاد حسنى ذات ليلة إلى المنزل متأخرا جدا بعد الساعة الأولى من الصباح ، وكان قد أمضى أسبوعا كاملا على أسوأ حال ، فلقد تضاربت فى صدره الانفعالات الباطنية وتشاجنت ، بعد أن أدرك أنه يسوق نفسه ويسوق الأسرة معه إلى هاوية سحيقة مالها من قرار ، وأنه سيفسد على أخيه هناءه وسعادته وعشه الزوجى الهادئ من حيث لا يحتسب .. فلقد كان لابد من وجود هذه العلاقة بينه وبين حكمت بعد عشرة دامت ثلاث سنوات ، وكان قد شعر فى الشهر الأخير بتطور عواطفه وتغير مشاعره ، وكان ذلك فى الوقت الذى أحس فيه أن رجولته قد تفتحت وأن قلبه الصغير بدأ يتحرك ، وأن عواطفه ومشاعره تغيرت تبعا لذلك ، فنظرته لها وللمرأة على العموم تبدلت عن ذى قبل ، وانقلبت تستقر على الجسم وتعجب بمحاسنه ومفاتنه وتقاطيعه ، وكان يكتم بطبيعته عواطفه ويطوى أشجانه ، على أن العواطف المكبوتة أرهفت أعصابه ووجهت طاقته العصبية فى الطريق المنتظر ، فكان معها فى الأيام الأخيرة شديد القسوة بادى القلق ظاهر الغضب ، يعنفها على أتفه غلطة ساعة الدرس ، ولم تكن تدرك شيئا من عواطفه المحبوسة أول الأمر ، على أنها أحست بها تدريجيا فى غضون تصرفاته الأخيرة معها ، وكان قد حاول بكل ما يملك من قوة أن يصرف هذا الحب الجارف عن قلبه ، على أن محاولاته كلها جاءت خائبة .. فكان يغادر المعهد فى رفقة زملائه ويسمر معهم فى الأندية حتى يقرب الليل من منتصفه ، فإذا عاد للمنزل اتقى مقابلتها فى الليل ..
    على أن الرغبات المكبوتة طيلة الليل كانت تنفجر فى الصباح ، فكان أول ما يقع بصره عليها يهم بعناقها .. وشد ما ارتاعت ووجلت لحاله حتى ساءت صحتها جدا ، فأشفق عليها وبارح المنزل مع الصبح من غير طعام ، ولم تشر هى بشيء من هذا إلى زوجها ، على عادتها فى أمثال هذه الشئون ، وكانت فى هذا حكيمة .. وساءت أموره فى الجامعة ، فانصرف عن المحاضرات إلى حدائق الأورمان بعد أن تصور رفاقه يعرفون حاله ويتحدثون بحبه ، وكان عليه أن يبسط فى درس البلاغة قول بوفون " الأسلوب هو الكاتب " فاعتذر لأستاذه ، بيد أن سلوته الوحيدة كانت فى الموسيقى ، فأقبل عليها بوجهه وواظب على حفلات التمرين ، وواصل دروسه التى كان قطعها مع بعض تلاميذه ، وكانوا فى جهات متفرقة من المدينة ، حتى قضى اليوم كله متنقلا بين منازلهم النائية ، كل ذلك ليصرف ذهنه عن التفكير فيها ساعة الدرس على الأقل ..
       وكان قد بدأ يحس منذ أسبوع ، وهو عائد للمنزل بإحساس عجيب غامض يفضل معه من فرط ما يعتريه من اضطراب وشجن لو يرتد على عقبيه ..
       وثقلت وطأة الاضطراب على نفسه وهو متروح هذه الليلة حتى فكر أكثر من مرة فى المبيت خارج البيت .. ولما صعد الدرج كان الاضطراب قد بلغ منه منتهاه حتى وجف قلبه وعصب ريقه ، ففتح الباب بحذر – ومعه المفتاح – ولم ير أن يشعل النور فى البهو لأن القمر كان يريق ضوءه ، وتقدم إلى غرفته ماشيا على أطراف أصابعه ، فما كان يود أن يحدث حركة يقلق بها النائمين ، فلما مر على غرفتهما سمع صوت قبلات تدوى فى سكون الليل ، فتوقف عن سيره وسمر مكانه ، بعد أن تصورها بين ذراعى زوجها فألهبته الغيرة واشتعلت فى رأسه نارها ، فوقف محملقا فى الباب وقد دارت عيناه ، وفترت دقات قلبه ، واعتراه خاطر جنونى هم معه بأن يدخل عليهما الغرفة وينتزعها من حضنه .. فتتابعت أنفاسه وتلاحقت وتخاذلت رجلاه ، واختلجت عضلاته ، واضطرب جسمه كله وجاش ..
       ومادت به الدنيا ..
       ومال إلى الحائط فتساند عليها ، ومشى متخاذلا حتى بلغ غرفته فسقط على كرسى طويل فيها ..
       واستفاق بعد مدة فألفى نفسه جالسا عند مكتبه ، فنفض الغرفة بعينه حتى استقرت عيناه على صورة تجاه المكتب وكانت لأخيه وزوجه فى لباس العرس ، فأمعن فيها البصر ، وذكر معها سعادة الزوجة وهناء الأسرة وعطف أخيه وحدبه عليه وسهره على راحته وحرصه على مستقبله ، فاستيقظ فيه شعور جديد أحس معه بمركزه فى البيت فى هذه الأيام الأخيرة فهو دخيل على الأسرة سيفسد عليها نعماءها ..
       وقام ملهبا بخاطر جديد ، فتناول حقيبته ووضع فيها بعض ملابسه وكتبه ، ولما فرغ من ذلك ، وقف فى الشرفة ، وكانت طلائع الفجر تطارد جيوش الظلام ، والتهب الأفق بالحمرة ، فأخذ يستقبل مطلع الفجر وهو ملتاع ..
       ثم استدار بعد أن تنفس الصبح ، وحمل حقيبته وشيع الصورة بنظره وقد تصور ابتسامة وادعة ارتسمت على شفة أخيه ، ومضى إلى الباب الخارجى فى حذر ، ولما احتواه الشارع استقبله هواء الصبح العليل ففتح رئتيه وتنفس وتمطى ، بعد أن أيقن أنه فعل خير ما يفعله .. رجل ..
========================= 
نشرت القصة فى كتاب " رجل " سنة 1936
=========================



























النجم البعيد

اجتاز باب الحديقة إلى فنائها الرحب ودار مع مماشيها ، ثم صعد الدرج وقد تملكه إحساس غامض لم يعرف مأتاه تماما ، ولم يكن ذلك للسكون المخيم على المكان ، أو الوحشة الشديدة البادية فيما حوله – لأن المنزل كان يقع فى نهاية هذه الضاحية "حلوان " من الجهة الشرقية وكانت الليلة ، على غير عادة ، شديدة البرد هوجاء الريح وإن كان الصيف على الأبواب – وإنما كان لشعور باطنى مبهم أستحوذ عليه فى تلك الساعة بشكل عجيب .. فراح يتصور معه أن زياراته لتلك الأسرة قد تكررت فى الشهور الأخيرة وتعددت لغير ما سبب قوى ظاهر ، وحتى زورته هذه مثلا فى مثل هذه الساعة من الليل – كانت الساعة لم تبلغ التاسعة – لم يكن يعرف الباعث عليها بالدقة ، وإن كان يردها للظروف القهرية التى جرته إلى هذه المدينة فى هذا اليوم ، ولم تخرج هذه الظروف القهرية عن زيارات لبعض معارفه الأبعدين ..!
بيد أنه قرر فيما بينه وبين نفسه وعزم وأكد وقطع – ولا بأس من هذا كله – على أن يخفف من زياراته فى المستقبل حتى يقصرها على زورة كل شهر ، وأن يروح يعتذر للسيدة والسيد – فى حالة الإلحاح الشديد من جانبهما طبعا – بأن أعماله الجديدة تتطلب منه ذلك ، ولم تتعد هذه الأعمال الجديدة التحاقه بالقسم الأدبى بإحدى الصحف الصغيرة ، وبدا له أن الخير كل الخير فى أن يفاتحهما بالأمر الليلة ..
وكان قد وصل إلى الباب الخارجى عندما وصلت أفكاره إلى هذا الحد ، فضغط زر الجرس ونشر وراءه أذنيه يتسمع وقع الصدى وصوت الأقدام ، فهفا إليه همس ارتفع إلى كلام متقطع عقبته خطوات عجلى ، وانفرج الباب ولاحت الخادم ..
-      أوه .. سيدى رشاد ..
وكأنها ما كانت تتوقع ، ولا يتوقع أحد معها ، مجيئه فى هذه الساعة من الليل ..
-       سيدك هنا ..؟
-       لا .. سيدى خرج ..
واستدار صاحبنا وولى الخادم ظهره وفكر فى الرجوع ، فالوقت متأخر والزيارة – وإن كانت لأقربائه الأدنين – غير لائقة بالمرة فى الليل ، وفى الساعة التاسعة ، والرجل غائب ، على أن الخادم قطعت عليه سلسلة أفكاره بقولها :
-       ستى عيانة ..
-       مين ..؟
-       ستى عيانة من مدة ..
***
       ومشى رشاد متئد الخطى فجاز الردهة وقد أحس بضغط دمه وازدياد ضربات قلبه ، ولم يكن ذلك لأنه سمع أن إحدى قريباته مريضة ، فإن كان ساوره من أجلها – دون شك – إحساس العطف الشديد ، على أن الاضطراب العنيف الذى اعتراه فى هذا الوقت لم يكن مبعثه هذا الخاطر وحده ، وإنما كان لشدة هاجسه وتبلبل خاطره وثقل وطأة أحزانه عليه ، وما كان هذا منه بحسن وهو مقبل على مريضة أقل ما تحتاجه تهلل السريرة وانشراح الصدر ، وكان قد وصل إلى باب غرفة المريضة ، فأدارت له الوصيفة الباب برفق ودعته يدخل ، فمشى خفيف الخطى ، وكانت المريضة متطرحة على السرير ، فلما بصرت به أرادت أن تعتمد على مرافقها وتستوى جالسة فأسرع هو يمنعها من ذلك ويقول :
-       كما أنت .. استريحى ..
وأخذ يدها مصافحا بحرارة ، وقد علت وجهها الشاحب حمرة خفيفة ، وند فمها عن ابتسامة حلوة وأشارات إليه ..
-       إجلس ..
وكان الكرسى قرب السرير فدفعه إلى الوراء خطوتين فقالت برقة :
-       لا .. لا يارشاد .. دع الكرسى مكانه ..
ورنت إليه وقالت بصوت خافت :
-       إجلس هنا ..
فلم يكن بد من أن يذعن ..
وجلس يرقب وجهها المصفر .. وقد تغضن الجبين .. وتكسر الجفن .. وخفت أهداب العين .. وارتسم الأسى على الشفة العطشى .. والفم الحالم .. وخف ضياء البشرة .. وغاض ماء العينين .. أواه .. كل شيء فيها كان يبعث على الشفقة الشديدة والأسف العميق ، وعلق بصره بها وجلس صامتا ، فعز عليه هذا الصمت وثقلت وطأته على نفسه ، فود لو يفتح الحديث بكلمة ، بيد أن مجرد التفكير فى هذا أربكه وحيره حتى فاض وجهه بالحمرة ..!! وكانت المريضة ترمقه من وقت لآخر وكأنها تقول له بعينيها :
-       مالك هكذا لا تتكلم ..؟ قل شيئا ..
