السبت، 11 أبريل 2015

قصة قصيرة مساء الخميس للأديب المصرى الراحل محمود البدوى








وقفة على الدرب


كان الجو صيفا وطريق الإسكندرية الزراعى مزدحما بالسيارات الذاهبة إليها والراجعة منها .. وكانت السيارات الخاصة تمرق كالسهام من بين اللوريات الضخمة المحملة بأكياس القطن وألواح الخشب وفناطيس البترول ..
وكان الطريق الممهد كبساط من الديباج يساعد على هذه السرعة ويضاعف منها كلما أحس السائق بأن الزمام فى يده ..
وكنت مسافرا فى هذا الطريق ساعة الغروب مع أربعة من الركاب ولم أكن أعرف منهم أحدا وذلك فى سيارة أجرة أخذناها من ميدان المحطة ..
وكانت الحرارة شديدة حتى بعد أن غربت الشمس فجلسنا صامتين .. ثم فتح أحدنا الحديث بعد أن تجاوزنا مشارف المدينة وأخذ يتحدث عن ازدحام القطارات المتجهة إلى الإسكندرية فى هذه الأيام واستحالة حجز تذكرة فى يوم السفر ..
وكانت السيارة تمضى بنا على سرعة 70 كيلو متر فى الساعة وظروف الحال تدل كلها على أننا سنبلغ طنطا فى الساعة التاسعة والنصف والإسكندرية بعد الحادية عشرة ..
ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان .. إذ تعطلت بنا السيارة ونحن على مبعدة سبعة فراسخ من طنطا وحاول السائق اصلاحها بكل وسيلة فلم يوفق ومع ذلك لم ييأس وظل يعمل بيديه فى جلد عجيب ..
وظهر الضجر على وجوه الركاب الأربعة فنفضوا أيديهم من السائق وأعطوه نصف الأجر .. ومر لورى فاستوقفوه وبعد محاورة قصيرة رضى السائق أن يأخذهم جميعا وانطلق بهم ..
وتخلفت عنهم إذ كنت فى الواقع أبغى مطية أفضل وفى الوقت عينه سمعت محرك سيارتنا يدور فى نفس اللحظة التى ركبوا فيها اللورى وقدرت أن السائق وضع يده على مكان العطب وأننا سنلحق بهم بعد قليل ..
ولكن خاب ظنى إذ كان المحرك " يخبط " ثم توقف مرة أخرى ..
وقال لى السائق وعلى وجهه آثار المعركة التى خاضها مع المحرك :
ـ لا فائدة فى الليل .. والصبح له عينان .. وآسف جدا لهذا العطب الذى يحدث لكل آلة ..
ثم استطرد وهو يرمى ببصره الظلمة .. محاولا أن يستشف معالم الطريق ..
ـ عندما يمر لورى سأحاول إيقافه لتركبه إذ أن السيارات الخاصة لا تقف قط ..
وانتظرنا أكثر من ساعة ولم يرض سائق لورى أو عربة خاصة أن يقف فى عتمة الليل ..
وسألته وأنا أحس بالقلق :
ـ ألا توجد قرية على مقربة من هنا ..؟
ـ بركة السبع قريبة جدا .. وهناك مركز صغير لاصلاح الاطارات على مدى فرسخ واحد .. وإذا سرت إليه قد تجد سيارة .. وإذا لم تجد السيارة وجدت الشاى والطعام .. أنه موقع أحسن من هنا على كل حال ..
ـ وأنت ..؟
ـ سأنام فى السيارة إلى الصباح .. اعتدنا على هذا ..! وفى الصباح يأتى الفرج ..
ـ سأذهب وأرى .. وإذا وجدت طعاما سأبعث لك بعشائك ..
ـ شكرا ..
ونقدته ما يرضيه من الأجر ..
وقال لى وعلى وجهه الصبر والقناعة :
ـ مع السلامة .. ابعد عن سكة السيارات ..
وسرت وحدى فى الطريق فى ليلة تلمع فيها النجوم .. والسماء فوقى زرقاء صافية وكان القمر فى المحاق .. والعتمة تبدو شديدة لأن الزراعة عالية والأشجار الباسقة على الجانبين تضاعف من خط الظلمة .. ولكنى شعرت بالقوة والانطلاق وأنا اسير فى قلب الطبيعة تحت السماء وبين الحقول .. كنت أحس بالحرية التى يبغيها كل إنسان وأشعر أن لا سلطان لأحد علىّ اطلاقا وأننى أدفع الهواء بصدرى وأتحرك بكل حريتى .. وكان الهواء الذى بدأ يترطب يملأ رئتى وينعشنى وعيناى تسبحان فى الظلمة الشاحبة وترقبان السماء الصافية فى تأمل المستغرق بحواسه فى جمال الكون ..
وحدت عن طريق السيارات خشية أن أصرع تحت عجلاتها ولا يحس بى إنسان .. وأحسست بأنفاس الزرع وأنا أقترب من الحقول المزهرة على الجانبين كانت الأذرة فوق مستوى كتفى .. والأرض لاتزال حارة .. ورائحة التراب تختلط مع أنفاس الحشائش .. ولمحت ضباب قرية عن بعد وبصيصا من النور يتصاعد من كوات المنازل .. فخمنت أنها بركة السبع التى حدثنى عنها السائق ..
وكان مجرد احساسى بأنى أقترب من البيوت ومن أنفاس الحياة حافزا لى على الإسراع فى الخطو .. ولم أشعر بالخوف وأنا أسير وحدى فى الليل فى ظلمة مطبقة وسكون موحش .. فقد اعتدت على هذا وألفته .. فى خلال عشر دقائق من السير الجاد .. لم أقابل شخصا فى الطريق ولا فلاحا فى الحقل ..
وكنت متخففا من كل حمل فلم تكن معى حقيبة ومن عادتى أن أذهب إلى الإسكندرية هكذا لأركب القطار أو السيارة فى الساعة التى أجد فيها أيهما مهيئا لى  ..
وأكسبنى الليل والسير فيه وما فيه من غموض ورهبة شعورا عارما بحرية الإنسان .. وكنت وأنا أتخطى الحقول وأجتاز مزارع الأذرة والخضر .. أحس بيد الفلاح القوية فى الأرض .. وأدركت وأنا أتنفس مع أنفاس الزرع لماذا يحس الفلاح بحريته كاملة كلما خرج إلى الحقل وعرف أن سماء الله هى التى تظله وأرضه هى التى تقله .. يعيش من خيراتها .. وفى تيه من التأمل الذى استغرق حواسى بصرت عن يمينى كثيفا من الشجر وبركة ماء بين الأشجار .. وكان ماؤها يبدو فى ظل العتمة راكدا بلا حياة ولمحت نورا ضئيلا ينبعث من كوخ وراء البركة ..
وسرت فى " درب " بين المزارع .. ولما وقفت على حافة الحقل .. لمحت البيت بين كثيف من أشجار النخيل .. وظللت فى مكانى وأنا أؤمل أن أبصر دلائل الحياة ..
كان الهواء باردا .. وكومة من التبن هناك فى حقل محصود .. ثم رأيت خرافا ونعجات .. وبقرة مربوطة فى وتد ..
ولما اقتربت أكثر من البيت رأيت فى العتمة شبح كلب يزمجر .. فانحنيت لأتناول ( طوبة ) أرميه بها .. فركبه السعار ودار حول نفسه فى وحشية أرعبتنى .. وأحسست بأنى أمام شىء رهيب لا قبل لى به .. فوقفت فى مكانى وقد شلت كل حركة فى جسمى .. وفى خطفة البرق أحسست بأنياب الحيوان تنهش كتفى ووقعت على الأرض .. وفى نفس الوقت دوت طلقة نار .. وأغمضت عينى ..
ولما فتحتهما وجدت رجلا يقف على عكاز فوق رأسى .. وكان لا يزال بيده البندقية القصيرة التى أطلق منها النار ..
وقال باسما :
ـ لا تخف فقد انتهى ..
وتأملت الحيوان صريعا على مدى أمتار .. وكان الرجل الذى صرعه قد استدار ومشى على عكازه بضع خطوات وهتف بشخص فجاء هذا سريعا .. وتحاملت عليه .. حتى أدخلنى فى رواق البيت .. وغسل الجرح وحشاه " بالبن " وكان الدم لايزال ينزف وشعرت بضعف شديد .. ولا بد من الطبيب فى هذه الساعة .. فأرسل نفس الشخص سريعا ليأتى بطبيب الوحدة المجمعة ..
ورحت أجيل بصرى فى القاعة .. كان المضيف قد أراحنى على دكة تحتها حرام ووضع فوقى بطانية وتحت رأسى وسادة محشوة بالقطن .. ولكننى أحسست بالبرودة فى جسمى رغم البطانية ورغم أننا فى الصيف .. من فرط الدم الذى نزف منى .. ثم شعرت بالتعب .. وبآلام لا حد لوصفها .. وراحت أفكارى تحوم .. ورحت من فرط التعب فيما يشبه النعاس .. حتى استيقظت على صوت الطبيب .. وهو يضمد الجرح ..
وقلت للطبيب :
ـ أخشى أن يكون الكلب مسعورا .. وفى هذه الحالة لا بد من الذهاب إلى مستشفى الكلب .. والعلاج طويل ..!!
وقال بهدوء وهو يبتسم :
ـ اطمئن أنه ليس بكلب ..
ـ ماذا .. ليس بكلب ..؟!
ـ نعم إنه وحش ..
وفتحت فمى مدهوشا .. وسمعت صوت الرجال فى الخارج .. قم رأيتهم من فرجة الباب يسحبون شيئا على الأرض ..
وسألت الطبيب :
ـ هل هو الوحش ..؟
ـ انها البقرة .. صرعت من نفس الرصاصة ..
ـ من نفس الرصاصة ..
ـ أجل .. كان لابد من هذا لتعيش ..!
ـ ولكن الرجل لم يحدثنى بشىء من هذا .. وجعلنى أتصور أنه كلب ..
ـ هذا هو الفلاح ..
وأخذت أفكر فى البقرة وثمنها أنها تساوى 150 جنيها وربما كانت " عشارا " وتساوى أكثر من هذا وصرعها الرجل بيده .. وربما ليس عنده سواها من أجل غريب لا يعرفه .. وما رآه قط فى حياته .. وعجبت ولكن عجبى زال بعد لحظات من التأمل لأننى أفكر بعقلية رجل المدينة .. ولا أعرف الفلاح .. أنه اعتاد على هذه الأشياء .. وعندما تنزل به المصيبة يفكر فى العوض ولا يقنط من رحمة الله ..
أنه يتلقى النوازل بقلب صلد .. فهو يزرع الأرض ويصيبه " المن " .. ويزرع ويصيبه " الهلوك " .. ويزرع ويصيب زرعه العطش .. ويزرع ويغرق زرعه أو يجرفه السيل أو تحرق أجرانه ولكنه مع كل ذلك يزرع ويظل يزرع لأنه يعرف بفطرته سر الحياة .. والحياة حركة ومن يتوقف يموت .. ولهذا بقى الفلاح المصرى وعاش فى الأرض .. وكان حتى فى أشد عصور الظلام يشعر بقوته .. فى أعمق أعماق نفسه ..
ولهذا عندما انقشع الضباب وأزيح التراب انتفض كما هو الآن .. واستفقت من سوانحى على صوت الطبيب وهو يغلق حقيبته الصغيرة ويقول :
ـ سآتى مرة أخرى فى الضحى .. لأغير على الجرح وأعطيك حقنة ..
ـ وأستطيع أن أتحرك بعد ذلك ..؟
ـ سترى .. بعد الكشف ..
وتركنى .. وأحسست بالنعاس .. وبأن الألم بدأ يخف ..
ولما فتحت عينى فى اشراقة الفجر .. كان الرجل الذى لا أعرف حتى اسمه يقف على باب القاعة معتمدا على عكازه .. يقف حارسا وما أحسبه استراح ولا غفا ساعة واحدة فى هذه الليلة ..







===================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=====================    
















سوق الأحد


كان سوق الأحد من أشهر الأسواق فى صعيد مصر .. فيهرع إلى ساحته الفلاحون والتجار من كل صوب وفج عميق .. وكان منذ قديم الزمان على طريق القوافل الذاهبة إلى السودان والراجعة منه وتغيرت معالم الحياة ومعالم الطريق .. وعفت على الدروب والمسالك القديمة الأزمان وشقت طرقات جديدة ولكن السوق ظل فى مكانه .. وظلت شهرته باقية على مر السنين ..
كان الفلاح يجد فيه بغيته من الجلباب الزاهى والمذراة .. والجارف والفأس وترس النورج .. وعرق الخشب والزكيبة والشوال .. والمركوب .. وحبل الليف وفى ساحته يبيع البقرة والجاموسة والنعجة .. كما تستطيع الفلاحة أن تشترى ثوب الدمور .. والبكرة والخيط وتبيع الدجاجة والأوزة ورطل السمن ..
 وتحس بجو السوق فى القرى القريبة والبعيدة مع أنفاس صباح الأحد .. فترى  الطرقات والجسور عامرة بالفلاحين والتجار الذاهبين إليه ..
وكان السوق بعيدا عن الجبل على الضفة الشرقية من النيل .. عند قرية نجع الجسور ولكن رغم بعده وتحمل المشقة فى الوصول إليه فإن أكثر من ثلاثين قرية كانت تتجمع هناك كل يوم أحد وتبيع وتشترى فى ساحاته ..
وكانت أسعاره فى واقع الحياة والمعاملة بين الناس هى الأسعار الحتمية للمنطقة كلها فالجاموسة بيعت فى سوق الأحد بتسعين جنيها والبقرة بخمسين والعجلة بعشرين جنيها والثور بمائة كاملة وبيع الجواد العربى الأصيل بمائة وعشرين جنيها ..
وبيعت كيلة البرسيم بثلاثة جنيهات واردب الفول بتسعة .. ويظل هذا السعر يدور على كل لسان إلى أن يأتى أحد جديد ..
وما من فلاح فى مجلس من مجالس الفلاحين وسهراتهم على رءوس الدروب إلا ويتحدث عن سوق الأحد وما رآه وما باعه وما اشتراه منه ..
وكان كل قروى يذهب إليه يبيع ويشترى وهو مطمئن البال تماما لكونه سيحصل على أجود بضاعة وفى الوقت عينه سيبيع بأحسن سعر تقوم به الأشياء ..
وكانت المنطقة الشرقية من ضفة النهر .. لاتزال بعيدة عن السكة الحديد وبعيدة عن الطرق الممهدة وطرق السيارات .. كانت الطرق رديئة .. لذلك كان الفلاحون يبكرون فى الذهاب إلى السوق ليعودوا منه قبل مغيب الشمس ودخول الليل ..
ومع بزوغ الفجر خرج عباس من بيته فى قرية بنى سالم يجر بقرته الشهباء إلى السوق كان عليه مسيرة أربع ساعات كاملة فى مختلف الطرق حتى يصل إلى هناك ..
وكان يحمل معه طعامه وزاده وقد توشح على كتفه بحرامه وكان الصباح يتنفس والقرية لاتزال هاجعة ونسائم الصباح العليلة تحرك سنابل القمح .. وجو سنجابى يمسح وجه الأرض المنبسطة .. ولم يكن على الطريق أحد سواه .. وقد اعتاد عباس على مثل هذه الوحدة كان يخرج بالبقرة مع أنفاس الصباح إلى الحقل قبل أول فلاح فى القرية كان من عادته أن ينشط ويبكر فى كل أمور معاشه ..
وكان يود أن يبيع البقرة ويشترى بثمنها ثلاثة قراريط من الأرض على الجوار للحقل الذى يزرعه وبذلك يضع قدمه كمالك فى الحقل ..
كانت فرصة التملك يرقص لها قلبه فإن من يملك الأرض .. كما يملك البقرة .. وكما يملك الطنبور .. وكما يملك الفأس .. كان قد حاز من ذلك كل مناه ومبتغاه فى الحياة ..
وطلعت بشاير الصبح مشرقة على البرية فنشطت الدابة ونشطت وراءها قدم عباس ..
وكان يعرف الطريق إلى السوق جيدا .. فقد ذهب إلى هناك من قبل مرتين .. وباع واشترى منه ..
وكان يسلك الطريق المختصرة التى تؤدى إليه وتوفر من الزمن ساعة على الأقل ..
ولهذا اتخذ طريقه فى بطن الوادى قريبا من مزارع الشعير ..
وبلغ السوق ضحى .. وألفاه مزدحما والماشية المعروضة للبيع كثيرة فلم يعرض عليه الثمن الذى كان قد عقد عليه نيته فظل مترددا فى مكانه حتى العصر وأخيرا باع البقرة بسبعة وأربعين جنيها .. وخرج من السوق .. وجلس فى مقهى صغير على الدرب فتغدى وشرب الشاى .. ثم اتخذ طريقه إلى القرية .. وهو يشعر بأنه أخف حركة .. لأن البقرة كانت تثقله فى السير بين المسالك الصغيرة وتجعله لا يستطيع أن يمشى على ساحل النيل ..
ولما انقضى النهار ودخل فى الظلمة .. كان يسير على الشاطىء الشرقى .. وكان الماء يجرى متدفقا بجواره وتطفو على صفحته أشباح سود .. تظهر ثم تمضى ولم تكن غير المراكب الكبيرة وهى طاوية أشرعتها ومنطلقة مع التيار ..
وكانت زوارق الصيادين لا يبدو منها سوى شراع يخفق فى قلب الليل البهيم ..
وكان يسمع وهو سائر على الشط نباح الكلاب .. ثم هدير الماء وصوت انهيار جرف من الأرض إلى الماء .. فأبعد قليلا عن سيف النيل .. وشعر بالخوف وأخذ ينصت بانتباه إلى كل صوت وكل حركة حواليه .. وكان خوفه على النقود التى فى جيبه أضعاف خوفه على نفسه لقد تبلورت حياته وتركزت وانحبست آماله فى هذا الأمل الأوحد .. أن يمتلك قطعة من الأرض لنفسه يضرب فيها فأسه ويزرع ويحصد وهو شاعر بالتملك وبأنه حر وليست عليه التزامات سيقضيها فى آجال معلومة ..
وشعر بالبهجة لانطلاق أحلامه الذهبية من مكمنها .. على هذه الصورة وتمزق شمل الليل .. وطلع القمر نصف بدر .. وتكشفت السماء الصافية .. والتمعت صفحة الماء .. وأخذت قمم الأشياء تتحول إلى لون الأرجوان ..
وأحس بالسكون كأروع ما فى الوجود بأسره وخيل إليه أنه هو وحده .. الذى يتحرك فى الليل وأخذ ينظر إلى الأفق من وراء النخيل المخيم على القرى  .. وإلى الضفة الأخرى من النهر ..
وسمع صوت المجاديف تحته فى الماء ..
وسدد بصره إلى أضواء تتحرك عن قرب منه .. ولمح على ضوء القمر الخافت زورقا يلقى برجل إلى الشاطىء ..
ولما خرج الرجل واستوى على الطريق عرفه عباس فقد كان أحد أهالى بلدته ويدعى حسانا وكان راجعا من النجع على الضفة الغربية من النيل ..
وتصافح الرجلان فى هدأة الليل وكان حسان يحمل بندقية قصيرة وسر عباس لأنه وجد من يحرسه فى الليل ..
وسأله حسان :
ـ من أين يا عباس فى هذا الليل ..؟
كنت فى سوق الأحد ..
ـ ولماذا تأخرت إلى هذه الساعة ..؟
ـ كان من سوء حظى أن البهائم كثيرة .. فنزل السعر .. حتى كدت أن أعدل عن بيع البقرة كلية .. وأخيرا بعتها .. ولولا تعب المشوار ما بعتها .. فإن الثمن غير مجز اطلاقا ..
ـ بكم بعتها ..؟
ـ بسبعة وأربعين جنيها ..
ـ بركة وخير كتير .. ولماذا لم تشتر غيرها ..؟
ـ سأشترى قطعة من الأرض من غيط عبد الحفيظ .. وسأدفع له الثمن الليلة .. ونحرر العقد ..
ـ ولماذا العجلة ..؟
ـ أنها أرض جيدة وأخاف أن يشتريها غيرى وتضيع الفرصة ..
وخيم الصمت .. وكان الليل ساكنا فأخذا يفكران كل فى شئونه .. وشرعا يسيران فى نطاق النهر .. ولم يلتزما الطريق .. وكان باقيا نصف ساعة من السير الجاد ويبلغان القرية ..
وفى جوف دوامة من الأرض المنخفضة ظللتها المياه وبرزت كالخليج وحجبت عنها ضوء القمر انبثق شىء كالشهاب فى رأس حسان شىء تصبب له عرقه .. وظل يتصارع معه مدة طويلة .. ولكنه أخيرا سيطر على جوارحه ..
وعندما برز أمامهما مثل هذا الخليج المعتم مرة أخرى .. وجدها حسان فرصة واتاه القدر اياها فتأخر عن رفيقه وأطلق عليه النار ..
وأخذ المبلغ من جيب عباس المسكين ثم حمله وألقاه فى النيل ..
وخرج إلى الليل كما كان ..
ولما دخل القرية وجدها ساكنة سكون الموت كان يخيم عليه الصمت المطبق فلم تنبح حتى كلابها ..
ودخل بيته .. فوجد زوجته نائمة .. ولكنها استيقظت على حركته فى فناء الدار فنهضت وأشعلت له السراج .. وتفقدت الباب وحظيرة  الدجاج .. ثم عادت إلى القاعة ووضع حسان البندقية جانبا وجلس فى صحن الدار باحثا عن مكان يخفى فيه النقود المسروقة فلم يجد مكانا أصلح من فجوة يعملها فى الجدار ..
ولما أحس بأن زوجته نامت واستغرقت فى النوم أمسك بالأزميل فى يديه وخلع قالبين من الطوب ثم وضع النقود المسروقة فى الفجوة وسوى عليها .. وعلم مكانها بعلامة لا يعرفها سواه .. وبسط الحرام واستلقى .. إلى الصباح ..
وفى الصباح وجد أهل القرية يتحدثون عن غيبة عباس الذى لم يرجع من السوق فأخذ ينصت إلى حديثهم ولا يشترك معهم فى القول ..
وظل سحابة النهار جامدا وقد علت سيماء وجهه الصرامة ..
وفى السحر سمع أهل القرية يلفظون بأن عباس باع البقرة .. وشاهده الناس .. راجعا من السوق .. ويخشى أن يكون قد أصابه مكروه فى غلس الليل ..
وخشى حسان أن تكون عين قد رأته فى الليل وهو فى صحبة عباس فتولاه القلق ولكنه .. استيقن أخيرا بأن أحدا لم يره فاطمأن ..
وانقضى اليوم الأول على غياب عباس عن القرية وأهلها يعللونه بمختلف الأشياء فمنهم من قال أنه أصيب بمكروه ومنهم من قال أنه شاهده وهو يركب السيارة العمومية المتجهة إلى مدينة أسيوط ومنهم من قال أنه شاهده فى داخل المدينة يركب القطار من المحطة ..
وظل حسان فى القرية ليشتم اتجاه الريح ..
وفى اليوم الثالث .. حمل بندقيته وخرج فى الليل كعادته متجها إلى النجع ..
ومر بجوار بستان على الطريق وكان متعودا أن يتسوره فى غفلة من حارسه وكلابه .. ليملأ " جرابه " من ثمرات البرتقال والليمون ليكون زاده وهو منقطع عن العمران فى النجع ..
وتسلق وملأ جرابه بالثمر .. وعندما أخذ يتسور السور ليخرج أحس به الكلب وطارده .. وتفزعت الكلاب المجاورة كلها على صوت الكلب وطاردت الرجل .. وتجمعت عليه فلم يجد بدا من أن يطلق النار .. وردت عليه طلقة من حارس البستان .. طلقة جعلته ينبطح على وجهه والبندقية فى يده ..
وعندما اقتربوا منه وجدوا الرصاصة قد صرعته وكانت أصبعه تشير إلى شىء هناك فى النهر جثة رجل قد أخذ يطفو على سطح الماء ويتحرك على مهل مع التيار ..




====================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================     



مساء الخميس



كنا نتجه إلى الإسكندرية متخذين الطريق الزراعى فى جو حار خانق ووسط قوافل من السيارات لا حصر لها فى سيارة قديمة من السيارات التى تستعمل عادة فى نقل الدخان إلى دكاكين الريف .. ثم حولها صاحبها فى فصل الصيف إلى عربة ركاب ونقلها من منطقة بنى سويف إلى القاهرة لتعمل على خط المصايف بين القاهرة والإسكندرية .. مستغلا كل الظروف فقد كان أجر الراكب الواحد يرتفع إلى 150 قرشا فى المسافة .. ثم ينخفض إلى ثمانين قرشا تبعا لتقلبات الأحوال ..
وكنا فى أول أغسطس والشمس تلهب وجه تمثال رمسيس القائم فى قلب الميدان والذى كان ينظر بغيظ وعجب إلى حركة المرور المتخلفة التى تجرى تحت أقدامه ..
ولا أدرى كيف التقطنى المنادى وأنا أرتد عن السكة الحديدية .. بعد أن الفيت كل القطارات محجوزة لمدة يومين والزحام على أشده .. وأدخلنى بفعل ساحر فى جوف هذه العربة الكئيبة .. كانت مقاعدها بالية ويعلوها التراب وطلاؤها الخارجى قد حال لونه وستائرها ممزقة وحالتها فى الجملة تدعو إلى الرثاء .. وركبتها وفى نفسى اشتياق لأن أمر بتجربة جديدة فلم تكن هى أنسب العربات الواقفة على صعيد واحد فى الناحية الجنوبية من الميدان ..
ولكنى كنت أقف هناك ضائعا تحت " الباكيه " ولا أدرى كيف أمضى أو أتقدم خطوة .. عندما امتلأ أمامى تاكسى وتحرك سريعا .. ثم تبعته سيارة من نفس الطراز ..
وفى هذه اللحظة انتشلنى من حيرتى صوت المنادى .. وهو يقول :
ـ تفضل .. يا سيد .. هذه عربة مريحة ورخيصة وأجر الفرد 130 قرشا ..
وكنت قد سمعت منذ لحظات قليلة أثناء وقوفى سعر البورصة ارتفع إلى 160 قرشا ..
فركبت فى الزاوية اليسرى من الصف الثانى ملاصقا للنافذة ولم أكن أحمل حقيبة ولا ورقة واحدة ولا أى شىء على الاطلاق ..
وكانت الكراسى الأربعة الأمامية التى فى الصف الأول محجوزة كلها كما عرفنى السائق .. وبقى الكرسيان اللذان بجانبى إذ أن العربة معدة لسبعة ركاب وجاء الراكبان سريعا فقد كانت العربات الموجودة فى المكان لاتكفى سيل الركاب المتدفق ..
وفى حوالى الساعة الخامسة مساء قدمت الأسرة التى حجزت المقاعد الأمامية وكان معهم متاع كثير ..
وأدخلوا المتاع فى حقيبة السيارة الخلفية ثم ركبوا أمامى ..
وركب بجوار السائق مساعد له وكان شابا .. جم النشاط يتحرك فى سرعة اللولب .. فلما أشرفنا على مشارف شبرا واتخذنا طريق المزارع استرخى وتجمع على نفسه كالقوقعة .. ولم يعد يعبأ بشىء مما يجرى على الطريق ..
وكانت الأسرة الجالسة أمامى مكونة من شاب نحيل أسمر لم يتجاوز الثلاثين وسيدتين احداهما شابة أنيقة فى الخامسة والعشرين من عمرها والأخرى عجوز بلغت الستين .. ثم غلام فى العاشرة ..
وكانت السيدة الشابة تجلس أمامى مباشرة وبجوارها الشاب ثم غيروا أماكنهم وأبعدوا الغلام عن باب السيارة خشية أن ينفتح الباب فجأة فيسقط الغلام ..
وكانت السيارة تسير بسرعة متوسطة وكل السيارات التى تمر فى الطريق تتجاوزها ثم تخلفها وراءها ..
وأدركنا بعد مسيرة ساعة أننا لن نصل الإسكندرية قبل منتصف الليل فظهر الاستياء على وجوه الركاب .. وأخذوا يحثون السائق على الاسراع ..
ولكن الراكب الذى بجوارى كان هادئا ولم ينبس ببنت شفة .. وبدا لى أنه اعتاد الركوب فى مثل هذه العربات ..
وقال باسما فى همس وهو يلتفت إلىّ .. لما وجدنى صامتا مثله ولا أشارك الركاب فى الحملة على السائق :
ـ إن الإسكندرية ستظل فى مكانها سواء وصلنا فى أول الليل أو آخره .. ولن يبتلعها البحر ..
ـ هذا حق ولكن مثل هذه السرعة لا تناسب هذا العصر .. ولا ترضى الكثيرين .. إننا فى عصر الصواريخ ..
ـ وماذا يفعل السائق المسكين ..؟ وما ذنبه ..؟ المحرك قديم وهذه هى أقصى سرعة للسيارة .. والأمر خارج عن ارادته .. ولو كان فى وسعه أن يطير لطار ..
ولكن هذا الكلام لم يقنع الشاب المرافق للأسرة وتبادل مع السائق كلمات جارحة حتى أن هذا أبدى استعداده عن طيب خاطر بأن يرد لهم العربون الذى تناوله منهم مقدما .. وينزلهم فى مدينة بنها دون أجر على الاطلاق ..
وبمثل هذه الحالة من التوتر سارت العربة فى وهج الشمس فى طريق ناعم كالحرير ولكنه مشحون إلى أقصاه بالسيارات الذاهبة والآبية ..
وكنت مستريحا فى الجانب الأيسر مغمضا عينى نصف اغماضة لا أعبأ بتحركات السيارة أسرعت أو أبطأت فى الطريق ولا أنصت إلى حديث الركاب الذين جلسوا معى فى هذا الحيز الضيق ..
وفتحت عينى إلى الحقول المزهرة على الجانبين .. وإلى الذهب المراق على الأرض فى كل شبر تطويه ..
كانت الحقول يانعة على امتداد البصر حوالينا .. والقطن قد تفتح نواره .. وعيدان الذرة قد استطالت سوقها وأطلت قناديلها ..
وعلى مبعدة فرسخ واحد تبدو القرى الوادعة .. وقد خيم عليها النخيل .. وحلقت فوقها أسراب من الطير تكسر أجنحتها وهى تتماوج وتتمايل فى سماء ساكنة ..
وقرص الشمس ما زال يلتهب وهناك شىء أشبه بالدخان بدأ يتجمع .. ثم ينقشع بددا ..
وظلت الصورة رائعة وأخاذة فى هذا المحيط الريفى الجميل .. وكان الفلاحون متناثرين هنا وهناك فى قلب الحقول وفى أطرافها يعزقون الأرض أو يسقون الزرع أو يشقون القنوات الصغيرة .. وسواعدهم المفتولة تبدو عارية تحت لفح الشمس ..
ولقد ظل هذا الفلاح على مر الدهور يحس وهو يعمل فى الأرض بساعده أنه سيدها ومالكها .. ظل كذلك دوما يشعر بنفسه وبكيانه وبأنه سيد هذه الأرض رغم ما حاق به من بؤس وعذاب فى عصور التلف وعهد الاستعمار .. ظل كذلك صامدا وعاش حتى استرد حريته وأصبح مالك الأرض الحقيقى وسيدها ..
وكانت هذه السوابح وأمثالها تطوف فى ذهنى وأنا أنظر إلى الحقول وأدخل فى تيه من الجمال فى كل لحظة حتى غفلت عمن معى فى السيارة ..
 ثم تنبهت على صوت السيدة التى أمامى ـ وكانت تود أن تزيح ستار النافذة .. الممزقة بعد أن خف وهج الشمس .. تسألنى فى صوت ناعم مبحوح أن كان ذلك يضايقنى .. فأجبتها فى همس بأن تفعل مافيه راحتها وتركتها .. وأنا فى شبه غيبوبة .. تزيح الستارة بيدها الرخصة ..
وقد جعلتنى هذه الحركة اتجه ببصرى إلى داخل العربة .. وأتفرس فى وجوه الركاب ..
كان الراكب الذى بجوارى سمينا بادى الطيبة له عينان وديعتان وبشرة سمراء ويرتدى حلة رمادية واسعة .. وكان خفيض الصوت قليل الكلام ..
أما الشاب الجالس بجواره مما يلى النافذة من نفس الصف فقد كان ثرثارا عصبيا ينفض رماد سيجارته دوما بيد مرتعشة .. وكان فى رأسه عينان قلقتان بادى التبرم .. وله جبين مقطب وسحنة عابسة كأنه يحمل هم الدنيا على كتفيه ..
وكان يحمل فى يده حقيبة أوراق صغيرة ظل يفتحها ثم يطويها .. كأنه ذاهب للمرافعة فى قضية لم يستعد لها ..
وكان يجلس أمامه شاب من طرازه وسنه وبدا لى أنه عائل هذه الأسرة الجالسة أمامى .. كان نحيلا قاسى النظرة طويل الوجه يرتدى حلة داكنة على قميص مفتوح .. ويشير بيديه وهو يتحدث .. وكان أنانيا غليظ الطبع ظل يفتح النافذة ويغلقها تبعا لهواه دون أن يسأل باقى الركاب عن رأيهم .. وجلس ملاصقا له الغلام وكان كثير العبث واللعب والحركة ولكنه مرح ضحوك ..
وكانت السيدة العجوز تضمه إلى صدرها ولم أكن أستطيع أن أعرف أهى أم للشاب أم للسيدة الشابة الجالسة أمامى أم هى والدتهما معا ..
فلم يكن يعنينى الأمر فى كثير ولا قليل ولا كان من طبعى الفضول ..
وكانت الشمس لاتزال تلتمع وكل شىء أخضر حولى .. ودخلنا فى تيه من شجر الصفصاف ..
وبدأ الجو يتلطف وأحسست بشعر السيدة التى أمامى يصافح جبينى وتهتز سوالفه مع الريح ..
وكان القميص الأسود الذى اختارته لتسافر به والذى يلف صدرها يخفى عن عينى كل مفاتنها ولكنه يبرز تحت نظراتى العنق العارى وبشرة فى لون الحليب الذى علاه الزبد ..
وشاهدت وهى تستدير لتحادث جارتها شامة صغيرة سوداء على خدها الأيمن زادت الخد الأبيض فتنة .. وجعلت خط الأنف الدقيق يتألق ..
وكان جرس صوتها منغوما .. وشفتاها مضمومتين وفى لون الكريز ..
وكان شعرها الأسود ساكنا ثم أخذ يتموج حين داعبه هواء الغروب ..
وتحت تأثير خاطر ألح علىّ بعنف أخذت أبحث بعينى فى أصابعها عن خاتم الزواج أو الخطوبة ولكن ضاعت نظراتى فى تيه من الحلى فارتدت خائبا ولم أتأكد من شىء ..
وكنت أعرف أن هذه الرحلة على قصرها ستحرك مشاعرى وتزيل تبلد روحى ..
ووجدت نفسى فى حالة من الانشراح والتفتح ..
وأدركت أننا جميعا ظلمنا السائق .. ولم نسمعه وهو يشقى فى سبيل راحتنا وبلوغنا المدينة التى نقصدها فى أمان كلمة طيبة واحدة وأن استياءنا من بطئه كان حماقة .. وأننا سنبلغ الغاية مهما طال السفر ..
وكان السائق مقبلا بوجهه على الطريق وقد استغرق بكل حواسه لأن الليل دخل وأضيئت المصابيح ..
وكنت أفتتن وأنا أرى الزرقة الصافية فى السماء .. وشعر الحسناء التى أمامى يكون هالة لوجه بدا فى الليل وفى الضوء الشاحب كالقمر ..
وأوغلنا فى الليل واشتد الظلام .. ثم لاحت أنوار طنطا من بعيد ..
ومال بنا السائق بعد قليل إلى المقهى الصغير المعد كاستراحة .. على الطريق .. ولم ندخل المدينة .. وخرجنا جميعا من السيارة لنستريح فى المقهى .. وجلست وحيدا أشرب فنجانا من القهوة ..
وكانت الأسرة التى ترافقنى فى السفر تجلس فى جانب من المكان ..
ورأيت السيدة الحسناء فى مواجهتى هناك .. وكانت ترمقنى من بعيد وكأنها تسألنى :
ـ لماذا ابيض شعرك قبل الأوان ..؟ ولماذا تجلس بعيدا ..؟
والواقع أننى كنت أقرب من كل شىء إليها .. وكنت قد أدركت تماما أن السبب الأول الذى جعلنى استطيب الرحلة ورجات العربة هو وجودها .. وأن أنفاسها المعطرة هى التى حولت الجو كله إلى أريج من العنبر ..
وظللت ألاحظهم بعينى وغاب وغاب عنهم الشاب ثم رجع فنهضوا جميعا .. وانخلع قلبى وأنا أراهم ينقلون حقائبهم إلى سيارة سوداء من طراز " شيفروليه " .. كانت واقفة فى جانب من الطريق ..
وعدت إلى العربة وحدى ومعى الرجل السمين الطيب وأصبحنا الراكبين .. الباقيين فقد طار الشاب الآخر أيضا وترك السيارة وانطلقنا متمهلين على الطريق فى الليل الأسود ..
وكان الهواء قد بدأ يهب ويطيب ولكن الليل قد ازداد أسودادا ووحشة ..
وكانت نجوم صغيرة تتدلى من فوق شجرات النخيل العالية هناك والمنازل القائمة فى القرى الموحشة التى كنا غربيها .. ولم يكن شىء يمكن أن يبصر الوحدة والصمت اللذين كانا يلفانى وأنا أنظر من خلال النافذة الصغيرة إلى الأرض السوداء التى تطوى تحتى وإلى السماء الصافية فوقى ..
وكان خط السماء الأزرق قد التوى هناك فى الأفق الغربى وبدأت الجهامة المطبقة ..
وقد نسيت السائق ومساعده كما نسيت جارى فى العربة ..
وكانت أسلاك البرق والتليفون القائمة بجانبى على الطريق قد غابت فى الظلمة وبدا لى أن السيارة أسرعت بعض الشىء فى طريق ناعم كالحرير ويقوم على جانبيه شجر الصفصاف ..
ثم سمعت صوت القطار السريع يصفر على الشريط الحديدى ويطوى الأرض طيا ..
وخيم السكون .. واشتد الظلام حتى أن العين لم تكن تلتقط أى إشارة للحياة على طول الطريق ..
وكان حفيف الريح الناعم قد أنعشنى ..
وكانت حواس السائق متيقظة على الطريق ..
وكنت قد رمقت صور رفاقى السابقين فى السفر صورة السيدة التى كانت تعطر المكان أمامى وأصبح مقعدها الآن خاليا ..
وكنت أسترخى فى الليل .. وأنوار السيارات التى تأتى فى الاتجاه المضاد تغشى البصر ثم تتركنا فى ظلمة رهيبة ..
وظللنا على هذا المنوال نطوى القرى والمزارع حتى خلفنا مدينة دمنهور .. وراءنا بمراحل وبدا الليل أشد سوادا ورهبة .. كانت السماء ضريرة النجم .. حالكة الظلمة حتى اختفت عن أعيننا كل القرى والكفور ..
وكانت أسلاك البرق السوداء فوقنا صامتة ثم أخذت تئن وتتوجع عندما سنت عليها الريح ..
وعلى ضوء العربة الكشاف لمحنا شيئا أسود منحرفا عن الجانب الأيمن من الطريق .. ولما اقتربنا وسلطنا عليه الضوء .. وضح كل شىء وأحسست برجفة سقط لها قلبى بين ضلوعى .. فقد وجدت رفاقى فى السفر الذين كانوا معنا منذ ساعة .. وكانت السيدة الشابة تحتضن رأس الشاب .. وكان هذا قد أصيب فى رأسه وصدره اصابة بالغة وغاب عن وعيه ..
والعجوز تمسح على رأسه بالماء وتفرك يديه ..
وكانت العربة التى يركبونها مهشمة ومات سائقها .. والعربة الكبيرة التى ضربتها فرت بعد الحادث فى جنح الظلام .. دون أن يلتقط رقمها أحد ..
وكانت اصابة الغلام والسيدتين خفيفة .. أما الشاب فقد كانت اصابته بالغة ومات السائق فى الحال ..
وكان الشاب جالسا بجوار السائق فى مقعد القيادة وجاءتهما الضربة من جنب سريعة فقتلته .. وفرت العربة الأخرى ..
وكان الحادث مروعا فقطعوا الليل بصراخهم .. ثم صمتوا ومرت عربة فرأت حالهم ونقلت الخبر إلى نقطة المرور التى طلبت عربة الاسعاف فى الحال والبوليس للتحقيق ..
وجاءت عربة الإسعاف بعد ساعة .. وحملوا المصاب على المحفة ..
ووجدت من اللياقة أن أركب مع السيدتين والغلام عربة الإسعاف ولا أتركهم وحدهم فى هذا الليل وجلست بجانب السيدة الشابة على الدكة الخشبية والعربة تمضى فى الطريق وجرسها يقرع أذن الليل ..
وكانت السيدة منكسة رأسها ملتاعة وفى عينيها متحير الدمع وعلى خدها جرح قد غسل وطهر بحلول أحمر .. فزادها فتنة ..
وكانت تنقل عينيها بين الرجل المصاب وبينى .. وكنت مطرقا واجما .. استمع إلى حفيف الريح .. وأفكر فى ذلك الشىء السرمدى الذى يحركنا ولا نراه ويرسم لنا خط الحياة وفكرت فى القدر .. فكرت فى الموت والحياة .. وسمعت صوتا هاتفا خيل إلىّ أنه صوت الشيخ رفعت .. وكان يرتل القرآن بصوت حزين مؤثر بالغ حد الاعجاز فأغمضت عينى تماما ورحت فى دوامة من الأسى ..
وتحرك المصاب حركة يائسة .. فمدت السيدة إليه يدها وهنا لمحت خاتم الزواج فى أصبعها لأول مرة .. فأطرقت إلى أرض السيارة ..
وكانت السيدة الأخرى العجوز صامتة ووجهها جامدا والغلام نائما .. ورجال الاسعاف قد شغلوا عنا بالحديث فى شئونهم الخاصة ..
ووصلنا الإسكندرية وكانت متلألئة بالأنوار .. ألم تكن المدينة الجميلة تحس بما جرى فى الليل .. وهى مثل الحياة .. أبدا تسير ولا تعبأ بما يجرى فيها أو يتخلف عنها ..
ودارت السيارة وصعدت التل إلى المستشفى الأميرى ..
وبعدم اكتراث وبروح خالية من كل عاطفة انسانية تلقى الطبيب المصاب ..
وفى ردهة المستشفى رأتنى السيدة الشابة أروح وأجىء صامتا أخرس .. ورأيتها واقفة بكامل ملابسها كانت طويلة جدا ومحلولة الشعر .. وقد روعها الحادث وهز أعصابها ولكنها كلما واجهتنى ووجدتنى واقفا على باب المصاب .. كانت تود أن تقول لى :
ـ تفضل واسترح .. كفاك تعبا .. ولكن لسانها كان يخونها .. وكنت أعرف أن زوجها سيموت بعد ساعة .. ولا أحب أن أسمع صراخها .. فأغمضت عينى وجلست فى الردهة وكانت تسبح فى ذلك الضوء الباهت والسكون يخيم على المستشفى وأحسست بريح الموت فتسللت إلى الخارج ..
واتجهت إلى البحر .. وكان قلبى يهدر مثل البحر تماما وكنت أعرف أن الموج كفيل بأن يغسل أحزانها ولكن متى يحدث هذا ومتى أرجع إليها .. وأقرع بابها فى أمسية من أماسى الخميس ..