وأخيرا خرج بصمته عن :
-       لم لم تخبرينى بمرضك ..؟
-       كنت أظنه لا يطول هكذا .. وحسبتها أنفلونزا خفيفة فإذا بها شديدة مضنية ..
فقال فى نفسه ساخرا " انفلونزا " لا بأس .. لا بأس .. ثم سأل :
-       مريضة منذ ..؟ 
-       أسبوع ..
-       ولكنك الآن تسيرين إلى العافية بخطوات واسعة ..
-       أبدا .. أنا أسير إلى القبر ..
-       لا تقولى هذا .. لقد شفيت تماما ..
-       نرجو من الله ذلك ..
وكانت قد برقت عيناها عنذئذ ثم تكسرت أجفانها مدة أطبقتها بعدها وكأنها تقول له دعنا من هذا الحديث إلى غيره أمتع ..
ثم قالت فجأة وهى تبسم :
- ما أذكر أنى رأيتك مريضا يا رشاد .. أما أنا فما أذكر أنى شفيت من مرض إلا لأعود لما هو شر منه ..
وكان ذلك حقا ، فما ذكر نفسه مرض مرضا عضالا طرحه على الفراش ، غير مرتين أو ثلاث فى شبابه كله ، وكان ذلك فى الوقت الذى يتخاذل فيه جسمه فلا يقوى معه على التماسك أو السير ، أما إذا تماسك واشتد قليلا ، خرج يؤم الحدائق ويمشى فى الهواء الطلق فيذهب ما به تماما ..
أما هى ، فلها الله ، فما كانت حياتها إلا سلسلة آلام جسمانية ونفسية لا حد لها ، فهى تسلخ العام كله تشكو وجع المفاصل وثورة الأعصاب وتضخم الكبد و .. ولم يكن أيسر عليها من أن ترضخ لحكم المرض ، وتقر بالأمر الواقع ، وتستسلم للفراش ..
وانقشعت عن المريضة سحابة جهمة غشيته هو بدوره ، فلم يحر جوابا ، واستطردت تقول :
 وكان ألذ شيء عندها الحديث معه ..
- وكان حالنا على النقيض من ذلك ونحن طفلان صغيران ، فأنت كثير المرض ، وأنا موفورة الحظ من العافية ، فما أذكر أنى مرضت وأنا فتاة مرضا يستحق التنويه ، أما أنت ، فشد ما لذعت فؤاد أمك ، وكانت تود أن تضيف " وفؤادى أيضا " ولكنها لم تجرأ على هذا ..
وأردفت بحزن :
-       أما لماذا أنا مريضة دائما بعد زواجى فلذلك ما لا أعرف كنهه ..
وصمتت بعد هذا ووجهها مربد متغير ..
وأخذ رشاد يحدث نفسه " لم لا تعرفين سبب مرضك الطويل ..؟ لماذا لا يعرف هؤلاء الأطباء الذين عالجوك كل هذه السنين منبع مرضك وأصل بلواك ..؟ لم لا أقول لها بشجاعة : إن زوجك المخمور المريض هو الذى جر عليك هذا البلاء ، وأنك كالزهرة التى تتطلب دائما حرارة الشمس وماء الأرض ، لتنضر وتتفتح عن أجمل كأس ، وأطيب أريج ، وإلا ذبلت وصوحت ..
***
ودقت الساعة المعلقة فى الردهة الحادية عشرة ..
ولم يعد الزوج بعد ..
لم يعد الرجل الذى تعلقت بأسبابه سعاد بعد ..
لم يعد الزوج ، وإن قرب الليل من منتصفه ، حتى فى الليالى التى تعانى فيها آلام الحمى وأوجاع المرض ..
لقد لفه الشيطان فى طياته ، فما عاد يفكر فى الزوجة ولا الأسرة ولا البيت ، إنه دائما يفكر فى نفسه ويعمل لنفسه ..
خرج الرجل عن الأسرة ، ونفض يده من البيت ، ولم يعد الرجل للمنزل ..
لقد كافح وجالد وغالب وهو على شط اليم ليحمله الموج إلى جوفه ، على أن الموج كان دائما يقذفه إلى الشاطئ لينطح رأسه بالصخور ، وليس عنده الرأس التى تتحمل نطح الصخور ، فليعش فى دنياه ، ولتعش المرأة فى دنياها ..
إنه لم يعد الرجل الذى يصلح للمرأة ..
لقد كافح وجالد وغالب ليصل حبل الأسباب التى تقطعت ، ويصلح الأمور التى فسدت ، على أن كل شيء كان يرتد إلى الضد على الأيام ..
لقد كافح وجالد وغالب ليسترد الزوجة الهاربة ، إنها كانت دائما هاربة ، حتى فى غضون الساعات التى يخلو فيها معها ، إنها دائما هاربة عن دنيا الرجل إلى دنياها ، فلا بد وأن يعيش فى دنياه ..
إنه لا يستطيع أن يطويها تحت جناحه ، وهى هاربة هكذا ، فليدعها تهرب ، وليهرب كما هربت ..
ما الذى يعمله الرجل مع الشذوذ فى الجنس ..؟ لا شيء ، لا حول للرجل فى هذا ولا قوة ..
لابد وأن يعيش لنفسه ..
يقامر ، ويغشى الحانات ، ويرود الأندية ، ويجلس مع الصحب ، ولا يفكر فى الزوجة مطلقا ، ولا يفكر فى المرأة مطلقا ، بعد أن لمس بيده ما بينهما من بعد ..
لقد لفه الشيطان فى جوفه ، فما عاد يفكر فى الزوجة ولا البنين ولا الأسرة ولا البيت ، وإنما يفكر فى نفسه ويعمل لنفسه ..
***
       ونظر رشاد إلى سعاد فرأى وجهها يصفر ، بعد دقات الساعة ، اصفرار وجوه الموتى ، فعز عليه هذا وآلمه ، ورأى أن يصرف ذهنها عن الخواطر المروعة التى حلت بها ، فأمسك قميصًا حريريًا ملقى على كرسى على يسراه ، وقلبه بين يديه معجبًا ببراعة صنعه وسألها :
-       لمن هذا ..؟
فصمتت كأنها ما سمعت ، ثم قالت ، بعد لأى ، بصوت خافت كأنها تحدث نفسها :
-       له ..
-       ومن حاكه بلباقة هكذا ..؟
فلمعت عيناها قليلاً .. وقالت :
-       أنا طبعًا ..
وكان قد رجع إليها بعض الانشراح فأردفت :
-       أول شيء حكته من الملابس ، وأنا صغيرة ، كان لك ..
-       لى أنا ..؟
- أجل ، بدأت أتعلم الحياكة وأنا فتاة فى سن المراهقة ، أقيم عندكم فى الريف ، وكان أول ما عملت جلبابًا لك ..
وأمسكت بيدها ملاءة السرير وأخذت تفركها فى حركة عصبية وقلق باد ..
وقال رشاد وقد نكس رأسه :
-       أشكرك ..
-       لا .. أنا التى أشكرك لأنى لولاك ما عرفت شيئًا ..
فقال وقد سره هذا :
-       ولكن لماذا كان الجلباب لى أنا ..؟ ولم يكن لمختار أو كمال أو عثمان " إخوته " ..
- لأن هؤلاء جميعًا كانوا قد شبوا عن الطوق وانخرطوا فى عداد الرجال ، أما أنت ، فكنت صبيًا فى السابعة ناحل الجسم ، كما أنت الآن ، ولكنك جميل الطلعة خفيف الظل ، وليس هذا حالك الآن طبعًا ..
واستضحكت مغمغمة بأشياء لم يتبينها ، ثم أضافت فى صوت ساحر :
ـ فما أثقل اليوم ظلك وأشد كبرياءك ..
ـ أشكرك ..
ـ العفو ..
       وتطلعت بوجهها الباسم إليه ، وكان قد رفع وجهه إليها ، فتلاقت عيناهما ، ثم أطرق ثانية وخيم الصمت ..
       وكان ابنها إسماعيل – غلام فى التاسعة – نائمًا فى ركن من الحجرة ، وقد دفع غطاءه عن جسمه ، فمشى رشاد إليه بخفة وضم الغطاء عليه كما كان ، ثم طبع على جبينه قبلة وعاد إلى مقعده ، فألفى سعاد تبتسم إبتسامة لم ترتسم على فمها من قبل أبدًا ، ثم تطورت الابتسامة حتى انقلبت ضحكة جذلة ، فلم يجد بدًا من أن يسأل :
-       مم تضحكين ..؟
-       ذكرت شيئًا على ذكر قبلتك لاسماعيل ..
-       ما هو ..؟
-       سر ..
-       تخفينه عنى ..؟
-       أجل ..!
فتجهم وجهه وتغيرت سحنته ..
فقالت قبل أن يتطور :
-       أتود أن تعرفه ..؟
فلم يجاوبها وازداد وجهه عبوسًا ، فتجاهلت حاله وقالت :
-       إستمع إلى اذن ..
وغيرت من لهجة صوتها وواصلت حديثها :
       - كنت ولوعًا فى طفولتك بركوب الحمير .. وكان والدك ينهرك عن هذا ويزجرك ، ويخاف من شرها عليك ، وهو يعلم مبلغ حب أمك لك ، على أنك كنت لا تفتأ تتحين الفرص لركوبها ، وحدث مرة أن قدم ضيف على والدك فى القرية وتحته حمار جميل – ولا بأس من هذا – نزل عنه وربط لجامه فى سرجه ، بعد أن شده إليه بقوة ، وأنت تلهو فى فناء البيت ، فبصرت بالحمار فطرت إليه ، وجررته إلى الخارج فطاوعك ، وأخذت تنظر يمنة ويسرة باحثًا عمن يعينك على ركوبه ، وأنا فى شرفة المنزل أرقبك ضاحكة ، وكان الوقت ظهيرة ، والدنيا صيفا لافحا حره شديد قيظه ، وقد خلى المكان من كل أحد ، ووقفت تنظر للحمار يائسًا ، ثم إذا بك تبصر بجوار حائط بعيد دكة كان يسمر عليها القرويون ليالى الصيف ، فملت بالحمار إليها وارتقيتها واستويت عليه ، وأنا أرقص من الضحك ، وأخذت لجامه وعدوت به مقبلاً مدبرًا دقائق عدة ، ولكن يظهر أن اللعين مل هذه المداعبة السخيفة فى مثل هذا الحر القاتل ، فألقاك عن ظهره ، فوقعت على وجهك مطلقًا لحنجرتك المطواعة العنان ..!! فصرخت أنا ، وأرسلت الخادم إليك فجاءت بك وأنت تعول إعوالاً يقطع نياط القلب ، وأخذتك منها وحضنتك ومسحت ما علق بوجهك من التراب ، وكان قد شج صدغك وسال منه الدم ، فغسلته عنك بسرعة خوفاً من أن تراك أمك على هذه الحال فتجن ، ولم ألبث ، وقد رأيتك تتألم وتبكى أن حضنتك وملت على جبينك بفمى فقبلتك ، فتركت البكاء مرة واحدة ، وهويت بيدك الصغيرة على خدى وصفعتنى صفعة قوية ، وكانت هذه أول صفعة منك لأول قبلة منى .. 