========================  
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=======================
 


الغضـب



     خرج إبراهيم من المنزل فى الضحى .. وأخذ يسير فى شوارع القاهرة كالضال .. وهو شاعر بأقصى درجات التعاسة .. فقد ظل يبحث عن وظيفة منذ تخرج من الجامعة وطال البحث والتنقل بين المكاتب والدواوين دون نتيجة ..
     وكان فى جيبه ثلاثون قرشا ولم يكن يعرف بعدها كيف يواجه الحياة .. فقد باع كل ما يمكن أن يملكه بما يسد رمقه .. حتى كتبه باعها .. ولم يبق لديه شىء يباع وأصبح فى حالة قاتلة من اليأس والعذاب وسدت أمامه كل المنافذ وأظلمت الدنيا فى عينيه حتى فكر فى الانتحار كآخر وسيلة للخلاص مما هو فيه من بؤس ..
     وكان ينقل الخطو متثاقلا وفى رأسه الخاطر الأسود الذى أخذ يلح عليه ..
     ولاحظ لأول مرة وهو يمشى فى شارع سليمان باشا تجمعات الجماهير فى أكثر من مكان ثم ضوضاء وصخب وأخذت الضوضاء ترتفع ويعلو ضجيجها حتى اشتم رائحة الثورة من الأنفاس المتحركة فى الطريق .
     كان هناك شىء لم يدركه يجرى فى قلب القاهرة .. شىء لم يكن فى حسبانه .. ولكن حدوثه كان مقدرا بعد العناوين المثيرة التى فى صحف الصباح عن معركة الاسماعيلية بالأمس بين جنود بلوكات النظام والإنجليز ..
     اشتم رائحة الثورة وهو يتحرك وحده فى الشوارع الضيقة .. فلما أشرف على ميدان مصطفى كامل رأى أبواب المتاجر تتحطم .. والناس تتدفق كالسيل فى موج يدفعه موج .. فشعر بهزة وسار فى ركابها ..
     وكانت الجموع تزداد فى كل لحظة هياجا وغضبا .. وترتد عن الشارع ثم تعود إليه .. وبدا له جليا أنه لايحركها ولا يصدها أحد .. وأنها تتحرك من تلقاء نفسها بفعل الغضب وحده .. تتحرك وهى ترعد .. ومن عيونها يطل الشرر ..
     وكلما انتقل من شارع إلى شارع كان يسمع خبرا مثيرا وجديدا عن معركة الأمس .. كان يسمع خبرا يلهب حماس الجماهير ويزيد من غضبها ..
     ولما وصل إلى شارع " فؤاد " رأى لونا آخر من الغضب على وجوه الجموع الحاشدة .. رأى غضبا أسود لم يره من قبل ..
     رأى الأثاث يلقى من النوافذ والشرفات والنيران تشتعل فى المتاجر والبيوت ..
     وسمع الصراخ يقرع أذن الجوزاء وبدأت أجراس عربات المطافىء تدوى فى الشوارع .. جرس وراء جرس .. والخراطيم تمتد على الأرض .. والسلالم الطويلة تصل إلى السقوف ..
     وأخذ الماء يتدفق فى الشارع ويغسل واجهات العمارات العالية وامتلأت الطرقات بالهباب وبعروق الخشب المتساقطة والنوافذ المحطمة وقطع الزجاج المهشم ..
     وردته الجماهير إلى مكان آخر من نفس الحى .. وشاهد الجموع تجرى فجرى معها دون أن يدرى الغاية من العدو .. ثم توقفت وأخذت تسير فى صفوف متراصة وخيل إليه أنها أصبحت تسد عين الشمس ..
     ولمح خوذات رجال المطافىء النحاسية تلمع وضباب الدخان يملأ الجو وشعر بصدره يضيق من الدخان فانحرف إلى شارع عبد الخالق ثروت وهناك شاهد نفرا من الناس يحاول أن يحطم باب أحد المتاجر .. فوقف من بعيد يراقبها دون أن يشترك معها فى العمل ..
     ولما تحطم الباب الحديدى .. رآهم يتدفقون إلى الداخل وراقب العمل بطراوة وشاقه منظرهم الوحشى فأسرع اليهم ودخل معهم المتجر ورآهم يلتقطون المجوهرات والساعات فى لمح البصر ويحشون بها جيوبهم ..
     ودون أن يشعر أو يحس بما فعل امتدت يده سريعا ووضع " عقدا " من الجواهر الثمينة فى جيبه .. وأحس بالعرق وهو يفعل هذا ولكنه لما خرج من المحل .. عاد إلى نفسه ومشى هادئا فى الطريق ثم الفى نفسه يسرع ويخرج من الشارع ..
     وكان قد دخل فى قلب المعركة وشاقه العمل كله .. شاقه تدفق الجماهير فى الشوارع وحماستها وصياحها وصخبها بل شاقه النهب نفسه ..
     وكانت النيران تشتعل وأسقف البيوت تتداعى حواليه ..
     وسمع عن قرب صوتا مضطربا كان صوت الرصاص المنطلق والصراخ يمزق السكون ..
     وجاءت عدة طلقات فى تعاقب سريع ..
     وأدرك أن العمارة المجاورة تحترق .. ان حى البنوك يحترق فى الحال ..
     وكان شعاع الشمس يتخلل الدخان الاسود ..
     ودفعته الجموع إلى عمارة عالية فى الشارع وصعد السلالم معهم بقوة الدفع ..
     ولم يكن وهو يصعد يعرف الغرض من صعودهم وفى الدور الثالث توقف على البسطة ..
     وسأل شاب من الصاعدين ..
     ـ إلى أين نصعد ..؟
     ـ فوق .. انجليز فى الدور الخامس ..
     ـ لايوجد انجليز فى هذه العمارة ..
     قالها بسرعة دون أدنى تفكير ..
     ـ وكيف عرفت هذا ..؟
     ـ أعرف عن يقين .. لايوجد إنجليز هنا ..
     ـ بل يوجد فى الدور الخامس .. والناس كلها تقول ذلك .. ومن أنت أتسكن هنا .. ؟
     ـ أبدا ..
     ـ وكيف تنفى وجودهم إذن .. انك خائن .. جاسوس ..
     ـ جاسوس .. جاسوس ..
     وسمع الكلمة فارتعش قلبه .. وأحاطت به الجماهير .. وأحس بأنه يختنق .. وأخذوا يضربونه .. فأفلت منهم وجرى على وجهه إلى تحت ..
     وفى الشـارع كان يعـدو كالمخبـول ويسـمع الكلمة تلاحقه ..
     ـ جاسوس .. جاسوس ..
     فذعر وفر هاربا ..
     ووجد نفسه بعد أن انخلع قلبه من الذعر والعدو .. يدخل أول بيت صادفه .. ويصعد السلالم سريعا .. ووقف أمام شقة فى الدور الرابع .. وضغط على الجرس بهلع .. فقد كانت الأقدام تلاحقه على السلم .. وأطلت سيدة من وراء الباب .. وقبل أن تفتح فمها كان قد دخل والدم يسيل من وجهه وأغلق الباب ووقف وراءه .
     فنظرت إليه السيدة فى استغراب ووجل ولكن حالة الذعر التى كان عليها وصياح الجماهير وراءه جعلها تدرك حاله ..
     وسمع الأصوات على السلم تصيح :
     ـ أين ذهب ..؟
     ـ هرب .. ودخل شقة فى هذا الدور ..
     ـ فى هذه الشقة ..
     وأخذوا يقرعون كل الأبواب .. ولما قرعوا باب الشقة التى دخل فيها ابيض وجه السيدة ولم تفتح وحبست انفاسها وظلت فى مكانها جامدة .. وسقط إبراهيم فى هذه اللحظة مغمى عليه من الخوف .. لما تصور أنهم شرعوا يحطمون الباب ..
     وأخذت السيدة وخادمتها تحاولان اسعافه بكل الطرق وشعرت بهم وهم يهبطون الدرجات ويرحلون ..
     ولما أفاق إبراهيم وجد نفسه ممددا على كنبة .. والسيدة وخادمتها تسعفانه وتغسلان جراحه .. فتذكر ما حدث ونظر إلى السيدة فى ذلة كان يخشى أن تطرده بعـد أن اسـترد وعيه ..
     وسمعها تقول للخادمة ..
     ـ اعملى قهوة يا ستيته للأفندى ..
     ـ شكرا يا سيدتى لاداعى للتعب ..
     ـ القهوة تنفعك فى هذه الحالة .. اسرعى يا ستيته ..
     وعادت ستيته تحمل صينية القهوة
     وأخذ إبراهيم يترشف فنجانه فى تؤدة وهو يشكرها .. ولاحظ أن ملابسها خفيفة رغم برد الشتاء ..
     وكانت جميلة ريانة العود طويلة بيضاء البشرة ولاتزال رغم أنها تعدت الثلاثين سنة شابة فى نضارتها والدم الجارى فى شرايينها .. وخمن من السكون الذى طالعه من البيت أنها تعيش مع خادمتها ..
     وسألته وهى تنظر إلى عينيه ..
     ـ ما الذى فعلته ..؟
     ـ لاشىء اطلاقا ..
     ـ ولماذا يطاردونك إذن ..
     ـ اتهمونى .. بأنى جاسوس ..
     وضحكت ..
     ـ جاسوس يمكن أن يكون هذا صحيحا ..
     ـ صعدوا إلى عمارة فى الشارع المجاور وهم على حالهم من الغضب ورأيت السكان يطلون من النوافذ فى رعب قاتل .. فأشفقت عليهم من هذا الاعصار الذى يدمر كل شىء فى طريقه .. قلت لهم انه لايوجد انجليز فى العمارة فاتهمونى بالجاسوسية .. وكادوا يقتلوننى ..
     ـ الجماهير الثائرة لاعقل لها ..
     ـ وهل شاهدت النيران .. القاهرة تحترق ..
     ـ ومن الذى أضرم هذه النيران ..
     ـ المخربون والفوضويون .. وهم كالجرذان فى هذه الساعة ..
     ـ وغضب الجماهير يجعلهم يؤدون مهمتهم بنجاح ..
     ـ أجل .. الغضب الأسود ..
     وأخذت صاحبة البيت تتأمله فى سكون .. ولما بصر بالعذوبة فى عينيها والرقة فى حديثها أخذ يتأملها بدوره فبدا له جليا من لون عينيها وبشرتها ولهجتها أنها مصرية وغالبا تعمل فى الليل وتستريح بالنهار وخمن أنها راقصة فى ملهى أو غانية من بنات الهوى .. ولهذا اختارت السكن فى هذا الحى ..
     أخذت تنظر إليه فى حنان وعلى ثغرها ابتسامة جميلة ..
     وذاب تحت سحر نظراتها ..
     وفكر فى هذه اللحظة فى العقد .. وكان قد نسيه فى غمرة الحوادث التى مرت به .. وتحسسه فى جيبه فألفاه فى مكانه .. وعجب أن أيدى الجماهير التى سحقته وضربته لم تمتد إليه . وفكر فى أن يقدمه فى هذه الساعة إلى هذه السيدة .. ثم رأى أن يؤجل ذلك إلى حين ..
      وعجب لنفسه وهو يرغب فى الموت فى كل لحظة لماذا فر منه عندما وجد الموت محققا .. وعندما وجد الجماهير تود أن تفتك به .. أخشى من التعذيب أم لأن النفس عزيزة ولا تهون إلا فى حالة التفسخ والجنون ؟..
     وأخذ يتأمل حاله وكان كلما هم بالانصراف أبقته السيدة بكلمات طيبة شجعته على البقاء .. وكانت الساعة قد قربت من الثانية بعد الظهر ..
      وشعر بالخادمة وهى تعد سفرة الغداء .. ودعته إلى الطعام فلم يرفض لأنه كان يشعر بجوع شديد .. وجلس يأكل بشهية .. وهى تلاحظه وتقدم له الطعام بحنان ..
     ولما فرغ قال لها :
     ـ انها أشهى أكلة أكلها فى حياته ..
     فسرت احسـان من هـذا الاطـراء الذى هـز أعماق أنوثتها ..
     وكانت الخادمة ستيتة كما أمرتها سيدتها قد أغلقت جميع الأبواب والنوافذ ولما كانت الشقة داخلية ولا تطل على الشارع فقد بدت الردهة معتمة ..
     وكان كلما هم بالخروج أبقته السيدة احسان وقالت له أنها تخاف الآن ولم تشعر بمثل هذا الخوف فى حياتها .. بعد أن رأت النيران مشتعلة فى الحى .. والجماهير الغاضبة .. وترجوه أن يبقى معها هذه الليلة ما دام يعيش وحده فى القاهرة ولن ينزعج أحد لغيابه عن البيت ..
     ورأى من توسلاتها ونظرات عينيها أن يبقى ..
     وجلس يتحدث مع احسان حتى دخل الليل وأخبرته أنها تشتغل راقصة فى ملهى بشارع عماد الدين وأنها تعيش وحدها مع الخادمة .. وتذهب إلى المرقص فى الساعة التاسعة ليلا .. ولكنها هذه الليلة لن تذهب بالطبع .. وربما كان الملهى نفسه يحترق فى هذه الساعة فقد سمعت أن الحريق امتد إلى بناية مجاورة له ..
     ورآها جميلة وطيبة وعذبة الحديث وفيها رقة وصفاء فحزن لأنها تحترف هذه المهنة وتعرض جسمها عاريا كل ليلة للأنظار المتوحشة ..
     وسألها :
     ـ هل تربحين كثيرا من هذه الحرفة ؟
     ـ أبدا .. واخترتها بعد عذاب .. وجوع ..
     ونظرت إلى السـقف كأنها تحلم أو تسترجع شريط حياتها ..
     وقالت بصوت ناعم الجرس :
     ـ كنت متزوجة من شاب وسيم وغنى وكنت صغيرة .. وأطوع له من بنانه .. ولكنه خاننى أبشع خيانة ..
     ـ كيف .. ؟
     ـ كنت مريضة بالتيفود .. وطريحة الفراش .. وذات ليلة وجدته يحتضن الخادمة .
     ـ وتركته بعدها ..؟
     ـ أجل طلبت الطلاق .. وكنت وحيدة وفقيرة وأريد أن أشتغل فى أى عمل أعيش منه .. حتى غسالة فى البيوت .. لأصون نفسى من الدنس .. وأظل عفيفة .. ولكن .. أى رجل لايتقاضى ثمن خدماته للمرأة المسكينة !؟ ودفعت الثمن لأول رجل شغلنى فى مصنع للتريكو .. وبعدها هانت علىّ نفسى واحترفت الرقص .. وأنا أعيش مستقلة ..
     ـ ومسرورة بعملك .. وشاعرة بالراحة ..؟
     ـ لقد تبلد احساسى فى الواقع .. لم يعد له احساس الأنثى .. وأنا أمثل فى كل ليلة .. أتكلف الابتسام والضحك لأرضى الزبون ..
     وأمنيتى أن أقع على من يخفق له قلبى .. ويسمعنى كلمة حلوة مجردة من كل غرض ..
     ـ أو لم تسمعى هذه الكلمة بعد ..؟
     ـ أبدا .. ما سمعتها قط ..
     ـ ان هذا محزن فى الواقع ..
     ورفعت رأسها إلى عينيه وسألته :
     ـ لماذا يبدو وجهك شاحبا .. هل لازلت خائفا ..
     ـ ذهب عنى الخوف .. ولكن هذا من أثر الجوع ..
     ـ وهل أنت فقير إلى هذا الحد .. ولماذا لاتعمل ؟
     ـ فقير جدا .. ومنذ سنين وأنا أبحث عن عمل .. دون نتيجة ..
     ـ تعال عندى فى الملهى وأشغلك ..
     ـ فى أى وظيفة ..؟
     ـ سأجعلك تراقب الزبائن فى الصالة ..
     ـ لست من ذوى العضلات الحديدية حتى أصلح لهذا .
     ـ أى عمل .. أى عمل تحبه ..
     ـ يا سيدتى شكرا جزيلا ..
     وحدقت فى وجهه طويلا .. وقالت :
     ـ لا أدرى أين رأيتك من قبل .
     ـ وأنا كذلك أسائل نفسى هذا السؤال..
     ـ ولهذا لم يكن وجهك غريبا عنى وأنا أفتح لك الباب .
     ـ لقد نجيتنى من الموت .. ولا أدرى كيف أشكرك ..
     وتحسس العقد فى جيبه .. ثم أخرجه وقدمه لها ..
     وبرقت عيناها وحدقت فى عجب ..
     ـ ما هذا ..؟
     ـ عقد وجدته ملقى فى الطريق .. سقط من الذين نهبوا المتاجر ..
     ولم يشأ أن يقول لها أنه سرقه ..
     وسألته :
     ـ أنهبوا المتاجر ..؟
     ـ معظم الحوانيت فى هذه المنطقة .. نهبت وحرقت ..
     ـ يا ليتنى كنت هناك ، كنت ملأت بيتى بكل ما يعوذنى من تحف وجواهر ..
     وضحكت ..
     فقال :
     ـ أنزل .. وأملأ لك جيوبى ..؟
     ـ أتسرق ..؟
     ـ لقد سرقت ..
     ـ سرقت ..؟!!
     ـ نعم وهذا العقد سرقته .. لم أجده فى الشارع كما قلت لك من قبل ..
     واحمر وجهه ..
     ولاحظ أن لون وجهها شحب ونظرت إليه باشفاق ..        

     ـ ولماذا فعلت هذا وأنت شاب وأمامك الحياة الشريفة .. تشق طريقها بأظافرك ..؟

     ـ لقد فعلت ما فعل الناس .. وجدتهم يسرقون ويغشون ويكذبون .. ففعلت مثلهم ..
      ـ وهل الناس جميعا هكذا كما تصورت .. انك ناقم على المجتمع لأنك عاطل .. ولماذا تبحث عن وظيفة فى الحكومة .. ابحث عن عمل آخر وهناك عمل لكل من يكافح ..
     ـ ما الذى أفعله وأنا فقير .. والأجانب يسيطرون على كل الأعمال الحرة ويمسكون الخيوط فى أيديهم .. ولا أحد يستطيع أن يتسلل من هذا الحصار ..
     ـ هذا حق .. ولكن على المرء أن يسعى ..
     ـ لقد سعيت كثيرا وتعبت ..
     ـ داوم على الطرق ..
     ـ الآن وقد بعثت فى روحى الأمل سأداوم ..
     ـ ضع العقد فى جيبك ..
     ـ كيف .. اننى أقدمه لك ..
     ـ ضعه فى جيبك لا أحب أن تراه ستيتة ..
     ـ ولماذا تردينه ..؟
     ـ لتقدمه للبوليس .. قل أنك وجدته ملقى فى الطريق ..
     ـ سيقبضون علىّ .. هل أنا مجنون حتى أفعل هذا .. سيقبضون علىّ وأدخل السجن بسبب حماقتى ..
     ـ والآن أنت مستريح ..
     ـ كل الراحة ..
     ـ اذن خذه ..
     ونهضت ووضعت العقد فى جيبه .. كما كان .. وأحس بجسمها وهى تفعل هذا يلامس جسمه ويضغط عليه .. فأحس بلسع النار .. وظهر الاضطراب على وجهه .. ولكنه بعد قليل سيطر على عواطفه ..
     وانسابت بخفة إلى المطبخ وهى تقول :
     ـ سأعد العشاء بنفسى ..
     وجلسا يتعشيان فى غرفة الطعام وكان الليل قد قارب منتصفه والنيران مشتعلة فى الشوارع المجاورة والدخان يملأ جو السماء .. وكانت الخادمة قد تكورت فى فراشها منذ ساعات .. وبقيا ساهرين وحيدين وأحسا بالهدوء والألفة وكان قد عشقها من أول نظرة .. وبادلته نفس الاحساس ولكن بتحفظ المرأة المجربة ..
     وكان من عادتها أن تشرب قليلا من الكونياك مع العشاء .. فجعلته يشرب معها .. وشرب وأحس بالنشوة والشجاعة على محادثتها بكل ما يشعر به .. أفضى لها بكل أحاسيس نفسه .
     ولما حان وقت النوم فرشت له فى غرفة الجلوس ..
     وقالت له :
     ـ تصبح على خير ..
     واستدارت لتخرج من الغرفة فوجد نفسه تحت تأثير الخمر يطوقها بذراعيه ويطبع على خدها قبلة ..
     فأفلتت منه سريعا .. وقالت بصوت فيه رنة الغضب :
     ـ لماذا تفعل هذا .. أتحسبنى رخيصة وسهلة المنال إلى هذا الحد ..؟
     ـ ما فكرت فى هذا .. اننى ..
     ـ هل ظننت وأنت فى جيبك الثمن .. أنه من السهل أن تلقينى على الفراش ..
     ـ يا سيدتى أعتذر .. وسأخرج الساعة ..
     ـ تفضل ..
     وأخذ يرتدى سترته وكان قد خلعها لينام ..
     ومشى إلى الباب وقبل أن يفتحه أشفقت عليه من الليل والظلام وما يحدث فى الخارج .. وأمسكت بيده .. وجذبته إلى غرفتها .. وأغلقت عليها الباب ..
***     
     وفى الصباح استيقظ عندما لاح النور .. وهو يحس بسعادة دافقة أحس بأنه قضى معها ليلة العمر ..
     ولبس ملابسه سريعا .. وكانت احسان لاتزال نائمة .. وتعمد ألا يحدث أقل حركة توقظها ..
     وترك لها العقد بجوار الفراش وتسلل بهدوء .. وفتح الباب .. وخرج إلى الطريق ولم يكن يعرف أن التجول ممنوع فى هذه الساعة ..
     وقبل أن يخرج من الشارع .. حسبه جندى الحراسة .. لصا من الذين تسللوا إلى المتاجر التى تحطمت .. أبوابها .. فأطلق عليه النار .
وسقط فى مكانه
================================ 
نشرت القصة فى مجلة القصة عدد يولية 1964 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=================================    

صقر الصحراء



كنا ثلاثة من الشبان الأشداء .. خرجنا من القاهرة فى سيارة جيب فى وسط النهار إلى قلب الصحراء ..
وكان الجو حارا والطريق صعبا .. والسيارة العتيقة تخب بنا خبا فى جو ينذر بالزوابع ..
وبدت الرمال من حولنا صفراء تلتمع من وهج الشمس الحامية وكثبان الرمال تذروها الريح ..
تلثمنا واتقينا الشمس والعاصفة ما وسعنا الجهد .. وكانت البيداء من حولنا لا يحدها الطرف ..
وكنا نعرف الطريق إلى البئر .. ولكنا نخشى العطب الذى يصيب السيارة ..
ولذلك أعددنا العدة بقطع الغيار اللازمة لكل الطوارىء ..
وكنا نحن الثلاثة نعرف فى ميكانيكا السيارات أكثر من معرفتنا بأمور الحفر فى البئر الذى نقصده ..
وكان البئر هناك فى أرض رملية على مبعدة 160 كيلو متر من المدينة ونود أن نطبق على التربة العذراء نظرية علمية معززة بالتجربة العملية .. وتجرى عليها الماء ونزرعها ثمارا وبطيخا مابلغنا القصد ..
وكان العمال يقومون هناك بأعمال الحفر .. والمحراث يقلب التربة .. وكل شىء قد هيىء للزراعة ..
وعندما قطعنا ما يقرب من ثلاثين كيلو متر فى قلب الصحراء .. كانت الشمس قد التهبت وزادت حرارتها .. وحبات الرمال بدت كجمرات من النار الموقدة ..
وأخذ الماء يغلى فى جوف السيارة ويتصاعد منه البخار فأخذنا .. نزوده بالماء البارد بعد كل لحظة خشية احتراق المحرك ..
ولم يكن هناك طير يحلق فى السماء ولا وحش فى الأرض .. وحوالى الساعة الثالثة بعد الظهر هدأت الريح وسكنت الزوبعة وبدت الرمال .. الساكنة .. هى الشىء الوحيد الذى يتنفس فى هذا التيه .. فلم يكن هناك زرع ولا ظل لزرع ..
وكنا قد رفعنا الغطاء فوق السيارة منذ اشتعال الشمس وهبوب العاصفة ..
وجلس أحدنا بجانب السائق .. وجلست وحدى فى الخلف مسترخيا حالما بالزرع النضير فى تلك البيداء .. التى بدت كأنها لا تتنفس فيها الحياة ..
وكان معنا زاد كامل من الطعام والشراب ولكن حتى عندما اقترب العصر لم نكن نحس بجوع .. وشربنا قليلا من الماء حتى لا نغرق فى طوفان من العرق ..
وكنا نحن الثلاثة ندخن بكثرة وكان السائق أكثرنا شراهة فى اشعال النار ..
وكانت الطريق خالية من السيارات تماما ولكن صعوبتها جاءت من أنها غير معبدة وكثيرة المتعرجات والمرتفعات فكنا نعلو ونهبط بعد كل خمسين ذراعا ..
وظهر للعيان أنها أقيمت على سلسلة من التلال التى يأخذ بعضها برقاب بعض وأن الذين اختاروا لها هذا المكان لم يجدوا ما هو أحسن منه ..
والذى يرتاد الصحراء يحس بالوحشة بعد ساعة واحدة من رهبة التيه وفرط السكون المخيم وأحسسنا بالوحشة من خلو الطريق وسكونه ..
وكان مع أكبرنا سنا بندقية صيد .. ولكنا لم نعثر قط على شىء نطارده .. ولم يكن الصيد قصدنا ولا مبتغانا فلم نبتئس ..
وكنا نحن الثلاثة فى سن متقاربة ولا نتجاوز الخامسة والعشرين من أعمارنا ولم نتزوج بعد ودار فى خلدنا ونحن نمضى فى هذا التيه أنه إذا غمرتنا الرمال فليس هناك من ولد يبكينا ولا زوجة تندبنا .. وأن المسألة ستمر بسلام ..
وبعد أن اجتزنا نصف المرحلة هبت نسمة من الهواء الرخاء انعشت نفوسنا ورطبت أفئدتنا ولكن بعد دقائق معدودات خنقتها الحرارة .. الخانقة .. وذابت فيها ..
وسرنا والعرق يسح والأرض ترمض بالشواظ ..
وكان لابد أن تستريح السيارة بعد ثلاث ساعات من السير الجاد .. فملنا بها عن الطريق .. ورفعنا غطاء المحرك ..
وأكلنا بعض الزاد وشربنا وبعد نصف ساعة تحركنا بمثل الحال الأولى ولكن الراحة القليلة أفادتنا كما أفادت السيارة ..
وكانت الرؤية واضحة والسماء أكثر صفاء وزرقة من أى ساعة شاهدناها فيها ..
وعندما مالت الشمس إلى المغيب لمحنا من بعيد قافلة من الجمال على الجانب الأيمن من الطريق ..
ولما اقتربت منا لاح راعيها بعصاه الطويلة وتمهلنا وغيرنا من سرعة السيارة مخافة أن تنفر الجمال على صوت المحرك .. أو أن تغير وجهتها وتعبر أمامنا الطريق وكنا فى واقع الحال نريد أن نملأ عيوننا منها .. كانت بيضاء جميلة وقد لوحت جلودها الشمس ..
كانت كلها مرفوعة الرءوس شامخة تحدث عن سلالة عربية أصيلة ..
ولما بارحتنا أسفنا لفراقها فقد أنسنا بها لحظات هنية ..
وبعد مرحلة طويلة من السير الجاد أدركنا أننا ضللنا الطريق وأننا نسير على غير وجهتنا ..
وتملكنا الهلع وتوقفنا ونحن نرمى ببصرنا فى كل اتجاه كأننا نلتمس المخرج من هذا التيه ..
وقر قرارنا بعد أن تبينا الملامح والمعالم التى حولنا والتى كانت جديدة علينا أن نستقبل من طريقنا ما استدبر حتى نرجع خمسين كيلو متر إلى الوراء .. ومن منعرج على الدرب نأخذ الطريق الصحيح إلى البئر ..
وفيما نحن ندور بالسيارة ظهر عند خط الأفق شىء أشبه بكوخ على ربوة .. فعجبنا لوجود مثله فى هذه البيداء القاحلة ..
وحسبنا أن أبصارنا خدعتنا فى مثل السراب ولكن لما دققنا النظر وجدنا الأمر جليا وظهر الكوخ بوضوح ..
ودفعنا الفضول والعجب أن نتجه إليه أولا إذ كان من الحكمة والصواب أن نسترشد بمن فيه عن معالم الطريق ..
وأخذنا الطريق إليه ولما اقتربنا ظهر بيت من طابق واحد .. وأمامه بستان من النخيل ولم يكن على الباب أحد ..
وترجلنا من السيارة ودرنا حول المكان فلم نعثر على إنسان ما ..
ثم تقدم أحدنا وقرع الباب .. فوثب على صوت القرع كلب ويبدو أنه كان نائما فى البستان وأخذ علينا الطريق .. ثم أخذ يتحرش بنا فى توحش فتراجعنا إلى الخلف مذعورين وصاح أحدنا مرعوبا ..
وخرج على الصوت شيخ طاعن فى السن وأطل من الباب بعينى صقر وكان يشتمل بحرام ويعتمد على عضد الباب ويطل من وجهه المرض ..
وزجر عنا الكلب ودعانا للدخول ودخلنا على التو .. لما تبينا أنه مريض وأن وقفته على الباب ستؤذيه ..
واعتذر الشيخ لمرضه ورجع إلى فراشه فى فناء البيت .. وهو لا يكاد يتماسك ..
وأبدينا أسفنا لأننا أزعجناه وهو مريض وحكينا له ما حصل من ضلالنا الطريق .. فبين لنا كيف أخطأنا .. وخشى أن نضل أكثر لو سرنا فى هذه الساعة ودخل علينا الليل .. واستحسن أن نقضى الليل فى ضيافته وفى الصباح المبكر .. نستأنف سيرنا ..
ولأن الشيخ كان فى حالة شديدة من المرض وهو فى هذا المكان رأينا أن نبقى بجانبه هذه الليلة لعلنا نقدم له كل عون ونساعده على الشفاء ..
وأشار بيده إلى الشاى والطعام فى الداخل فشكرناه بحرارة .. وقلنا له إن معنا زادا كافيا ..
وكان معنا اسبرين وبعض الأدوية التى تقى ضربة الشمس فصنعنا له شايا وقدمنا له الدواء ..
وحدثنا عن حياته وكيف يتاجر فى التمر والإبل .. وأن أولاده متفرقون فى الصحراء يسعون وراء معاشهم .. وأنه قد ماتت زوجته ويعيش وحده ..
وقد اعتاد على هذه الوحدة وألفها وأصبح يستأنس بالحيوان كما يستأنس بالإنسان دون أدنى فارق ..
ولما دخل الليل أشعل السراج ولشدة الحرارة نمنا جميعا فى العراء خارج الكوخ ..
وترك الشيخ بابه مفتوحا ونام فى مدخل الباب لمرضه .. وبعد الساعة العاشرة ليلا أخذنا النوم جميعا ..
وفتحت عينى على شىء أسود وقف على رأسى ولما أمعنت البصر فيه صرخت وعلى أثر الصرخة استيقظ رفيقى الذى معه البندقية ولكنه من فرط الرعب الذى انتابه وهو ينظر إلى الوحش ارتعشت يده ولم يحرك الزناد .. ثم أطلق طلقة طاشت ..
وكان الشيخ قد بصر بالضبع فى نفس اللحظة التى رأيته فيها وظل يجاهد ويتحامل على نفسه وهو مريض حتى وصل إلى مكان البندقية .. ورأيته ينتصب وقد التمعت عيناه ونضح وجهه عرقا ..
ونسى فى غمرة الانفعال مرضه تماما .. وخرج يشق الطريق فى الظلام إلى حيث الوحش ..
وكان كل من يراه وهو يمسك بالبندقية يدرك أنه رجل من طراز فريد فى رجال الصحراء وطواه الظلام ولم نعد نراه ..
وبعد قليل سمعنا صرخة وفزعنا ولم نكن ندرى أصرخته هو أم صرخة الوحش ولكن لم تمض لحظات أخرى حتى رأيناه راجعا وكان يمشى بتؤدة .. ويسحب شيئا أسود ضخما لايزال يقطر منه الدم ..
وكنا قد سمعنا كثيرا ونحن نتجول بسيارتنا فى هذه البيداء عن صقر الصحراء ولكنا لم نكن قد رأيناه عن قرب ..
========================  
نشرت فى مجلة القصة بالعدد رقم 9 فى سبتمبر 1964 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================== 




فى الغسق



كان يقف فى قلب الميدان يبيع الصحف للمارة فى حى تكثر فيه الحركة والعمل .. وسكانه على مستوى اجتماعى مرتفع وكثير منهم يتمرغ فى النعيم ..
وكان عبد العظيم يبيع الصحف العربية والافرنجية وعملاؤه من المصريين والأجانب ..
ومن النساء الأنيقات .. واللواتى يطلبن مجلات الأزياء المرتفعة الثمن ويدفعن بسخاء ورضى ..
وكان الجميع يعرفونه بصوته الجهورى .. ويحبونه لأمانته ونشاطه وحسن تصرفه وسرعة تلبيته لطلباتهم .. فما كان يخيب رجاء طالب لصحيفة أو مجلة مهما بعد بها الزمن ..
وكان فى الأربعين من عمره طويلا ممتلىء الجسم قويا أبيض مشربا بحمرة .. وعيناه سوداوان حادتان وفيهما بريق الذكاء وصفاء الطيبة ..
واعتاد أن يرتدى السترة والبنطلون قبل أن تخرج البدلة الشعبية إلى الوجود ويدعى لها .. لأنه يعمل فى حى افرنجى .. ولأنه أحس منذ حداثته بأن الجلباب يعوقه عن الحركة وهو يريد أن يجرى وأن يقفز كلما دعت الضرورة إلى الجرى والقفز ليلحق بالترام والأتوبيس فى شبكة مواصلات رهيبة وفى مدينة كبيرة كلها صراع على الحياة ..
وعلى الرغم من أنه يبيع الشىء المقروء من نتاج المطابع .. ولكنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب .. ولا ذنب له فيما جناه عليه الفقر ..
وكان بذكائه وفراسته يميز بين المجلات بدقة مذهلة حتى المتشابه منها لايفوت عليه فالأخبار غير الأهرام والجمهورية .. والرسالة غير الثقافة .. وآخر ساعة غير المصور فالسنداى اكسبريس غير السنداى تلغراف ونيوز اوف ذى ورلد غير البيبل .. والتايمز غير الأبزيرفر والبمتو غير الفيجارو ..
والصحيفة الأجنبية التى تبرز صور هانو وخروشوف وديجول وتشرشر وجونسون غير الصحيفة التى تبرز صورة كريستين كيلر وآفا جاردنر .. واليزابيث تايلور وشيرلى ماكليم ومع أن عمله فى حى قصر النيل ولكنه يسكن فى الامام .. ولأنه يسكن بجوار المقابر تولدت عنده عاطفة شديدة نحو الموتى .. وعاطفة مجنونة .. فكلما بصر بجنازة مارة فى الطريق أحس كأنما سرى فى جسمه سيال كهربائى .. فتراه يهتز وينتفض ويدع ما فى يديه وينطلق إلى قلب الجنازة .. ثم يتسلل حتى يصل إلى النعش .. وينحنى بسكون تحت الخشبة ليضعها على عاتقه ويسير مع الرجال ..
وهنا يحس براحة كبرى تغمر نفسه وتفيض على قلبه وجسمه فتزداد قوته وتزداد صلابته وكان فى أعماقه يشعر بأنه سيجازى من الله على هذا الصنيع خير جزاء ..
أما إذا كان الميت فقيرا معدما فكان يحس بأن له من الحسنة ضعف أمثالها .. وأنه سيجزى الجزاء الأوفى ..
وكأنما أراد الله أن تضاعف له الحسنات بوجوده فى هذا المكان حيث تخرج معظم الجنائز من ميدان التحرير وتسير إلى جامع الكخيا ..
وعندما تطورت الحياة المدنية الكبيرة وأصبحت العربات تقف بجوار المسجد لنقل الموتى بعد الصلاة إلى المقابر ابتأس عبد العظيم وشعر بغصة فى حلقه .. كأنه أخرج من الجنة فجأة ليلقى به فى النار ولكن الموتى الفقراء ظلت جنازتهم تسير إلى المقابر .. فى شارع القلعة بكل ما فيه من طول .. وعبد العظيم على عاتقه النعش وفى قلبه الفرحة وعلى وجهه الخشوع ..
أنه سيحمل يوما على أكتاف الآخرين .. ومنهم من يطلب له الرحمة كما يفعل هو الآن ..
وكانت الحياة الدنيا باحساسه مجازا إلى حياة أخرى جميلة .. ولذلك كان قانعا مثلج القلب .. مبتهج المشاعر ..
وبعد أن ينتهى من عمله اليومى يشترى العشاء لأسرته .. ويحمله على صدره حتى يبلغ به البيت ويجلس وسط طفله وزوجته يتعشى معهما ويضاحكهما وكان الطفل قد من الله عليه به منذ سنة بعد أن يئس من الانجاب وتصور أن امرأته عاقر .. وكان عبد العظيم يعنى ببيته عنايته بعمله .. ويدرك أن الوقت الذى يضيعه فى حمل نعش سيعوضه الله عنه فى رزقه أضعافا مضاعفة ..
وبرضى من النفس وراحة كان يعيش ويعمل فى العجلة الدواره ..
ولأن نصف عملائه من النساء المهذبات الأنيقات فقد تعلم منهن التهذيب والوداعة ..
وكن صبايا وجميلات ويلبسن أحدث الأزياء .. ويطلبن منه حاجتهن بصوت ناعم عذب كأنه تغريد العنادل ..
وكان يحمل للبعض منهن المجلات إلى بيوتهن ويتلقى منهن الابتسامة المشرقة وكلمة الشكر الرقيقة التى تنفذ إلى قلبه ..
وكان يعرفهن جميعا بأسمائهن ويعرف أزواجهن وأولادهن من كثرة اختلاطه بهن وتعامله معهن ..
ومن عشرات السنين كن جميعا أجنبيات فلما زحف المصريون إلى هذا الحى وسكنوا فيه .. سر عبد العظيم لأنه يتعامل مع أناس يتكلمون لغته ويفهمون مشاعره وأحاسيسه ورأى فى النساء المصريات نفس الأناقة ونفس التهذيب الذى كان يجده فى الأجنبيات وزاده احساسه الوطنى اكراما لهن وتضحية .. فالتى تطلب المجلة ولا تجدها عنده كان يحملها إلى بيتها بعد ساعة واحدة ولا يضنيه البحث .. أو يجلبها لها من غيره دون ربح .. مادام أنه يرضى رغبة مشتعلة فى نفسه دوما ليخدم الزبون على أحسن وجه ..
وذات مساء جلس فى مقابر " الخفير " بعد أن اشترك مع ثلاثة من الرجال فى حمل نعش رجل فقير ولم يواره التراب سواهم ..
وكان يحس بالرضى .. ولما كان متوضئا فقد رأى أن يجلس بين المقابر يسبح بحمد الله ويستغفر للموتى إلى أن تغرب الشمس ليصلى المغرب حاضرا ..
ولما غربت الشمس صلى واستغرق فى الصلاة إلى أن لف العشى المقابر وما يحيط بها فى شملته ..
وكان السكون عميقا وجو الخريف يغرى بالتأمل فى السماء والأرض ..
واستفاق من استغراقه على صوت سيارة تتسحب فى هدوء فى طريق ضيق بين المقابر وكانت على مدى أمتار منه .. فبصر بشبحين فى داخلها يتعانقان .. ثم توقفت السيارة وزادت حرارة العناق والقبل .. واشتط عبد العظيم غيظا .. من مخلوقين يعبثان بحرمة الموتى وقداسة المكان .. وانتصب على قدميه وهو فى أشد حالات الثورة .. واندفع نحو السيارة وفى أثناء ذلك كانت السيارة تدور وتخرج مسرعة من بين المقابر ولكن قبل أن تنحدر إلى الطريق الرئيسى تمهلت فى سيرها قليلا ..
وقد أعطت هذه الحركة البطيئة الفرصة لعبد العظيم ليقترب ويشاهد من بداخلها وأحس بلسعة فهو يعرف المرأة التى تركب بجوار الشاب وكانت سيدة متزوجة وتقيم فى الحى الذى يعمل فيه وكان يعرف زوجها ويحمل لها المجلات إلى الدور الخامس فى شارع بهلر .. ويصعد السلالم إلى بابها حتى والمصعد معطل كان يصعد ويصعد ويتلقى ابتسامتها ويلامس بيده الخشنة أناملها الناعمة وهى تعطيه النقود كانت أجمل سيدة مصرية فى الحى .. وتحمل وجه ملاك وعينين تفيضان عذوبة وطهرا .. وهى غنية وزوجها ليس مريضا ولا عجوزا فلماذا تخونه وتأتى مع عشيقها إلى المقابر ولا تراعى حرمة الموتى .. وأحس بالدنيا تدور به وتظلم فى وجهه وبثورة تجتاحه وتقدم نحوها كالمجنون ..
ولكن فى هذه اللحظة كان الشاب قد انطلق بالسيارة فى سرعة مجنونة وظل عبد العظيم يتبعه ببصره بعد أن يئس من اللحاق به ..
وهنا سمع صوت الفرامل تدوى وتمزق السكون ويسمع صرخة حادة .. وتوقفت السيارة .. فجرى نحوها بأقصى سرعة ..
وعرف أن سيارة الشاب صدمت صبيا وألقت به تحت العجلات وأمه التى تصرخ .. وتجمع نفر من الناس اعترضوا طريق السيارة ..
وفى صمت أمسك عبد العظيم بتلابيب الشاب الذى كان يقود السيارة والذى كان يجلس بجوار المرأة .. وسحبه إلى الخارج .. وأخذ يمرغ به التراب ..
ولما شعرت المرأة بالخطر .. خرجت من السيارة ونادت عبد العظيم باسمه لما عرفته .. واستغربت أنه بعد أن سمع صوتها ورآها عن قرب ازداد وحشية ولم يترفق به ..
وظلت فى مكانها مذهولة سادرة ..
ولما رأت الفاجعة تنقض .. والشاب يلفظ آخر أنفاسه ركعت متخاذلة على الأرض ..



================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=====================  


 









السائق



ركبت زورقا من الزوارق الصغيرة الناشرة شراعها والراسية عند شاطىء فندق كتاراكت القديم .. وكانت الأرض مكسوة بالعشب والضفاف الداكنة تمتد على مرمى البصر وحجارة الجرانيت السوداء تشق قلب النهر ..
وكان جو أبريل ممتعا للغاية والشمس ليست حامية والرمال الصفراء فى الجبل الغربى أخذت تتحول تحت أشعة الشمس إلى لون الزبرجد ..
وكنا نود أن نقوم بنزهة نيلية فى هذا الزورق قبل ساعة الغروب وعند الخزان ننزل منه .. ونعبر الخزان على أقدامنا إلى الضفة الشرقية وهناك فى انتظارنا سيارة ستقلنا إلى موقع السد ..
وكان الركاب الذين معى لايتعدون خمسة من السياح الألمان ومعهم سيدتان أنيقتان وكانوا قد فرغوا لتوهم من زيارة معبد الكلابشة الذى رفعه رجالهم منذ سنة واحدة وجاءوا مثلى إلى جولة فى النهر ..
وكان ربان الزورق رجلا فى الخامسة والأربعين من عمره له وجه أسمر وعينان تفيضان بالحياة .. وكان يحرك الدفة وهو منتصب بقامته .. والزورق يشق وجه الماء طوع يده .. وبدت الشطآن الرملية قريبة من الجانبين والمياه ساكنة .. والصخور أشد سوادا من الأبنوس ..
وشغل الركاب الأجانب بتصوير المناظر المحيطة منذ أقلعنا وأصبحنا فى عرض الماء وكانت أطول السيدتين وهى شابة جميلة فى مقتبل العمر قد انتبذت ناحية وأخذت ترسم بالفرشاة فى طواعية وابداع ..
وجلس فى مقدمة الزورق الملاح الوحيد وهو شاب أسمر طويل حاد البصر .. أخذ يرقب الزوارق المتحركة فى صمت .. وأشار علينا بجولة قبل أن نطلق الشراع إلى الخزان .. ذلك أن نرجع وندور بالزورق قريبا من قبة الشيخ " على " وحديقة النباتات .. ثم نأخذ الطريق إلى الخزان ..
وكان من طبعه أن يرقب الماء صامتا كأنه شارد .. أو ذهنه قد شغل بشىء آخر .. ولكن بصره كان ينفذ إلى الأغوار ووجهه يفيض بالايناس ..
أما الربان الذى طعن فى السن .. فقد كان خبيرا برغبات الركاب .. وأدرك بفطنته أننا نود أن نجتلى مجالى الطبيعة فأرخى الشراع .. وجعل الزورق يتهادى فى وسط النهر ..
وكانت الشطآن العارية تودع أشعة الشمس وأشجار النخيل القصيرة هى الشىء البادى على الشط ..
وأخذت حجارة الجرانيت الأسود تعترضنا فى سيرنا كلما قطعنا قليلا من الأمتار ..
ومر بنا الزورق وهو يتهادى تحت حديقة النباتات حيث زرعت كل الأشجار التى نبتت فى آسيا .. أشجار الأبنوس .. والماهوجنى .. وكل أشجار النخيل .. بكل جذوعها وألوانها .. وبدت الحديقة مزهرة من بعيد وأشجارها تتحرك مع نسمات .. الأصيل .. وظلالها تنعكس على صفحة الماء ..
وكان علينا أن نجتاز الجزر الصغيرة المعشوشبة .. وكانت أشجار النخيل .. تبدو متشابكة الجذور كأنها خرجت من جذع واحد ..
وكان السكون يخيم والطيور تغرد والسماء الزرقاء قد تحولت إلى لون اللازورد ..
وأخذت سحب خفيفة تتحرك فوقنا وتحجب وجه الشمس لحظات .. ثم تمضى لوجهتها .. وكان المنظر فى جملته أخاذا فسحرنى بجماله .. وانتقلت إلى مقدمة الزورق لأتلقى رشاش الموج ..
وفرغت الرسامة من رسم المناظر .. وجلست تدخن مثلنا وتتأمل وهى مسترخية .. وغمرنا شعور بالغبطة .. كان وجهها يعبر عن الراحة وتحقيق أمنية كانت بعيدة المنال .. إن كل ماحولنا وكل ماهو أمامنا .. وخلفنا بديع حقا ..
ولاحت من بعيد منطقة الخزان .. وكانت أنوار الكهرباء قد أضيئت فى كل مكان .. وشعرت بهزة ونحن نقترب فى هدوء من عيون الخزان .. وكان الماء يتدفق مع أربع عيون كالشلال أما العيون الأخرى فكان الماء يتسرب منها كالخرير ..
وتحول الزورق بجانب الشاطىء ..
وخرجنا إلى السيارة وكان فيها بعض الركاب يقصدون مثلنا منطقة السد .. وجلست بجانب شاب فى الثلاثين من عمره .. يعنى بهندامه ويلبس منظارا أحمر على عينيه .. ليتقى الضوء المتوهج فى هذه المنطقة .. وكان ودودا ومتحدثا فجذبنى بحديثه وخبرته بكل ما يجرى من عمل فى المنطقة ..
ولما اقتربنا من منطقة السد .. سمعنا أصوات الآلات الضخمة .. وكانت هناك خلية تتحرك فى سرعة تحت الأنوار الساطعة ..
وأخذ الشاب الجالس بجوارى فى السيارة يحدثنا عما يجرى حولنا ..
وسألته لما رأيت مبلغ خبرته :
ـ أتعمل هنا ..؟
ـ كنت أول سائق فى قافلة السيارات .. التى حملت الرمال والأحجار إلى منطقة العمل وأول من دخل بسيارته فى الأنفاق .. وتفجرت حوله المتفجرات ..!
ـ وأنت الآن فى ساعات الراحة ..؟
ـ أننى أتجول مع السائحين ..
ـ إنه عمل جبار ..
ـ فخر الأعمال كلها ..
شاهدنا الآلات الضخمة التى تحمل وتفرغ .. ثم السيارات تنقل الحجارة والرمال إلى منطقة العمل .. ورأينا الآلات تفرغ الحجارة .. والرمال فى الجيارة .. وهذه تحملها .. لتفرغها بطريقة آلية فى قاع النهر ..
وكان منظرها وهى تمتلىء ثم تتهادى فى النهر حتى تصل إلى المكان الذى تود أن تفرغ فيه شحنتها فتنقلب .. ثم تعود إلى وضعها الأول .. وتمضى إلى الشاطىء لتملأ من جديد .. كان هذا المنظر يسحر عيوننا فأخذنا نحدق فى الآلة فى عجب ..
بدت منطقة العمل جبارة .. والكل يعمل فى سرعة .. السيارات صاعدة ونازلة إلى الأنفاق .. وصاعدة ونازلة إلى السد العظيم والآلات والروافع والحواجز تتحرك فى سرعة وبطء لتبنى شيئا جديدا .. أو تجرف رمالا .. أو تفتت صخرا أو تنسف حجرا .. وكان صوت التفجير وسقوط الأحجار فى الماء يسمع هنا وهناك .. وشعرت بوجود التحول فى حياتنا والانطلاق وأنا أخطو كل خطوة .. ونظرت إلى المنطقة التى كانت منذ سنوات عبارة عن أحجار صماء ساكنة .. ورمال .. كيف تحولت الآن إلى منطقة عمل جبار .. وإلى حياة .. نظرت إلى العمال كيف يعملون .. إنهم يريدون تشييد السد .. ليزرعوا الأرض البور .. ويضيئوا القرى المظلمة بالكهرباء .. ويشيدوا المدارس فى كل مكان .. ويحولوا الحياة من السكون إلى الحركة .. إنهم يؤمنون بالمستقبل .. وأن الشرارة قد انطلقت .. والشعلة الكبيرة قد أضاءت ..
ووقفنا على رأس الطريق المؤدى إلى الأنفاق .. والدليل المرافق لنا فى السيارة قد أخذه الحماس .. وأخذ يشرح فى اسهاب كل ما حولنا من عمل ثم استأذن من الحارس الواقف على باب الجسر لنهبط .. فوافق وتعلق كل فريق منا بسيارة من السيارات الهابطة .. لأن سيارتنا لم تكن تستطيع النزول ..
وبعد أن شاهدنا الأنفاق عن قرب .. ودخلنا فى نفق منها إلى نهايته أخذت تتوقف سيارات العمل الصاعدة المنحدر لنصعد كما نزلنا ..
وكانت السيارات الصاعدة كلها فارغة .. لأنها تفرغ حمولتها من الأسمنت والخرسانة فى جوف الأنفاق وتصعد لتأتى بحمولة جديدة ..
وركبت واحدة من هذه السيارات بعد أن سمح لنا سائقها فى بشاشة .. وركب من الأمام بجانبى وملاصقا للسائق الشاب لابس المنظار .. وكان قد أصبح رفيقى فى كل الجولات .. وأركبنا الألمان مع ستة من الزوار ظهر السيارة .. وأدار السائق المحرك .. وأخذنا نصعد المنحدر ..
وكانت واحدة من السيارات الهابطة فى سرعة محملة بالمونة إلى أقصاها .. فأخذت المونة تسيل منها إلى المنحدر ..
وفجأة حدث شىء رهيب .. أحس سائقنا بأن العجلات التى تحته تدور فارغة .. وأن الفرامل تحت قدمه لا تستجيب له .. وأخذت السيارة فى ومضة عين ترتد إلى الخلف فى سرعة رهيبة وصرخ السائق بعد أن خرج الأمر من يده وهو يعلم أنه على شفا حفرة عمقها مائة متر ..
واضطرب حبل السيارات كلها الصاعدة والنازلة فى المنحدر .. ومنها من اختار بين أن يهوى فى المنحدر على اليسار .. أو يضرب فى صخر الجرانيت على اليمين .. وكلاهما أفظع الهلاك ..
وفى غمرة هذا الهرج .. تحركت يد قوية وخبيرة فى سرعة مذهلة .. ومزقت شبح الموت عنا جميعا ..
وكانت يد الشاب الجالس بجوارى فى السيارة واللابس المنظار .. فرفع فرملة اليد بقوة جبار خبير بعمله .. فوقفت السيارة فى مكانها صامدة وأوقفت كل العربات التى أمامها وخلفها والتى كان مصيرها جميعا الهاوية ..
***
وعندما وقف هذا الشاب هناك بمنظاره فى ثبات على رأس الطريق ينتظر إلى أن نركب جميعا سياراتنا ونعود فى أمان .. كانت كل العيون تحدق فيه وتحاول أن تسمعه كلمة شكر صادرة من أعماق القلب ..
ولكن الشاب لم يكن فى حاجة إلى شىء من هذا ..
وأخيرا أدركت ـ عندما صعد السيارة فى سكون خلفى ـ لماذا اختار أن يجلس فى أول مقعد خلف السائق مباشرة .. ولماذا يلبس المنظار .. فقد فقد بصره .. وكان أول من بذل أعز ما يملك فى سبيل أن ينتصر الإنسان بارادته على الطبيعة ويقوم بهذا العمل الجبار ..


====================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================    