        فقاض وجهه بالبشر وقال :
-       وهل اقتصصت لنفسك ..؟
- يوه .. أبدًا .. ما كان أحد يجرؤ على أن يلمسك بطرف بنانه ، فلقد كنت مدللاً للغاية ، بيد أنى خفت بعد هذه الصفعة بأسك فما قبلتك وأنت صاح قط ، أما إذا جن الليل واحتواك الفراش وغرقت فى النوم قطعت فمك لثمًا ، وكثيرا ما كنت تنام معى ، وكم مرة حضنتك وأنت طفل صغير بارد الإحساس ..!
ونظرت إليه ووجهها ضاحك ..
فوضع يده على جبينه وأطرق مغالبًا انفعالاً باطنيًا شديدًا .. وسره تحسن حالها ، وجريان الدم فى عروقها ، وعودة الحياة تدب فى شرايينها ، فلم يشأ أن يشقق الحديث ، فقال وقد حول وجهه عنها :
-       وأنا .. هل قبلتك بدورى فى ذلك الوقت ..؟
-       أبدًا ما فعلتها قط فأنت دائمًا ..
ولم تتم كلامها ، بل نظرت إليه سادرة وصدرها يعلو ويهبط ..
-       دائما ماذا ..؟
ورفع وجهه إليها ..
-       لا أعرف ..
واغرورقت عيناها بالدمع بسرعة غريبة ، ثم سال دمعها على خدها ، وانطلقت بعد هذا تبكى فى صمت بكاءً مراً ، حتى أعولت ، فاستغرب لحالتها العصبية ، وقام عن كرسيه ، ووقف جنب سريرها ، وأمسك بيدها ليهدئ روعها ، فضغطت عليها بعنف ، وقد ازداد نحيبها ، وحرك يدها فى رفق ومسح عليها مهونًا ، وأراد أن يلمس كتفها وقد حولت وجهها عنه ودفنته فى الوسادة ، وهى تنشج نشيجا يمزق الصدر ، بيد أن إرادة قوية أمسكت بيده عن فعل هذا ، فوقف يتردد ، ثم تماسك وتجاسر ولمس كتفها فسرى فيه مثل الكهرباء ، وتدفق دمه فى عروقه ، ووجف قلبه وعلت أنفاسه ، وأدار كتفها ليرفع إليه وجهها ، فلاقته عيناها المخضلة فى نظرة طويلة أخاذة ، نفذت إلى قلبه ، واستحوذت على لبه ، فعلق بصره بوجهها ، وأخذا ينظران إلى بعضهما مدة طويلة ، وقد احتبس النفس .. وزاغ البصر .. وسكنت كل جارحة فى الجسم .. وسكنت كل خفقة للفؤاد .. وبقيا هكذا مدة ، حتى غشى عينيه ضباب كثيف ، وأمسى بعده لا يبصر ولا يعى شيئًا ، واستفاق على صوتها وهى تهزه هـزات عنيفة وتقول :
-       أتحبنى أم لا ..؟
فوقف جامدًا كالمأخوذ متعجبًا من هذا السؤال الطارئ ..
وكررت ملحة :
   ـ أتحبنى أم .. لا ..؟ أتحبنى أم لا ..؟ تكلم .. تكلم ..
وقد بدت التعاسة المرة على ملامح وجهها المضطرم ..
فقال بعد لأى بصوت خافت :
-       أحبك ..
ولم يكن بد من هذا فى مثل هذا الموقف ، فمدت يدها بحركة عصبية عنيفة وأمسكت بيديه ، وجرته إليها بكل ما تملك من قوة ، ثم رفعت يديها بعد هذا إلى عنقه ، وقد استوت على سريرها محاولة أن تجذبه إلى صدرها ، ولكنه دفعها عنه برفق ، وكانت قد قامت فتشبثت بعنقه وارتمت على صدره ..
ولقد أثر فيه هذا تأثيرُا بليغًا فلف ذراعيه حولها ، وهم أن يهوى على فمها بقبلة ، ولكنه أحس بيد وضعت على عاتقه فجأة ، فجمد دمه وأحس ببرودة الثلج تسرى فى عموده الفقرى فجفل وتلفت مرتاعًا ، فإذا بابنها إسماعيل واقف بجواره ، وهو يبكى وينتحب ويهتف بأمه ..
وتلفتت الأم مذعورة فبصرت بإبنها ففتحت له ذراعيها ..
    ـ إسماعيل .. إنت صحيت يا بابا .. تعال يا حبيبى .. تعال ..
وضمته إليها وهى تبكى بكاءً مرًا ..
***
       وقف رشاد على إفريز المحطة يرقب القطار الذى سيقله إلى المدينة ، وهو مشتت الخاطر ذاهب اللب مروع الفؤاد ، وقد طافت برأسه شتى صور الصبا وأيامه ، فعاد يذكر سعاد فتاة فى سن المراهقة تمرح فى منزل والده فى الريف ، وتداعبه وتحنو عليه ، وهى عادة فى لباس من القطيفة الزرقاء شد على جسمها فأبرز مفاتنه وأظهر محاسنه ، ورجع يذكر ليالى الشتاء فى القرى ، وهى التى يحلو فيها السمر ويلذ الحديث وتروق الحكاية ، وذكر نفسه وهو جالس بجانبها منصتًا لأحاديث العجائز من القرويات ، وملتذًا بضحكاتها وتعليقاتها على كل قصة ..! فإذا أخذته عيناه نام فى مجلسه ، وصحا على حركتها وهى تحمله إلى فراشه ، ثم تقبله وتغطيه وقد تنام معه ، وما كان أحلى من لذة الدفء الذى كان يحسه وهو فى حضنها ، ثم حرارة شفتيها على شفتيه ، يالله للصبا وأيامه ..
       ثم تصور نفسه بعد ذلك رجلاً ألقى بنفسه فى غمار الحياة ، ولكن الحياة أبدًا مدبرة عنه توليه ظهرها ، فقد عالج كل شيء وعاد من كل عمل بالخيبة المرة ، عالج الموسيقى ثم تحول عنها بعد الإخفاق إلى التدريس ، ثم نفض من هذه يده بعد أن ساءت حاله إلى الصحافة ، وصدف عن هذه إلى الأدب ، والأدب للفن ..! وأخفق فى هذا كله ، لم تكن حياته إلا سلسلة متعددة الحلقات من الخيبة المرة والتعاسة المضنية ليس إلا ..
       على أنه لماذا أخفق ..؟ هلى كانت تنقصه الأداة ..؟ أكانت تنقصه الموهبة ..؟ أكان يعوزه الطبع ..؟ لا .. لا .. لقد كان قوى الأداة موهوبًا بالفطرة .. ولكنه كانت تعوزه الروح .. الروح .. الروح القوية الجارفة التى تطغى على كل شيء ، وتذلل كل عقبة ، وتعبد كل طريق ، لقد كان ينقصه القلب النابض بحرارة الحب لو أن هذه المخلوقة المنكودة قالت له منذ سنوات ما قالت له الليلة ، لبدل غير الرجل ، وأمسى غير الشريد المتشائم القوى الشك ، الضعيف الثقة بكل شيء فى الوجود .. هل يؤمن الآن بحبها ..؟ وهل يؤمن بالحب جملة .. لا .. لا .. هذه سخافات لا حد لها .. بيد أنه لم لا يحبها الآن بعد أن تيقن من حبها ثم يروح يستقبل الحياة من جديد ، ويمشى فى مسالكها بقلب مضئ ..
       وكانت عيناه عند هذا قد لمحت ضوء القطار ، وهو قادم من بعيد ، ومقدمته تقدح الشرر وترمى اللهب ، ولمع الخط الحديدى عن بعد ، فرجف قلبه وغلى دمه وأخذ يرمق الخط ساهمًا ، وقد وقفت سلسلة أفكاره وجمد دمه فى عروقه وتصلبت عضلاته .. ماذا عليه لو أنهى حياته فى دقيقة واحدة فتطرح على هذا القضيب الحديدى ، وفى ثانية يتطاير فى الجو إربًا ، لماذا يعيش مخلوق مريض مثله ..؟ إن الحياة للأقوى والأصلح ، لا للمرضى والضعفاء أمثاله ، لا إرادة ولا قوة ولا أمل يبرق فى السماء ولا نجم يلوح فى الأفق ، لمن يعيش ..؟ وهتف به هاتف " عش لها " فأجابه مستخفًا " ومن هى ..؟ " إنه لم يعرفها بعد ، إنها ليست له .. إنها لرجل آخر .. أجل لرجل آخر ..
       وتصورها .. وهى متمددة على السرير مريضة منكودة ، ونظراتها إليه ، فعاد دمه لهذا الخاطر يضطرب متدفقًا فى شرايينه ، وقالت له نفسه ، ماذا عليك لو ضممتها إليك مرة واحدة ، ثم أنهيت حياتك بيديك غير آسف على شيء فى الوجود ..؟ ماذا عليك لو ضممتها إلى صدرك مرة واحدة ..؟ ثم لتقم الساعة بعد ذلك .. مرة واحدة وليحدث الله بعد ذلك أمرًا ..
       وتصور نفسه واضعًا فمه على فمها ، وهى بين ذراعيه ، فرفع عينيه إلى السماء ، وهو سادر ، والسحاب المركوم يتكاثف ليحجب سارى القمر والريح القوية ترنح سامق الشجر ، بيد أنه ما رأى القمر ولا أحس بالريح ، لقد كان كيانه كله محصورًا فى كيانها ، ماذا عليه لو ..
       وقرع سمعه صفير القطار وهو داخل المحطة ، فانتبه مذعورًا ووقف يتردد ، هل يركب القطار أو يعود ..؟ يعود إلى أين ..؟ يعود إليها إنها تناديه ، إنها باسطة ذراعيها له ، إنها له وما كانت لسواه قط .. أبدًا أبدًا ما كانت لسواه ..
       أجل فليرجع إليها ليكون لها إلى الأبد ..
       وصفر القطار وتحرك ، وهو جامد كالتمثال ، ثم عدا ولحق بآخر عربة ، وجلس فى آخر مقعد ، يدخن ويرمق نجمًا بعيدًا فى الأفق ..
======================== 
نشرت القصة فى كتاب " رجل " سنة 1936
========================




العمل الأدبى الأول لمحمود البدوى ونشرت بمجلة الرسالة بالعددين 156 و 157 بتاريخى 29/6 و 6/7/1936
الأعمى

     تمر ترعة الكامل بقرية « س » وهى قرية صغيرة من قرى الصعيد ، فتشطرها شطرين غير متساويين ، فقد جارت على الجانب الأيسر بقدر ما أضفت على الأيمن ، فاتسع هذا واستفاض حتى أصبحت منازله وبساتينه ونخيله وأعنابه ، لا يحدها البصر ولا تحصرها العين ، واستدق ذاك واستطال حتى قامت منازله الصغيرة على شط الترعة ذليلة منكسرة واجمة ، تشكو إلى اللّه ظلم الطبيعة بعد أن شكت جور الإنسان الذى خلفها سوداء قذرة تمرح فيها الحشرات من كل لون وجنس .
     وإذا استقبلت القرية وأنت قادم على جسرها الطويل ، بصرت أول ما تبصر بمنزل صغير من هذه المنازل بنى بالطوب الأسود ، وخط جواره بستان، ليس فيه سوى نخلتين !..