خيط من النور 

فتح عينيه فألفى الظلام يخيم على الغرفة .. فأصابه ما يشبه الذعر .. إذ كان يود أن يغادر القاهرة فى قطار الساعة السادسة إلى الإسكندرية .. ليكون بنجوة هناك من كل مطاردة ويختفى عن العيون ..
وكان النوم قد غلبه وهو جالس على السرير .. لارهاقه الشديد وشعوره المجسم بالحادث الذى تجلى له مروعا حتى زلزل خواطره .. وسد كل المنافذ فى وجهه .. فهرب من الواقع المروع بجسمه ونفسه .. واستغرق فى نوم طويل ..
ٍوعجب شوقى لكونه ينام فى هذه الساعة العصيبة .. ولكن أعصابه المرهقة طوال الأيام الماضية .. كانت فى حاجة فى الواقع إلى هذا الاسترخاء الطويل وأفاده النوم فعلا ..
وفتح عينيه وهو يحس بأنه صلب .. وأنه قادر على مجابهة الأمر بعد أن كان قد انهار كلية فى النهار وكاد أن يسلم نفسه ..
وكانت الغرفة سابحة فى الظلام .. ولكن نافذتها الوحيدة المطلة على الشارع الخلفى كانت بمثابة حلقة اتصال بالعالم الخارجى .. فحدق وهو مسترخ على الفراش فى العمارة المواجهة .. وكان بياضها قد ضرب إلى السمرة من فعل الزمن .. واستقر بصره على شرفاتها ونوافذها وكان بعضها مضاء من خلال الشيش المشرع .. وبدأ الزجاج يلتمع من سقوط المطر وأحس بالرغبة فى أن يقوم من الفراش .. ليرى مقدار البلل الذى أصاب الشارع .. ويعرف حالة المطر .. هل كان رزازا أو سيلا منهمرا ..؟ ولكن الضعف والخمول ولزوجة الفراش منعته من الحركة ..
وأحس بالعرق الغزير يبلل الفراش مع أنه خلع سترته قبل أن ينام .. ورأى أن يبقى بالقميص والبنطلون ليكون على استعداد تام لكل الطوارىء .. ولكن الخوف زاد من افرازات العرق كما أنه دفع الغطاء وكوره فوق رأسه وهو نائم كأنه يحتمى به من كل ما يأتى به القدر ..
وحرك البطانية جانبا .. واضطجع وقد جعل رأسه ناحية الباب بعد أن أحس بحركة النزلاء فى البنسيون .. وكانوا قد تجمعوا فى الحجرة الخلفية ليلعبوا القمار كعادتهم .. وسمع صوت مدام سوزان صاحبة البنسيون وضحكاتها ثم صوت ابراهيم أفندى .. وكان أكثر النزلاء تحمسا للعب .. وهو الذى يجمع رفاقه على المائدة من الساعة التاسعة ليلا ويظلون فى لعب القمار حتى الصباح ..
وكان ابراهيم هذا أرملا .. ومنذ ماتت زوجته وهو يعيش فى البنسيونات والفنادق مضطربا فى معيشته ويبدو تعسا وحيدا شاعرا بالفراغ القاتل ..
وكانت سوزان صاحبة البنسيون تشاركهم فى اللعب أحيانا ومعها سيدة شابة من شقة مجاورة فى نفس العمارة .. وذلك فى الحالات التى يحمى فيها وطيس اللعب .. وتكون متأكدة من اخراج مبلغ مناسب للمائدة التى يلعبون عليها .. وكان يقر فى حسبان سوزان دوما أن فى مائدة القمار والحسان اللواتى يجلسن حولها إغراء للنزلاء على البقاء بالبنسيون والتعلق به وعدم تركه إلى غيره .. والبنسيونات والغرف المفروشة فى القاهرة كثيرة جدا ..
ولخبرتها بالرجال ولباقتها لم تلح على شوقى فى أن يلعب القمار مع النزلاء لما وجدت أنه لا يحب ممارسة هذه اللعبة ..
كما أنها لم تقصر فى العناية بشوقى فى بيتها بسبب أنه يدفع أقل من النزلاء أجرا بل كانت تعنى بفراشه وبنظافة غرفته كأى نزيل آخر يدفع ضعف أجره ..
وكانت تحنو عليه وتنزله من نفسها منزلة خاصة لشبابه وصباحة وجهه .. إذ كان هو الشاب الوحيد وبقية النزلاء من العجائز ..
كما كان هو الوحيد الموظف فى الحكومة .. ويدفع لها أجر الغرفة بانتظام .. وأكثرهم استقرارا .. إذ مضى عليه فى بيتها أكثر من سنة وغيره من النزلاء كالقومسيونجية والعابرين لايمكثون أكثر من شهرين أو ثلاثة .. كانوا يتعبونها لكثرة تنقلهم .. ولأنهم يدفعون شهرا ويؤجلون الدفع أشهرا ..
وكانت مستريحة لشوقى راضية عنه لأنه هادىء الطباع قليل الزوار قليل المطالب .. وكانت قد بصرات به فى هذه الليلة .. وهو مستغرق فى النوم من وقت الظهر على غير عادة ففتحت عليه الباب برفق وهو نائم ثم ردته لما رأت استغراقه وأدركت أنه متعب فتركته ليستريح .. ولما فتح شوقى عينيه كان صوتها هو أول صوت وصل إلى سمعه فبقى فى مكانه يحدق فى الظلام .. فوجد سترته ملقاة كما اتفق .. وبعض الكتب على المنضدة وبجوارها دورق وكوب والنافذة مشرعة .. ولاحظ فى البيت المقابل حركة ليلة الأحد .. إذ كانت معظم الشقق مضاءة وكانت العمارة عالية حتى حجبت عنه نجوم السماء وهو فى مكانه على الفراش ..
ولما نهض من السرير وجلس مستريحا على الكرسى تحت النافذة مباشرة .. رأى جانبا من السماء والنجوم تطاردها السحب وأنس إلى أنوار العمارة المقابلة وتحرك سكانها .. ودار فى خاطره أن المطر قد انقطع منذ ساعة واحدة وأن الليلة شديدة البرودة .. والسماء أخذت تدكنها السحب السوداء ..
وشعر أنه أحسن حالا بجلوسه على الكرسى .. وارتدى سترته على عجل فشعر بالدفء .. وزايله بعض الاحساس بالقلق ..
وطافت فى رأسه صورة عفاف .. وهى زوجة رجل سكير مقامر يقيم فى نفس البنسيون .. وكانت تلاحقه برغباتها الكبوتة وهو يصدها برفق .. وخشى لو دخلت عليه الغرفة فى هذه الساعة أن يضعف ويستجيب لرغباتها ..
وفتح عينيه جيدا .. وظل يحدق فى الباب بقوة والأفكار تعصف برأسه وتقوده إلى الشرود .. أنه يتعذب ..
وأحس بحاجته إلى أن يذهب إلى دورة المياة .. فخلع سترته .. ومشى إلى الباب دون أن يضىء المصباح ..
وأحس بالبرد فى الغرفة .. وبحركة النزلاء الساهرين على مائدة القمار .. ولمح قبل أن يدفع باب الحمام .. " روحية " نائمة فى المطبخ وكانت متكورة على البلاط ومعراة الفخذين وهى ترتعش من البرد .. فشعر بالأسف لحالها ..
وأسرعت نبضات قلبه .. وثبت بصره عليها .. أن هذه الفتاة معه فى نفس البنسيون منذ سنة وأكثر .. وهى أجمل من وقعت عليه عيناه فى كل النساء فى داخل البنسيون وما يجاوره من البيوت .. وقد أشفق عليها لما رآها مهضومة الحق وسيدتها لا تقابلها باشة ولا تترفق بها ..
ودخل الحمام .. وأخذ يغتسل وهو يحس ببرودة الماء على أصابعه ووجهه .. ولكنه أحس بأنه أفاق .. وذهب عنه الشرود ..
وتولد عنده احساس قوى لأن يرى الشارع ويرى الدنيا فى الخارج وماذا حدث لها وجرى فيها .. فأطل من نافذة الحمام الصغيرة بعد أن أغلق مفتاح النور ..
كان الليل شاحبا .. وكان الشارع يعج بالسيارات تحت المطر .. ولم يكن بين المارة ولا فى الحركة المتصلة توقف ولا أدنى احساس لما حدث فخمن أن العسكرى الإنجليزى لم يصب من القنبلة وأنها ذهبت هباء .. ولم تحدث أثرا يذكر .. وأخذ يستعيد فى ذهنه الصورة بكل دقائقها وتفاصيلها وأدهشه أن يستعيد كل شىء رغم ما فى ذلك من ألم ..
وسمع وهو راجع إلى غرفته ابريقا يئز على النار فى المطبخ .. فأدرك أن نزيلة تعد لنفسها الشاى ..
ولما جلس على سريره بعد أن أغلق الباب بالمفتاح .. تلاشى شعوره بالاستقرار .. وأخذ يحدق فى الظلام .. وفى النافذة المطلة على الشارع وعلى الجانب المقابل .. أخذت أنوار الحجرات تخفت .. ويغمر الظلام كل واجهات البيوت ..
وتولدت عنده كراهية للسياسة .. ولعن الساعة التى انتمى فيها إلى الحزب ولعن كل الأحزاب الموجودة .. وساءه أكثر أنه اشترك مع اثنين آخرين فى القاء القنبلة .. وكان قد سمع أن أحدهما قبض عليه فى مكان الحادث .. وقد يعترف ويذكر اسمه .. وأنهم الآن يبحثون عنه وارتجف قلبه ..
كانت أعصابه قد توترت .. ثم عادت وتماسكت بعد أن كان عنده احساس مدمر بالقلق والتعاسة المرة ..
كان كل ما يحسه .. هو مزيج من الحاجة إلى النوم أو الاسترخاء .. أو الحاجة لأن يدفن رأسه فى صدر امرأة ويطلق توتر أعصابه ..
وأحس بالظلام يلف وجدانه ومشاعره وكل أحاسيسه .. وغمره احساس بأن السياسة عبث والحياة عبث ووجوده كله عبث ..
أحس بأنه يرى قوة أكبر منه آتية لتحطمه ولتسحقه .. ولا قبل له بردها ولا صدها ..
كان مضطجعا يحدق فى الظلام وهو عابس الوجه .. ويحاول أن يحلل الخوف ويحلل مشاعر نفسه ..
ورجع فى تلك اللحظة يفكر فى الفتاة المسكينة روحية التى تعمل خادمة عند سيدة مصرية متزوجة .. وكانت السيدة تريد أن تتخذ من البنسيون بيتا تطبخ وتعمل به كل شىء كأنها فى بيتها الخاص فجاءت بهذه الفتاة معها .. ولكنها لم تحسن معاملتها .. وكان شوقى يشعر نحو الفتاة بعاطفة إنسانية دافقة .. ويتألم لحالها وهو يراها نائمة فى المطبخ على البلاط فى ليالى الشتاء .. وفوقها غطاء خفيف وتحتها شىء أشبه بالحصير لا يقيها شر الرطوبة ولا رعشة البدن فى الليل المقرور ..
وعلى توالى الأيام .. تحولت الشفقة إلى حب .. حب متمكن من شغاف القلب .. وكانت الفتاة تراه وحده فى الغرفة لا يختلط بسكان البنسيون ولا يزور أحدا ولا يزار .. فآنست لوحدته .. وكانت تحمل له دورق الماء وكوب الشاى .. وإذا رأته يغسل جوربا أو منديلا فى الحمام تناولته منه بسرعة وغسلته ونشرته وهى تنظر حواليها خوفا من أن تراها سيدتها فتؤنبها على هذا العمل وربما تشتمها وتسمعها الكلام الموجع ..
وكان شوقى إذا عاد من عمله ولم يرها أو يسمعها فى داخل البنسيون يحس بالوحشة وبالاشتياق حتى تعود من الخارج .. وأول شىء تفعله وهى راجعة هو المرور على بابه لتتأكد من وجوده فإذا وجدته أشرق وجهها وفاض البشر على محياها وحيته وانصرفت مسرعة إلى عملها .. كانت لهفتها واشتياقها إلى لقائه تفوق لهفته واشتياقه ..
وفى الساعة التى يذهب فيها سيدها بصحبة سيدتها إلى السينما أو إلى أى غرض فى الخارج .. كانت تمضى الوقت كله فى غرفة شوقى ويحسان فى هذه العزلة الحبيبة بالامتزاج والنشوة والحب ..
وأحس بأنه شغل عنها فى أيامه الأخيرة بالحادث السياسى .. فلما فرغ منه وقرر الهروب إلى الإسكندرية أختلى بها وحدثها برغبته فى أخذها معه ..
وسألته برقة واستغراب :
ـ أروح معك إسكندرية ..؟
ـ نعم ..؟
ـ إزاى ..؟
ـ سنعيش سوا ..
ـ لكن أنا خدامة يا سيدى ..
ـ لا أحب سماع هذه اللفظة .. ولا تقوليها لى أبدا ..
ـ أمال أقولك إيه ..؟
ـ شوقى ..
ـ شوقى بس ..؟
ـ بس ..
ـ لكن أنت سيدى ..
ـ لا تقولى هذا الكلام .. ولا يوجد أسياد وعبيد فى العالم .. الله خلق الناس سواء فى هذه الدنيا ولكنا نحن الذين نفرق بينهم .. ونجعلهم طبقات بحماقتنا وغرورنا .. الإنسان عندما يتجبر يطغى .. ولا يقف طغيانه عند حد .. كما يطغى الإنجليز الآن .. ويحاولون أن يستعبدونا ولكنا سنوقف طغيانهم ..
وتحمس ومد قامته بعيدا .. وبدا أمامها قويا وأعجبت لحماسته وقوته ..
واقترب منها واحتضنها .. ومسح على شعرها بحنان وحب .. وسألها :
ـ ستسافرين معى إلى الإسكندرية ..؟
ـ نعم وإلى أى مكان ..
فقال هامسا :
ـ فى ساعة الفجر .. سنفتح الباب بهدوء ونخرج معا .. فاعملى حسابك وكونى صاحية ..
ـ مش حنام أبدا ..
وتركته ..
وظل هو متيقظا يرسم خط سيره وتحركه .. والمكان الذى سيقيم فيه فى الإسكندرية بعيدا عن العيون .. وكان معه حوالى ستة عشر جنيها سيقطع منها ثمن التذكرتين والباقى يصرفانه حتى يتدبر حالته .. ويشتغل هناك فى أى عمل .. والمدينة كبيرة ولن يجوع فيها .. وستبقى روحية فى البيت .. لن تشتغل فى أى مكان وسيتزوجها ويعمل على اسعادها ويرفع من كيانها وانسانيتها ويرد لها حقها المسلوب ..
وفتح شوقى باب البنسيون وكانت الساعة قد تجاوزت الخامسة صباحا بقليل ولا يزال الظلام يخيم .. ودفع الفتاة أمامه بحذر على السلم ونزل وراءها ..
وفى مدخل العمارة لمح شيئا جمد له قلبه .. فقد رآهم يرابطون على الباب وأخذوا يقبلون نحوه بخوذاتهم النحاسية وفى أيديهم البنادق .. وكان يتقدم القوة اثنان من الكونستبلات الإنجليز وبدا له جليا أنهم قبضوا على رفيقه وأنه هو الذى وشى به ودلهم على مكانه .. وكان ابداء أى مقاومة منه معناه .. صرعه وصرع الفتاة المسكينة فظل ثابتا فى مكانه حتى طوقوه ..
وعندما وضعوه فى البوكس .. ظلت الفتاة واقفة وحدها على عتبة الباب تصرخ ولم تكن قد فهمت شيئا .. ولكنها ظلت مع ذلك تصرخ بحرقة وكان صراخها يمزق نياط القاب ..
وكان شوقى يسمع صراخ الفتاة والنور يشع من خلال الكوة فى العربة المغلقة .. وظل يفكر فيها وفى صراخها وعذابها وهو فى العربة .. وومض فى رأسه خيط من النور أضاء له الطريق للهرب والعودة إليها ليخلصها من العذاب ويخلص نفسه .. قبل أن يضعوا فى عنقه الحبل ..

====================== 
نشرت فى مجلة القصة بالعدد 13 فى يناير 1965 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================= 
    

حقل البطيخ



كانت قرية العمارنة مشهورة بحقول البطيخ .. وكانت تزرع أجود أنواعه وأحلاها على الاطلاق ..
وتقع الحقول فى أرض رملية على سيف النيل ..
وكانت الأرض ملك الحكومة وتؤجرها لأحد الأثرياء بإيجار زهيد .. ولنفوذه وسطوته استغلها أبشع استغلال وأخذ يؤجرها للفلاحين بعشرة أضعاف القدر الذى يدفعه .. وقسمها إلى قطع صغيرة ليسهل عليه توزيعها على أكبر عدد منهم بايجار فاحش ..
وكان يسلط عليهم سوط العذاب فإذا تأخر أحدهم عن الوفاء يوما واحدا حجز على المواشى والمحاصيل .. وفى كل مطلع نهار يرون وجه الصراف بدفاتره وأوراقه ..
وكان الأمل يلوح فى أفق حياتهم بعد كل ثلاث سنوات فيسمعون أن الأرض ستؤخذ منه وتعطى لغيره .. فيشعرون بقرب الخلاص .. ولكن الزمن كان يخيب آمالهم دائما فتعطى له الأرض من جديد بمزاد صورى يعمل فى البندر .. وظلت الحال هكذا حتى يئس الفلاحون ..
ولم يتنفسوا الصعداء إلا بعد أن قامت الثورة وطرد هذا الثرى من الأرض .. ووزعتها الحكومة عليهم فأعطت فدانين لكل أسرة ..
والمحظوظ منهم من وقع نصيبه فى أرض الساحل .. لأنه يزرعها بطيخا والبطيخ يأتى للفلاح بدخل طيب ..
وكانوا يبكرون فى الزراعة قبل أن يرتفع مستوى الماء فى موسم الفيضان فيأكل الزرع .. ويجيدون تخطيط الأرض .. فتبدو الحقول المزهرة فى خطوط مستقيمة .. كأنها خطت بالمسطرة على لوح من الورق ..
والمشاهد للمزرعة من المارين تحتها فى المراكب والصنادل كان يؤخذ بجمالها ويرى أنها من المزارع النموذجية ..
وكانت تمد الأسواق فى منطقة الصعيد بأجود أنواع البطيخ وأكثره حلاوة ..
وكانت الكلاب الكبيرة تحرسها ولكل حقل خصه وكلبه ..
ووراء هذه الحقول فى الأرض العالية يقوم بستان كبير من شجر النخيل والسدر والسنط .. وخلف هذا الجسر العمومى ..
ومن الجسر تأتى العربات وتحمل البطيخ الذى يتكوم فى طرف من البستان .. كان بمثابة السوق لهؤلاء الفلاحين وفيه يتعاملون مع التجار ..
وفى شهر يونية من كل عام يبدأ قطف الثمار الناضجة .. فترى الفلاحين فى الصباح منتشرين فى الحقول .. وأيديهم تضرب على البطيخ قبل قطعه من العروش .. فإذا استوى فى نظرهم .. وتحت سمعهم بعد جسه باليد .. قطعوه وكوموه .. وحمله الصبية على ظهور الحمير والجمال على الجسر ..
وكانت القرية على بعد ثلاثة فراسخ من المزرعه ..
وتبدو فى موسم البطيخ مهجورة .. لأن الحياة كلها تتحول إلى جانب النهر ..
وكان حقل عبد الغفار يأتى بأجود المحاصيل اطلاقا فى هذه المنطقة ..
وكان عبد الغفار يزرع البطيخ والشمام عن خبرة ويقصر زراعته عليهما فاشتهر بهما وأجاد .. وكان ودودا طيب القلب أمينا يتفانى فى خدمة الناس .. فأحبه الفلاحون وعهدوا إليه بمحاسبة التجار وأخذ الثمن منهم وتوزيعه عليهم كل حسب حصته ..
وكان له أربعة من الأبناء الأشداء أصغرهم فى العشرين من عمره وفيهم كل صفاته فساعدوا والدهم فى عمله ..
وجعلوا خصه أجمل خص فى المزرعة .. وبمثابة منتدى للفلاحين جميعا .. فكانوا يتجمعون حوله فى أوقات العصر .. يتحدثون فى شئونهم ومشاكلهم .. وهم يشربون الشاى ويدخنون السجائر أو يفتلون حبال الليف أو يعملون المرابط والشواغل .. للجمال .. استعدادا لعمل الشتاء ..
وكانت الطبيعة تجود على المكان بأجمل مناظرها .. فالنيل يجرى كاللجين تحت أقدامهم والسماء الزرقاء الصافية فوقهم .. والشمس ترسل شعاعها الأصفر على المزارع وعلى صفحة الماء .. فتحول كل شىء إلى لون العسجد .. والطيور والعصافير .. تحلق فى الجو .. وتغرد ..
والكلاب تتوثب وتتمرغ على الرمال الناعمة ..
ويبدو الجميع كأنهم فى عيد .. وموسم البطيخ فى الواقع عيد الأعياد لهؤلاء الزراع .. فالنقود تجرى فى أيديهم .. يشترون المواشى والملابس الزاهية .. والمراكيب الجديدة .. والمذارى والفئوس .. ويصلحون النوارج والمحاريث ..
وعلى الرغم من أن القرية آمنة وأهلها مشغولون بمعاشهم .. فإن الفلاح فى كل هذه المناطق يحمل السلاح .. فالبندقية السريعة الطلقات حلت محل الهراوة والنبوت .. لأنه يسوق مواشيه وحده فى الليل .. ويعود بها من السوق .. ويحرس بها الأجران والأقطان ..
وفى عصر يوم تجمع حول خص عبد الغفار نفر من الفلاحين كعادتهم .. وأخذوا فى فنون الأحاديث عن التقاوى الجديدة .. التى زرع منها عمار فى هذه السنة نصف فدان .. فأتت ببطيخ كبير الحجم ولكنه قليل الحلاوة ..
وعن عليان الذى شق بطيخة وتركها فى الشمس .. ثم ذهب لبعض شأنه .. ولما رجع وجد البطيخة باردة كأنها مثلجة وعذبة المذاق جدا .. ولكنه وجد ثعبانا كبيرا يحاول الاقتراب منها ..
فمثل هذا البطيخ تحبه الثعابين إلى درجة شديدة ..
وأخذ كل واحد من الموجودين يروى رواية عن حب الثعبان للبطيخ وكيف يلعقه بلسانه بلذة وشغف .. حتى تعددت الروايات عن الثعابين وجاوزت المائة ..
وفجأة ظهر شىء جديد فى الأفق شخصت إليه الأبصار .. شىء بدا كأنه يسبح فى الجو .. ظهر جواد أحمر كان ينطلق فى الطريق الزراعى فى سرعة الريح .. وبدت قوائمه من فرط سرعته كأنها لا تمس الأرض ..
وكان راكبه منتصبا فوقه فى سكون .. ومرتديا جبة زرقاء ولبدة بيضاء ..
ويبدو فى جلسته على الحصان فارسا من أمهر الفرسان على الخيل ومال به عن الطريق واتجه فى السيف الصغير المفضى إلى حقول البطيخ ..
وظلت العيون معلقة به حتى اقترب وهو يهدىء من سرعة الجواد ..
ولما صار الفارس حذاء الخص عرفوا أنه غريب .. ودار دورة بالفرس .. ثم ترك اللجام وترجل .. ومشى إليهم .. وصافحهم فردا فردا ..
ثم أخذ مجلسه بجوار عبد الغفار .. الذى رحب .. وقدم الشاى والسجائر لضيفه .. وأخبره الفارس عن المهمة التى جاء من أجلها .. إذ أنه يرغب فى مقابلة فلاح يدعى محفوظ وله حقل فى هذه المزرعة لمسألة تتعلق بقطعة أرض أخرى وراء شريط السكة الحديد ..
وأرسل عبد الغفار ابنه عثمان على جحش على التو ليأتى بمحفوظ من البستان .. وظل الجواد فى مكانه وجلده يلمع فى الشمس ..
وكان يحرك رأسه الجميل وينظر إلى ناحية النيل .. ثم يعود يرد البصر إلى الحقول ..
وعيون الفلاحين معلقة به أكثر من نظرها إلى الفارس الذى يركبه .. وأزاح الفارس كوفية حريرية بيضاء عن عاتقه ووضعها على الحرام الذى جلس عليه متربعا .. وهو ينفض المكان بعينيه النفاذتين ..
كما ترك بندقية قصيرة فى الجزء الأمامى للسرج ..
وربض كلبان من كلاب الفلاحين المتوحشة .. أمام الجواد كأنهما يحرسانه من العيون المحدقة به ..
وجلس الفارس يتحدث وعيناه على البطيخ الناضج والمزرعة التى تبدو كأحسن المزارع التى شاهدها فى حياته ..
وبدا الجو رغم اقتراب الأصيل وانحار الشمس خانقا شديد الحرارة .. ولكن الفلاحين اعتادوا على مثله وما هو أشد منه وطأة ..
وكانوا يحتمون بالظل .. أما الذين كانوا لايزالون فى قلب الحقول إلى تلك الساعة فكانوا يكتفون بعصب رءوسهم اتقاء لضربة الشمس الحامية ..
وكان عرقهم وتحرك عضلاتهم مع الفئوس يقيهم كل ما يصيب الإنسان من الجو الحار ..
وكانت الحرارة الشديدة قد جعلت الماشية تبترد على شط النيل أو تحتمى من الهجير بظل البستان ..
وظلت الكلاب هى الوحيدة التى تلهث فى الشمس ..
وشق عبد الغفار لضيفه وللجالسين بطيختين كبيرتين ..
وأخذوا يأكلون قطع البطيخ بشهية ..
وقال حماد وهو ينظر للجواد وكان يحب الخيل :
ـ هل اشتريت هذا الجواد حديثا ..؟
ـ لا .. إنه من نتاج فرس فى بيتى ..
ـ كم هو جميل .. أعربى ..؟
ـ أجل .. وعربى أصيل .. وأمه اطلق عليها جواد الشيخ عمران .. وهو أشهر جواد عندنا .. جواد رفض صاحبه أن يبيعه للسباق .. رغم مغالاتهم له فى الثمن ليغروه على البيع ..
ـ ولماذا رفض .. وفى امكانه أن يشترى غيره ..؟
ـ لاشك أنك تعرف أن الجواد الأصيل نادر الوجود فى هذه الأيام .. فالجياد تنقرض .. كما ترى .. نحن فى عصر الآلة ولم يعد هناك سامر .. ولا دف ترقص على وقعه الخيل .. كما كان الحال فى الريف منذ خمسين أو مائة سنة .. لايوجد الآن الفراغ الذى كان فى الماضى .. والحياة تدور بسرعة ونحن نجرى فيها بأسرع مما كان .. والجواد لطول العشرة يصبح قطعة من جسم صاحبه ..
ـ وجوادك هذا ألا ترغب فى بيعه ..؟
ـ ما فكرت فى هذا قط ..
ـ حتى ولو أعطيت فيه ثمن سيارة ..؟
ـ وما نفعى من السيارة .. إن هذا الجواد صديقى ورفيق الطريق .. فهل أبيع رفيقى بسيارة ..
أننى عندما أمسح بيدى على كاهله .. وأراه يهتز فرحا أحس بأننى أضع كفى على الدنيا بأسرها ..
ـ أترقص به فى الموالد ..؟
ـ أفعل به كل شىء .. كل ما يخطر لك على البال .. وأركبه بسرج ومن غير سرج .. وبلجام ومن غير لجام .. وأمضى به فى الليل المظلم وفى وضح النهار .. وفى النار الموقدة .. وفى النسيم العابر .. وأتخطى به الجداول .. وأعبر القنوات ..
وهو يعرف بمجرد أن أضع جسمى على ظهره ما أطلبه منه .. دون أن أحثه على الإسراع أو التبختر ..
فهل هذا الجواد يباع ..؟
ـ أبدا .. ولو بكل ما فى الدنيا من ذهب ..
وكان الجواد قد مد رأسه نحو الحشائش .. فنهض الفارس وأزاح عنه السرج .. واللجام .. وتناول من السرج البندقية .. وأمسك بها فى يده وجلس مكانه .. وقدم ابن عبد الغفار بعض العلف للجواد .. فأرخى رأسه وأخذ يأكل ..
واستغرق الجالسون فى الحديث .. حتى مالت الشمس للمغيب ثم تنبهوا على صهيل الجواد .. وتلفتوا فوجدوا ثعبانا ضخما يزحف عليهم ..
ووثب الفلاحون من مكانهم .. وتناول كل منهم فأسا وأحاطوا بالثعبان ..
وتقدم عبد الغفار إليه رافعا الفأس .. وحاول ضرب الثعبان فى رأسه .. ولكن الثعبان راوغه وخابت الضربة واضطرب الجميع ..
وزاد الأمر خطورة ..
ولما شعر الفارس بخطورة الموقف وحرجه .. تناول بندقيته سريعا وأطلق على رأس الثعبان فأصابه فى مقتل ..
وجر أحد الفلاحين الثعبان بحبل وألقاه بعيدا عن المكان ..
واستمروا فى سمرهم .. حتى مضى جزء من الليل .. ولأن محفوظا كان قد ذهب إلى السوق ولم يعد حتى بعد صلاة العشاء .. فقد استبقى عبد الغفار ضيفه إلى الصباح .. لينجز المسألة التى جاء من أجلها ..
ورضى الفارس أن يبقى وتعشوا وفرشوا له خارج الخص فى العراء لأن الحرارة كانت لاتزال شديدة ..
وناموا جميعا مثله فى العراء ..
وبقيت الكلاب وحدها ساهرة فى المزرعة ..
ولاحت النجوم متألقة فى السماء .. ولكن القمر لم يطلع بعد ..
وفى الصباح استيقظ عبد الغفار قبل ضيفه ودار حول الحقل كعادته ..
وعندما رجع إلى الفارس وجده لايزال نائما .. ووجد على قيد ذراع منه شيئا أفزعه وأجرى الرعشة فى بدنه .. وجد ثعبانا ضخما ميتا .. ولما أمعن فيه النظر عرف أن حوافر الجواد دكته بعنف وخمن أنه أنثى الثعبان الذى قتله الفارس فى ساعة الغروب ..
خرجت الحية الرهيبة لتنتقم .. وكان الجواد فى مكانه يصهل .. ولم يكن عبد الغفار يدرى ألدغته هذه الأنثى قبل أن تموت أم لا ..؟ ولكنه كان يعرف أن الجواد قد تغلب بقوته وذكائه على الشر .. وحتى السموم سيتغلب عليها ..
وكانت نظرة الجواد إلى صاحبه النائم .. تدل على أنه فعل شيئا كبيرا .. من أجله .. فى الظلام .. شيئا لم يحس به انسان ..




======================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=======================          






صقر البحار



     كان البحر عالى الموج والرياح تزمجر والليلة شديدة الظلام ..
         وكان الزورق يشق الماء فى جو ينذر بالعواصف والمجدافان يعملان بشدة .. ويجهد أنفسهم الرجال الشجعان ليصل الزورق إلى مقصده ..
     كان قد ابتعد عن المنتزة وخرج إلى عرض البحر .. وأصبح تحت رحمة الأقدار .. ولكن الرجال الأشداء الذين يوجهونه كانوا يكافحون ببسالة ..
     ولم تكن العاصفة مقدره .. ولا كانت فى حسبان أحد .. ولا كان هناك أدنى احتمال فى أن ينقلب الجو إلى هذا السوء ولكن الزورق كان لابد أن يبلغ السفينة فى منتصف الليل مهما كانت الأحوال فأقلع ..
     وكان ( مرسى ) صاحب الزورق الملقب ( بصقر البحر ) من أمهر الصيادين ورجال البحر فى الإسكندرية اعتاد على المخاطر وركوب الأهوال ، وكان يعتمد عليه فى مثل هذه المهمة اعتمادا كليا .. وندر من يقبلها أو يرضى القيام بها من أصحاب الزوارق الأخرى .. ولكن صقر البحار كان على استعداد تام لأن يبيع نفسه حتى للشيطان إذا دفع له الأجر عاليا ..
     وكان صقر البحر أصغر من رفيقيه فى الرحلة سنا ولكنه أشدهم بأسا وأعظمهم قوة وكان يتولى القيادة وأمساك الدفة .. وفيه كل طباع القرصان .. مع أن عهد القرصان قد ولى .. وذهبت أيامه وبقى ظله فى البحار .. ولكن مرسى كان يضحك ويقول : « أن الناس أصبحوا قراصنة على الأرض بعد أن اختفى قرصان البحار .. فلماذا لا أعيد للبحر هيبته .. ؟ »
     ومنذ عصف البحر وهو يفكر فى الشىء الذى غيبه فى القاع .. خشية أن يغرق الزورق ويفقده فتكون الكارثة الكبرى ..
     وكان جسورا مقداما بطبعه .. وقد أكسبه العيش فى البحر .. جرأة وجسارة أكثر .. وقد ذهب بزورقه هذا إلى سواحل الشام .. كما ذهب إلى قبرص وإلى بيريه .. ولم تكن جرأته فى البحار تقف عند حد ..
     وكان يرتدى سروالا أسمر وقد تمنطق بحزام ووضع على صدره ( فانلة ) البحار وفوق هذه صدارا قطنيا مخططا زاهى الألوان .. وغطى رأسه بطاقية صوفية مزركشة جعلته أشبه بصقر الليل ..
     وكان الملاحان الآخران المرافقان له فى الرحلة يلبسان ملابس الصيادين .. وحشا أحدهما جيوبه بالتبغ والبلح المجفف .. وأخذ الرجال الثلاثة يدخنون فى صمت وعيونهم إلى البحر والليل وكانت العاصفة تزداد عنفا ..
     وكان هناك المسافر الوحيد فى هذا الزورق .. وقد جلس قابعا منزويا فى الجزء الخلفى الملاصق للدفة وعلى وجهه كل دلائل القلق والخوف الشديدين ..
     وأخذ الزورق يتأرجح ويعلو به الموج ثم يهبط .. ومع كل ذلك ظلت ملامح الرجال ساكنة ووجوههم جامدة .. وكانوا قد طووا نصف الشراع .. وبدا النصف الأعلى المنشور كافيا لأن يدفع الزورق كالسهم فى مثل هذه الريح لو كانت الأحوال طبيعية ولكن صراع الموج كان يعوق الإبحار .. وكان الزورق يبدو .. كأنه لا يتحرك من مكانه .. والبحر يزأر بعنف وكأن فى أعماقه غيلانا تتقاتل .. وتجذب الزورق بسلاسل إليها ..
    عاش الثلاثة رفقاء فى البحر .. وكانت حياتهم ملتصقة بالبحر وممتزجة به .. وتحت سمائه يأكلون ويشربون .. وينامون .. وكانت صدورهم المفتوحة وعضلاتهم وسواعدهم .. تزداد قوة وصلابة فى صراعهم مع الأمواج ..
     وكان " مرسى " على غير عادة قد أخذ يجدف فى هذه الليلة لهول البحر .. وكانت قوته وحده تعدل قوة رفيقيه .. ثم ترك المجداف لغيره وانتصب فى مؤخرة الزورق .. يرقب ما هناك .. وبدت قامته الطويلة فى الليل كمارد أسود ..
     كان فارع الطول عريض الألواح .. وكان يجيل عينيه الحادتين فى أغوار البحر .. باحثا عن السفن التى تتحرك هناك ..
     وكانت يداه تتحركان إلى الأمام والخلف ثم وضع أحداهما فى جيبه وأشعل لنفسه سيجارة بعد أن أنحنى فى القاع ليكون بنجوة من الريح ..
     وبدت عيناه حمراوين كوهج السيجارة التى فى أطراف أنامله .. وكانت حياته صراعا رهيبا كثيرة المخاطر .. وكانت المخاطرة تدفعه لمثلها أو أشد منها حتى وجد نفسه أخيرا يعيش فى حلقة مفرغة وكان الصيد ستارا لما يقوم به من أعمال خفية ولم يكن يؤمن إلا بالشىء الذى سيحصل عليه هو مهما ركب فى سبيله من أخطار ..
     كان أنانيا يدور حول نفسه والأنانية هى محور حياته .
     وكان عيشه فى البحر قد جعل جلده أسمر كأنما سفعته النكبا .. وكان شعره مفلفلا قصيرا .. وترك شاربه مفتولا وكان يعنى به ويدهنه ويجعله لامعا كلما أتيحت له الفرصة لأن يزهو بنفسه ..
     وفجأة برز أمام عينيه شىء ضخم قام كالجدار كأنما خرج من جوف البحر ولم يشاهد ( مرسى ) السفينة إلا وهى أمامه .. وكانت ضخمة من عدة طوابق وتسير فى الخط المضاد .. وكانت تقترب منه كأنها متعمدة سحقه ولما أقتربت توضحت معالمها وأبراجها وبدت أنوارها الضئيلة تمسح الظلمة قليلا .. لاحت فى الليل الشديد السواد وهى تتأرجح .. كحبات من الدر متناثرة على صينية من الزئبق الرجراج ..
     وكان الموج يدفع السفينة الشامخة ويميل بها إلى جانب ولكنها كانت فى جبروت واصرار تلتزم خطها المرسوم .. وكان ( مرسى ) يدرك تماما أن السفينة لم تره ولم تحس وجوده إلى جانبها .. قط .. وهنا يكمن الخطر ويتجسم فى كل لحظة ..
     وأحس بالدوامة تقترب وكان الزبد الأبيض المتخلف من محرك السفينة والذى سيطويهم يقترب منه .. رآه ( مرسى ) على مدى أمتار قليلة .. فامسك بالدفة فى يده وصاح فى رفيقيه وزأر ..
     وأحس المسافر الوحيد بالخطر فتجمع على نفسه مرعوبا ..
     وزعق الرجال الثلاثة فى صوت واحد وقد تحولوا إلى مردة .. على المجاديف ..
     واندفع الزورق إلى الأمام ثم ارتد إلى الخلف مرة أخرى وارتفع كالطود ثم أنخفض وحسب الرجال أنهم قد غاصوا فى قاع البحر .. ثم تنبهوا إلى صوت المحرك .. مع صفارة السفينة ..
     وكأنما جاء النذير فى الليل العاصف فهدأت المحركات .. ومرق الزورق من جانب السفينة وخرج إلى بحر الأمان ..
     وران صمت كالجبال على الوجوه المنتفخة .. والعيون المحدقة فى ذهول .. فقد نجوا من الموت باعجوبة .. أعجوبة الأعاجيب ..
     وتغير وجه مرسى بعد أن أجتاز الخطر .. وظهر عليه العبوس فقد أحس بأنها ليلة مشئومة .. ولكن لهفته على أن ينجز مهمته .. جعلت قلبه الصلد لا يلين ولا يعبأ بما تأتى به الأخطار فراح يحدق إلى الأمام فى سكون .. وكأن البحر يضفى عليه إحساسا بالقوة وبالحرية ..
     تحرك المجدافان فى الماء وأخذا يضربان صفحته فى قوة .. وأحس ( شعبان ) أحد الملاحين بطقطقة فى الحلقة التى تمسك بالمجداف .. وفى سرعة جذب المجداف من الماء وأخذ يغير الحبل .. وبقى المجداف الآخر يثير الزبد ..
     واستدار الزورق لما نزل المجداف الثانى إلى الماء مرة أخرى وأخذ يشق طريقه وبدت أضواء السفن من بعيد تتحرك فى بطء .. كأن المحركات تتقى شر العاصفة ولا تدور إلا هونا ..
     ونظر ( مرسى ) إلى ساعته فألفاها الحادية عشرة .. وكان أمامه مسيرة ساعة كاملة فى هذه الأهوال حتى يلتقى بالسفينة التى يقصدها..
     وكان الزورق رغم العواصف والأنواء يسير فى خط معلوم كأنما يتحرك بمحرك .. كان ينطلق ثم يرتد ولكنه يمضى على سننه فى وجهته المرسومة ..
     وكان الماء واسعا وخيل إلى ( مرسى ) عندما أبعد تماما عن الشاطئ وأوغل فى اليم إنه يسير فى وسط المحيط الأطلسى ويتجه غربا إلى أبعد مدى ..
     واعتمد على عامود الدفة وأخرج لنفسه سيجارة من جيبه وأشعلها وأجال الطرف فيما حوله .. كان البحر لا يزال مهولا .. ولكن السفن بدت كثيرة وراء بعضها كأنما تربطها سلسلة واحدة وهى خارجة لتوها من قناة السويس .. لابد أنها عبرت القناة بالأمس .. وربما فجر اليوم وها هى الآن تتهادى إلى كل البحار ..
     ظل الرجل فى مكانه صامتا حتى رأى النور الذى يعرفه والسارية التى يقصدها .. وكان يعتمد على ( شعبان ) اعتمادا كليا فقال فى صوت النشوان :
     ـ إننا نقترب ..
     ـ أجل .. ياريس ..
     ـ عندما ندور فى الجانب الأيسر من السفينة أترك المجداف لـ ( حميدو ) .. وارتكز أنت على المقدمة حتى ترى الزورق ينزل بالحبال من السفينة .. وحاذر من السفينة وإلا أغرقتنا فى دوامتها ..
     ـ سنبذل كل ما فى وسعنا .. واللّه يسلم ..
     ومرت لحظات وظهر من بعيد هيكل السفينة كالجدار ونزل من جانبها زورق صغير وبدا الرجال فى الظلمة كالعفاريت ..
     ورفع مرسى المجاديف عن زورقه وانحنى إلى الأمام يحدق فى الظلمة الجاثمة أمامه .. وقد أمسك بيده عمود الدفة .. ورأى الزورق الآخر على سطح الماء ثم أنزلق إلى ناحيته وران الصمت .. حتى أقترب الرجال ..
     وخرج المسافر الوحيد من مكمنه كأنه خارج من قاع الجب ..
     وأخرج ( مرسى ) الصندوق الملآن بالسبائك الذهبية .. من قاع الزورق وناوله لشعبان فى المقدمة .. وتقابل الزورقان ..
     ونزل المسافر الوحيد فى الزورق الآخر .. وحمل له مرسى الصندوق المملوء بالذهب والجواهر .. ووضعه بجانبه فى الزورق الآخر وقبض أجر التهريب من المسافر الوحيد .. وعاد إلى زورقه وهو نشوان فقد قبض مبلغا ضخما .. يكفيه لأن يعيش كريما لو أراد ..
     ودارت المياه وتحرك الزورق الآخر حركة لولبية ثم عاد إلى سفينته مرة أخرى ورفعوه بالحبال والجنازير ..
     وتنفس الرجال الصعداء لقد قاموا بالمهمة فى جو عاصف وفوق الأمواج المرتفعة .. وسأل مرسى .. رفيقيه :
     ـ تعبتم .. ؟
     ـ أبدا ..
     ـ حركا .. المجاديف .. جولة واحدة ثم نرجع لننام ..
    وتسمع حركة .. فأنصت وألقى أذنيه :
    ـ إنى أسمع حركة ..
    وأنصت الملاحان ..
    ـ إنه طراد ..
     ـ لا .. إنه رفاص السواحل .. حل الشاغول يا شعبان .. وشد الشراع إلى آخره ..
    ـ نغرق يا ريس ..
    ـ الغرق .. خير من القبض علينا .. سيسوموننا العذاب .. حل ياشعبان حل ..
    ـ نغرق ياريس ..
    ـ قلت لك حل ..
    وتحرك إليه فدفعه إلى السارية ..
    واندفع شعبان إلى الأمام .. وعاكسته عقدة فى الحبل .. فتعلق بالسارية .. ليعالجها .. وجاءت موجه عالية فى هذه اللحظة .. رفعت الزورق على صدرها ثم حطته .. وعندما نظر مرسى إلى مكان شعبان وجده شاغرا .. فصرخ فى حميدو .. ولكن الزورق كان يسير بين موج كالجبال فذهب الصراخ هباء ..
    وكان حميدو يريد أن ينزل وراء شعبان .. ولكن مرسى منعه ..
    وكان البحر مهولا .. والحيتان تتراقص بجانب الزورق .. وطفا شعبان مرة واحدة وهو يصرخ مستنجدا .. ثم ابتلعه اليم ..
     وشرب مرسى الشاى .. وأشعل سيجارة ..
     وخيم سكون الموت فهذه هى المرة الخامسة التى يحدث فيها غرق فى جولاته .. كان شعبان الذى غرق من أمهر الملاحين وقد أسف عليه ولكن ماذا يجدى الأسف ..
     ولم يحزن مرسى على الرجل الذى غرق وابتهج لأنه سيأخذ نصيبه وقرر أن يعطى أرملة الغريق منحة بسيطة ويأخذ الباقى لنفسه ..
     أما حميدو فقد حزن على موت رفيقه وأحس بغصة فى حلقه .. ولولا خوفه من مرسى لقفز إلى الماء وتركه وحيدا ..
     ولما وجد الريح قد سكنت أطلق الشراع كله .. ورفع المجداف .. وخيم الصمت من حوله .. وبدأ الليل تنقشع غياهبه .. وأخذت نجوم الفجر تتألق ..
     وكان الزورق ينطلق فوق الماء فى يسر بعد أن سكنت الأمواج ..
     وأحس مرسى وهو معتمد على الدفة وقد أطلق « الشاغول » وشد الشراع بأنه يملك زمام الطبيعة .. وأن كل شىء رجع إليه كما كان .. وبدا البحر جميلا أزرق .. وصفحة السماء فى مثل زرقته ..
     لم يحزن على الرجل الذى طواه البحر .. أبدا .. هذا عارض يحدث لكل إنسان وماذا يجدى الحزن .. وماذا يجدى الأسف ..
     وأحس بالجوع .. فأكل شيئا .. ولم يأكل رفيقه .. وأحس بعد الطعام بالدفء ولم تكن الليلة شديدة البرودة .. وإن كانت ريح فبراير لا تزال تسفع ..
     وكان الزورق يشق صدر الماء فى يسر والشراع منتشرا .. والحبال مشدودة .. وإلى يساره لاحت أنوار بعيدة ..
     إنه يقترب من الشاطئ جدا .. وقد بعد عن الخطر .
     وارتكز ثانية فى مؤخرة الزورق وحول إتجاهه .. ليقترب من الشاطئ أكثر وأكثر ..
     لقد دخل فى منطقة الأمان ولم يعد البحر يخيفه ..
     وتحسس النقود فى نطاقه الجلدى .. سيعطى « حميدو » خمسين جنيها فقط ويبقى المبلغ كله له لقد أدى المهمة واستراحت نفسه .. شعر بالارتياح .. كان يشعر بإبتهاج النفس كلما فرغ من عمل ركب فى سبيله المخاطر ..
     وملأ رئتيه من هواء البحر .. وتمطى وشعر بلذة من فرغ من عمل كبير .. واستحوذ على أجره كاملا ..
     وانطلق الزورق ..
     وبدت اليابسة على مرمى الأفق .. الأرض الخضراء .. وكان يحس بانتعاش وهو يرى إلى بعيد .. ويحس بشوق لأن يعود .. إلى بيته سليما كما خرج منه ..
     لقد انتهى الأمر .. وذهبت المخاوف كلها .. وبغرق شعبان إنزاح الشؤم كله ..
     وأحس بأنفاس البحر .. وكان الزبد يذهب مع الموج ثم يجئ .. زبدا راغيا ..
     وأخذ الزورق يتمايل حتى لاحت اليابسة .. مع أنفاس الصبح .. وأشرق نور الصباح .. بهيجا رائعا .. وسيسير فى النهار عائدا إلى الإسكندرية .. انه الآن على مبعدة من رشيد وربما من أدكو .. وسيظل يتهادى بزورقه فى عرض البحر حتى يقبل الظلام .. وفى الليل سيدخل الإسكندرية .. ما أجمل الحياة فى البحر ..
     أن حياة البحر هى الحرية ..
     وقال لحميدو :
     ـ إرم الشبكة .
     ومع مطلع الشمس سحباها وكان فيها سمك كثير ..
     كان مرسى مستغرقا فى التفكير .. وكان رفيقه يلقى بالسمك الحى إلى قاع الزورق ويطوى الشبكة فى المؤخرة .. ويقوم بعمله العادى فى نشاط عجيب .. ونسى ما حدث فى الليل .. نسيه بسرعة .. لأن الحياة عودته على ذلك .. وأدار الزورق .. وقادة إلى حيث يقدر وجود المياه الساكنة كان يريد أن يصطاد سمكا كثيرا يملأ به قاع الزورق ليغطى العمل الذى خرج من أجله فى الليل فظل يصطاد ويصطاد .. وبدا كل شىء واضحا فى الشمس بهيجا وظل الجو هادئا إلى العصر وفى الغروب انقلب الجو مرة أخرى .. وأمسى عاصفا وظل الرجلان يكافحان ويغالبان الأمواج ببسالة وملامحهم ساكنة ..
     وأحس مرسى بموجة عاتية قادمة من بعيد ستدفع الزورق وتحطم السارية .. وانقلب الزورق من شدة العاصفة واحتواه الماء .. وغاص مرسى فى اليم ثم طفى ولما نظر لم يجد الزورق المقلوب ولا حميدو واختفى كل شىء عن نظره وظل يسبح ثم أدركه التعب وقبل أن يشرف على الغرق انتشله زورق من زوارق الصيادين وألقاه إلى الشاطئ .. وكان فى حالة من الغيبوبة ولما أفاق لنفسه كان متمددا فى كوخ بجوار البحر .. والشمس مصفرة وكانت هناك امرأة واقفة خارج الكوخ ..
     كانت نعيمة على الباب .. واقفة كأنها تنتظر عودة زوجها الذى ذهب إلى الحقل .. أو تتطلع إلى الغروب .. وكان وجهها يرف كالأقحوان وقد بدت طويلة ملساء العود نقية البشرة ..
     وسألها الرجل الراقد وهو يدير عينيه فى ذهول لعله يتذكر :
     ـ ما الذى جاء بى إلى هنا .. ؟
     ـ التقطك صياد .. وأنت غريق فى البحر ـ بين الموت والحياة ـ وألقى بك إلى الساحل ..
     ـ وأين نقودى .. ؟
     ـ أى نقود .. ؟
     ـ نقودى الكثيرة حزمة من أوراق البنكنوت ثلاثة آلاف جنيه كانت هنا فى نطاقى ..
     ـ ربما سقطت فى البحر ..
     ـ إنها لا تسقط .. لقد سرقت منى .. وانتزع النطاق وأنا فى غيبوبة ..
     ـ ربما فعل هذا الصياد ..
     ـ من يدرى وربما غيره .. ؟
     وحدق فى وجهها .. كانت رائعة فى دثارها الأسمر .. وكانت عيناها السوداوان تشعان ببريق أخاذ ..
     وغاظه أن المال الذى ظل يعد العدة له منذ سنة كاملة .. ذهب سريعا فى خطفة عين .. دون أن يدرى من الذى أخذه ..
     وأحس بالغضب .. ولكن الحمى كانت تشله عن الحركة .. ونظر إلى المرأة مرة أخرى وأتهمها وإن لم يجد الدليل القاطع ..
     وسألها :
     ـ هل تعرفين الصياد الذى انتشلنى من البحر .. ؟
     ـ أبدا .. إنه عابر سبيل .. ربما كان فى طريقه إلى الإسكندرية .. أو رشيد .. لقد ابتاع منا سجائر .. وأبقاك هنا .. وذهب ..
     وفكر أنها تكذب ..
     وسألها :
     ـ تحت أى بلدة نحن ..؟
     ـ إننا قريبا من « ادكو » ..
     ورأى رجلا يقدم فى إتجاه الكوخ .. فسألها :
     ـ ومن القادم هناك ..؟
     ـ إنه زوجى ..
     ورأى رجلا قصيرا يتحرك فى ظل الغسق .. وكان يحمل زكيبة على عاتقه .. ولما اقترب الفلاح من مرسى جلس بجواره يحييه ويسأله :
     ـ كيف حالك الآن .. ؟
     ـ كما ترى .. بخير .. والشكر لك ولزوجتك ..
     ـ اعملى شايا يا نعيمة .. وجهزى العشاء للريس .. ما اسم الكريم .. ؟
     ـ مرسى ..
     ـ جهزى العشا للريس مرسى ..
     ـ العشا جاهز .
     ـ أشكرك .. تعاف نفسى الطعام .. أرجوك إذا مرت سيارة أجرة فى طريقها إلى الإسكندرية أوقفها لى .. لأعود لبيتى ..
     ـ أنت الآن تعبان وإذا سافرت .. وأنت مريض ستؤذى نفسك ..
     ـ لا بد أن أذهب إلى المستشفى إن الحمى تأكل بدنى ..
     ـ نعم .. سنوقف لك سيارة ..
     وشرب مرسى الشاى .. وأحس بالعرق والنوم يراود أجفانه فتدثر ونام إلى الصباح ..
     وفى الصباح وجد الفلاح قد خرج إلى حقله .. وكانت نعيمة هناك بعيدة فى الكشك الذى على ناصية الطريق تبيع الدخان والكازوزة للعابرين ..
     وألفى نفسه فى الكوخ وحده .. ووجد الفرصة سانحة ليفتش كل جحر وشبر باحثا عن نقوده .. فتحرك وأخذ يفتش فى كل ركن وفى كل الأشياء فى « الغلق » وفى الصندوق وفى الجراب .. وفى الطاقة .. بحث فى هذه الأشياء .. بسرعة ولهفة خشية أن يرجع الرجل أو ترجع المرأة فجأة .. ولم يجد شيئا فى الغلق ولا فى الصندوق ولا فى الطاقة .. فعاد إلى مكانه يائسا وفيما هو يدور بعينه فى الحائط .. لمح شيئا ارتجف له قلبه .. لمح شرخا حديثا فى الحائط سوى بمونة لم تجف بعد .. فانتصب وتحسس بيده قالب الطوب .. وانتزعه .. وهنا وجد الفجوة .. وقبضت يده على البنكنوت .. نقوده بعينها .. نقوده فى الربطة الجلدية التى كان واضعها فى نطاقه ..
     وقبضها بيديه ووضع النقود فى صدره واحتضنها .. وهو نشوان لإنتصاره .. واستقبل الباب ليفر بها ..
     وهنا أحس بطعنة خنجر حادة تنفذ فى ظهره تبعتها طعنات سريعة وسقط مرسى صريعا على الأرض فى مدخل الكوخ ..
     وفى ظلام الليل .. سحب الفلاح القتيل على الرمال الناعمة حتى ألقاه فى البحر ..


===============================
 نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
===================================
الأصابع العارية



وقف شاب فى ساعة الأصيل أمام أحد البيوت القديمة فى عزبة النخل يلمس الجرس فلما لم يجد استجابة فى الداخل قرع الباب بتؤدة ثم بعنف .. وسمع نباح كلب فى الداخل ثم أقداما تقترب فى ممشى الحديقة وصوتا خشنا يزجر الكلب ..
وانفرج الباب الكبير وهو يصر وظهر رجل طويل براق العينين على العتبة وكان يرتدى صدارا من الصوف الداكن وبنطلونا رماديا .. ويمسك بيده سلسلة صغيرة تدلى منها مفتاح ..
ونظر الرجل بعينين نفاذتين إلى  الشاب .. الذى سأله بصوت هادىء :
ـ أهذا بيت السيد مدكور ..؟
ـ نعم ..
ـ وهل هو موجود ..؟
ـ أنا مدكور ..
ـ أننى مختار المهندس الذى حادثته حضرتك فى التليفون أمس ..
ـ أهلا وسهلا .. تفضل يا بنى .. تفضل ..
واجتاز مختار العتبة وهو ينظر بخوف إلى الكلب الضخم الذى وقف فى حالة توثب بجوار سيده ..
ولاحظ السيد مدكور ذلك .. فقال :
ـ لاتنظر إليه بخوف هكذا .. ففى الكلاب حاسة ادراك خارقة ولا أحب أن يكون بينك وبينه عداوة ..
وابتسم مختار ومشى فى حديقة موحشة كثيفة الأشجار فيها أنواع مختلفة من أشجار البرتقال والليمون والورد كما زرعت نخلتان طويلتان وبنيت فسقية صغيرة فى وسط الحديقة يمرح فيها البط ..
وبدت الحديقة تحت نظره هائجة لم تتناولها يد منذ مدة بالتشذيب وأرضها معشوشبة فى جانب ومتربة فى الجانب آخر ..
ولاح البيت وراء الحديقة من طابق واحد وقد خيم عليه السكون المطبق ولم تظهر بادرة أنفاس تتردد فى داخله ..
ودفع السيد مدكور الباب ووراءه مختار إلى ردهة بدت معتمة حتى عن النهار الباهر ..
وفى حجرة واسعة جلس مختار ينظر حواليه إلى أشياء كثيرة وضعت فى غير نظام ولا ترتيب .. فقد رأى تماثيل دقيقة ولوحات فنية رائعة وعددا مختلفة وآلات حدادة ونجارة وساعات حوائط ومنبهات وكتبا ..
وتركه السيد مدكور جالسا وحده فى الغرفة ودخل فى جوف البيت .. وتأتى له من هناك صوت ناعم .. وكان من شدة خفوته لا يبين ..
ورجع مدكور إلى غرفة الجلوس .. وأغلق وراءه بابها .. وأخذ يرحب بمختار ويحادثه بمودة .. وسمع نقرة خفيفة على الباب المغلق فنهض وحرك مصراع الباب حركة خفيفة وبصر مختار بكف بيضاء وأصابع عارية تمتد بصينية القهوة ..
وشربا القهوة وأفاضا فى مختلف الأحاديث ولاحظ مختار أن صاحب البيت وإن جاوز الستين من عمره ولكنه مازال موفور الصحة ولايزال يجرى فى عروقه الدم وقد خلا وجهه من التجاعيد ..
كما لاحظ أنه لايدخن وأنه يشرب القهوة  بتؤدة وهو يستلذ مذاقها .. وأنه على ثقافة واسعة .. وعلم بالميكانيكا والكهرباء ..
وقال السيد مدكور وهو يشير لأول مرة إلى المهمة التى جاء مختار من أجلها :
ـ والآن تفضل لأريك الماكينة ..
ونهض مختار ومشى به مدكور فى ردهة طويلة معتمة إلى الناصية الخلفية من المنزل وفى قاعة صغيرة رأى آلة صغيرة على قاعدة من الخرسانة ..
وقال مختار فى سرور :
ـ إنها تبدو رائعة ..
ـ وقد تعجب إذا علمت أننى ركبتها كلها بيدى ..
ـ هذا عظيم ..
ـ ومعظم العدد ابتعتها من السوق .. وبعضها صنعته بنفسى ..
ـ وكم كلفتك ..؟
ـ حوالى مائة وخمسين جنيها ..
ـ مثلها تساوى الآن أكثر من خمسمائة ..
ـ لم يكن هذا قصدى .. وإنما كنت أود أن أصنع شيئا فى حياتى .. شيئا ذا قيمة وقد صنعته ..
وبدا على مدكور الزهو والافتخار ومد قامته .. لما سمع صوت الكلب فى الحديقة ..
وكان مختار قد انحنى على الآلة يتفحصها بدقة ثم رفع رأسه وقال :
ـ نديرها ..
وأدارها مدكور " وتكت " وخرج " العادم " والكلب ينبح والرجل قد أغرورقت عيناه من الفرحة ..
وقال لمختار فى صوت الحالم :
ـ ما أجمل أن تصنع شيئا ينبض تحت سمعك وبصرك .. شيئا يتحرك فى حركة رتيبة كخفقة القلب ..
وقال مختار ليزيد من حماسة الرجل :
ـ إنه عمل رائع .. إنه خلق ..
وقال مدكور وعيناه تلمعان :
ـ لقد أحببت الوابورات منذ الصغر .. وكنت أصنع الوابور الصغير من الطين .. وعيدان البوص وأجعله يدور متى احتبس البخار .. وأخرج بتلك الفرحة التى تراها على وجهى الساعة ..
وسأله والماكينة لا تزال دائرة :
ـ والآن ما العيب يا باشمهندس ..؟
ـ فى تصورى أنه فى الكرنك ..
ـ وليس فى الحدافة .. ولا البستم ..
ـ لا .. إنه فى الكرنك .. إنه خفيف الضغط .. ولذلك قلت السرعة ..
ـ وما الرأى ..؟
ـ نستبدله .. أو نصب غيره ..
ـ ومتى أرسله لك ..؟
ـ سأفكه الآن وآخذه معى فى سيارتى ..
وجلس الرجلان يفكان الصواميل ..
وقال مختار :
ـ سألقى نظرة أخرى على العدد كلها مادمنا شرعنا نفك الوابور .. فأرجو أن تأتى لى بمصباح ..
وغاب مدكور قليلا ثم رجع .. وبعد دقيقة واحدة .. سمع نقرا خفيفا على الباب مثل الذى سمعه أول مرة .. وامتدت الأصابع العارية بالمصباح .. وهمس مدكور بشىء لم يسمعه مختار .. وكان قد رفع رأسه بدافع الفضول وأخذ ينظر إلى هذه اليد السحرية التى تمتد فى الظلام ..
ولاحظ مدكور .. بعد أن شمر مختار عن ساعده .. جرحا قديما ترك آثاره فى الذراع اليمنى .. فسأل :
ـ أهذا من الآلة ..؟
ـ لآ .. إنه من الإنسان ..
ـ من الإنسان .. كيف ..؟
ـ كنت مع الشبان الذين ذهبوا إلى الإسماعيلية وأطلق الإنجليز عليهم الكلاب المسعورة ..
ـ نسيت هذا .. وسيظل الإنسان هو وحش الوحوش .. جميعا ..!! منذ فجر التاريخ .. منذ نيرون .. إلى القرن العشرين عهد الفرنسيين فى الجزائر .. وهو وحش الوحوش ..
ـ هذا صحيح ..
ـ ما من كائن يتفنن فى تعذيب جنسه .. وما من حيوان أو جارح من جوارح الطير .. بل ما من مخلوق على الاطلاق يميل إلى إيذاء جنسه .. سوى الإنسان .. الذى يتفنن فى تعذيب أخيه الإنسان ..
وكان العشى قد زحف وازداد السكون ثم قطع هذا السكون صوت الكلب وهو ينبح بشدة .. فنهض مدكور إلى الباب ففتحه وأطل منه .. ثم رجع وهو يقول وعلى وجهه الابتسام :
ـ الناس تتصور أننى أدفن كنزا فى الحديقة .. وبغير هذا الكلب ياربى كيف كنت أعيش وأنام ..
ورفع مختار رأسه وابتسم فى ود وهو ينظر فى عينى الرجل فقال هذا وكأنه قرأ ما يدور فى رأس مختار :
ـ ولهذا السبب أصبحت لا أشغل أحدا فى بيتى لا بستانيا ولا خادما .. وأعمل كل شىء بيدى ..
ـ إن فى العمل تسلية ولذة ..
ـ تصور أنهم كانوا يسرقون التحف والتماثيل التى لا تقدر بمال ويبيعونها بأبخس الأثمان .. وكنت أتعذب وأظل أبحث عنها حتى استردها .. وأخيرا أغلقت النوافذ والأبواب .. وعشت وحدى واسترحت ..
وسمع النقر على الباب .. وأطلت الأصابع العارية تحمل صينية الشاى .. وامتدت بها أكثر وأكثر حتى بدا المعصم كله فى ضوء المصباح .. وبدت يد أنثى رخصة دقيقة الأصابع فى جمال ساحر ..
ورفع مختار رأسه .. وطالعه الغموض من جو البيت .. وغص بريقه .. وهو يود أن يسأل :
ـ لمن تكون هذه الأصابع .. إذن مادمت تعيش وحدك ..
ولم يقو مختار على السؤال فصمت وتناول كوب الشاى وأخذ يترشفه فى بطء شديد وهو يتأمل .. ثم سأل ليقطع خيط السكون :
ـ هل الوابور لرى الحديقة بدل البئر ..؟
ـ للأمرين معا .. وسأعطى النور والماء للجيران مجانا .. أجل دون أجر على الاطلاق ..
ـ هذا عمل خير ..
ـ بعض الجيران .. فقراء .. وفى أشد الحاجة إلى النور والماء .. وما أثلج على الصدر .. أن ترى النور يدخل إلى هذه البيوت المظلمة ..
واستطرد مدكور وقد برقت السعادة على وجهه :
ـ لقد كانت أمنيتى منذ أحلت إلى المعاش وجئت إلى هذه المدينة الصغيرة .. أن أرى منازل الفقراء التى حولى تضاء بالكهرباء .. وأن أرى الأشجار تزرع والأراضى مخضرة والورود متفتحة هنا .. وأن أحول كل شىء إلى حياة ..
وصمت قليلا ثم أضاف فى حماسة :
ـ ورغم أننى أعيش وحدى ولكننى أقول لك عن تجربة ما أجمل الحياة لمن يعمل ويكد لغاية نبيلة ..
ـ هذا حق ..
وشغل بما فى يده برهة ثم نظر إلى الشاب بعطف وسأله :
ـ أمتزوج يا سيد مختار ..؟
ـ أبدا ..
ـ لماذا .. يا بنى .. أسرع بالزواج .. وإلا ستشعر بالضياع فى شيخوختك .. وتكون كمن تقطعت به الأسباب فى الصحراء .. لا ماء ولا شجر .. عجل وإلا ستقع فى نفس غلطتى ..
ـ وحضرتك لم تتزوج ..؟
ـ أبدا كما ترانى وحيدا .. ضائعا ..
ونظر مختار إلى وجه الرجل .. ثم عاد إلى ما فى يديه وهو يفكر .. هل هذا الرجل يمكر به .. أم أنه يستخدم فى بيته الشياطين .. من هى صاحبة اليد التى رآها إذن أكثر من مرة ..؟
من تكون .. من ..؟
واكتظت برأسه الأسئلة ..
ثم استغرق فى عمله حتى انقضى جزء من الليل ..
ولما فرغا من العمل .. نهض مختار مودعا والغموض والسكون يخيمان على البيت .. وحمل الكرنك فى سيارته وانطلق ..
وعاد مدكور فأغلق بابه بالمفتاح .. وكان الظلام يخيم والريح تصفر بين الشجر الملتف والكلب يتبعه وهو يبصبص بذنبه ..
ودخل مدكور البيت وأغلق الباب وراءه وطالعه ضوء المصباح الخافت والسكون العميق ..
ونظر إلى التماثيل الصغيرة والكبيرة فبدت له كالأشباح الخرساء .. كما بدت الصور كخيال الظل .. وشعر بمرارة قاتلة لأنه ذكر وحدته المرة للشاب الذى تركه منذ لحظات .. ونغص حياته .. وأحس بفراغه القاتل ..
وبدلا من أن يدخل الغرفة الأولى .. وكان النور فيها قد انطفأ .. دخل غرفته .. الغرفة التى لا يشعر فيها بنهار ولا ليل ..
واستلقى على السرير فى الظلام دون أن يشعل المصباح الصغير ..
وكلما اشتدت الريح فى الليالى الظلماء كان يحس بتحرك الشجر ثم بتحرك الأشباح ويتصور أن أحدا تسور السور .. وجاء لسرقته أو قتله فيحزن لأنه ليس عنده من صلبه ولد يحميه ويرد عنه غائلة الليل ..
كان يشعر بقشعريرة من مجرد التفكير فى أنه سيمسك المسدس ويطلق النار على اللص الذى يتسور السور فى الظلام ..
وراح فى دوامة من القلق والعذاب .. ثم أغلق عينيه فى الظلام واسترخى وأخذه النوم .. وأحس بأصابع عارية تضم عليه الغطاء ..
وبعد أيام قليلة رجع مختار فى ساعة الغروب يحمل له الكرنك الجديد .. وسر به مدكور جدا .. واتفقا على أن يركباه فى الصباح التالى .. بعد أن يقصر السير بمقدار عقدة .. لتكون سرعة الوابور طبيعية ..
وطار مدكور من الفرحة وهو يتصور أمنيته قد تحققت بعد طول جهاد وأنه صنع شيئا نافعا له ولجيرانه الفقراء ..
وفى اليوم التالى ركب مختار سيارته فى الصباح المبكر وأسرع بها إلى بيت الرجل وضغط على الجرس ثم قرع الباب فلم يتلق استجابة وتمهل برهة ثم عاود الطرق بعنف خيم بعدها السكون .. وانتابه هاجس جعل القشعريرة تسرى فى بدنه فتلفت حواليه فلم يجد أحدا يسأله ثم ضغط على الباب بكل قوته فاختلج تحت جسمه وانفرج وهرول مختار إلى الداخل ..
ووجد باب البيت مفتوحا .. فولج منه ووقف فى الصالة وقد شله الرعب .. فقد وجد الرجل صريعا وغارقا فى دمه إذ ضرب بآلة حادة .. والكلب بجواره ضرب مثل هذه الضربة .. ولكن ليس فى نفس المكان حيث ظل يزحف حتى رقد بجوار سيده ثم تلفت مختار فى حزن والدنيا تدور به .. فوجد بابا مفتوحا وأشياء مبعثرة على الأرض .. فأسرع إلى هناك ووجد سيدة رائعة الحسن مكممة من فمها وموثوقة اليدين والرجلين ومربوطة فى السرير .. وقد طعنت بسكين فى كتفها ولكنها لازالت تتنفس وتتوجع ..
وفك عنها الوثاق سريعا .. ورفع يدها .. وتذكر الأصابع العارية التى رآها أكثر من مرة وفتن بها .. ووضع رأس السيدة على صدره ومسح عنها الدم وتأمل وجهها الجميل .. وهو يفكر فى صلتها بالرجل الذى مات .. وكانت الأشياء المبعثرة حوله تؤكد له أن الجريمة كانت للسرقة .. ولا علاقة لهذه السيدة المسكينة بها ..
وكان مدكور قد آوى هذه السيدة الجميلة فى بيته بعد أن استشهد والدها ليصونها من الدنس ويحفظها من ذل الفقر ..
ولا تدرى بعد هذه الفاجعة كيف تواجه الحياة ..
ولكن مختار تناول أصابعها العارية ومسح عليها برفق وحنان ..


=================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=======================        


البائع الجوال


      خرجت من مستشفى الدكتور حسنى فى حى عابدين ذات ليلة من ليالى الشتاء .. وركبت الترام رقم 17 الذاهب إلى السيدة زينب لأصلى ركعتين لله فى المسجد الكبير تعبدا وشكرا له فى عليائه .. على نجاة والدى من العملية الجراحية الخطيرة التى أجريت له فى العصر واستمرت أربع ساعات كاملة ..
      وكان الأمل فى النجاة ضعيفا .. إلى حد أن الطبيب نفسه كان مترددا .. ثم توكل على الله وصلى ركعتين قبل أن يرتدى المعطف الأبيض .. ويدخل من باب حجرة العمليات .
     وقد ركبت الترام .. وقلبى يتجه إلى الله .. لأصـلى ركعتين مثـله فى المسجد الكبير .
     وكانت الليلة شديدة البرودة فاحتبس الناس فى البيوت من الغروب .. وكان ركاب الترام متفرقين فى المقاعد الخشبية .. وقليلين جدا إلى حد أننى كنت الراكب الوحيد فى المقصورة المخصصة للدرجة الأولى .
     ووقف مع الكمسارى فى خارج المقصورة مما يلى السلم مباشرة .. رجل كبير الجسم عظيم الكرش أخذ يثرثر معه حتى استغرق الكمسارى فى الحديث مع الرجل .. ونسى الركاب وقطع التذاكر .
     ولما نزل الرجل الضخم من الترام فى الدوران .. تحرك الكمسارى إلى نهاية العربة ثم ارتد .. وهو يقرع على حاملة التذاكر الخشيبة لينبه الركاب بقلم من الرصاص فى يده .. وكان بادى المرح رغم البرد الشديد ومشقة العمل و" زوغان " بعض الركاب دون دفع الأجر .
     وفى شارع الشيخ ريحان ركب من السلم الخلفى القريب منى رجل عجوز ووقف فى المكان المخصص للوقوف .. فأسرع إليه الكمسارى وهو يقرع بالقلم على ظهر حاملة التذاكر .
     ـ تذاكر .. يا عمى الشيخ ..
     ـ والله .. يا ابنى مـــا اسـتفتحت .. وسأركب محطة واحدة ..
     ـ محطة واحدة .. يا شيخ ابراهيم ..؟
     ـ أجل .. وما ركبت يا ابنى إلا بعد أن مزقنى التعب ..
     ـ اخرج من الزلع المدفونة تحت البلاط .. يا شيخ ابراهيم .. اخرج !
     ـ الزلع ..؟
     ـ نعم الزلع .. وانك لتمتلك .. أربع عمارات فى الحى ..
     ـ أنا ؟
     ـ أى .. والله ..انت ..
     ـ سمع الله منك .. وأعطانى .. من الذى يكره الغنى ..
     ـ وضحك الشيخ إبراهيم حتى بدت نواجذه ..
     وكان ناحلا رقيق الحال .. وقد بدت عظـامه وذهب لحمه .. وأحنت السنون ظهره .. ويلبس جبة سمراء من الصوف المغزول .. وقفطانا أخضر من الحرير المخطط بخطوط خفيفة ..
     وكان الثوبان اللذان على جسمه مهلهلين وأكمامهما واسـعة وممزقة ..وظاهر جدا من اتساع الطقم أنه لم يصنع له .. ولم يفصل على قد جسمه ..
     وكان يرتعش من الشيخوخة .. وقد بدا من عينـيه الكليلتين أنه يرى بصعوبة ..
     وكان ممسكا ببعض المصاحف الصغيرة وكتب الاوراد .. والأدعية الدينية .. وواضعا هذا كله فى محفظة بالية عليها آثار العرق القديم ..
     وتأثرت لرقة حال الشيخ العجوز وأشفقت على شيخوخته .. وكنت أود أن أدعوه للجلوس .. بجانبى لولا أننى وجدته يهم بالنـزول ..
     فأخرجت ورقة بخمسة وعشرين قرشا بسرعة من جيبى وكورتها .. ثم وضعتها فى يده .. فردها بقوة بكل جسمه .. وعيناه مخضلتان بالدمع ..
     فأعدت الورقة المالية ووضعتها فى يده .. وفى هذه اللحظة تحرك الترام بى وبعدت عنه .. وأبقى العجوز الورقة فى يده وهو ينظر إلى ما حوله فى حيرة .. وظل واقفا فى مكانه على المحطة بضع ثوان ثم تحرك فى تثاقل ..
     وبعد أن سار الترام فى طريقه بضعة أمتـار توقف لعطلة فى الطريق .. فخطر ببالى سريعا أن أتبع الرجل العجوز .. وأعرف إلى أين يمضى فى الليل .. هل سينام فى جدار إحدى عماراته .. أم فى جدار مسجد ..
     وأسرعت راجعا حتى بصرت به من بعيد .. ماشيا فى تثـاقل كعادته ..
     ومشيت وراءه وهو لايشعر بى فى شارع الخليج حتى وجدته ينحرف إلى اليمين فى حـارة قواوير إلى زقاق ضيق مسـدود .. لاتزال بيوته القديمـة بمشربياتها وشرفاتها الخشبية بادية للعيان ..
     وقرع بابا قديما ووقفت على مبعدة منه أراقبه .. والظلام لايجعلنى أتبينه بوضــوح .. فلم يرد عليه أحد .. فعاود الطرق ..
     وبعد لحظات برزت من الداخل امرأة عجوز تلبس السواد .. خرج معها متعلقا بثوبها طفلان .. ينظران إلى الطارق .. وقد برقت أساريرهما .. ورأيت فى نظرات الثلاثة المعرفة والسرور .. بلقاء الرجل ..
     وأمد الشيخ إبراهيم للمرأة العجوز .. بالورقة المالية التى أعطيتها له .. من ربع الساعة ..
     ـ ما هذا كله .. يا شيخ ابراهيم ؟
     ـ   رزق الأولاد ساقه الله اليهم ..
     ـ وأنت .. هل تعشيت ..
     ـ نعم .. تعشيت والشكر لله ..
     وشكرته المرأة .. بقلب حار .. معترف بالفضل .. وحيـاها الرجل وانصرف فى الطريق .. منكسا رأسه وحاملا المصاحف والكتب الدينية ..
     وعندما اقترب من مسجد السيدة زينب جلس على البـاب يعرض بضـــاعته على الداخلـين والخارجين من باب المسجد ..
     واشترى منه عابر طريق مصحفا .. ووضع خمسة قروش فى يده ..
     ورأيت العجوز يتحرك فى الميدان بسرعة .. ويشترى رغيفا واداما .. ويجلس فى جدار المسجد يتعشى ووجهه يفيض بالسرور ..
     وعندما دخلت المسجد لأصلى كانت صورة العجوز الإنسان لاتزال فى ذهنى .. ودعوت الله أن يمد فى عمره لأنه ينبوع خير للإنسانية .