     مالت إحداهما على الترعة ، حتى غرقت فروعها فى الماء ، وسمقت الأخرى فى الجو ، حتى ناطحت بسعفها السماء ، ولا تدر النخلتان ثمرًا الآن ، ولا يرجى منهما شىء فى المستقبل ، فقد جف عودهما وذهب شبابهما ..
      وتقيم فى هذا المنزل منذ أكثر من تسعة أعوام أرملة فى الخمسين ، وهى امرأة دمثة الطبع ـ خلاف العجائز من مثيلاتها ـ ناحلة الجسم معروقة العظم واهية البناء ، تستريح فى بيتها معظم العام ، حتى يهل رمضان، فإذا هل ، خرجت فى الهزيع الأول من كل ليلة حاملة على ذراعها صفيحة قديمة تطوف بها على منازل القرويين ، وهى تنقر نقرًا خفيفًا ، وتتغنى بأغنية قديمة ، قل من يدرك معناها ومبناها من سكان القرية ! على أنهم كانوا يهبون من مضاجعهم عندما يصافح سمعهم إيقاعها وغناؤها ، ويبسطون موائد السحور ، وان كان الليل لم ينتصف بعد !! ..
      وهذا العمل الضئيل لا يجلب لها فى الغالب رزق شهرين أو ثلاثة ، فكيف تقتات باقى العام ، وكيف تعيش ؟ هذا هو السؤال ! على أن الذين انحدروا من الريف ، يعرفون تمام المعرفة أن هناك الملايين من أمثالها يضعون دائما أيديهم على بطونهم ليحفظوا بذلك التوازن الاجتماعى لتخمة الأغنياء ..
      مثل هذه الأيم السواد الأعظم من الفلاحين الذين لا يعرفون ، وخير لهم ألا يعرفوا ، أنهم أتعس المخلوقات البشرية فى الدنيا جمعاء ..
      إنهم مخلوقات ذليلة تعسة ، لصقوا بالأرض ، حتى أكلتهم الأرض ، وأفنوا عصارة حياتهم فيها ، حتى استنفدت قوتهم واستفرغت جهدهم . ولو رأيتهم وهم عائدون من الحقول مع مغرب الشمس، والصفرة الباهتة تعلو وجوههم ، والغبار القذر يملأ أعينهم ويسد أنوفهم ، لعلمت أنهم أتعس الناس فى الناس ، وأشقى الطبقات العاملة على الاطلاق . .
     انهم مخلوقات مريضة فقدت بهجة الحياة ونعيمها واستسلمت صاغرة للمرض والفناء . .
     ويسكن مع هذه الأيم أعمى فى الثلاثين من عمره ، وهو شاب أسمر فارع ضليع الجسم مفتول العضل وثيق التركيب ، وهو المؤذن لمسجد القرية منذ أن شب عن الطوق وانخرط فى عداد الرجال ..
      على أن الذى جمع بين هذه الأيم العجوز ، وهذا الأعمى الشاب ، لم يكن قرابة ولا نسابة ، وإن كان القرويون يسمون العجوز « أم سيد » وسيد هو الأعمى ، وكانت المرأة تمتعض وتهتاج لهذه التسمية فى أول الأمر ، وهى التى لا « سيد » لها ، ثم ما لبثت أن استراحت لها على مرور الزمن حتى قر هائجها وسكن ، وحتى تعمدت ألا تدفع هذا القول بما يكذبه ، وهى المتيقنة بأن الجدل فى أمثال هذه الأمور غير مجد فى الواقع ، فمن الذى يقف فى وجه التيار الجارف ، ومن الذى يمكنه أن يدفع السنة الناس الطويلة جدًا إلى حلوقها ، لا أحد على التحقيق ..
     على أن المنزل لم يكن للعجوز والشاب فى الحقيقة ، وإنما هو لرجل ملاح يعمل فى النيل ويقضى فيه العام كله ، ولا يهبط القرية إلا زمن التحاريق ، فإذا جاء ، بات فى سفينته ، فقد ألف الرجل النيل ، ونسى منزله على توالى السنين .
     وكان المسجد الذى يؤذن فيه الأعمى فى طرف القرية الشمالى ولكى يبلغه لابد له أن يجتاز الترعة وعليها جسر ضيق ، يجوزه المبصر وهو راجف حذر ، فكيف بالأعمى ! ثم يدور بعد ذلك فى دروب وينعطف فى منعطفات ، ويجتاز بساتين من النخيل يكثر فيها الحسك والشوك ..
      وعلى الرغم من هذا كله ، فإن الرجل كان يبلغ المسجد وكأنه المبصر الحديد البصر، فلا يضل ولا يتباطأ فى سيره ، ولا يعتمد على حائط ، ولا يستند إلى جدار ، وشد ما تعجب لذلك وتدهش ، على أنك متى سمعت القرويين وهم يقولون أن الرجل يبصر بقلبه ذهب عنك العجب كله . .
     وإذا طلع الفجر على القرية ، وهى غارقة فى سبات عميق ، وكل شىء فيها ساكن هاجع ، فلا نأمة ولا حركة ، اللهم إلا سامقات النخيل وهى تترنح مع النسيم الوانى ، وسيقان الزرع وهى تتمايل مع الريح الرخاء ، طلع الأعمى إلى سطح المسجد ، وانطلق يؤذن فى صوت حلو النبرات عذب الرنين ، ينفذ إلى كل قلب ، ويهفو إلى كل أذن ، ومن الذى يسمعه وهو يقول :
حى على الصلاة
     فيتأخر بعد ذلك عن الصلاة .. لقد كان صوته لينًا شجيًا يرن فى سكون الليل رنين اللحن العذب الأخاذ ، فيهب له القرويون من مضاجعهم ، ويخفون إلى المسجد خاشعين صامتين . .
     وكان الرجل محبوبًا من أهل القرية جميعًا إلا النساء والأطفال ..
      أما النساء فيكرهنه لأنه يزجرهن عن بئر المسجد ، ويمنعهن من ملىء الجرار منها بقسوة وغلظة ، حتى ينقلب صوته الحنون عند محادثتهن إلى صوت أجش خشن مرعب أحيانًا ! والقرية لا تستغنى عادة عن ماء البئر خصوصًا زمن الفيضان ، عندما يصبح الماء عكرًا نصفه طين .. وكم تغفلنه مرارًا ، وهو الأعمى ، وهن النجل العيون ..
      على أن سمعه المرهف دائمًا كان يغيظهن أشد الغيظ !! فإذا أدلت إحداهن الدلو فى البئر وحركت « الحبيذ » ( البكرة ) وهو خشبى يحتاج للسقى بالزيت ليحبس صوته فى جوفه ، صر هذا ..
      فيمد الأعمى قامته ويقول بصوت جاف :
     ـ مين ..؟
     فيتركن الدلو والجرار ويرحن يقعقعن الحلى ، ويطرن على وجوههن هاربات ، وقد تقع احداهن على وجهها ، فتخوض فيها الأخرى من فرط الرعب ، ويقمن وجلات مذعورات ضاحكات أيضا ، على أن هذا لم ييئسهن من البئر اليأس كله ، فهن يعلمن أنه يتروح بعد العشاء ، فإذا بصرن به خارجا من المسجد انطلقن إلى البئر وهن راجفات أيضا ، فشد ما كانت تخيفهن عصاته الغليظة وإن كانت لم تصافح احداهن حتى الآن ..
     ومن هنا نشأت العداوة بينه وبينهن واشتدت مع الزمن وتمكنت على الأيام . .
     أما الأطفال فكانوا كلما بصروا به على الجسر ، وهو فى طريقه إلى منزله ، تقوده عصاته ، وصدره إلى الأمام ، وسمعه مرهف ، ورأسه مستو ، وقامته منتصبة ، وخطواته ثابتة متزنة ، جروا وراءه يسبونه ، وقد يحصبونه بالحصى أو يرمونه بالحجارة ، وهو صامت باسم لا يلتفت إليهم ولا يكلم أحدا منهم ، حتى يقرب من بيته ، وهنا يطلع عليهم كلب للجيران أسود ضخم يربض دائمًا على الجسر ، فينطلق وراءهم حتى يشردهم فى الدروب . .
      وشد ما غاظ هذا الكلب الأطفال ، حتى تسمعهم يهمسون خوفا من أن يسمعهم الكلب :
     ـ لولا هذا الكلب ابن الكلب .. لكان الأعمى ..
     وإن كانوا يقررون بينهم وبين أنفسهم أنه قلما كانت تصيب الرجل حصاة واحدة من كل ما يرمونه به من حصى وحجر . .
     ولم يكن لهذه العداوة سبب ظاهر فى الحقيقة ، اللهم إلا الطبع الشرير الذى ينزع بالأطفال إلى السوء ، ويحبب لهم أذى الضعفاء من الناس .
***
     تأخر الأعمى مرة فى المسجد حتى زحف الليل ، وتكاثف الظلام واشتد ، فسمع وهو راقد فى ركن من اركان المسجد صوت الدلو فى البئر ..
      فاستوى على قدميه ، ومشى على أطراف أصابعه كاتمًا أنفاسه ، وصدره يضطرب ، وجسمه كله يهتز ، حتى جاز صحن المسجد وتيامن إلى البئر ، وقلبه واجف..
      وكان قد خفت صوت الدلو ، ووضح صوت « الحبيذ » فقال لنفسه ، لابد أن امرأة تجذب الدلو الآن وهى مشتغلة به فلا تسمع خطوات قادم .. ووقف برهة ثم صاح بصوت خشن :
     ـ مين .. ؟
     فاستدارت المرأه وحملقت فى الظلام .. أواه .. إنه سيد الأعمى على مدى ذراعين منها ، ورمت الدلو وأذهلها الموقف المرعب عن إبداء حركة ما ، فوقفت فاغرة فاها ، ثم أسعفتها غريزة الهرب بعد ثوان ، فولت هاربة ..
      فسمع وقع أقدامها فجرى وراءها ، وسمعه إلى خطاها ، وجرت حتى جاوزت المسجد ، وبودها لو تصيح بأعلى صوتها ، ولكن من أين لها القوة على ذلك ..؟ وكيف يطاوعها الصوت .. ؟ وعثرت قدمها بحجر فى الطريق ، فكبت على وجهها مذعورة ، وأنت عند ذلك أنة قوية ..
      فجرى على الصوت وأهوى بيده العمياء ولمس كتفها ، وكان قد بلغ منه الجهد فوقف يلهث ويده ممسكة بكتفها ، ثم أنزل يده حتى قبض بعنف على رسغها ، وقامت المرأة متراجعة ، تود لو تفلت منه بكل ما تستطيع من قوة ، ولكنه ضغط على يدها بشدة ، وتحسس بيده الأخرى وجهها وقال فى صوت متزن :
     ـ جميلة ... ؟
     ـ ..........
     ووقفت المرأة صامتة تهتز وترجف
     ـ لم لا تنادينى لأملأ لك الجرة .. ؟ 
وقد رق صوته جدًا ، فدهشت من تطور حاله وصمتت ..
     ـ لماذا .. ؟
     فشجعها صوته اللين وأجابت :
     ـ إنك لا تسمح لأحد بالدنو من البئر .. فكيف أناديك .. ؟
     ـ ليس لواحدة أو اثنتين .. وإنما عندما تجئن بالعشرات فتقطعن الحبل ، وتمزقن الدلو ، وتهشمن خشب الحبيذ .. فى البلد أكثر من أربع آبار قريبة ، فلماذا تجئن إلى هنا دائمًا .. ؟
     ـ لأن هذه أعذبها ماء ..