=================================   
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966 =================================  









الوحش



غادر أحمد مدينة الإسكندرية بسيارته بعد الغروب بساعة .. وكانت الطريق خالية .. وريح الصيف تهب على البحيرة .. وبدت السماء صافية والطبيعة مشرقة .. وأنوار الإسكندرية تتلألأ فى السماء والماء ..
وعندما خرج بسيارته من أطراف البحيرة وركب الطريق الصحراوى واتجه إلى الجنوب كانت الظلمة طاغية .. وحبات الرمال على الجانبين تسبح فى بحر رهيب من الظلمات .. وكانت أنوار العربة الأمامية تلحس الظلام وتهز أستاره .. وسرعة السيارة تتجاوز 80 كيلو مترا فى الساعة وقد جعلته هذه السرعة متنبها إلى الطريق بكل وعيه .. ولكنه منذ ترك المدينة ودخل فى الصحراء وهو يشعر برجفة .. لا لأنه يرهب الظلام فقد ألف السير فى الليل واعتاد عليه وعلى ركوب الأخطار .. وإنما لأنه كان يشعر لأول مرة فى حياته بهزة لم يعرف مأتاها ..
وكان فى الثانية والثلاثين من عمره .. وسيما .. قوى الجسم .. حسن المظهر .. ومنذ ترك المدرسة واشتغل بالتجارة .. وهو يعنى بجسمه وهندامه ويحرص على صحته .. ولكن الحياة فى السنين الأخيرة .. أتعبته وجعلته يقطع أشواطها وكأنه يجرى فى سباق ..
وكان التفكير المتصل فيما اختار لنفسه من عمل .. قد أمرضه وأتلف أعصابه فى الشهور الأخيرة حتى فكر أكثر من مرة فى أن يغير نهجه فى الحياة .. ولكنه كان يشعر بالضعف أمام سلطان المادة التى كانت تجذبه إلى الأرض بقوة المغناطيس .. وشده .. وكان بريق الذهب يفتنه ويسيطر على حواسه .. ولم يكن التغيير سهلا على أى حال .. ولم يكن إلى هذه اللحظة قد تزوج .. ولا فكر فى الزواج .. لأن حياته لم تشجعه على أن يشرك أنثى فى مخاطره ..
وكان يتشاءم من الطريق الزراعى ويتوقع فيه شرا .. ولهذا تجنبه واختار هذا الطريق ..
وكان يحرص على أن يعبر بسيارته مخافر الحدود .. كأى سيارة أخرى ..
ولما رأى برج الاستراحة يلمع من بعيد ويدور فى الصحراء أسرع لأنه يشعر بالجوع .. وهناك تناول وجبة خفيفة وانطلق بعدها إلى القاهرة ..
وبدأ يرى على الجانبين الوديان والكهوف ولكن الأرض كانت تحته مرصوفة سوية .. فأسرع .. كأنه بساط الريح .. ولمح من بعد شيئا أسود يعترض طريقه .. فتمهل .. ثم وجد نفسه يضغط على البنزين وكان لايحب أن يقف فى الليل مهما كانت الأحوال ..
وظل أكثر من ثلاث دقائق وهو يسرع ويبطىء .. حتى وضحت أمامه الرؤية .. ورأى عربة سوداء .. كبيرة فى الطريق .. ورجلا بجوارها .. ولما اقترب رأى بجوار الرجل سيدتين .. وخشى أن يكون هذا فخا مصوبا له فى هذا الليل فلم يتوقف .. ولكنه أحس بعد أن شاهد السيدتين وهما تلوحان له بذراعيها العاريتين .. فضغط بقدمه على الفرامل بعنف حتى توقف .. وجرى الرجل إليه .. وعلم منه أن سيارتهم توقفت فى الطريق فجأة .. ورجاه أن يعطيه بطارية .. وعالج الرجلان العربة المعطلة دون جدوى .. وكانت السيدتان فى خلال ذلك تنظران إلى أحمد وتدرسان شخصيته ..
وأخيرا طلب منه سائق العربة أن يحمل معه السيدتين إلى القاهرة .. ففكر أحمد قليلا وهو ينظر إليهما فى الظلام .. ثم قبل ..
وركبت المرأتان عربته .. إحداهما بجواره والأخرى من الخلف ..
وكان يود أن يركبهما من الخلف معا .. دون أن يكون فى ذلك إيذاء لشعوره .. لأنه كان يحب أن يبقى وحيدا فى الأمام .. ولكنهما كانتا أسرع من تفكيره .. فلم يستطع أن يقول شيئا ..
وكلم السائق إحدى السيدتين لترسل له بنجدة فى الصباح .. وانطلق أحمد بسيارته .. وكانت المرأة التى بجواره صامتة والتى فى الخلف أكثر منها هدوءا وصمتا .. ووجد نفسه يحاول أن يعرف أيهما أجمل وأصغر ..
وبدا له من نظرة سريعة أنهما فى سن واحدة .. وإن كانت التى بجواره أكثر اشراقا من الأخرى وفتنة ..     
وعجب لأنهما لم تتبادلا معه كلمة واحدة .. ربما أحستا بروح المغامرة الآن .. وشعرتا بأن فى ركوبهما مع رجل غريب مخاطرة .. وأحستا بالخطر بعد أن ركبتا فعلا .. فصمتا .. أو صمتا لأنهما خجلتين ككل أنثى ..
ولكن الأمر بالنسبة له اختلف كلية فقد شعر وهو يمضى وبجواره أنثى بأن للحياة قيمة .. وقد كان يسرع فأصبح يسير .. متمهلا ويحرص على أن يركب ناحية الطريق .. وقد كان قبل ذلك لايهمه أن يندفع فى الرمال وينحرف ..
وسمع إحداهما تفتح فمها وتقول بصوت ناعم :
ـ أتعبنا حضرتك ..؟
ـ كلا لا تعب ..
وبعد هذا بثلاثين ثانية سمع المحرك " يدق " .. ثم وقفت السيارة ..
ونزل ولف حولها .. ثم رفع غطاءها ووجه إليها نور البطارية .. ثم عاد يعالج المحرك .. دون نتيجة .. فحول وجهه بقلق .. ونظر إلى السيدتين فرأى فى عينيهما الخوف الشديد ..
ولقد كانت الحركة وجريان السيارة هما اللذان يشيع فيهما الأمان أما الآن .. فقد شعرتا بالخوف .. وأدركتا مقدار ما ارتكبتاه من حماقة .. وبدا كأن شيئا ينفض جسمهما نفضا ويهزه ..
ودار أحمد مرة أخرى حول السيارة ثم نظر إلى الصحراء حوله وإلى السيدتين .. ولعن اللحظات التى جمعتهما به .. وأنحى على نفسه باللائمة لأنه أركبهما فى العربة .. وهو ذاهب لمهمة وليس لمجرد نزهة صحراوية ..
وفكر فى الأمر الواقع .. فكر فى أن يزيح العربة عن الطريق .. وأن يحاول أن يستوقف أى عربة تمر ليركب السيدتين فيها .. ويخلص نفسه من حمل ..!
وعندما بدأ يحرك العربة ويدفعها إلى الرمال .. نزلتا منها واشتركتا فى دفعها معه .. وشكرهما وهو يشعر بأن هذه الحركة البسيطة قد أوجدت رابطة من الود أخذت تنشأ بينه وبينهما وتتوثق ..
وأحس بهواء الليل الرخاء المنعش فى الصحراء .. وكان الليل قد انتصف .. ولم تمر أية عربة .. وخيم السكون وأرخى الليل كل أستاره .. وبدت الوحشة والصمت الرهيب ..
وترك للسيدتين العربة لتناما فيها ..
وتمدد هو على الرمال .. يدخن وأبدى لهما أسفه لأنه ليس معه غطاء ولا طعام .. فلم يقدر قط ما حدث .. وردت التى كانت تجلس بجواره بأنهما مستريحتان ولا تحتاجان لأى شىء أكثر ..
وسمع صوتهما يعود إليه الاطمئنان بعد الخوف ..
وبدت إحداهما كأنها تفك أزرار قميصها .. فأغمض عينيه ..
وأغلقتا زجاج النافذة الأمامى .. ثم لم يعد يسمع لها حركة ..
وأسبل عينيه .. وفكر فى حياته التى مرت سريعة ولمعت كالشهب .. وفى المال الذى جمعه بالآلاف .. وذهب وجاء غيره وذهب .. وفى الناس الذين يتعامل معهم ويتصل بهم .. فكر فيهم وما فى حياتهم من بشاعة .. ولقد انغمس معهم وجرفه التيار حتى أصبح واحدا منهم .. وصرخ ليحرر نفسه من هذا الاسار .. ولكنه لم يستطع ..
واعتمد برأسه على راحته وأغفى وهو جالس .. ثم تيقظ على حركة الباب وهو يفتح فى العربة .. ورأى السيدة التى كانت جالسة بجواره .. تنزل فأدرك أنها ذاهبة لشىء .. فتظاهر بالنوم حتى لا يخجلها .. ولكنه وجدها تقترب منه .. فرفع رأسه وسمعها تقول :
ـ لا أستطيع النوم ..
ـ أخايفة ..!
ـ أبدا ..
ـ بردت ..؟
ـ بالعكس .. الدنيا حر .. نجية نامت .. فى سابع نومة ..
ـ وأنت لماذا لم تنامى ..؟
ـ لأنى جوعى ..
ـ هذا ما لم نعمل حسابه ..!
ـ الجو يجعلنا نتغذى من الهوا .. هذه أول مرة تحصل لك ..؟
ـ تقصدين أنام فى الصحراء ..!
ـ نعم ..
ـ هذه ثانى مرة .. والمرة الأولى .. كنت فى صحراء غير هذه .. وكانت الليلة معتمة .. وباردة .. وأطلق علىّ الرصاص ..
ـ لصوص ..!
ـ لأ ..
ونظر إلى عينيها فى الظلام وصمت وعلى فمه ابتسامة .. ونظرت إليه ولم تعقب .. وقد عاودتها الابتسامة ثم وجدت نفسها تسأله :
ـ والآن .. إذا هاجمنا اللصوص .. ماذا تصنع ..
ـ أقتلهم ..!
ـ هل أنت مسلح ..؟
ـ بالطبع .. ما دمت أسير فى الصحراء ..
ـ سننام إذن مطمئنين ..
ـ كل الاطمئنان ..
ونظر إلى فستانها الأسمر .. وإلى شعرها .. وإلى وجهها البض وكان يود أن يعرف هل هى متزوجة .. أم لا تزال عذراء .. وكان يود أن تتحرك أمامه وتمشى .. ليميزها من خطواتها فإنه يستطيع أن يميز خطو العذراء من خطو الثيب .. وألح عليه هذا الخاطر .. حتى استغرق فيه وعجب لماذا يشتهى هذه المعرفة .. وليس له غرض من ورائها .. ولكن صوت السيدة وصباحة وجهها أسراه .. ووجد نفسه .. يشتهى الليل والصحراء والبرد والجوع من أجلها ..
ومدت رجليها وجلست مستريحة على الرمال .. ثم وجد النوم يداعب أجفانها .. ولاحظها حتى نامت واستغرقت فى النعاس .. ووجد نفسه لا يستطيع النوم .. لا لأنه يخاف على العربة وما فيها بل لأنه يخاف على السيدتين ..
ولكن التعب هده .. فأغفى فى مكانه ..
وتنبهت السيدة التى بجواره .. مذعورة على صوت النار .. ولما فتحت عينيها وجدت المسدس فى يده .. وشيئا أسود يعوى هناك .. وتراخت اليد التى تحمل المسدس وسقطت على الرمال .. والدم ينزف منها ..
واقتربت منه السيدة جافلة :
ـ ما هذا ..؟
ـ أسنان الوحش ..
ـ هاجمك وأنت نائم ..؟
فلم يرد .. كان يشعر بآلام حادة .. اندفعت إلى العربة وجاءت " بالترموس " وأخذت تغمس منديلها فى الماء وتمسح له جراحه ..
وقالت وهى تحرك يدها على الجرح :
ـ تصور كل الذى حدث .. ونجية لا تستيقظ ..
ـ تعبة .. خليها نائمة ..
وفتح عينيه ونظر إليها .. وشعر بالدنيا كلها تجرى أمام عينيه .. وصورتها بارزة فيه .. بوجهها وابتسامتها .. وعينيها الحلوة وكل ما فيها من جمال ..
وشعر بشىء يتمزق فى أعماق نفسه .. شعر باليد الجميلة .. تغسل أوضاره .. وتغسل كل ما فى نفسه .. من قذارة .. وتطهرها .. وتجلوها .. وترفعها أمام الناس ..
وعرف أن النائمة فى العربة أسمها نجية .. أما التى تغسل جراحه وتحنو إليه فلم يكن يعرف حتى اسمها .. ووجد يدهاعلى يده فأمسك بها وضغط .. وأحس بالدنيا كلها بين يديه ..
ونهض قبل شروق الشمس .. فوجد السيدة التى بجواره قد عادت إلى النوم .. فسر .. وأسرع نحو العربة وأخرج منها شيئا ضخما وحمله على صدره ومشى به فى جوف الوادى .. وهناك ألقاه فى فجوة عميقة .. ونفض يديه من التراب ..
وفى الصباح أصلحت العربة .. وانطلق أحمد بالسيدتين إلى القاهرة وعند الكيلو عشرة .. أوقفت العربة .. وفتشتها قوة من رجال المخدرات القريبة تفتيشا دقيقا ثم سمح لها بالمرور ..
وسألته السيدة الراكبة بجواره :
ـ علام يبحثون ..؟
ـ لا أدرى .. لقد تخلصنا من كل المتاعب .. ونسير الآن على طريق جديد .. والقاهرة أمامك بكل ما فيهامن جمال ..
وابتسمت .. ونظرت إلى حيث يشير .. ولما أحست بيده على يدها .. ضغطت عليها .. وأحس مرة أخرى بكنوز الدنيا كلها فى يده ..







======================= 
نشرت القصة فى مجلة " الجيل " بالعدد 281 بتاريخ 13/5/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================== 
   



القرية الوادعة


كانت قرية البساتين قرية صغيرة لا يتجاوز تعدادها ألف شخص وتعيش فى رخاء ..
وعلى الرغم من أن موقعها الجغرافى كان حذاء الجبل الشرقى ٍويجاورها من الشمال والجنوب ثلاث قرى تكثر فيها حوادث القتل والنهب .. ولكنها كانت وادعة مسالمة .. على خلاف القرى التى تجاورها ..
ولم تحدث فيها لمدى بعيد حادثة واحدة اهتزت لها أسلاك التليفون فى المركز ..
وكان أهلها بسطاء يزرعون الحب وينتظرون الغلة من الرب .. ويعيشون فى طمأنينة وقد جلب لهم الأمن العمل المتصل وسعة الرزق ..
وكانوا يحسمون أمورهم وخلافاتهم ومنازعاتهم فيما بينهم .. ولا يخرجون عن دائرة القرية .. فكانوا يحكمون شيوخهم فيما يشجر بينهم من نزاع .. ويرضون بحكمهم بصفة قاطعة .. وكان الشيخ عبد الحكيم من أبرز شيوخ القرية وأقربهم إلى قلوب أهلها .. وكان الرجل طيبا وقورا جليل الشأن .. فكانوا يفدون إليه فى كل أمور معاشهم  .. ويأخذون برأيه ويرضون بحكمه ..
ولم يقصدوه لجاهه وثروته فما كان الرجل غنيا ولا عريض الجاه .. وإنما كان أمينا صادق الكلمة .. فكانت كلمته مسموعة ورأيه هو الفصل ..
وكان فى الشتاء يشغل نفسه بزراعة فدانين له برسيما وقمحا .. وفى الصيف يحرس أجران القرية .. لأمانته ولأن بيته فى طرف القرية الشرقى وهو يطل على العرصة التى تتناثر فيها الأجران ..
وكان الفلاحون يذهبون إليه ليحل لهم مشاكل التقاوى والسماد .. والسلف الزراعية فيشير عليهم بالتعاون ويشجعهم على الاتجار فى نتاج الماشية .. وبيع الدواجن والبط والبيض وحثهم على كسب الرزق وهم صغار حتى يشبوا عن الطوق وقد تربت فيهم غريزة التكسب والسعى فى طلب الرزق وتحمل المشاق .. وعرفوا من رأيه السديد عدم الاسراف فى الجنازات والمآتم واختصار وقتها .. وكيف يواسون أهل الميت ويخففون وقع المصاب عليهم .. وكيف يمدون يد المساعدة للمريض والعاجز ..
وكيف يشتركون جميعا فى الأفراح والاتراح ..
وحدث بعد الغروب والدنيا شتاء أن ذهبت بقرة فلاحة تدعى خديجة .. على وجهها فى الحقول .. وضاعت منها .. فبكت الفلاحة .. وتقطع قلبها حسرات .. فلما سمع الشيخ عبد الحكيم بالنبأ وكان يعرف أن الفلاحة مسكينة وتعيش مع ولديها من بيع لبن البقرة وسمنها .. جمع لها ثمن البقرة من القادرين من أهل القرية واشترى لها بقرة جديدة .. فعادت الفرحة إلى قلب الفلاحة ..
ومرت الحياة هادئة رتيبة فى القرية لايعكر سكونها شىء .. ولم يكن أهلها يشاهدون العساكر .. أو سيارة المركز إلا وهى فى طريقها إلى القرى المجاورة فقد كانوا هم أنفسهم وادعين مسالمين .. يعيشون فى أمان ودعة .. ولم يدخل العساكر قريتهم قط ..
ولكن حدث ذات ليلة ما أفزعهم وأوقع الرعب فى قلوبهم .. فقد شاهدوا العساكر والهجانة المسلحين يطوقون القرية ثم أخذوا يفتشون مساكنها بدقة .. فذعر الفلاحون ثم وجموا ..
وأخيرا علموا أن سجينا من الذين كانوا يقطعون الأحجار فى الجبل هرب من نطاق الحرس ودخل من خندق فى الجبل إلى قاع المزارع وغاص فى خضم الحياة الواسع ..
ولما أدرك الحراس فراره .. استعانوا بالقوة من البندر .. وحاصروا القرى والنجوع والمزارع وأخذوا يفتشونها بحثا عن السجين وكان يتقدم القوة الهجانة قصاص الأثر .. فتتبعوا آثاره حتى دلت الآثار على أن السجين دخل قرية البساتين بعظمه ولحمه فآثار أقدامه غائرة فى الأرض الناعمة ..
ولما تيقنوا من وضوح الأثر شرعوا يفتشون بيوت القرية ودروبها بيتا بيتا .. ولاحظ أحد العساكر رجلا يجرى من الفزع فى غلس الليل فأطلق عليه النار إرهابا .. فازداد رعب الناس الآمنين ..
وطارت قلوبهم شعاعا وتواروا داخل البيوت ..
ومن بعد غروب الشمس إلى منتصف الليل .. وهم يفتشون دون أن يعثروا على الهارب ..
وكان رئيس القوة فظا غليظ القلب .. فكان يستشيط غضبا كلما فتح بيتا ولم يجد السجين فيه ويلعن من فى الأرض ويخرج من فمه السباب بغير حساب ولكن شيخ الخفراء الذى كان يرافقه كان يهدىء من طباعه ويلطف من حدة الجو .. وأخيرا بقيت المنطقة الشرقية من القرية الملاصقة للمزارع فأحاط بها العسكر .. وجلسوا يشربون الشاى ويستريحون بعض الوقت ..
ولما استأنفوا البحث .. كان نور الفجر يبزغ وكان التعب قد بلغ منهم منتهاه .. ولكن غيظهم من عدم عثورهم على بغيتهم كان أشد وقعا على النفس من التعب الجسمانى مما دفعهم إلى التحرك ومواصلة العمل ..
ولما بلغوا الدرب الذى فى نهايته بيت الشيخ عبد الحكيم وجدوا كثيفا من النخل يحوط ببيت فلاحة أرملة تعيش من نتاج النخيل وتربية الغنم .. ولذلك عنيت ببستانها فازدهر وآتى ثمره بالشهى المستطاب ..
وتوقفوا أمام بيت الفلاحة وحرابهم تلمع .. وقد أمسكوا البنادق بأيديهم ووضعوا الأصابع على الزناد ومستعدين لكل حركة وكل طارىء ..
ووقفت الفلاحة ملتاعة فقد رأت شبح السجين وهو يندفع إلى الحظيرة ويكمن هناك .. منذ ساعات والقبض عليه فى داخل بيتها معناه هلاكها .. فقد يتهمونها بأنها أخفته عن العيون .. ولم تدل عليه أو تخبر عنه .. وهى لاتحب أن تعبث اليد الغريبة فى غلتها .. وسمنها وعدسها وبصلها .. ولا أن تطير أرجل العساكر دجاجها ونعاجها .. وقفت ملتاعة على الباب وأسنانها تصطك من الخوف ..
ثم استجمعت شجاعتها وقالت :
ـ لا أحد فى بيتى ..
ـ سنتأكد من ذلك ..
ـ ستطيرون أفراخى وأنا وحيدة ومسكينة ..
ولكن رئيس القوة لم يعبأ بكلامها وتقدم ليدخل .. ورأى وهو يتحرك الشيخ عبد الحكيم يقبل فى الدرب وكان يعرفه جيدا فوقف وسلم عليه وسأله :
ـ ألم تشاهد أحدا غريبا هنا يا شيخ عبد الحكيم ..؟
ـ أبدا .. لم يدخل الدرب غريب قط ..
ـ ربما اختبأ فى الحظيرة وراء البستان ..؟
ـ أبدا .. لم يدخل أحد .. ولقد كنت ساهرا على باب بيتى والمنطقة كلها تحت بصرى ..
ـ متأكد ..؟
كل التأكيد ..
وحول رئيس القوة عساكره .. وبارحوا القرية ..
وبعد ذهابهم تسلل شبح قبل أن يطلع النور وهرب من البستان .. متخذا طريق المزارع ..
وسألت المرأة الشيخ عبد الحكيم .. وهو ذاهب ليصلى الفجر :
ـ هل كنت تعرف أن السجين فى بيتى يا سيدنا الشيخ ..؟
ـ أجل .. ورأيته وهو يدخل ..
ـ ولماذا كذبت إذن ..؟
ـ لأنى كنت أعرف أنه سيقاومهم .. وسيقتلونه .. وأنا لا أحب أن أرى إنسانا يموت ..
واكتسى وجهه بالألم ..
واستعبرت المرأة وهى تعرف خلق الرجل وتعرف أنها الكذبة الأولى فى حياته .. وأنه كان يتمنى لنفسه الموت قبل أن يقولها ..
====================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
====================== 

درس


كان السيد إسماعيل موظفا فى الحكومة .. وقبل ان يحال إلى المعاش تزوج من شابة جميلة خوفا من أن يموت وترث الحكومة معاشه وكده ..
وكانت سميرة من أسرة متوسطة الحال ومحافظة ولكنها خرجت إلى بيت الزوجية فى الوقت الذى حصلت فيه المرأة المصرية على حق الانتخاب وعلى كثير من الحرية التى تطلبها ..
فوجدت نفسها فى جذب وشد بين القديم والجديد وظلت حائرة فى مفترق الطريق ..
ولكن زوجها خطا بها الخطوة الأولى نحو الانطلاق .. كان يحبها ولا يريد أن يحبسها فى البيت مع الخادمة .. فكان يخرج بها للتنزه .. يذهبان إلى السينما والمسرح .. وإلى كورنيش النيل .. ثم أصبح يجلس معها فى الكازينوهات والمقاهى العامة .. مع من اعتاد الجلوس برفقتهم من الصحاب ..
وكان إسماعيل يتصور أنه بعد الزواج سيستغنى عن هؤلاء الصحاب .. وعن الجلوس فى القهوة .. ولكنه لم يستطع أن يتغلب على عادة تأصلت فى النفس من أربعين سنة ..
وكان فى البداية يجلس معها إلى مائدة منزوية .. ويتركها وحيدة ويذهب إلى أصدقائه يلعب معهم النرد .. ويتحدث الأحاديث التافهة عن الأحوال .. وأسعار وفضائح الناس .. فى المجتمع ..
ثم تطور وأجلسها إلى مائدة ملاصقة لأصحابه .. ثم عرفهم بها حتى أصبحت تجلس معهم ..
وكانت تجلس صامتة مرتبكة .. ثم تجرأت وأصبحت تشترك فى الحديث وفى " التنكيت " وأحيانا تسمع نكتة يحمر لها وجهها ..
وكانت تنفر منهم أولا .. ثم وجدت أن منهم الظريف .. ومنهم المرح .. ومنهم القوى وجميل المحيا .. فكانت تجد فيهم الصفات التى حرمتها فى زوجها .. وأصبح الجلوس فى القهوة من أشهى أمانيها ..
وكان الصحاب بعد أن يشبعوا هوايتهم فى اللعب والمقاهى يلتفون حول مائدة الشراب .. وكان إسماعيل يشترك معهم فى شرب الخمر .. ولكنه لا يسمح أن تسكر زوجته ..
وذات ليلة قدم إليها منير " شوبا " من " البيرة " فرفضت :
ـ هذه ماء ..!!
وأمن الجميع على هذا القول ونظرت حائرة إلى زوجها .. فحمل لها " الشوب " بيده وبعد هذه الليلة أصبحت تشرب كلما شربوا ..
وكان منير هو الوحيد فى الصحبة الذى يملك سيارة .. فكانوا بعد الطعام والشراب والمتعة البريئة يركبون جميعا سيارته .. فيدور بها على بيوتهم .. ينزل كل واحد أمام بيته .. وكانت سميرة تجلس وحدها بجوار منير فى المقدمة .. ويركب باقى الرجال مع زوجها فى الخلف ..
وذات ليلة أحست بكتف منير تضغط على صدرها .. وكانت العيون تبرق من الشراب وفى الرءوس نشوة .. فلم تعر هذه الحركة التفاته ولم تتساءل إذا كانت قد جاءت عفوا أم عن قصد ..
وفى الليلة التالية أحست بأنامله التى ليست على عجلة القيادة تداعبها فى رقة فنفرت .. ثم استجابت وأصبحت الحرارة فى درجة واحدة فى الجسمين ..
وفى الليلة التى بعدها خيل إلى منير أنه يسوق بها العربة وحدها إلى عوالم لذيذة حالمة .. وأن الجالسون فى الخلف قد سقطوا متتابعين ..
ومرت الأيام وأصبح المقهى أحب شىء إلى قلب سميرة .. وأصبحت تبالغ فى الزينة وهى ذاهبة إلى هناك وتلبس أجمل فساتينها وأبدع ما يكشف عن مفاتنها ..
وكان منير يعزم الأصدقاء على العشاء والشراب كل ليلة وينفق بسخاء ولذة ..
وحدث أن عاد من السفر صديق جديد لهذه الجماعة ولم تكن سميرة قد رأته من قبل .. فقدموه لها وكان شابا قويا بارز الشخصية وأقرب الموجودين إلى مزاجها وسنها .. فراق فى نظرها وأصبحت لا تحول نظرها عنه .. وتبالغ فى زينتها ودلالها وتبرجها لتلفت نظره إليها .. وتحببه فيها .. ولكنها كانت كلما أمعنت فى الدلال وابراز المفاتن .. زاد نفوره منها ..
وذات مساء سمعته يهمس فى أذن رفيقه جعفر وهى تتحرك عن كرسيها ذاهبة إلى دورة المياة :
ـ عاهر ..
فانتفضت كأنما لسعتها عقرب وطارت كل أحلامها ..
وفى آخر الليل ركبت الجماعة .. سيارة منير كالعادة ليعودوا إلى بيوتهم .. وجلسوا ثملين وسنانين .. ثم تنبهوا على رنة كف .. دوت فى المقعد الأمامى كالقنبلة ..
وكان خد منير أحمر كالعناب .. وسميرة جالسة صامتة .. وعلى وجهها غضب النمرة المهتاجة ..
ولم يفتح أحد من الجالسين فى الخلف فمه .. كانوا أكثر خجلا وحقارة من الرجل الذى يسوق بهم العربة .. وكان إسماعيل قد فتح فمه .. ولكنه خرس .. شلت الحقيقة المباغتة لسانه .. وكان وجهه أكثر أحمرارا كأنه هو الذى تلقى الصفعة من زوجته ..




====================== 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 26 بتاريخ 29/6/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================= 


الجــوع


     

     دخلت مطعم " لينج " لأتغدى بعد جولة طويلة فى شوارع هونج كونج مدينة الأعاجيب وكان يقع فى شارع " دى فو " شريان المدينة الرئيسى .. واشتهر بأطباقه الشهية ..
     واخترت مائدة مفردة فى القاعة التى تميل إلى الاستطالة ولها أربعة أبواب تتحرك بلولب .
     وكانت الستائر الحريرية المزخرفة بأجمل الرسوم مسدلة والمطعم فى نصف ظلام .
     وأضيئت جوانبه بقناديل حمراء صغيرة حتى فى النهار لأن الستائر حجبت عنه الضوء الخارجى كلية .
     وكانت الموائد يغطيها نسيج أرجوانى موشى بالزهور .
     والقاعة غاصة بالزبائن من مختلف أجناس الأرض .. وثلاثة من الخدم يتحركون بين الموائد فى ستراتهم البيضاء الزاهية .
     وجذب انتباهى رجل صينى فى حوالى الأربعين من عمره .. كان يجلس فى نفس الصف ويأكل بشراهة مذهلة وكل القرائن تدل على أنه يتناول هذه الوجبة بعد أن تمزقت أحشاؤه وعانى طويلا من سعار الجوع .
     وكان الشحوب الذى يتركه الجوع على وجه الإنسان لايزال بارزا على وجهه المستدير وعيناه قد انطفأ ما فيهما من بريق ..
     وبدت جيوب سترته منتفخة بما فيها من أشياء .. وشعره قد نبت بغزارة على عارضيه كما أنه لم يكن يعنى بملابسه .
     وكان مظهره كله يدل على أنه جواب آفاق .
     وأخذ يأكل فى صمت وبصره مركز على الصحون وذراعاه تطوقان ما فوق المائدة من طعام كأنه يخشى أن ينتزع منه .
     ومرت فتاة صينية حلوة بين الموائد حاملة صندوقا من السجائر .. فاستوقفها الرجل وتناول منها علبة .. وأرجأ دفع الثمن حتى يفرغ من الطعام .
     ودفعت الفتاة بابا صغيرا جانبيا وتركته مفتوحا .. فسمعت على أثر ذلك موسيقى خفيفة وعرفت أن الباب يفضى إلى ملهى فى نفس البناية .
     وكان الملهى يعمل فى الليل ولكن بعض فتياته كن جالسات هناك فى استرخاء وعيونهن لاتزال تشعر بالحاجة إلى النوم .
     ولمحت من بينهن غانية شابة جميلة جدا .. وكانت تجلس وحدها وعلى وجهها الشرود .. وما لبثت أن نهضت .. ودخلت قاعة الطعام .. واختارت مائدة جانبية خالية .. وطلبت قدحا من النبيذ تناولت منه جرعات ثم أشعلت سيجارة .
     وكانت ممتقعة الوجة وعلى خديها شحوب بارز .. وشعر رأسها أسود غزير وقد تركته ينسدل على جبينها ليخفى بقايا دموع فى عينيها .
     وكانت ترتدى الجونلة الصينية المشقوقة عند الفخذين وفوقها صديرية حريرية حمراء .. وبدت ضجرة وحزينة .
     ولم تستطع نضارة وجهها أن تخفى أحزان قلبها .. فقد كان فمها الصغير تتفتح شفتاه قليلا .. كما تتفتح الوردة فى رعشة خفيفة عندما يمسها الطل .
     ورغم الستائر المسدلة على أبواب المطعم ونوافذه .. فقد أحسست بشىء حدث فى الخارج .. فقد أخذ المطر يتساقط وهبت الريح فى شدة .. ولم يكن الجو باردا حتى فى ديسمبر ولكن جهاز التكييف كان يعمل .
     وتحركت السيدة السمينة صاحبة المطعم من مكانها عند " البنك " لما رأت الخدم يقدمون الحساء وهو آخر الصحون فى المطاعم الصينية .. وأخذت تحيى الزبائن وتسألهم عن المزيد من الرغبات .
     وفى أثناء جولتها حدث فجأة شىء رهيب .
     فقد أراد الرجل الصينى " جواب الآفاق " الذى كان يأكل بشراهة .. أن يتسلل من المطعم دون أن يدفع ثمن الطعام .. لأنه لم يكن معه نقود على الاطلاق .
     وأحس به الخدم فأوقفوه ودفعوه بعنف إلى الداخل وأعادوه إلى مائدته ليكون بجانب قائمة الحساب .
     وأخذت العيون كلها تحدق فيه بوحشية .
     وتطلعت إلى الرجل فإذا هو صامت يدير عينين مذعورتين وأصابعه تعجن طرف سترته .. تخاذل الرجل وانهار كلية .
     وأخذت النظرات الوقحة تعرى هذا البائس من ثيابه .. حتى بلغ به التأثر مبلغه .. فارتعشت شفتاه وعبر وجهه عن أقصى حالات الألم البشرى .
     وعلى اثر كلمة سمعها رأيته يقلب جيوبه ويفرغ كل ما فيها .. وبعد هذه الحركة .. غامت عيناه تماما وتصلب فكاه .. وحسبته قد أصابه الصرع .
     وصاحبة المطعم التى كانت توزع ابتسامتها وتفيض من عذوبتها على الزبائن .. انقلبت فى لحظة إلى نمرة متوحشة .. وأخذت تهدد بالصينية وتصدر أوامرها للخدم .. ثم أدارت قرص التليفون وهى فى حالة غضب .
     وتسرب الخبر إلى العابرين فى الطريق فأخذوا ينظرون إلى الداخل من خلال الستر .. ولولا أن باب المطعم كان مغلقا ووقف عليه حارس ليمنع الرجل من الهروب .. لدخلوا وأشبعوا الرجل سخرية .
     وتألمت لحاله .. ولكننى لم أغفر له خضوعه المطلق وذلته .. وكنت أود لو يتصارع معهم ويتضارب وهو يبدو قويا ..
     وخيم الوجوم على من فى القاعة عندما دخل رجل البوليس .
     وفى وسط الصمت المخيم رأيت الغانية الشابة التى كانت جالسة هناك وحدها وأمامها قدح من النبيذ .. تقترب من الرجل المسكين ..
     وتقول وهى تشير بيدها :
     ـ هناك ورقة ساقطة من السيد .. وانحنت والتقطت ورقة بمائة دولار هونج كونجى .. ناولتها للرجل .
     وكأنما بصقت بهذه الكلمات الندية على وجوه الموجودين فى القاعة جميعا ..
     وتناول الرجل الورقة ولم ينبس ..
     وكبرت المرأة فى نظرى وكبرت حتى حجبت كل من فى القاعة .
     وأدركت يقينا وأنا أنظر فى عينيها .. أنها ذاقت أكثر من مرة عذاب الجوع ..