     ـ هذا الماء العذب كثيرًا ما ينزح ..
     ـ النيل فى فيضانه والماء كثير ..
     ـ أجل ... أ .. أ .. ولكن ... أملأت الجرة .. ؟
     ـ نصفها ..
     ـ سأ كملها لك ..
     وانقلب إلى البئر ، فمشت وراءه مطمئنة ، وأدلى الدلو وهو يحس بعض الاضطراب ، فأخذ يدير الحبيذ بسرعة ليملأ لها الجرة ويصرفها عنه ، ويبعدها عن وحدته وسكونه .
     وقال وهو يفرغ الدلو بصوت خافت لين المخارج :
     ـ إذا جئت مرة أخرى .. نادينى لأملأها لك . .
     ـ كتر خيرك . .
      وساعدها على حمل الجرة ، وانطلقت بها إلى بيتها ، ووقف ينصت إلى هزيز الريح القوية فى الحقل البعيد ..
***
          وأخذت جميلة بعد هذه الليلة تتردد على البئر دون خوف أو وجل ، كانت تجىء فى كل يوم مرة ، عند مطلع الفجر أو بعد آذان العشاء ، لأن زوجها لا يسمح لها بالسير فى طريق القرية إلا بعد أن ينام الناس ، وتنقطع الرجل ..
      فهى فتاة فى رونق صباها رائعة الحسن غضة العود وزوجها يخشى عليها العين ! .. ولا يحب لها ملاقاة شبان القرية الذين يقفون على رأس الطريق فى ساعات معينة من النهار .. !
      وكانت تقابل سيد الأعمى فى غالب الأوقات التى ترد فيها البئر ، وكثيرًا ما أترع لها الجرة ، وأعانها على حملها ، أو ملأ لها الحوض الصغير الذى على يمين البئر لتغسل وجهها ورجليها قبل ذهابها إلى بيتها ، وكانت تطوى كميها إلى مرفقيها ، وتحسر شالها عن شعرها ، وترفع ثوبها إلى ساقيها وهى منحنية على الحوض تغتسل .. كانت تفعل ذلك ، دون خجل أو حياء لأن سيدًا أعمى ..
     واستراح سيد على مرور الأيام لمحضرها حتى أصبح يشعر فى الأيام التى تتخلف فيها بالانقباض والوحشة ، كان يحس ، من أعماق نفسه ، أن شيئًا ينقصه .. شيئًا يستريح معه ، وينشرح له صدره ، وتنتشى حواسه ، وتهدأ ثائرة أعصابه . .
     وكانت جميلة تدفعها غريزتها أول الأمر إلى الخوف منه واتقاء شره كرجل ، بصرف النظر عن كونه أعمى ، ولكنها ما لبثت ـ بعد الانفراد معه مرة ومرات ـ أن استراحت واطمأنت ووثقت من عفته وخلقه ، حتى كانت تخرج معه إلى حد المداعبة ، كأن تخفى عكازه ، أو تخلع الدلو ، أو تقطع الحبل ، أو ترشه بالماء ، وكان يضحك لهذا حتى يرقص قلبه ، ويلوح لها بعصاته مهددا ..
     على أن هذا التآلف الذى أصبح بين سيد وجميلة ، لم يشجع غيرها من النساء على القرب من البئر ، لأنهن كن لا يعلمن بتغير حاله ، وإن علمن لا يصدقن ..
      ولم يكن هو يزجرهن عن البئر ، ويمنعهن من ملىء الجرار منها ، لأنه كان يخاف على الماء قط ، بل لأن شيئًا خفيا فى أعماق نفسه ، كان يدفعه إلى النفور منهن وإبعادهن عن جوه .. دافع باطنى عجيب كان يخرجه عن هدوئه وسكونه ، عندما يسمعهن يتحدثن على الماء أعذب حديث وأرقه ، كان يرجف له ويضطرب ، وهو الرجل وهن النساء .. شعور باطنى غريب كان يحمله على فعل ذلك ولم يستطع تحليله ولا تعليله ، وهو الجاهل الذى لم يذهب إلى المدرسة ولم يدرس علم النفس ..
      لقد قضى الرجل حياته بعيدًا عن جو المرأة فأخرجها عن دائرة تفكيره ، بعد أن خرجت عن دائرة وجوده ، ولم يعد يفكر فيها مطلقا ..
     ولم يعد يفكر فيها ولا يحن إلى لقياها ولا يستريح لرفقتها ..
     وكان يتضايق حتى من وجود أم سيد معه فى منزل واحد .. وإن كان ينام بعيدا عنها ، ولا يلاقيها إلا نادرا ـ غالبا فى الأوقات التى كان يرجع فيها إلى البيت مبكرا ليتعشى ـ فكان يتذمر ويضطرب لمحضرها ، وإن كان يعدها أما ..
     كان يرجف لوجودها معه ويحس بروحه تثور ، لأنه ما كان يحب أن يتصورها جالسة أمامه ترقبه وهو يمضغ الطعام ، ويقطع الخبز بأسنانه . وكان لا يعود لهدوئه وسكونه إلا بعد أن يتنفس الصعداء فى قاعته ..
     ولما اعترضت جميلة طريقه ، أول مرة ، كان يحمل معه عصاته ليضربها ، ولكنه لما سمع صوتها عن قرب ، ووقف عند رأسها ، وأمسك بيده رسغها ، وصافحته أنفاسها ، تراجع وأيقن أنه أمام مخلوق لا يستحق الضرب ..!
     وأخذ بعد ذلك يترقب حضورها ، ويتأخر فى المسجد عامدا ليعينها على حمل الجرة ، ويملأ أذنيه من صوتها .
***
      بقى الأعمى فى المسجد بعد أن فرغ المصلون من صلاة العشاء بساعة ، ثم مشى إلى جانب المنبر فتناول عصاته وأم الباب ، ولما بلغ عتبته سمع صوت الدلو فى البئر ، فنصب قامته وأرهف سمعه ..
      لقد جاءت جميلة على عادتها ، ولكنها متأخرة قليلا هذه الليلة ، واستمر واقفا وسمعه إلى الماء المتقاطر من الدلو كدفعات المطر غب سحاب ورعد ؛ ثم أنقطع صوت الماء ، فادرك أنها ملأت الجرة ، فدفع الباب وخرج ، ومضى تحت جدار المسجد خطوات .. ثم توقف عن سيره وأخذ يفكر .. ثم ارتد إلى حيث كان ، حاثا الخطى كأنما يسوقه سائق .. وعطف على البئر ، وقلبه شديد الخفقان . .
     ـ جميلة ..
     ـ نعم ..
     ـ أملأت الجرة ..؟
     ـ أجل ! ..
     ـ وذاهبة إلى البيت ؟
     ـ أجل . .
     وكانت الجرة على رأسها ، وقد تهيأت للسير ، فاستدارت ووقفت ..
     ومد عنقه وقال :
     ـ سأروح معك من غرب البلد .. لأن كلاب الشيخ عبد الكريم عادت من العزبة .. وهى تقطع على الطريق ..
     ـ هيا ..
     ومشيا صامتين ، والليل ساكن والقرية نائمة ، والظلام مخيم ، حتى أحس بأنفاسه خلصت ، فأدرك أنهما خرجا إلى الخلاء . وبعد خطوات سمع حفيف الريح فى عيدان الذرة فأيقن أنهما قربا من الحقول ..
      وسأل وقلبه يرجف :
     ـ أوصلنا بستان الشيخ حسين .. ؟ 
     ـ قربنا ..
     ولم يكن ألف هذه الطريق ، وإن كان يعرف أن هناك قناة صغيرة تمتد بين البستان وحقل الذرة وعليهما أن يعبراها لينحدرا منها إلى جنوب القرية ، ثم إلى حيهما ..
      وكان منذ أن غادر البئر ، واقعا تحت تأثير خواطر عاصفة ، اشتعل لها رأسه ، وجاش صدره ، فكان يتخلف عنها قليلا ويجعلها تتقدمه خطوات ..
      فهذه هى المرة الأولى الذى ينفرد فيها مع امرأة فى ظلام الليل وسكونه ، على أن تخلفه عنها لم يخفف من حاله ، بل على العكس من ذلك ، كان يفسح المجال لوضوح رغباته وتركزها وأخذها السبيل عليه ..
      فمضى وراءها والاضطراب يعصف بقلبه وصدره وكيانه ، حتى وصلا القناة فدفع لها عصاه ، ونزل وراءها فى الماء ، وغاصت أقدامهما فى الوحل ، وخرج ينفض رجليه فى العشب الممتد على حافة الحقل ..
      وأنزلت هى جرتها وانحنت على الماء تغسل رجليها ، ثم انتصبت تصلح ثوبها ، وهو واقف خلفها يفتح رئتيه وصدره لهواء المساء العليل ، ويحاول أن ينحى عن رأسه الخواطر العاصفة التى ألهبت أليافه وهيمنت على كيانه ..
     وواجهته وقالت بصوت ناعم :
     ـ ناولنى ..
     فمد يده إلى الجرة .. فلمست يدها ، فكأنما لامسه لهب كاو ، فوقف ويده تلاصق يدها ..
     ثم أمسك بيدها ورفعها عن الجرة ، حتى استطاع أن يقبض عليها بقوة ، فمدت وجهها مشدوهة وقالت وصوتها يرتعش :
     ـ ناولنى ..
     فرفع يده إلى ذراعها وضغط ، وقد أحس بألياف لحمه تلتهب ..
     ـ نـ ... ناولنى .. !
     فأبقى يده ضاغطة على ذراعها ، وهو واقف يتردد ..
     ـ ما الذى تريده منى .. ؟
فلم يقل شيئًا .. ثم مال عليها وضمها إلى صدره وضغط على جسمها فتراخى ، وحملها على ذراعيه بسرعة ودخل بها حقل الذرة ..
***
     مشت جميلة إلى بيتها خائرة القوى ، مرضوضة الجسم ، ذاهبة اللب ، وقد اسود فى نظرها الوجود ، واحلولكت الدنيا ..
      مشت ذاهلة ساهمة لا تحس بشىء مما حولها ولا تعرف إلى أين هى ذاهبة .. على أن رجليها كانتا تقودانها، بحكم العادة ، إلى بيتها ..
      مشت تحملق فى الظلام ، وهى والهة مرتاعة ترى بعد كل خطوة شبحًا ، وتتصور عند كل قدم حفرة ..
     لقد فعلتها.. مع من .. ؟ مع سيد الأعمى .. لقد ساقتها قوة أزلية إلى الهاوية ، لقد حملها المقدور الحتم إلى الوحل .. لقد جرفها التيار ، فغاصت فى الوحل إلى ساقيها..
     إننا نسير فى الطريق مسوقين بقوة أعلى منا وأقوى ، قوة جارفة لا نستطيع ردها ، ولا نقوى على دفعها ، تسوقنا فى الظلام إلى المصير الحتم ..
      لقد غدت جميلة ، فتاة الريف العفيفة الطاهرة ، المرأة الدنسة القذرة التى غاصت بقدميها فى الوحل .. سيظل الوحل عالقًا بها دائمًا ، وإن غسلت رجليها صباح كل يوم ومسائه ، سيظل الوحل عالقًا بها أبدًا ..
     ستذكر دائمًا أن قوة خفية ساقتها ، بمحض إرادتها ، إلى الوحل ، قوة أعلى منها لا تستطيع فهمها ولا تحاول فهمها ولا تعليلها ..
      هذه القوة الخفية الأزلية تعمل دائمًا من وراء الحجب ، تعمل أبدًا من وراء الغيب ، وتسوقنا إلى المصير المحتوم ..
     ستذكر جميلة ، الفتاة الريفية الجميلة المزهوة ، أن قوة خفية ساقتها إلى البئر ، لتقودها إلى الأعمى ، ولتجرفها إلى الحقل . .
     لا لذه ولا متعة ، ولا إحساس بشىء من هذا كله ، ولكنها استسلمت ورضيت ، لأنه حكم عليها بأن تستسلم وترضى . .
     لا إحساس بنشوة ولا شعور بمتعة ، وإنما مر كل شىء كالعاصفة الهوجاء وهى تلف كل شىء لفًا ..
     لما فتحت عينيها على الدنيا الرحيبة الباسمة ، من قبل ، كان كل شىء قد تغير ، كل شىء قد تغضن وأربد وعلته غشاوات ، ولفه السواد فى جلبابه ، وطوته العاصفة الرعناء فى طياتها ، كل شىء قد انمحى من باصرتها ومات وذهب مع العاصفة ، وبقيت ظلمات يأخذ بعضها برقاب بعض .. وعليها أن تسير فى جوف الظلام وتمضى ..
     ستطلع شمس الصباح الجميلة على القرية الوادعة ، وستقابل القرويات ، وستتحدث وتبتسم وتضحك ولكن بأى وجه .. ؟ وأى لسان .. ؟؟ وستقابل الزوج ، عندما يطلع النور ستواجه زوجها وتقف أمامه ، ولكنه لن يعرف شيئًا ولن تعرف النسوة شيئًا ، ولكنها مع هذا ستشعر بالخجل وتغض الطرف وتنكس الرأس ، وهى الجميلة المزهوة التى تعلو على أقرانها ولداتها .
     ستسير فى القرية مطأطئة الرأس ، خافضة الطرف ، لا تستطيع أن تقابل نظرة امرأة بمثلها .. ستفعل ذلك ما دام الإحساس بالجريمة يلازمها ، وإذا ما بارحها هذا الإحساس ستنسى ، ولكنها لن تستطيع أن تنسى كل شىء ..
      ستذكر دائمًا أنها فعلت ذلك بمحض إرادتها ، وكان عليها أن تقاوم ، وتمزق الثوب وتشق الجيب وتملأ الدنيا صياحًا .. إنها لم تأخذ شيئًا ، لم تأخذ شيئًا مطلقًا ، وأخذ الرجل كل شىء ..
     ولن تذهب إلى البئر بعد اليوم ، لا فى الصباح الباكر ، ولا فى الليل الزاحف ، لا وحيدة ولا برفقة أحد ، كل ما توده الآن هو أن تنسى ، هو أن تحاول أن تنسى ..
     كل شىء فى الحياه يتغير فى ساعة ، يتغير فى ساعة أزلية مسطورة فى صفحة حياتنا .. لقد غدت الفتاة المشرقة الضاحكة الناضرة ، المرأة المشوهة المنكسرة الواجمة .. بعد ساعة مرت كالعاصفة ..
     فتاة الريف لا تزال بخلقها البكر ، لا يزال ضميرها حيا ، لم تخدره بهارج المدينة الكاذبة ، إنها لا تزال ترى الأشياء على حقيقتها .. لا تزال بطبعها البكر ، طاهرة نقية ، قوية الإيمان عفيفة الأزار .. تستهول الجريمة الجنسية ، وتستفظع الخيانة الزوجية ، وترجف حتى من مجرد التفكير فيها .. هكذا شعورها بفطرته ..
      تعرف من غير معلم ولا مدرسة أنها خلقت لرجل واحد ليس إلا ..
      رجل واحد يأخذ منها قلبها وجسمها ، ويستغرق تفكيرها ووجودها ، وتدفعها فطرتها على أن تكون له أبدا ..
      أما إذا زلت قدمها ، وجرفها التيار إلى الوحل مرة ! فما الذى تفعله .. ؟  تحاول بكل ما تستطيع من قوة أن تنسى ... لأنها لو ذكرت ، ربما عاودتها مع الذكرى أشياء لا تحبها ، ولا تود التفكير فيها ..
     ولما أشرفت على الجسر الذى ستنحدر منه إلى حيها راعها نباح الكلاب الشديد ، إنها لم تنبح بمثل هذه الشدة مطلقا ، إنها تطارد فى ظلام الليل أشباحا مخيفة تروعها ، وأحست بوخز الابر فى جسمها ، أخذ جسمها يرتعش ، ومع الرعشة برودة الثلج ..
      فمالت إلى جدار قائم فى الطريق واعتمدت عليه دقائق .. ولما رجعت لها بعض قوتها استأنفت سيرها ، وتقدمت تسحب رجليها سحبا ، وقد آب لها بعض حسها ، على أن جسمها كان يشوكه مثل الشوك دائما ..
      وأخذت عينها الترعة ، وماؤها يتدافع ويجرى .. وقد تراقصت الصور فى مخيلتها واختلطت ، بعد خطوات ستصل المنزل وتلاقى زوجها ..
      وحدقت فى الماء وهو يجرى متدفقا منطلقا كالسهم ، لا شىء يقف فى طريقه ، يجرف معه دقيق الحصى والتراب ، ويحمل على متنه خفيف الريش ، لقد حملها التيار ، إلى أين ذاهبة ..؟ إلى أين ذاهبة .. ؟
     ما الذى سيحدث لو علم زوجها .. ؟ سيذبحها كما تذبح الفروج ..  ليس أيسر على الريفى من ذلك فى سبيل عرضه وشرفه ، وهو ثروته الباقية على الأيام ..
      ماذا يحدث لو علم لداتها .. ؟ ، ما الذى سيحدث لو علم أقرانها اللاتى تزهو عليهن بجمالها وتشمخ .. سيمزقنها بألسنتهن وستغدو حديثهن فى كل سمر ، ومتعتهن فى كل مجلس ..
      ما الذى سيحدث لو علم أهلها .. ؟ أخوها أقوى شباب القرية سيدفنها حية ، كما دفنت ناعسة ومبروكة وعزيزة ، من فتيات القرية اللواتى حامت حولهن الشبهات ، وعفى عليهن الآن ذيل النسيان ، فلا يستطيع أحد أن يذكرهن لأن فى الذكرى جريمة .. حتى ذكراهن عند القروى جريمة ..
     ونزلت من الجسر إلى الدرب الذى فى نهايته منزلها ، ومشت مستريحة إلى الظلام المتكاثف ، كل ما توده الآن هو أن تسير فى جوف الظلام متقية به أعين الناس .. لقد مشت على الجسر راجفة مروعة تخاف أن يبصرها خفير الدرك ، ولكنها الآن فى جوف الظلام آمن وأسلم ..
     وتقدمت فى الدرب متخاذلة متثاقلة تحس الأرض تنشق تحتها ، تصعد أكوام الرماد الملقاة عند أبواب المنازل وتهبط معها ، وهى تتصور أنها ترقى تل الصحراء .. ولما بلغت باب البيت وقفت لحظات .. ثم تجاسرت ودفعته ..
     وكان زوجها نائمًا على السطح فانتبه على حركة الباب ، وصاح بصوت جاف :
     ـ تأخرت ياجميلة ..
     وكان صوت زوجها يرعد . أواه ظنته نائمًا فإذا بعينه ساهرة .. فلم تجب ، وغضت رأسها ووقفت فى صحن البيت جامدة .. ولو بصر بها زوجها لرأى أغرب صورة .. ولم ينتظر جوابها فصمت ، ثم قال بعد مدة :
     ـ اسقى البقرة واعلفيها ..
     ومضت فترة قصيرة سمع بعدها بكاء عاليا فسأل بغضب وقسوة ، فأسخف ما فى نظر القروى بكاء امرأة :
     ـ ما الذى جرى .. ؟
     فلم ترد .. وزاد نحيبها ..
     ـ ما الذى جرى ..؟
     وانتصب وأطل على صحن البيت ..
     ـ ما الذى جرى ..؟ 
     ـ الجـ .. الجر ... الجرة .. آه .. اهىء ..
     ـ كسرت .. ؟ 
     ـ أجل .. آه .. اهىء ..
     ـ وهى تستحق كل هذا البكاء ؟ .. كفى .. ! 
     ـ آه .. اهىء .. آه ..
      بصوت راعد
     ـ كفى ..
     فحبست زفراتها وغيضت عبراتها ودفنت وجهها فى حجرها ..
     ونام الزوج وشخر .. !
***
     زحف الأعمى إلى المسجد قبل الفجر وهو متخاذل الجسم متسعر الجمجمة ، وكانت قد ساورته فى الليلة التى خلت حمى شديدة تصبب لها عرق يملأ  القرب ، وبات ليلته يتقلب على مثل الشوك ، ويود من فرط الحمى المتأججة فى جسمه من يقذف به إلى اليم ..  بيد أنه تحامل على نفسه لما لاح النور ومشى إلى المسجد متوكئا على عصاه ، فما من الأذان بد . أجل ما من الأذان بد ، كيف يغفل عن آذان الفجر .. !
     وصعد إلى سطح المسجد ووقف ناصبا قامته مادًا عنقه ، ويده على الساعة يتحسس بها العقرب ، حتى حان وقت الفجر فوضع يده عند أذنه وانطلق..!! ولكن ما هذا ؟ ما الذى جرى .. ؟
      لقد اختنق صوته واحتبس ، وأصبحت الحروف تخرج من حنجرته مصفرة عاوية عواء الذئب .. ما الذى حدث ؟ ما الذى جرى .. ؟ حاول مرة ثانية فأخفق .. وتمهل لحظة ، وحاول مرة ثالثة ، فأخفق أيضا ..
      وهبط إلى صحن المسجد ، وهو يهتز اهتزاز القصبة الجوفاء فى مهب الريح العاصف ، وتقدم حتى وقف على رأس رجل نائم ..
     ـ شيخ على .. شيخ على .. 
     ـ نعم ..
     ـ قم لتؤذن الفجر .. فصوتى لا يطاوعنى اليوم .. أصابنى البارحة برد شديد ..
     وبارح المسجد قبل مطلع الشمس ، وسار على الجسر حتى بلغ الحقول المجاورة ، وكان قد نال منه التعب ، وبلغ منه الجهد ..
      فاستراح تحت شجرة من شجر السنط ، وضربه هواء الصباح على أذنه فنام حتى القيلولة ، وقام وقد حميت الشمس وتوقدت الهاجرة ، وانقلب الهواء راكدًا خانقًا يلفح الوجوه بوهج السعير ..
      واستوى على قدميه وأمسك بعصاه واتجه إلى القرية ، وكل شىء فيها ساكن وادع إلا الأطفال ، الذين لا يقيمون للجو وزنًا ولا يبالون بحر أو برد ..
     ـ أحمد ! .. سيد الأعمى 
     ـ صحيح ..؟ ..
     ـ والنبى ..