=================================  
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم بالعدد 1071 فى 15|5|1965 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=================================















النجوم



خرجت السيدة نعمات من منزلها مبكرة كعادتها كل صباح لتتسوق حاجاتها من سوق التوفيقية .. لأنها وحيدة وتعودت أن تختار أشياءها بنفسها .. ولأن فى الجولة الصباحية على الأقدام رياضة نافعة لها .. فقد أخذ جسمها يكتنز باللحم والشحم حتى ذهب جماله ..
وكان أول صباح لعيد الفطر .. وغالبية الحوانيت فى شارع طلعت حرب وما يتفرع منه من شوارع مغلقة بسبب العيد ..
ولكن الناس أخذوا يظهرون فى الطرقات وفى السيارات الذاهبة إلى القناطر وإلى حدائق الحيوان  .. وكورنيش النيل ..
كان صدى العيد وبهجته فى كل مكان إذ استحوز على الجموع نشاط مبهج وبدا الأطفال فى أثوابهم القشيبة .. والكبار فى ملابسهم المتأنقة وكان البشر باديا على الوجوه جميعا ..
ولكن السيدة نعمات كانت تشعر بالمرارة وهى تمشى عبر الشارع لأنها قضت ليلة العيد وحدها فى كآبة مطبقة لم يذكرها إنسان ممن كانت تعرفهم ولم تصلها بطاقة معايدة من أى شخص ..
وعند مفترق الطرق وقفت أمام بائع صحف تبحث عن كتاب كانت قد قرأت عنه اعلانا منذ أسبوع ونسيت أن تشتريه فى وقتها .. ولما وجدت الكتاب سرت جدا .. إذ كأن كتاب " حظك " هو تقويمها وخط حياتها المرسوم .. فى لوح القدر ..
وأخرجت للبائع جنيها .. فأبدى أسفه لنقص الفكة .. ووقفت حائرة تتطلع حولها .. والكتاب لا يزال فى يدها .. إذ كانت الرغبة فى اقتنائه شديدة ..
وخشيت إن تركته ألا تجده فى مكان آخر .. أو تلقى نفس العذر ..
وأنقذها من حيرتها شاب طويل رشيق القوام وقف أمام البائع وسمع ما دار من حوار فأخرج ثمن الكتاب من جيبه وشكرته السيدة نعمات بلطف وأصرت على أن يرافقها إلى أن تجد الفكة لترد له قروشه الخمسة .. وتحت إلحاحها مشى معها إلى السوق وشعرت بالراحة لرفقته فى مدى الخطوات القليلة فقد كانت المسافة التى قطعاها معا لا تتعدى مائة خطوة .. وبادلته أحاديث خفيفة حتى وقفا أمام متجر فابتاعت منه كميات من الأطعمه .. والأشياء الأخرى طويت فى لفائف كثيرة حتى أشفق عليها من حملها ..
 وقبل أن تضع باقى الجنيه فى محفظتها ناولت الشاب القروش الخمسة فأخذها مبتسما إذ أدرك شدة حساسيتها ورقتها المتناهية .. وهم بأن يحييها وينصرف ولكنه وجدها تنوء بحملها فأشفق عليها وتناول من يديها الجزء الأكبر مما كانت تحمل ..
ورجعا من نفس الطريق ..
وأخذت أشعة الشمس تسطع ومدينة القاهرة كلها تلبس حلة العيد ..
وكان الشاب يسير برفقة السيدة نعمات على الرصيف الأيسر فى شارع طلعت حرب متجهين إلى بيتها فى سكة الفضل بحى قصر النيل .. فلم يمشيا إلا خطوات قليلة .. وكان يلاحظها ويشفق عليها فى كل خطوة وكان جمالها الغارب قد ترك بقايا بريق أخاذ فى العينين العسليتين .. وفى الشفة القرمزية التى لا يزال يجرى فيها دم الحياة .. وبدت متأنقة فى ملبسها ما وسعها الجهد .. وطالية وجهها بالمساحيق وعينيها بالكحل ومخفية بقدر ما تستطيع من التجاعيد التى ظهرت على الوجه الذى ترك جمال الشباب عليه ظلالا باهتة ..
وصعدت صامتة إلى الدور الثالث فى بيت من البيوت القديمة .. وعلى الباب كان الشاب يود أن يستأذن منصرفا ولكنها دعته بتوسل إلى الدخول ليشرب فنجانا من القهوة ..
شعر بوحدتها القاتلة فدخل وأجلسته فى الصالة مرحبة .. وغابت قليلا فى المطبخ تعد القهوة ..
وأخذ يحدق فيما حوله بعينين نفاذتين كانت الشقة داخلية لا تطل على الشارع وصغيرة لا تتعدى غرفتين وصالة .. وأثاثها بسيط وقديم .. ورأى النوافذ مغلقة والشقة غارقة فى الظلام ..
وأحس بها وهى تفتح نافذة جانبية من هناك فيتسرب الضوء إلى الصالة ورأى صورة كبيرة لشابة جميلة فى ملابس الرقص .. معلقة أمامه .. فأخذ يحدق فيها بتمعن ..
ودخلت عليه نعمات بصينية القهوة ولاحظت نظراته ..
فقالت بصوت خافت .. وقد ارتسم ظل الماضى على وجهها ..
ـ إنها صورتى .. ألم تسمع براقصة اسمها نعمات ..
ـ ومن الذى لا يعرف أشهر راقصة فنانة وممثلة فى السينما ..
ـ أجل .. ومثلت أيضا .. أيام ..
وأخذ يتأملها ويتأمل مسكنها وأثاث بيتها .. وانقبض قلبه حين رأى ما هى عليه من فقر وتساءل من أين أتت بالجنيه .. هل .. وأبعد هذا الخاطر عن ذهنه .. وأطرق ..
وسألته وهى تتناول الفنجان :
ـ أمعك سيجارة ..؟
فأخرج لها العلبة سريعا .. وأشعل لها سيجارة ..
فأرسلت نفسا طويلا وعيناها مغمضتان وقالت كأنها تسترجع شريط الماضى ..
ـ كانت أوراق البنكنوت من المائة جنيه والخمسين جنيه تشعل لى هذه السيجارة .. أما الآن فتمر أيام لا أجد فيها ثمن عود الكبريت .. دنيا ..
وتناولت رشفة من الفنجان .. ثم وضعته على النضد ..
ـ وفى ليلة العيد .. لم يزرنى أحد .. من كل الناس الذين كنت أعرفهم ولم يعيد علىّ إنسان .. شعرت بالضياع .. بالانقطاع .. وعندما خرجت بعد الغروب لمدة ساعة واحدة سرقوا منى الساعة وأنا نازلة من الترام .. لم يجد النشال غير سيدة وحيدة مسكينة يسرقها ..
وأسف الشاب لحالها .. وسأل :
ـ أتقيمين .. هنا من زمان ..؟
ـ من ثلاثين سنة .. وكان الحى كله ملكا للأجانب حتى الحوانيت الصغيرة كانت لهم .. وكنت أعيش وسطهم كاليتيمة .. أشياء فظيعة لم ترها لأنك صغير .. كم عمرك ..؟ غايته عشرين ثلاثة وعشرين ..
ـ تماما ..
ـ إذن فلم تر المحن التى كنا نعيش فيها وكانت تمزق قلوبنا كانت هناك سينما أجنبية فى شارع عماد الدين تحرم على المصريين دخولها .. آه من الأجنبى عندما كان يتسلط محتميا بالإنجليز .. يصبح فظيعا .. وأشد ضراوة من الاستعمار نفسه ..
والآن أنظر كيف وصلنا .. وتخلصنا من هذا البلاء كله ..
واستطردت وهى تدخن .. وكأنها لم تجد من تحدثه من قبل :
ـ ورغم نكران الناس لى ولكنى سعيدة لأنى أرى الحياة تتحول من حولى فى هذا الشارع وفى هذا الحى وأصبح كله ملكنا .. كل شبر فيه .. ذلك احساس لا يدركه الإنسان العادى ..
ـ وأنت هنا وحيدة ..؟
ـ أجل وحيدة ولم أتزوج أبدا وكان يغنينى عن الفن .. وكل ذلك البهرج الكاذب .. ولد أرى فيه صورتى وامتدادا لحياتى .. وأحس بأنى عشت لغاية .. أما الآن فوجودى لامعنى له .. حياة خالية من الغاية ..
وارتسم الأسى على وجهها .. وسألته وهى ترى ظلال الضحى تنسحب عبر النافذة :
ـ هل أنت فى أجازة العيد ..؟
ـ أجل ..
ـ وتعمل فى القاهرة ..؟
ـ لا فى الإسكندرية ..
ـ أين ..؟
ـ فى الترام ..
ـ كم أود أن أذهب إلى هناك .. وأشاهد البحر .. من سبع سنوات لم أره .. كم أنا مشتاقة إلى صوته وموجه أنه مهول ..
ـ سأجىء بعد أسبوعين فأصحبك إلى البحر ..
ـ حقا .. كم أشكرك لو فعلت هذا ..
ونظرت إلى وسامته ورأت على وجهه التعب .. فسألته :
ـ هل سهرت ..؟
ـ أجل سهرت حتى الساعة الثانية صباحا وكان الزحام بالغا أشده فى السينما والأتوبيس والترام .. فى كل مكان كان الزحام .. وأنا أحب الزحام ..
ـ إلى هذا الحد ..
ـ فى الواقع أحس بالحياة أكثر تدفقا وسط الجموع .. أحب أنفاس الناس ..
كانت أسارير وجهه تنطق بالذكاء وأعجبت به جدا .. وودت لو كان يعمل فى القاهرة ليزورها من حين إلى حين ويؤنسها فى وحدتها ويخفف عنها آلامها ..
وكان قد أنساها وجوده وحديثها معه الكتاب الذى اشترته فناولته له وهى تتطلع إليه بقوة ..
وقالت :
ـ اقرأ لى حظى .. فى هذه السنة .. فالحروف صغيرة .. وعيناى لا تقويان على قراءتها بسهولة أما أنت فتستطيع ..
ـ أى برج ..؟
ـ القوس ..
فتطلق وجهه ليخفى مظهره ما رآه فى الكتاب .. وقال لها كلاما من فكره ..
ـ سفر قريب .. وسعادة فى الحب .. ورسالة تصلك من شخص عزيز .. ومال يأتيك ..
ـ صحيح ..
ـ هذا هو المكتوب ..
ـ حب وسفر ومال يأتى ..
وأحس الشاب بالفرح .. لأنه فعل شيئا بعث فيها الابتهاج والأمل ..
وقالت وهى منتشية .. من الفرح :
ـ سأرقص لك رقصة .. لم أرقصها من قبل لإنسان ..
ودخلت غرفتها .. ورجعت ترتدى حلة الرقص .. ووضعت زهرية على رأسها وأخذت تتمايل وترقص رقصا جميلا متأنيا فى براعة وفن .. كان رأسها الذى يحمل الزهرية ثابتا .. وجسمها يتمايل .. كل جوارحه .. وعيناها شبه مغلقتين وأنفاسها منبهرة ..
كان عقلها ينسحب إلى ماضيها البعيد عندما كانت ترقص وتهز المشاعر ..
وأحست بالهدير .. هدير الجماهير وهى تصفق فى جنون ..
وسح منها العرق .. وأغلقت عينيها وارتمت على الكنبة .. وكانت أنفاسها هى الدليل على أنها ما زالت حية وعندما فتحت عينيها وجدته يصفق لها .. ودون أن تتمالك نفسها ارتمت عليه واحتضنته وأخذت تقبله فى جنون ..
ومشت إلى غرفتها لتخلع حلة الرقص ..
وبحث هو فى جيوبه .. وأخرج لها ساعة جميلة وثمينة .. من ثلاث ساعات كان قد نشلها أمس فى زحمة العيد .. ووضع الساعة على النضد ..
وخرج متسللا قبل أن تشعر بحركته ..
ولما رجعت .. لم تجده .. ووجدت الساعة على النضد .. فتناولتها فى يدها وأخذت تنظر إليها .. أنها أجمل من الساعة التى سرقت منها وأثمن .. ولكن أين ذهب الشاب الذى نضر لها وجه الحياة ساعات .. أين ذهب .. راحت فى دوامة من الأفكار ثم أخذت أناملها تتحسس الساعة برفق وحنان ..


======================== 
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم بالعدد 1073 بتاريخ 29/5/1965 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
======================== 


بداية طيبة


جلست ذات ليلة صيفية فى كازينو فينوس بضاحية مصر الجديدة .. استمتع بالهواء الطلق وبالمناظر الجميلة المحيطة بى وبالحسان المارات فى الطريق والجالسات فى شرفة الكازينو ..
ولمحت وأنا أدير بصرى فى المكان شخصا أعرفه كان يجلس إلى مائدة منزوية بعيدا عن الناس .. وبجواره سيدة شابة يبدو عليها أنها تجلس فى مكان عام لأول مرة فى حياتها .. فقد بدت مرتبكة خجلة ..
ولما رآنى حمدى حيانى بهزة من رأسه وابتسامة .. ولاحظت السيدة التى بجواره حركته فزاد خجلها ..
والواقع أننى عندما رأيته .. كدت أنكره .. فقد تغير .. وحل محل الشاب النحيل الممشوق القوام الذى أعرفه شخصا آخر .. سمينا ذا كرش وبدا خداه منتفختين .. وخطوط وجهه مدورة كالرغيف الخارج من التنور ..
وكنت ألتقى بحمدى فى أكثر من مكان فى القاهرة .. أراه فى الجمعية الجغرافية .. وفى قاعة ايورت .. وفى كنيسة جماعة القديسين يستمع إلى موسيقى باخ .. وفى معارض التصوير والفن .. فقد كان إنسانا مثقفا .. ومن طراز نادر فى الاطلاع والمعرفة .. وبدأت أول معرفة به فى دار الكتب .. وكنت أراجع بعض التراجم الإنجليزية لألف ليلة وليلة على طبعة بيروت عندما قدمنى إليه ملاحظ القاعة وكادت المعرفة تتطور إلى صداقة مؤكدة .. لولا أننى لاحظت أنه بوهيمى .. وأنه يعيش كيفما اتفق .. وكان شغوفا بالنساء مولعا بصحبتهن .. فقليلا ما أراه وحده فى الطريق .. ولكنه كان يهجرهن لأتفه سبب .. ومن الغريب أن علاقته بهن كانت تتوكد فى سبع حالات من تسع بالزواج ..
وكان يقع على نوع معين من النساء لا يغيره قط .. النوع الرقيق المشاعر الطيب الخجول الخافت الصوت .. الذى يتألم فى أعماقه من علة ظاهرة أو مستخفية .. كنمش خفيف على الوجه ونحافة مفرطة فى الساق .. أو ضعف قليل فى النظر فترتدى المنظار وتكون الظاهرة فى الواقع بسيطة .. وتافهة ولكنها تتمكن من نفس الأنثى وتذهب ببهجتها .. فإذا جاءها هذا الرجل المكروش وقرع الباب .. فتحته على مصراعيه ..
وكان صواحبه من المتعلمات ومنهن من تلقت دراستها فى الخارج .. فإذا عادت .. عانت أشد الكرب .. من ضغط البيئة ..!
وكان يلقاهن بمنتهى السهولة .. ودون أن يبذل أدنى مشقة .. يلقاهن فى قاعة للمحاضرات .. أو فى مجتمع ثقافى .. أو فى ندوة خاصة ..
وتبدأ البداية .. بالحديث عن الحياة الاجتماعية والموسيقى والأفلام ..
ولما كانت السينما هى أشهر هذه الأشياء .. فالحديث يقف عندها ويطول .. ثم يعرض على الفتاة مشاهدة سلفانا بانبانيتى أو لولا بريجدا .. أو آفا جاردنر ..
ولما كانت الفتاة متعلمة ومثقفة مثله فهى تريد أن تثبت وجودها كامرأة لها حق الانتخاب .. فتصر على أن تكون هى صاحبة الدعوة ويتظاهر هو بالرفض .. وينتهى الحوار بأن تتقدم هى إلى شباك التذاكر ..
فى كل مرة يحدث هذا .. ثم تتطور العلاقة التى تبدأ هذه البداية الطيبة .. إلى الزواج .. وتكون هى غالبا موظفة فى بنك أو شركة أو تشتغل مدرسة .. ويكون هو لا عمل له .. فتبدأ بالصرف عليه .. ويستكين هو للراحة .. ويكتفى بالاطلاع والمعرفة .. وسماع الموسيقى وشرب البيرة .. وأخيرا تتنبه إلى غفلتها وتشكو من بطالته .. ويكون هو قد ضجر منها .. فينفصلان بالطلاق ..
أخذت أراجع شريط حياته .. وهو جالس هناك .. ثم نهض ومعه رفيقته .. وحيانى من بعيد .. ووجدته بعد ذلك بنصف ساعة واقفا على باب سينما نورماندى .. وكانت رفيقته على الشباك تقطع تذكرتين ..!
ورأيته بعد هذا .. يسير فى شارع سليمان باشا مع فتاة طيبة أعرفها .. تشتغل مدرسة موسيقى .. ولم تكن نادية تشكو من أى علة ظاهرة .. بل كانت حلوة .. وجمالها فوق مستوى أترابها ..
وعندما رأتنى احمر وجهها .. ولما قدمنى لها قالت له أنها تعرفنى من المعهد الموسيقى .. وجلسنا ثلاثتنا فى الأمريكين .. وأخذ يحدثها عن نظرية حديثة فى علم الاقتصاد .. ويشرح لها رأى شاخت .. وكان ظاهرا عليها عدم الفهم كلية .. ولكنها كانت تصغى إليه بانتباه تام ..
والواقع أن هذه كانت بدايته .. يضفى جوا من الغموض على نفسه .. ولم أسترح أنا لصداقته بهذه الفتاة .. وخشيت عليها من نزواته ..
فلما وجدتها ذات يوم وحدها سألتها :
ـ كيف عرفت حمدى ..؟
ـ التقيت به فى الأوبرا .. وسررت لثقافته الموسيقية العالية .. إن عنده مجموعة ضخمة من الاسطوانات .. كل سيمفونيات بيتهوفن وكل الأوبرات العالمية .. تصور ..
ـ وهل هو وحده الذى عنده هذه المجموعة من الاسطوانات ..؟!
ـ الواقع أن روحه خفيفة .. وضحوك .. وأنا أريد أن أضحك ..
ـ أتعرفين .. أنه متزوج .. أنه متزوج .. حتى الآن أكثر من عشر ..
ـ أعرف كل شىء .. ولماذا هذا السؤال ..؟
ـ أخاف أن تقعى ..
ـ وهل أنا مجنونة ..؟!
وفى الخميس الماضى ذهبت إلى سينما ديانا لأشاهد فيلما بطله أنطونى كوين .. ووقفت فى الصف لأقطع تذكرة فى الصالة .. وسمعت وأنا واقف صوتا خافتا أعرفه يقول لعامل الشباك :
ـ تذكرتين بلكون من فضلك ..
فتلفت .. فوجدت نادية .. واقفة فى صف البلكون .. وكانت مستغرقة فى نشوتها .. فلم تحس بوجودى على مدى متر واحد منها .. كانت غارقة بكليتها فى الحلم اللذيذ .. حلم العذراء ..
وعندما استدرت .. وابتعدت عنها .. رأيت حمدى يقف هناك على الباب الخارجى فى زاوية منعزلة .. يدخن ويرقب فريسته .. وعلى شفتيه ابتسامته الأبدية ..






======================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 226 بتاريخ 23/4/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
=======================














المظلة اليابانية



وقفت عصر يوم من أيام الصيف فى ميدان التحرير .. أنتظر سيارة الساعة السادسة الذاهبة إلى الإسكندرية ..
وكان اليوم قائظا يتنفس بمثل النار الحامية والضغط على سيارات الطريق الصحراوى بلغ أشده والشركة قد أعدت للأمر عدته فسيرت سيارة فى كل نصف ساعة ..
وما كنت أحب الزحام .. ولا التدافع بالمناكب على شبابيك التذاكر .. ولكن لم يكن من السفر بد .. فوقفت فى الصف ..
وعثرت بعد شق النفس على تذكرة زوجية تحمل رقم 24 فى مقعد من المقاعد الخلفية لسيارة من سيارات " السهم الذهبى " .. وكان ما يشغلنى أن أعرف الراكب الذى بجوارى فى هذا السفر الطويل والذى يحمل التذكرة رقم 23 لأنى أكره التدخين ولا أحب أن يجلس بجوارى مدخن يظل يرمى الدخان فى وجهى وخياشيمى ثلاث ساعات كاملة فى هذا اللهيب ..
ولم أكن فى حالة نفسية تجعلنى أطيق رائحة الدخان .. إذ كنت على درجة شديدة من التوتر العصبى والغم النفسى جعلانى أتبرم بكل شىء فهربت من عملى ومن بيتى وأنا أحس بالاختناق ..
وجاءت السيارة أخيرا تتهادى فى الميدان الواسع واندفع إليها الركاب ..
وكنت آخر من صعد إليها .. وتحركت فى ممشى العربة ببطء وأنا أتفرس فى الوجوه حتى وجدت جارتى فى السفر .. وكانت سيدة شابة تضع فى حجرها كتابا .. وفوقه مظلة يابانية مطوية ..
ورمقتنى بنظرة سريعة وأنا أجلس فى هدوء بجوارها ..
ولما تحركت السيارة أحسست أن أيام شقائى قد انتهت فى هذه اللحظة وأننى بدأت مرحلة جديدة من حياتى ..
وأخذت أجيل الطرف فى المقاعد التى أمامى وكان بالسيارة 28 راكبا نصفهم من النساء والأطفال ..
ورأيت من بين الركاب .. راكبا أعرفه جيدا ويدعى عبد السميع وكان يجلس فى الكرسى الذى أمامى مباشرة .. وهو رجل سمين غليظ العنق ذو كرش بارز أغبر السحنة .. وكان قد جمع كل الصفات الدنيئة التى فى بنى البشر ..
وكنت قد التقيت بهذا الرجل منذ سبعة أشهر وأنا أرافق صديقا وعروسه .. وكانا قد راقتهما شقة فى عمارة يمتلكها هذا الرجل فى حى الدقى ودفع له صديقى مائة جنيه هى كل ما ادخره فى حياته ليحتجز له شقة وكانت العمارة لم تستكمل بناؤها بعد .. وسلمه المبلغ طبعا من غير ايصال .. وكلما طلب منه صديقى تحرير عقد الإيجار .. يقول له :
ـ لسه لما تخلص العمارة يا ابنى ..
ولما اكتمل بناء العمارة .. قال له :
ـ آسف لقد استأجرتها الحكومة ..
ولم يرد له المبلغ ..
وكان كاذبا إذ أجر الشقة لغيره بعد أن أخذ منه ضعف هذا المبلغ ..
وأحسست بيدى تود أن تخنق هذا الرجل ..
ولكن وجود جارتى الحسناء بجوارى منعنى من هذه الحركة ..
وكان الرجال جميعا يدخنون .. أما النساء فكن يناغين الأطفال ..
وكانت جارتى الحسناء محولة وجهها إلى النافذة .. ويدها اليمنى تحرك المظلة التى كانت مغلقة دوما .. وأشفقت عليها من هذه الحركة حتى كنت أود أن أتناول منها المظلة وأضعها على الرف .. ولكننى خمنت بأنها مظلة صغيرة للزينة ليس إلا .. وفى استبقائها فى يدها مظهر من مظاهر الأناقة ..
وبدأ الحديث بينى وبينها طبيعيا وبمنتهى البساطة وكان بسبب الستارة التى تحجب الشمس إذ كنا فى اتجاهها الغارب .. وكانت مفصلات الستارة غير سوية فعالجتها لها حتى حجبت الشمس عنها .. وتركنا فرجة صغيرة بين الزجاج تدفع إلينا هواء باردا منعشا رطب وجهينا ..
وبدأنا بالثناء على السفر فى السيارات المريحة فى الطريق الصحراوى بعيدا عن التراب ..
ثم بالحديث الخفيف عن وجهتنا وغرضنا من السفر ..
وقلت لها بأنى ذاهب للإسكندرية لتمضية أسبوع أستريح فيه من عناء عملى الشاق ..
وحدثتنى أن هذه هى أول رحلة لها فى حياتها إلى الإسكندرية ..
وتلقيت هذا النبأ فى عجب لأنها كما بدت فوق العشرين من عمرها عصرية ومن طراز متفتح ذات يسار ولا ترهقها نفقات السفر ..
وزال العجب لما .. عرفتنى بأنها الأب وأنها تعول وتلازم أمها المريضة ..
وأخذ العشى يلفنا فى شملته ..
وفى خلال حديثنا ونظراتنا عبر الصحراء التى أخذت تدخل فى الظلمة .. تنبهنا على حركة من السائق بدت غير طبيعية .. إذ انحرف إلى يمين الطريق ثم توقف فجأة ..
وأصابنا الذعر إذ تصورنا خللا طرأ على المحرك ..
وتقدم إليه أحد الركاب فى المقاعد الأمامية وأخذ يحادثه لحظات .. ثم نزل الاثنان معا إلى المحرك ..
وعرفنا أن السائق عندما بدأ يعالج النور لما خيم الظلام وجده معطل تماما فآثر السلامة بالتوقف .. حتى تمر سيارة من سيارات الشركة فيبلغها الأمر .. والشركة ستعالج الموقف بارسال سيارة أخرى للركاب ..
وأصابنا الكرب الذى يصيب كل من تتعطل به سيارة ..
وفجأة لمحنا بطارية فى يد الراكب الذى نزل مع السائق ويد تتحرك على نورها الضعيف وتعالج الأسلاك ..
وفى أقل من نصف الساعة .. أضاء نور السيارة وشق قلب الصحراء ..
وكدنا من الفرحة أن نعانق الرجل الذى أصلح الخلل .. وهو صاعد بهدوء إذ تحرك الركاب جميعا نحوه ليروه عن قرب .. ولما اقترب منى عرفته .. إذ كان من معارفى وانقطعت عنى أخباره منذ عشرين سنة ..
وكان مهندسا كهربائيا فى حى شعبى ويقوم بالأعمال الكهربائية فى معظم العمارات التى تنشأ حديثا .. شهيرا بشىء تخصص له وبرع فيه .. إذ كان يقوم باعداد الزينات الكهربائية فى الأفراح ..
ويقوم بعمل شيطانى خارق إذ يوقف العداد الذى يسحب منه نور الفرح دون أن يلاحظ ذلك أحد حتى دوخ شركة ليبون بحيله وبراعته ..
وكان يبتسم ويقول لى معللا فعلته :
ـ أننى أفعل هذا للفقراء والشركة غنية وجشعة تأخذ ولا تعطى إلا القليل فمن العدل أن أقيم الميزان بالقسط ..
وكان مرحا ضاحك السن طلق المحيا أبدا وفى خلال عشرتى الطويلة له لم أره مستاء من أى شىء أبدا ..
ولم يكن يتقاضى من أصحاب الأفراح عن هذا العمل إلا أجرا زهيدا .. وكان بارعا فى صنعته كمقاول للأعمال الكهربائية ..
وكان أعزب وشغوفا بالنساء ولا أدرى حاله الساعة بعد مرور هذه السنين ..
وعرفنى وأنا أقترب منه فأسرعت إليه وعانقته ..
وقلت له :
ـ سألقاك فى الاستراحة ..
إذ لم يكن فى العربة مجال للحديث وعدت إلى مكانى بجوار الآنسة سعاد .. وسألتنى :
ـ هو الذى أصلح النور ..؟
ـ أجل ..
ـ يفعل ما عجز عنه السائق .. إنه بارع ..
ـ أبرع الناس طرا .. لم أجد له فى حياتى ضريبا ..
ـ صحيح فى الظلام وعلى ضوء بطارية خفيفة يفعل هذا .. إنه بارع حقا ..
وأخذت أحدثها عنه فضحكت لما علمت من أحواله وبعض سجاياه ..
ولما بلغنا الاستراحة جلس معنا فى الشرفة وأخذنا نأكل البطيخ .. وحدثنى عن بنسيون سينزل فيه واختاره لى .. فوعدته أن أنزل فيه اكراما لصحبته وأخذ يقص علينا نوادره وأحواله حتى أثلج قلوبنا ..
ولاحظت أنه لم يتغير فيه شىء قط .. فما ظهرت عليه أدنى معالم الشيخوخة مع أنه يقترب من الستين .. ولا قلل من مرحه ونوادره ..
وقضينا معه ربع ساعة هنية .. وكانت سعاد مسرورة بلقائه لمرحه الزائد وعذوبة حديثه ..
وتحركت السيارة وأخذت تنهب الأرض إلى الإسكندرية .. وشعرت أن الألفة قد زادت بينى وبين سعاد إلى الحد الذى أشعرنى بالخوف .. إذ أن السرعة ستقلل من زمن سعادتى وتمنيت أن تسير السيارة أبطأ وأبطأ حتى تبلغ الإسكندرية فى الصباح وكنت أخشى أكثر من كل شىء أن نفترق .. فى محطة الرمل .. ولا أراها بعد ذلك أبدا .. وكنت أود أن تخب بنا السيارة خببا فى هذا الطريق السوى .. حتى نصل فى منتصف الليل ..
وقبل أن نبلغ العامرية رأيت منطقة التعمير  الجديدة وزراعة البطيخ والخضر على الجانبين وشاهدت بيوتا جديدة أقيمت للفلاحين والعاملين فى المنطقة .. وشعرت بفرحة .. وتملكنى إحساس من الزهو لم أستطع دفعه ولا اخفاءه عن جارتى ..
وكان لها مثل شعورى .. فالأرض الموات قد أحييت فى مدى سنين قلائل واهتزت تربتها وجرى عليها الماء الذى جعل كل شىء فيها حيا ..
ولقد كانت السيارة فيما مضى .. تسير فى تيه قفر من الصحراء الموحشة فأصبحنا اليوم نمشى بين صفين من الخضرة .. وأوراق الزرع الناضرة تتمايل مع الريح ..
وغمر ركاب السيارة جميعا موجة من النشاط لما بصروا بالفلاحين من حولهم يعملون .. والأرض نبتت فيها الحياة ..
وسألتنى سعاد :
ـ هل سافرت فى هذا الطريق من قبل .. ورأيت هذا التحول ..؟
ـ الواقع .. أننى لم أسافر فيه .. منذ سنين .. ولم أر هذه الخضرة الجميلة إلا الآن ..
أنظرى كيف يصنع الإنسان .. إذا أراد .. تغلب على الطبيعة .. وقلب الصحراء إلى جنة ..
ـ صحيح أنها جنة ..
ـ كم أنا مشوق .. إلى تمضية نهار بطوله هنا .. وسط هؤلاء الناس .. وما أجمل ليل الصحراء .. إذا جمع بين الخضرة الناضرة والجمال الفاتن ..
ـ إن أعصاب سكان المدن .. فى حاجة إلى مثل هذا الهدوء .. وكان هذا ما أتوق إليه وأود أن أحققه لنفسى .. كنت فى حاجة شديدة إلى تمضية شهر كامل فى الصحراء حيث لا جلبة ولا ضوضاء .. ولا أصوات البوق .. ولا هزة القطارات ولا التدافع بالمناكب فى ركوب السيارات والنزول منها ولا الانتظار بالساعات على المحطات .. ولا التناحر والتنافس للحصول على شىء ما ..
كنت فى حاجة لأن أعيش فترة طويلة عيشة صوفية لأسترد روحى .. التى أحسست بأنها ذهبت ..
ونظرت إلى جارتى وكانت قد أغفلت عينيها نصف اغماضة .. عندما مالت السيارة ذات اليمين متخذة طريق البحيرات إلى المدينة ..
كانت اغفاءة حالمة .. وكان وجهها جميل التقاسيم .. ناصع البياض .. وعلى خدها الأيمن شامة صغيرة .. وعلى شفتها العليا دملة أخفتها بمنديلها وهى نائمة لما أحست بنظرى يميل إليها ..
وكانت قد عقصت شعرها بمنديل أزرق خشية أن تنكشه الريح .. وبدأ شعرها جميلا لامعا شديد السواد ..
وكان حاجباها مقرونين غزيرين .. ولكنها زججتهما .. وعملت فى أهدابها الطويلة " بالرميل " حتى ألقى الحاجبان ظلا ضعيفا على الخد الناعس ..
وكنت بكليتى منجذبا إليها وشاعرا بقوة شديدة تشدنى إلى جوارها .. لكن فارق السن الكبير بينى وبينها جعلنى أخفى مشاعرى عنها وأتراجع فرسخا إذا ما تقدمت خطوة ..
ولقد التقيت فى حياتى بنساء فى مثل جمالها وفى مثل شبابها ولكن عينى لم تقعا على مثل هذه الرقة قط .. كان حديثها همسا .. وخجلها هو خجل العذراء التى لم تزيفها المدنية .. أبدا ..
وعلمت منها بعد حديث طويل .. وبعد أن تفتحت نفسانا وأحس كل منا بالألفة لرفيقه .. أنها ذاهبة إلى الإسكندرية لزيارة خالتها التى تسكن فى حى " محرم بك " .. وأنها تخشى ألا ينتظرها أحد عند محطة الرمل .. فلا تهتدى إلى البيت .. لأنها تجهل أحياء الإسكندرية تماما .. وهونت عليها الأمر .. وقلت لها وقلبى مفعم بالسرور .. أننى على استعداد لمرافقتها إلى عتبة البيت .. وأننى أعرف الإسكندرية جيدا لأننى عشت فيها سنوات طويلة .. واطمأنت تماما وسكن روعها وقلقها ..
ولما اقتربنا من حدود المدينة لاحت الأنوار تتلألأ .. وبدت حركة بين الركاب تدل على أنهم اقتربوا من نهاية رحلتهم إذ تحركوا فى كراسيهم .. وأخذ بعضهم يتطلع من النوافذ ..
ودخلت السيارة المدينة .. واقتربنا من حى الشاطبى .. وهناك مالت السيارة إلى اليسار وأخذت طريقها على الكورنيش .. وبدا البحر يزمجر ويدفع موجه الشديد إلى الشاطىء .. والزبد يرغى .. وسرت الآنسة سعاد بمنظره وشاقها جدا حتى أخذت تتطلع فى استغراق .. وأخذتها هزة من السرور .. فاقتربت منى دون وعى منها حتى ضغط كتفها على كتفى ..
كانت نشوى وفى حالة من الغبطة هزت جسمها وأوتار قلبها فعبرت عنها وهى لا تدرى بتلك الحركة ..
وقد أدركت من اقترابها أنها أنها تلوذ بى وتلمسنى بكتفها لأدرك معنى سعادتها .. ودارت السيارة فى محطة الرمل ..
وتوقفت فى المحطة النهائية .. وأخذ الركاب ينزلون وسلمت على صاحبى صلاح ووعدته بأن ألحق به فى البنسيون ..
وكان مع الآنسة سعاد حقيبة واحدة متوسطة الحجم .. وكان معى مثلها ولكنها أصغر من حقيبتها .. وأشارت بأن نركب ترام الرمل لنوفر المصاريف .. ولكننى أركبتها تاكسى لننفرد لحظات قليلة قبل أن نفترق ..
وانطلقنا متمهلين فى شوارع الإسكندرية .. وكان التاكسى متهالكا وبطيئا فسرنى ذلك لتطول مدة وجودنا معا .. وأحسست فى ضوء العربة الشاحب وأنا أشعر بها بجوارى فى هذا المكان الصغير .. أننى أحببتها من كل قلبى .. حبا عنيفا هزنى فى ساعات قليلة .. وكنت أشعر بالخجل الشديد لفارق السن الكبير بينى وبينها ..
وكانت هى تحس نحوى بعاطفة من الإيناس والألفة .. وإن لم ترق إلى مرتبة الحب .. ولكنها كانت أقرب إلى الركون إلى إنسان تستريح له كحماية من الوحدة فى مدينة كبيرة .. وبهذا الشعور اقتربت منى وزاد التصاقها بى ..
وكلما اقتربنا من الحى الذى تسكن فيه خالتها ازداد شعورى بفراقها وشعرت بآلامى .. فقلت لها وقلبى كله لوعة :
ـ ألا أراك مرة أخرى ..؟
ـ أين ..؟ أنا لا أعرف الإسكندرية ..
فكرت سريعا فى مكان هادىء ثم قلت على الفور ..
ـ فى كازينو رشدى ..
ـ رشدى ..؟ لا أعرفه ..؟
ـ أركبى السيارة العمومية .. من طريق البحر واطلبى من السائق أن ينزلك فى محطة رشدى .. المسألة سهلة ..
ـ سأحاول ..
ـ هل يمكن أن نتلاقى غدا ..؟
ـ كما تحب ..
ـ سأنتظرك فى الصباح الساعة الحادية عشرة ..
ـ هل أستطيع أن آخذ حماما هناك ..؟
 ـ إنه شاطىء جميل .. طبعا يمكنك .. فقط ألبسى " المايوه " .. وأنت خارجة ..
ـ أنا مشوقة إلى البحر جدا جدا ..
واحمر وجهها ..
ـ ستمضين صباحا ممتعا .. تعالى حتما ..
ـ جاية والله ..
وقرعت باب بيت خالتها .. وسلمت ودخلت ..
                                   ***      
وانتظرتها فى كازينو رشدى قبل الميعاد بساعة .. وجاءت رشيقة باسمة .. وكانت قد غيرت ثوب الأمس وارتدت جونلة رمادية وبلوزة بيضاء .. وفى جيدها عقد من تقليد الزمرد زادها فتنة ..
وكان الكازينو غير مزدحم فى هذه الساعة فجلسنا على منضدة صغيرة بجانب البحر .. وأخذ المستحمون يفدون على الشاطىء ويقيمون الشماسى على صف واحد ..
وكان البحر ثائرا والراية السوداء مرفوعة .. ومع ذلك نزل بعض الأطفال إلى الماء وأخذوا ينثرون الماء على الشاطىء .. ويخوضون إلى صدورهم فى الماء .. وأمهاتهم يرقبنهم فى يقظة ..
وظهر لعينى أن اللواتى لم يخلعن ملابسهن بعد .. أجمل من اللواتى لبسن " المايوه " .. وأشد اثارة ..
وبدت الفتنة منطلقة ممن رفعن ذيول فساتينهن وهن يدفعن أطفالهن إلى الماء .. فبدت السيقان الجميلة فى لون المرمر ونعومته .. وطرف من باطن الفخذ وما يعلو الركبة ..
وكان الانفعال والحركة نفسها فى الماء تزيد من جمال الصورة وعلى الأخص إذا قاوم الطفل ودفع الأم أو تعلق بصدرها ..
وتعلقت عيناى مع عينى سعاد .. بشاب وفتاة متقاربين فى السن يحاولان النزول ثم يترددان لثورة الماء .. وأخيرا تنزل الفتاة ويتبعها الشاب .. وعلى صفارة " الغطاس " يعودان وقد أنهكهما التعب .. وتفتحت خياشيمهما مع أنهما لم يسبحا إلا بضعة أمتار  قليلة ..
وقالت سعاد لما رأت ثورة البحر :
ـ تصور أننى كنت أود أن البس المايوه اليوم .. لأستحم ..
ـ غدا سيهدأ البحر ..
ـ آمل ذلك وإلا ستضيع منى الفرصة .. لأنى مسافرة يوم الثلاثاء ..
ـ إذا لم يهدأ البحر غدا .. سنذهب إلى شاطىء العجمى وتستحمين هناك .. فهو هادىء معظم الأحيان ..
ـ على أى حال لابد أن أستحم غدا .. لأنى مشوقة إلى البحر .. مشوقة جدا ..
وكانت تتكلم بحماس .. وهى تقرب وجهها وعينيها منى .. فرأيت السواد الجميل يلتمع فى العينين العسليتين .. والشفة وقد علاها الرضاب ..
وكان البحر يهدر من حولنا بأعالى الموج .. والمصيفون أخذوا يتوافدون ويجلسون على المناضد التى بجوارنا ولكننا لم نشعر بوجودهم البتة .. كنت مأخوذا بسحر جمالها .. وسحر حديثها .. وكنت أفكر فى الأقدار التى وضعت هذه الفتاة بجانبى فى السيارة .. وأنا فى حالة حزن .. لتمسح عنى أحزان قلبى .. وتضىء الحياة أمام عينى .. كان كل ما يحيط بى وهى بقربى جميلا .. تغيرت نظرتى لكل شىء .. فالشمس متفتحة ساطعة والبحر أزرق والسماء أشد زرقة .. والبواخر تتهادى هناك فى عرض الماء وزوارق الصيادين قد طوت أشرعتها .. وألقت شباكها ..
وسألتنى وهى تراقب البواخر :
ـ هل ركبت البحر ..؟
ـ أكثر من مرة ..
ـ السفر فى البحر ممتع ..؟
ـ إنه من أجمل الأسفار قاطبة .. ينتابك احساس آخر وأنت فى قلب البحر تحسى والسماء فوقك ولا أرض هناك .. ولا حيوان .. ولا نبات .. باحساس جديد .. تحسين بالحرية التى نفتقدها على الأرض .. تحسين أن الدنيا أصبحت لك فى لحظات حالمة ..
ـ إحساس المسافر إلى القمر ..؟
ـ أجل .. ولكن دون خوف ..
وأخذنا فى حديث ممتع حتى اقتربت الساعة من الواحدة بعد الظهر .. فنهضنا وأخذنا نتمشى على الكورنيش .. وعرضت عليها بأن نتغدى معا وجبة سمك خفيفة فاعتذرت بأن خالتها أعدت لها الغداء .. واتفقنا على أن نتعشى معا ..
وركبنا الأتوبيس ورافقتها إلى قرب بيت خالتها ..
***
وفى الليل انتظرتها فى " اثينوس " .. وجلسنا بجانب فرقة الموسيقى .. ولكن لما بدأ الرقص فى " البست " رأينا وجوها ليس فيها جمال ترقص دون فن .. فتحولنا عن الراقصين .. ثم خرجنا إلى مقهى " باستوريدس " على البحر .. فقضينا جلسة شاعرية حالمة فى الضوء الخافت الذى يحرك المشاعر الهاجعة ..
ثم تمشينا إلى " الأجلون " وتعشينا هناك لحما مقددا ومكرونة وشربنا القهوة ..
وبعد العشاء مشينا والبحر يهدر .. وكانت الأنوار ساطعة فى اللسان .. وفى حى رأس التين ..
كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة والليل ساكنا .. والبحر فى أجمل مناظره .. كان يلفه ضباب أسود أشاع السحر الجهم المجهول فى الأفق الضبابى ..
كنا نسير الهوينا نستمع إلى وقع أقدامنا فى الليل الحالم .. وكانت قد تركت يدها فى يدى فشعرت بها ندية حارة .. وكنت أنظر إلى عينيها الدعجاوين الحالمتين وسوالف شعرها .. يداعبها ريح البحر وهى تدفعها بيدها الرخصة وأقرأ السرور والجذل الحالم فى القد الممشوق المتفجر .. والعينين الناعستين .. فأسر وأشعر بانتفاضة تسرى فى جسدى وألياف قلبى .. ثم تجدنى فى نفس اللحظة أجد شيئا فى نفسى يهجس بى .. ويذكرنى بفارق السن الكبير بينى وبينها .. وأحس بضباب يغشينى وبشىء يقبض على قلبى ..
كانت لاتتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها .. وكان عمرى ضعف عمرها .. وكان هذا الفارق .. يجعلنى أتردد ولا أندفع .. ولكنى كنت أحس بصدق عواطفها .. فلم تكن متكلفة ولا كاذبة فى اندفاعها نحوى ..
وقد أحسست باللحظة الجميلة .. وكنت لا أود أن أشوهها بأى خاطر متشائم ..
ولما تركتها قرب باب خالتها .. كاد الليل ينتصف .. ورجعت وحدى وأنا أحس بلوعة الفراق .. مع أنى سأقابلها فى الصباح ..
*** 
واستجاب البحر لقلبينا فى اليوم التالى فكان هادئا .. رصينا .. وكانت تلبس " المايوه " تحت ملابسها فنزلنا إلى الشاطىء .. وجئنا بكرسين من الكازينو .. وخلعت ملابسها بالقرب من شمسية كانت خالية .. وانطلقت تعدو إلى البحر وهى نشوى وفى غمرة من السعادة الدافقة ..
ورأيت جسمها أمامى عاريا .. فى تناسق جسم فينوس وفى مثل جمال تقاسيمه .. وشعرت بهزة شديدة ..
وأحسست بلسعة حارقة وأنا أرى جسمها الممشوق الثائر الفائر بالفتنة أمامى عاريا فى ضوء الشمس ..
وكان من مستلزمات الحمام البحرى .. أن تجلس ساعة بالمايوه على الشاطىء قبل أن تنزل إلى الماء حتى لا تصيبها الرعشة والبرد ..
وجلست بجوارى مسترخية وهى فى كل مفاتنها .. وكانت تأتى بحركات عفوية بريئة وبدلا من أن تخمد نارى كانت تزيدها لهيبا ..
وكنت أخفى انفعالى وازدياد ضربات قلبى واحمرار وجهى .. بالتحول عنها والتخطيط فى الرمال ..
ورأيت أن أفتح حديثا عن مشكلة اقتصادية جافة لجونسون وأرى رأيها فيها كمجرد كلام عابر .. ولكن هذه الحيلة لم تنفع وظهر التكلف والكظم على معارفى وتخلصنا من ذلك بالحديث عن موديل المايوهات منذ سنة 1925 ..
ولما نزلت إلى البحر تبينت أنها تجيد السباحة وكنت أود أن أغطس وراءها وأسفت لكونى لم أعد نفسى لحمام البحر ..
وخرجت والماء يقطر كحبات البللور من فوق جسم كالمرمر وذهبت إلى الدش ثم عادت .. متدثرة بالفوطة وأخذت تمسح سيقانها وفخذيها .. ورأيت قدميها الصغيرتين بأصابعها الدقيقة لأول مرة وهى تمدها عاريتين أمامى وهى تثنى الركبة ..
وأستطيع أن أرسم هذا الجمال كما رأيته بكل تفاصيله الدقيقة بعد ساعة .. ثم بعد عشرين سنة دون أن أنسى منه شيئا .. فقد استقرت الصورة بكل تفاصيلها الدقيقة كاملة فى ذهنى ..
وودعتها بعد أن تغدينا .. ومضينا العصر كله معا .. وكانت راجعة إلى القاهرة فى سيارة الساعة السادسة مساء ..
واخترت لها آخر سيارة لنقضى أكبر وقت سويا ..
***
وأحسست وأنا أسير وحدى فى محطة الرمل بأن سكينا حادة قد انغرست فى قلبى .. فقد شعرت أن شيئا عزيزا قد اختطف منى فجأة دون تمهيد لذلك .. وخشيت ألا أراها مرة أخرى .. مرت كالطيف دون أن أحظى منها حتى بقبلة أو ضمة ..
ولقد كتمت كل عواطف قلبى ومزقت مشاعرى وحواسى لمجرد حماقة السن .. وأدركت الآن أن هذا كله حماقة ولقد أسفت عليه بجدع الأنف ولكن ماذا يجدى الأسف ..
وأحسست بالضياع وأنا أسير وحدى .. على الكورنيش .. وكانت الشمس قد أصفرت وأخذت أشعتها الغاربة يذهب صفحة الماء وتحيلها إلى لون العسجد .. وكان المنظر جميلا ولكن عينى كان يغشيها الحزن بلون أسود ضارب .. فلم أر ما حولى من جمال ..
وانسحبت إلى مقهى صغير معتم فى داخل البلد فى شارع النبى دانيال وطلبت فنجالا من القهوة .. ثم فنجالا آخر بعد نصف الساعة وبعد أن أحسست بالصداع يضرب فى صدغى بمطارق من حديد .. وفى الليل انسحبت إلى البنسيون ولكن لم يواتنى النوم وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة .. ورأيت صلاح المهندس يضحك مع صاحبة البنسيون وكانت .. امرأة نصفا ولكنها لا تزال غندورة .. ومن نظرات عينيه إلىّ فهمت أنه نال منها كل ما يشتهيه .. وكان علىحاله من المرح ولكنها لم تؤثر فىّ ..
ودخلت غرفتى مستأذنا .. ثم بعد قليل وجدت نفسى أخرج إلى الطريق بنفس الملابس ..
ووجدت حانة على طريق الكورنيش فى حى الأزاريطة .. فاتخذت مكانى فى الداخل إلى منضدة تشرف على البحر .. وطلبت كأسا من البراندى وكنت قد انقطعت عن شرب الخمر منذ خمس سنوات .. ولكن فى هذه اللحظة لم أستطع المقاومة .. وتناولت ثلاث كئوس فى فترة وجيزة .. ونظرى يسبح وفكرى شارد وكان البحر أمامى يهدر .. وفى داخل المشرب جلس نفر من المصيفين يتعشون ويشربون فى سكون .. ورأيت فى الركن شابا نحيلا يشرب وحيدا وقد احمرت عيناه من فعل الخمر .. وكان صامتا أخرس وسترته ممزقة عند مرفقه وحالته تدعو إلى الاشفاق والرثاء ..
وكانت حالته حالة سكير ضائع .. وخشيت إن تماديت فى الشرب أن أصل إلى مثل حاله .. فكففت عن الشراب وبارحت الحانة ..
وفى هذه اللحظة لمحت سيدة حسناء غاية فى الأناقة تعبر طريق الكورنيش ومشت فى الدرب الصغير القائم المعتم الذى على ناصية الحانة ودخلت فى شارع جانبى فسرت وراءها والخمر تدفعنى إلى ملاحقتها فى طراد عجيب حتى دخلت بيتا من أربعة طوابق .. وغابت عنى .. ووقفت حائرا .. وأخذت أتراجع خطوات فى الشارع الساكن .. وأنا أقرأ أرقام المنازل حتى لمحت لافتة تشير إلى غرفة مفروشة ثم سيدة تهم باغلاق نافذة غرفة فأخذت أنظر إليها بقوة كأننى ألتمس منها العون على إخراجى من كآبتى ..
وسألتها فى عجلة :
ـ الغرفة المفروشة .. هنا ..؟
ـ أجل ..
ـ هل أستطيع أن أراها ..؟
ـ الآن .. بالليل ..؟
ـ تعبت من البحث طول النهار حتى حفيت قدماى .. أرجوك ..
ـ طيب تفضل ..
ونفذت بسرعة من باب العمارة .. وفتحت لى بابها ..
ودخلت وراءها وأغلقت الباب بخفة وسرعة .. ولاحظت السكون المخيم فى الداخل .. والنور الخافت .. وأخذت عيناى تتطلعان إلى ما حولى .. وأجلستنى .. برشاقة فى الصالون وتركتنى ..
وجلست وحيدا وأنا أشعر بهزة الخوف من فرط السكون المخيم لولا أن السيدة كانت فى جمال نادر ودماثة أخذت تبدد الخوف وتشيع الطمأنينة فى قلبى ..
ودخلت بابتسامة على الشفة وزجاجة كوكاكولا فى اليد ..
فقلت وأنا أتناول منها الزجاجة .. وأضعها جانبا :
ـ شكرا ولكن إذا كان لابد من تحية .. فأنا أفضل القهوة .. لأنى أشعر بصداع شديد ..
ـ هل شربت ..
ـ كثيرا .. حتى سكرت ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى فقدت شيئا عزيزا ..
ـ ضاعت محفظتك ..؟
ـ المحفظة لا تزال فى جيبى ..
ـ لماذا تحزن وتبتئس إذن .. بالنقود تستطيع أن تفعل وتشترى كل شىء حتى السرور ..
ـ ليس إلى هذا الحد ..
ـ بل وأكثر من ذلك ..
وكنت أتطلع إلى صورة مقلوبة فى صدر الصالون ..
ـ لمن هذه الصورة ..؟
ـ إنه المرحوم زوجى ..
ـ زوجك .. ولماذا جعلت وجهه إلى الحائط ..؟
ـ حتى لا يرى عرضه المثلوم ..
وفتحت فمى دهشا ..
واستطردت بحرارة ..
ـ لقد قلبت الصورة منذ ست سنوات عندما جاءنى أعز صديق لزوجى فى الشهر الذى مات فيه .. يراودنى عن نفسى بمكر ونذالة .. ولم أكن أتصور النذالة تبلغ هذا الحد بالرجال .. فبصقت على وجهه وصفعته ..
ودمعت عيناها ..
ـ ولكن الفقر أذلنى .. لم أجد إنسانا ذا مروءة .. يحفظ الشرف والكرامة لأرملة مسكينة .. تكاد تموت جوعا .. ولاحقتنى الديون والمطالبات كأنما تفتحت أبواب جهنم مرة واحدة لتصلينى بنارها .. وجاء النذل مرة أخرى وعلى شفتيه ابتسامة المنتصر الذى يريد أن ينتقم .. ودفع الديون وقلب صورة صديقه العزيز بيده .. جعل وجهها إلى الحائط وابتاعنى ..
ـ وهل كل الرجال أنذال مثل هذا ..؟
ـ ليس كلهم طبعا .. فهناك الطيبون أمثالك ..
وكان فى صوتها لهجة تهكم ..
ـ تعال أرك الغرفة ..
ومشيت وراءها فى الداخل .. وفتحت بابا ..
ـ هل أعجبتك ..؟
ـ إنها جميلة حقا ..
ـ وهل تريد أن تسكن حقا ..؟ أم أن .. تقضى ليلة ..؟
ـ أريدها شهرا بطوله ..
ـ سيكلفك ذلك كثيرا ..
ـ كم ..؟
ـ تسعون جنيها .. ثلاثة جنيهات فى الليلة ..
وابتسمت وأخرجت محفظتى ..
ـ أتريدين شيئا مقدما .. الآن ..
ـ لا .. ليس الآن .. ادفع فى الصباح .. أنت غنى ..؟
وقالت برقة :
ـ هل تريد أن تأكل شيئا أو تشرب قليلا من الخمر ..
ـ لا بأس ما دمت سأقضى الليلة معك ..
وانسابت بخفة ..
وسمعت بابا داخليا يفتح .. وصوت رجل فى صوت كالهمس .. ثم خيم السكون من جديد ..
وعادت تحمل زجاجة من الخمر .. وبعض السمك المشوى ..
ـ مع من كنت تتحدثين ..؟
ـ مع البواب .. كنت أطلب منه شيئا من السوق ..
ـ وهل يعرف أن عندك ضيفا ..؟
ـ طبعا لا .. اطمئن ..
وكانت فاتنة فى ثوبها الأسود .. وهى لا تتجاوز الثلاثين من عمرها .. ورأيت على وجهها بعض الهموم .. والسهوم .. وهى تنظر إلى الكأس .. ثم عادت إلى صفائها .. ولطفها ولم أستطع مقاومة الفتنة فاحتضنتها .. فتملصت منى برقة .. وهى تقول بنغم عذب :
ـ ألا تستطيع أن تضبط عواطفك ..؟
ـ أبدا أننى متيم .. إلى حد الجنون ..
ـ بمثل هذه السرعة ..؟
ـ وهل للحب مقياس وأزمنة ..؟
ـ كلا .. عندك حق ..
وانزلق ثوبها وهى تطفىء النور ..
وسألتنى برقة :
ـ ما اسمك ..؟
ـ خليل ..
ـ وأنا اسمى فوزية ..
ـ اسم جميل ..
وسبحت معها فى الكلام وكنت أحس بأنفاسها ورائحة عطرها .. وكانت قد تعطرت ونفشت شعرها .. وتركت قميصها الأسود ينحسر عن فخذيها وكتفها اليسرى .. وأحسست وأنا أرطب شفتى المحترقتين برضاب شعرها بأنها تكتم ألما ممضا يسحق روحها .. ولكن كانت تروح فى دوامة الحس المخدر .. لتنسى حدثا جللا ..
كما أحسست وأنا أحتضنها بقوة .. بأنى أتعذب وأن البؤس والعذاب والقلق يعذب روحى ..
وأحسست بنشوة الصبا وأنا أرى روحها الحانية المعذبة .. بمثل عذابى تستجيب لى وتمتزج بى ..
وفى الضوء الخافت الأزرق سبحت .. وأحسست بالنعاس يداعب أجفانى ..
ولما استيقظت أحسست بثقل غريب وفى عينى وفى رأسى .. ولم أجدها بجوارى ..
ولما خرجت من الغرفة وجدتها فى الحمام ..
وكانت الشقة فى عتمة رهيبة .. وصوت البحر يهدر فى جنون ..
ولمحت على الضوء الباهت شيئا معلقا فى غرفة جانبية .. فارتعش قلبى .. لمحت مظلة يابانية كالتى كانت فى يد سعاد ..
فتقدمت بقوة .. ودخلت الغرفة وفى رأسى الحزن .. نفس اليد .. لنفس المظلة .. كانت من نفس الصنف .. ولكن القماش يختلف لونه .. فسررت .. وفيما أنا أضعها فى مكانها وجدت بابا يفضى إلى غرفة داخلية فدفعته فلان تحت يدى ..
وعلى الضوء الخافت وجدت رجلا مطروحا على الأرض وكان هناك دم يخرج من أنفه وفمه .. ولما اقتربت منه عرفته إنه عبد السميع الغنى الجشع صاحب العمارة الذى كان معنا فى السيارة والذى ابتز مال صديقى وغيره من الحائرين الذين يرغبون فى السكن .. جاء يقضى معها ليلة وكان يرتدى نفس بدلتة التى رأيته بها فى السيارة .. ونسيت ما فعله بصاحبى وحزنت على مصرعه وارتعش قلبى .. وانتابنى الفزع وأغلقت الباب بسرعة ..
وارتديت ملابسى وأنا أرتعش .. وانسحبت متسللا .. إلى الشارع ..
وكان الليل يصفر .. والريح تعصف .. ولكنى رحت أعدو وأعدو فى ظلام الليل دون وعى .. حتى ارتطمت بشىء .. ووقعت على الأرض فاقد الوعى ..
وأخذت أستفيق ببطء وكان أثر المخدر لا يزال فى رأسى .. فثقلت جفونى وفتحت عينى بصعوبة .. كان الضباب لايزال يغشيهما .. ووجدت كل ما حولى أبيض .. الحجرة .. والفراش .. حتى الكراسى ..
ووجدت سيدة تجلس بجوارى وكانت شابة جميلة تمسك بمظلة يابانية فى يدها .. ولكنها لم تكن مطوية فى هذه المرة .. كانت قد فتحتها فوق رأسى لتقينى من الشمس .. أو من شىء آخر .. وكانت تنظر إلىّ بحنان وأنا أتنفس بصعوبة .. أتفصد عرقا ..
وكنت أفتح عينى بقوة لأعرف أى المرأتين هى .. أسعاد أم فوزية ..
فقد كنت على حالة من الضعف .. لم أستطع منها أن أدرك الحقيقة ..   
ولكن على أى حال كانت السيدة تحرك المظلة بلطف كأنها تروح بها على قلبى ..
====================== 
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس " سنة 1966
========================

 

    
    

حَبات من الزمرد


     فندق « الباب الذهبى » فى « كولون » دلنى عليه صديقى ( تشن ) ..
      وتشن شاب صينى مهذب التقيت به عرضا فى القطار القادم من « لوو » وأنا راجع من الصين الشعبية ولما علم أننى مصرى وحيد فى بلاد الصين تطوع أن يكون دليلى بشهامة عديمة النظير ..
     وقد اختار لى هذا الفندق لقربه من المطار ولأنه يقع فى شارع جانبى بعيد عن ضجيج المواصلات فى المدينة الصاخبة ..
     وقضيت أربعة أيام فى الفندق وأنا أشعر براحة المسافر الذى يعيش فى الفردوس ..
     وفى اليوم التالى .. الخامس هبط علينا نفر من جنود الطيران الأمريكيين .. وكانوا قادمين من مانيلا .. فحولوا الفندق بصخبهم إلى جحيم .. فاضطررت أن أجمع حاجاتى لأرحل .. وفيما أنا أخرج قمصانى من درج « الشوفنير » عثرت على حبات من الزمرد الخالص وكانت متوسطة الحجم .. ومن أندر أنواعه على الإطلاق .. وبهرنى جمالها ودقة صنعها ..
     وأول شىء خطر على بالى فى الحال أن أسلمها لإدارة الفندق لتتصرف فيها كما يحلو لها ، ولكن عدلت عن هذه الفكرة بعد أن تبينت من الفتيات العاملات فى هذا الجناح أن غرفتى كانت مؤجرة لشاب يدعى « كارتر » يعمل ملحقا ثقافيا فى قنصلية أجنبية وقضى فى الغرفة عامين كاملين وتركها لأنه نقل من هونج كونج ولم يشغلها بعده إنسان سواى ..
     وأبقيت الحبات معى .. وأنا أجيل الأمر على كل الوجوه لأجد طريقة للاستدلال على صاحبها .. ثم دار فى خلدى أخيرا على أقرب الاحتمالات إلى الرجحان ، أن الحبات تخص سيدة قضت ليلة غرام مع هذا النزيل ثم نسيتها وذهبت .. ومنعها الخجل أو خشية الفضيحة أن تعود فتسأل عنها ..
     وانتقلت إلى فندق « الميرامار » وهو قريب من البوغاز .. وحبات الزمرد معى وكنت أضعها فى جيبى حيثما ذهبت خشية أن تسرق لو تركت فى حجرتى بالفندق ..
     وذات ليلة وأنا أتعشى فى مطعم « البحار السبعة » بشارع « كوين رود » فى هونج كونج جذبنى بهدوئه وقلة رواده .. رأيت سيدة أجنبية تتناول العشاء على مائدة مفردة .. وكانت تزين جيدها بعقد من الزمرد شبيه تماما فى حجم حباته ولونه وبريقه بالحبات التى وجدتها ..
     وكان المكان هادئا وتنبعث من زاوية فيه موسيقى صينية خفيفة .. مما جعلنى أعلق نظرى بالسيدة وكانت أجمل من فى المطعم .. وكان جمالها ووداعتها وكونها وحيدة .. يشجعنى على محادثتها .. ولكن السبيل إلى التعارف كان شاقا وعلى الأخص أنه لم تتح لى أية فرصة لبلوغ قصدى .. فبارحت المطعم دون أن أبادلها كلمة واحدة ..
     وحدث أن التقيت بهذه السيدة مرة أخرى ضحى يوم من أيام الثلاثاء فى بهو الفندق .. وكانت تتناول مفتاحها من لوحة المفاتيح فعرفت أنها تقيم معى فى نفس الفندق ونفس الجناح ..
     ومنحتنى الظروف فرصة ذهبية لألتقى بها مرة ثالثة .. فى مكان أنسب للتعارف .. إذ جلسنا معا جنبا إلى جنب على الدكة الخشبية فى السفينة التى تعبر البوغاز .. وكانت تقرأ جريدة جنوب الصين فطيرها الهواء من يدها .. فجريت وأعدتها لها فشكرتنى بعذوبة وكانت ذاهبة مثلى إلى هونج كونج ..
     وأخذنا نتحدث بالإنجليزية عن جمال المدينة .. وجمال هذه البواخر السريعة التى تنقل الجمهور عبر البوغاز من كولون إلى هونج كونج فى رحلة ممتعة تحت أجمل مناظر البر والبحر على الإطلاق ..
     وقالت لى .. إنها ذاهبة إلى بنك الصين .. لتصرف بعض الشيكات السياحية .. فعبرت لها عن سرورى لمرافقتها فى هذه الجولة إذ لا غرض لى فى الواقع من الذهاب إلى هونج كونج أكثر من التجول ..
     ولم نمكث فى البنك أكثر من سبع دقائق .. ثم خرجنا نضرب فى شوارع المدينة ..
     وكانت تريد أن تبتاع بعض الأشياء من محلات « ين كراوفورد » فدخلنا المحل وتسوقت أشياء كثيرة اشتركنا فى حملها معا .. وحدثتنى بأنها أمريكية كزوجها ..
     وسألتنى فى رقة :
     ـ هل سمعت عن إنديانا .. ؟
     فقلت لها :
     ـ إنها الولاية التى أنجبت « إبراهام لنكولن » .. أعظم رجل فى تاريخ أمريكا .. بل طراز نادر فى الرجال عبر تاريخ البشرية ..
     ـ هل تعتقد هذا .. ؟
     ـ إنها الحقيقة .. !
     ـ ولكن زوجى لم يتمثل بإبراهام أنه يصطاد السمك الآن فى (أبردين) ..
     ـ هواية ممتعة ..
     ـ أو تعتقد هذا .. ؟ إنها تستغرق حواسه تصرفه عن كل شىء آخر .. تصور أنه لم يشاهد شيئا فى « هونج كونج » بعد .. ولنا هنا قرابة اسبوعين .. وإذا كان هذا هو غرضه من السفر .. فلماذا تحملنا المشقة وقطعنا آلاف الأميال كان يستطيع الصيد فى إنديانا ..
     ـ ولكنك على « نقيضه » تتنزهين ولم تضيعى ساعة واحدة دون مشاهدة شىء جديد ..
     ـ أجل .. وماذا كنت أفعل غير ذلك .. ؟!
     ورأيت فى عينيها الخضراوين بسمة جميلة .. وكانت حبات الزمرد على صدرها .. والحبات الشبيهة بها فى جيبى ..
      وكنت أود أن أخرج ما فى جيبى لأقارب بين العقدين .. وأسرد لها القصة كلها .. ولكن استحييت ..
     ومشينا حتى رصيف البواخر .. ثم ودعتها وقفلت عائدا إلى المدينة ..
     وكنت متشوقا إلى ملاقاة زوجها .. فرأيته فى الصباح الباكر .. واقفا بجانبها أمام المكتب المعد للاستقبال .. وكان يملى برقية .. وبيده ( الشص ) وعلى كتفه " الجراب " .. وكان بملابس الصيد الكاملة .. النعل والشورت والجاكتة ذات الجيوب المنتفخة ..
     وكان مرسل اللحية وقد ترك شعره ينمو على عارضيه بغزارة .. وقدرت سنه فى حدود الأربعين .. وبدا لى متناهيا فى الطيبة .. وهى تقدمه لى برقة .. وصافحنى « شارل » بحرارة وحدثته « جوان » بأنى رافقتها إلى البنك الصينى .. وسهلت لها الأمر فى البنك كما صاحبتها وهى تتسوق بعض حاجاتها .. وحملت لها الأشياء .. حتى الميناء وانحنى لى الرجل بود الفلاح الطيب القلب .. وصافحنا وذهب إلى صيده ..
     وشيعت « جوان » زوجها وهى ضاحكة .. وأخذت تحدثنى عن عمله .. وأنه يملك مزرعة وحظيرة للأبقار .. وأنهما فى بحبوحة من العيش ومنذ أربع سنوات وهما يسيحان فى مطلع كل شتاء .. إلى كل بلاد العالم ..
     وتركتها بعد ساعة وأنا أفكر فى عرض هذه الحبات على جواهرى فى المدينة لأعرف قيمتها ..
     ومشيت أتفرس فى واجهات الحوانيت .. وكانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة صباحا والأرصفة تموج بالرائحين والغادين .. وحركة المرور على أشدها والجو صحوا والشمس ساطعة .. ولم تكن هناك أكثر من لفحة برد خفيفة ..
     وأخيرا اخترت متجرا صغيرا فى شارع « دى فو » .. واجتزت أكثر من باب لأصل إلى داخل المحل .. حيث وقف رجل ربعة يتفحصنى بعينين نفاذتين ..
     وحدثته