     وتجمع الصبية على الجسر ، ووقفوا صامتين وعلى شفاههم بسمات خفيفة ، حتى جاوزهم الأعمى ، وهو يسير سيره المألوف ..
      ولما بعد عنهم قليلا ، رماه أصغرهم بحصاة استقرت عند صدغه .. ما هذا .. ؟ لقد أصابته للمرة الأولى أول رمية من أصغر صبى ، ما الذى جرى .. ؟ وانهالوا عليه بعد ذلك يدا واحدة ، حتى أمطروه وابلا من الحصى والحجارة ..
      فاستدار لهم الرجل ، وقد تميز غيظًا ، ولوح بعصاه يهدد ويتوعد ، فتفرقوا عنه واستأنف سيره بعد برهة قليلة ، واستأنفوا هم بدورهم حصاهم وحجارتهم ، فما أقل الصبر عند الأطفال ، وأصابه حجر فى الجانب الأيسر من صدغه فشجه وسال الدم .. وآلمه الجرح جدًا حتى خرج به عن رشده ، فدار على عقبيه وجرى وراء الصبية يضرب بعصاه يمينًا وشمالا ، ولا يبالى أين تقع وتصيب ، وهو مخبول تمامًا ، حتى أصابت ضربة قوية صبيًا فى رأسه فجرحته جرحًا بليغًا ، ونزا دمه الأحمر فلطخ وجهه ..
      وكان الكلب رابضًا على الجسر فى ظل جدار لمنزل خرب .. وعينه إلى المعركة التى حميت واشتدت ، فقام ينفض جسمه نفض الليث ، وتوثب وثبات جامحة ، ثم دار دورات سريعة يقذف فى خلالها الهواء بغبار رجليه ، ثم انقض على الرجل فمزق الجزء الأمامى من ثوبه .. ! وطار به .. والصبية تبصر هذا ولا تكاد تصدق ..
      وشجعهم الكلب على معاودة الكرة على الرجل فانهالوا عليه ، وقد حموا ونشطوا ، يرجمونه بالحصى والحجارة ، حتى انطلق الرجل يسابق الريح .. وما زالوا يتبعونه حتى أجلوه عن القرية ، ولما كلت سواعدهم رجعوا إلى القرية ضاحكين .. وانطلق هو يجرى كالمخبول لا يلوى على شىء ..
***
     وبصر القرويون فى صباح اليوم التالى وهم فى الطريق إلى سوق « المركز » بحثة ملقاة على قارعة الطريق ، ومنهم من قال أنها لسيد الأعمى ، ومنهم من أنكر ذلك ..
     على أن الذى نحن على يقين منه أن الرجل لم يدخل مسجد القرية بعد ذلك .. أبدأ

=================================  
العمل الأدبى الأول لمحمود البدوى وقد نشرت القصة فى مجلة الرسالة بعدديها رقمى 156 و 157 بتاريخى 29/6 و 6/7/1936وأعيد نشرها فى كتاب " رجل " سنة 1936 وفى كتاب " الذئاب الجائعة " سنة 1944
=================================





























فى الظلام
ـ بدأ برد الليل ..
ـ ......
ـ منظر البحر من هنا ساحر ..
ـ ......
ـ أمعك ساعة ..؟
ـ أجل ..
ـ كم الساعة من فضلك ..
ـ التاسعة إلا خمسا .. فى إمكانك أخذ قطار التاسعة إلى كونستنزا أو التاسعة والخمس إلى كارمن سيليفيا ..
       ـ لست رائحة إلى هذه ولا تلك .. أنا أعيش هنا ..
       ـ تمشى إذن .. فالجلوس الطويل مؤذ .. يسبب الروماتزم ووجع المفاصل ..
       ـ روماتزم فى صميم الصيف ..؟
       ـ أجل .. فقدماك الصغيرتان على أرض حجرية ، والأرض فى الليل تفقد حرارتها بسرعة بعكس البحر ..
       ـ ما كنت أعرف ذلك ..
       ـ والآن قد عرفته ..
       ـ ولكنك تتكلم الإنجليزية جيدا أأنت هـ ...
       ـ مصرى ..
       ـ مصرى ..؟
       ـ أجل ..
       ـ ظننتك هنديا ..
       ـ لماذا ..؟
       ـ من لون عينيك ..
       ـ ما الذى فيهما ..؟
       ـ السواد والسر .. الذى يطالعك فى أعين الهنود ..
       ـ ......
       ـ أتضربون نساءكم بالسياط فى مصر ..؟
       ـ دائما .. خصوصا إذا أكثرن من الكلام ..
       وتحركت من طرف المقعد حتى أصبحت قريبة منه ، وحدقت فيه برهة ، ولكنه لم يلتفت إليها فأخذت تقلب حقيبتها فى يدها ، ثم شدت جوربها الوردى ، وشبكت رجليها وقالت :
ـ أجئت إلى هذه البلاد سائحا ..؟
ـ أجل ..
فاستراحت لهذا ، ولمعت عيناها فى جوف الظلام وقالت فى استغراب :
ـ وتضيع وقتك فى الجلوس ..!! من الواجب عليك أن تتمشى وترى المدينة ..
ـ ولكنى ضجرت بعد ساعة ..
ـ لأنه ينقصك الرفيق ..
ـ لم أفكر فى هذا الرفيق مطلقا ..
ـ ألا تحب التنزه على شط البحر..؟
ـ لا .. ما ألذ الجلوس هنا .. تستطيعين التنزه وحدك ، فالمرء يجتلى مجالى الطبيعة وحده ، وهذا أحسن وأمتع ..
وأخرجت سيجارة ، ومالت بوجهها ، وكان شابا أسمر براق العينين أقنى الأنف طويل الوجه والشعر ، يرتدى حلة رمادية من الصوف الخفيف ، وقالت بصوت منغم :
ـ أمعك ثقاب ..؟
ـ آسف .. لا أدخن ..
ـ وتتضايق من رائحة التبغ ..؟
ـ أحيانا ..
فرمت السيجارة فى الماء ..
فقال وهو يتكلف الحزن :
ـ مسكينة .. من بين شفتين رقيقتين إلى فم البحر الواسع فضحكت وتحركت من مكانها حتى لاصقته وقالت :
ـ أتأسف عليها ..؟
ـ جد الأسف .. وعلى كل سيئة الحظ مثلها ، لقد كانت دافئة ناعمة ملتذة ، فتلقفها اليم فى لحظة ، وانقلبت من الدفء والحنين ، إلى البرودة والوحشة ، ومن يدرى مصيرها ربما .. فقاطعته باسمة :
ـ أتقيم فى فندق بيلونا ..؟
ـ لا .. فى كونستنزا ..
ـ وجئت ايفوريا اليوم فقط ..؟
ـ نعم ..
ـ ألا تود أن تستريح خمس دقائق فى بعض الغرف المفروشة ..؟
ـ ومن الذى قال لك أنى تعب ..؟
فضحكت وقالت :
ـ يبدو لى أنك كذلك ، والأحسن أن تستريح ..
ـ أشكرك .. ليس عندى وقت ..
ـ أتظننى ..؟
ـ العفو .. لم أفكر فى هذا مطلقا ، وإنما أنا رجل مريض مشتعل الرأس والذهن دائما ، أحتبس فى غرفتى طول النهار وأخرج مع الظلام لأجلس هنا محدقا فى البحر ، فتستريح نفسى وتهدأ أعصابى ..
ـ وإذا طلع عليك القمر ..؟
ـ أعود لمكانى .. لا أواجهه مطلقا ..
ـ ألا تحب النور ..؟
ـ أبدا ، أبدا .. أعيش دائما فى الظلام ، فى بلدى وفى قريتى ، حفرت لنفسى سردابا تحت الأرض ، لا ينفذ إليه الضوء ولا تشيع فى جنباته الحرارة ، أهبط إليه مع مطلع الشمس ، وأقضى فيه النهار كله مستريحا ملتذا حاسا بالدنيا كلها تحط بثقلها علىّ ، أتصور وأنا فى جوف الأرض وفى أعمق طبقاتها أنى أحمل الدنيا على صدرى ، أحمل الدنيا على عاتقى ..
ـ لا أحد معك فى كونستنزا ..؟
ـ لا أحد ..
ـ جئت وحيدا ..؟
ـ أنا وحيد أبدا فى كل مكان ..
ـ ويضايقك الرفيق ..؟
- دائما ..
ـ والكلام ..؟
ـ والكلام ..
وانطلق يصفر فى صوت خافت ..
ـ أتعرف لحن الدانوب الأزرق ..؟
ـ لحن الدانوب الأزرق ..؟ لا ..
ـ إنك تعزفه الآن ..
ـ أنا ..!! آسف ، ما كنت أعرف ذلك ..
ـ أود أن تكون صريحا معى .. أتترقب أحدا ..
ـ أجل .. صديق انطلق بزورق إلى روسيا الحمراء ..
ـ وهل تظن أنه يعود الليلة ..؟
ـ من المحتمل هذا إن لم يبتلعه البحر ..
ـ ومتى رحل ..؟
ـ فى السابعة ..
ـ لك إذن ثلاث ساعات وأنت جالس على هذا المقعد كالتمثال ، حسبتك أول الأمر تمثالا ، فلقد مضى علىّ هنا أكثر من نصف ساعة وأنت لا تحرك جارحة فى جسمك ، ظننتك والله تمثالا من البرونز ..!
ـ أنا هكذا فى الليل ..
ـ ولكن من المستحسن أن تتلفت إلى اليمين أو إلى اليسار على الأقل ..!
ـ وإذا تلفت مثلا ما الذى سأراه ..؟
ـ حاول .. وسترى ..!
ـ حاولت مرارا وعدت خائبا .. شعر أشقر حرقه الأكسوجين .. وعينان زرقاوان أضناهما السهر .. وأزالت المدنية ما عليهما من هدب وحاجب .. وبشرة شاحبة تتغضن قبل الأوان ، ثم المساحيق والألوان وطلاء المدنية الزائف على الشفة والخد ، لا .. لا .. لقد ضقت ذرعا بهذا ..
ـ لا شيء من هذا كله ..
ـ حقا ..؟ ماذا إذن ..؟
ـ شعر غزير فاحم ، وعينان سوداوان فيهما بريق وحنين وشوق ..
ـ إيه ..؟
ـ وبشرة ناصعة البياض ، إلا قليلا من الحمرة الخفيفة على الخد الملتهب أحيانا ..
ـ ثم ..
ـ ثم فم صغير حالم ينفرج عن شفتين ورديتين ، أبدا ترتجفان ..!!
ـ ثم ماذا ..؟
ـ ثم شباب وعافية و ...
فقاطعها باسما :
ـ وصوت موسيقى عذب .. يا إلهى ! أأنت رومانية ..؟ فمالت عليه بوجهها حتى صافحته أنفاسها ، وهزت رأسها ..
ـ وتقيمين فى ايفوريا ..؟ 
ـ فى كارمن سيلفيا .. أرأيتها ..؟
ـ لا ..
ـ إنها أمتع من ايفوريا وأجمل .. ألا تحب أن تراها الآن ..؟ نأخذ هذا القطار ونصل بعد دقائق ..
ـ آسف لا يمكننى الآن ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى لا أعدل بهذا المكان بديلا .. ولا حتى الفردوس المنتظر ..
ـ هذا قرارك ..؟
ـ أجل ..
ـ عم مساء يا سيدى ..
ومدت يدها فشد عليها من غير وعى ..
ـ عمى مساء يا سيدتى ..
وتبعها ببصره وهى تسير الهوينى حتى احتواها الظلام ..
***
       ونهض عن مقعده ، ووقف عند السياج الحديدى يرقب البحر وهو يرمى الشاطئ بموجه المتكسر على بعض الصخور البعيدة .. ظلام يعقبه ظلام .. يأتى من بعيد .. يحمله البحر من عالم آخر .. من دنيا أخرى .. دنيا كلها ظلمات ..
       واشتدت الرياح وهاج البحر وماج ، وهو واقف مكانه يحدق فيه واجما ، وبيده التى صافحت الفتاة تعتمد على الحديد ، وبقى هكذا حتى شعر ببرودتها تدريجيا ..
    كانت يده منذ دقائق حارة يجرى فيها دم الشباب فعاد دمها ببطء يتقلص ويتراجع ، فرفعها عن السياج وأخذ يقلب البصر فيها ، هذه الفتاة لمست عندما صافحته شيئا خامدا فى أعماق نفسه فتحرك ، لم يدر بخلده أن يد الفتاة لمست دمه .. فتحرك من أعماق حسه .. ثم هبط كل شيء .. بعد لحظات .. وعاد لحاله الأول .. تقلص الدم .. وكر إلى ظلمات حسه .. إلى ظلمات نفسه ، فوقف واجما شاردا ..
       وتطور إحساسه عقب هذا ، فبارحه شعوره بلذة الوحدة وأخذ يعتوره الضيق وينتابه القلق وتكتنفه الوحشة .. هذه الفتاة المسكينة شوشت عليه سكونه ، وأفسدت عليه وحدته ، من حيث لا تحتسب .. شعر بعد براحها بالانقباض والضجر والتذمر ، فانمحت عن باصرته روعة الأفق وسكون الليل وبهجة الظلام .. هذه المسكينة حركت ساكنه ، وأثارت ماضيه ورجعت أيامه ..
       ما الذى لقيه من الحياة وهو فى سن الشباب والفتوة ..؟ ما الذى أخذ من الحياة وهو فى ربيع عمره وميعه صباه ..؟ لا شيء .. لا شيء ..
       وزادت به الوحشة فأخذ يتمشى على الشط ، وعينه إلى البحر ، وقد مات فى نظره كل ما كان ممتعا أخاذا ، البحر والليل والمدينة الهاجعة والمصابيح الخافتة الضوء .. والسحب المتكاثفة والظلام المخيم ، والنجوم البعيدة المتألقة فى قلب السماء .. عاد كل ما كان فى عينه منذ دقائق جميلا رائعا فتانا ، مشوها مغيظا محنقا .. فرد عينيه عن البحر وأنصت لوقع قدميه القويتين على الأرض الحجرية ، وأخذ يرقب المتصيفين وهم يسيرون الهوينى على الشط مثنى .. مثنى .. رجل وامرأة دائما ، يسيران على مهل متلاصقين متلاحمين ، يتجاذبان أحاديث الهوى ، ويتراشقان لحظ الصبابة ، فذاب قلبه حسرات ..
       كل ما فى الحياة يبغى رفيقا ، إلا هو .. لقد قضى حياته وشبابه وحيدا منعزلا مستفردا عن الناس أجمعين ، فأى حياة ..؟ وأى شباب ..؟
       ووصل إليه صوت الهمسات والضحكات التى ترن فى سكون الليل ، وبدأ المرقص يعزف لحنا صاخبا مثيرا ، فارتد عن البحر متجها إلى المدينة ، وجاز الشريط الحديدى وأشرف على الطريق المرصوف ، وعلى جانبه الأشجار كأنها الأشباح ، فأحس بالرهبة والوجل والذعر .. فأن يعيش لنفسه ويسعد لنفسه ويشقى لنفسه بعد اليوم ، فذلك هو السعير المقيم ..
       لقد كان سعيدا بوحدته ، قانعا بعزلته ، ملتذا بوجوده ، فمن الذى ساق إليه هذه الفتاة ..؟ من الذى رماه بهذا السهم ..؟ لقد نفذ السهم إلى أعماقه فهز طياته ، لقد لمست الفتاة الوتر الحساس من قلبه وكيانه ، فتحركت نفسه وثار قلبه ، لقد كان ناعما بعزلته قانعًا بوجوده ، فمن الذى ساق إليه هذه الفتاة ..؟ تلك إحدى القارعات ..
       كان لابد من المرأة فخلق لنفسه امرأة ، وكان لابد من الحب فأنعم وجوده بالحب خلق امرأة لنفسه بنفسه ، وغمر كيانه بالحب لينعم ، ومضى الحياة يحلم ، وما كانت هذه هى المرأة ، ولا هذا هو الحب ..
       لقد قالت له الفتاة إنه ينقصك فى الحياة الرفيق ، وهذا حق ، فما ينقصه فى الحياة غير الرفيق ولكن أين الرفيق الآن ..؟ شعر بقلبه يحترق ويذوب بين ضلوعه ..
       حتى الحيوانات لها رفاقها فى الأجم ، حتى الشوارد لها قرناؤها فى البرارى ، حتى الطيور لها رفاقها فى الأيك ، حتى العجماوات والحشرات لها رفاقها على ظهر الأرض وفى أعمق طبقاتها ، فلم ينفرد ..؟ كل ما فى الحياة يبغى رفيقا ، فلم يعيش وحيدا ولم يتعذب ..؟
       خلقت المرأة للرجل وخلق الرجل للمرأة ، ولابد أن يتلازما أبدا لتسير الحياة .. فلم يستوحش ..؟
    ورمق المنازل الصيفية البيضاء وهى تلمع فى قلب الظلام ، والمصابيح القائمة فى الطريق ، ترمى الأرض بالضوء الأحمر الباهت ، وكان يسير متثاقلا ساهما شاردا ، حتى أشرف على طريق صغير يمتد من الطريق العام ، فضرب فيه ، ورأسه مفعم بشتى الخواطر الصاخبة ، وجسمه ثائر وروحه قلق جامح ومات فى عينيه كل شيء بالتدريج ، ولم يعد يحس بما يلذ ويمتع انقلبت الطبيعة جحيما يتلظى ..
       ومضى فى الطريق ، وقد أسرع من غير موجب ، حتى لمح عن بعد ظل امرأة تسير ببطء .. فمد قامته وجمع حواسه وانقلب كله بصرا .. ووضحت قامة الفتاة فى لباسها الوردى لما مرت تحت بعض المصابيح ، فوقف وبصره إلى ظلها الذى أخذ ينسحب وراءها ويتضاءل .. إنها بعينها لم تغير مشيتها ، تمشى الهوينى متثاقلة آسفة ..
       ووقف يحدجها بطرفه ، وهو كلما حاول أن يخطو وراءها ردته قوة خفيه عن هذا فوقف فى مكانه جامدا ..
       ثم استدار بعد هنيهة وأخذ يستقبل من طريقه ما استدبر ، وقد هدأت ثائرة نفسه نوعا .. حتى قرب من الفندق الذى سيبيت فيه ، فأسرع نحوه وصعد درجاته صامتا ، ومال إلى غرفته وفتح بابها برفق ، ودخل واستلقى على مقعد ذى مسندين مستريحا إلى أثاث الغرفة الأنيق ، حتى سمع نقرا خفيفا على الباب فأذن للطارق ، فدخلت فتاة حسناء فى لباس أزرق جميل فأدرك أنها فتاة الفندق ..
ـ مساء الخير يا سيدى ..
ـ مساء الخير يا سيدتى ..
ـ تأخر السيد عن العشاء .. أتتعشى الآن ..؟
ـ شكرا .. لا أشعر بالجوع .. أين حقائبى ..؟
ـ عند صوان الملابس .. أتودها ..؟
ـ أصغرها .. أشكرك ..
وجاءت له بالحقيبة ففتحها ، وكانت مفعمة بكتب إنجليزية معظمها من طبعات " الباتروس " وقال وقد وضع كتابا منها على منضدة أمامه :
ـ لم أرك فى الصباح لما جئت .. أيبدأ عملك فى الليل ..؟
ـ أجل يا سيدى .. بعد السادسة ..
ـ حتى منتصف الليل ..
ـ إلى ما يقرب من ذلك ..
وقال وهو يقلب صفحات قصة لجويس .. أرومانية ..؟
ـ نعم ..
ـ وسحت فى البلاد كثيرا ..؟
ـ رأيت المجر وبولندا ..
ـ فقط ..؟
ـ فقط ..
ـ ومصر ..؟ 
ـ مصر ..؟ مصر العزيزة لم أرها بعد .. أحلم بالشرق الجميل دائما .. مصر والأهرام وأبو الهول والصحراء .. هذه دنيا حبيبة ساحرة ولكنها بعيدة كالفردوس ..
ـ أتحبينها ..؟ أقرأت عنها كثيرا ..؟
ـ جدا .. وأذوب شوقا إلى رؤيتها ..
وصمت ، ووجهه فى الكتاب ، فظنته استغرق فى المطالعة فهمت بالخروج .. ولكنها توقفت أدبا منها لما سمعته يقول :
ـ أتتكلمين الإنجليزية بجانب الفرنسية ..؟
ـ قليلا ..
ـ والرومانية ..؟
ـ بعض الأحيان أنساها ..!
وزاد بريق عينيها المشبعتين بالنور ، ولمعت شفتاها القرمزيتان ، وكست الابتسامة الفاتنة وجهها الناضر الجميل ، فقال ضاحكا مستريحا لوجودها شاعرا بالسرور المحض :
ـ بعض الأحيان ينسى المرء كل شيء فى الدنيا .. حتى لغته ..
ـ أجل .. أستمكث هنا طويلا ..؟
ـ طول الصيف ..
ـ فى ايفوريا ..؟
ـ فى فندق " ب " ..
وغمر كيانها السرور الباطن ، فاهتز عودها وأشرق وجهها ووقفت تلاقى نظراته القوية بنظرات لينة .. حادة ..!
وتمدد على الكرسى الطويل وفتح الكتاب يطالع .. فأشعلت له مصباحا جانبيا ووضعته خلفه .. ثم مشت على أطراف أصابعها نحو الباب وهى ترميه بنظرات جانبية خاطفة ، ولما أدارت أكرة الباب ، انتبه على حركتها ورفع وجهه عن الكتاب ورشقها بنظرة .. فابتسمت ووقفت ويدها على مصراع الباب .. وقالت بصوت حلو الجرس :
ـ ألست فى حاجة لشيء ..؟
ـ لا .. شكرا ..
ـ مطلقا ..؟
ـ مطلقا ..
وقد تلاقت عيناهما بضع ثوان ..
وسحبت الباب ، وراءها ببطء شديد ، وشيعته بآخر نظرة .. وعاد لكتابه واستغرق فى المطالعة ناسيا الدنيا وما فيها من ظلمات ، حتى أشرق النور .. نور الفجر ..
========================
نشرت القصة فى كتاب " رجل " سنة 1936
========================






































اسم القصة                       رقم الصفحة 
رجل         .........................   2
النجم البعيد     ...................     16
الأعمى   ............................   27
فى الظلام  ..........................   45



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق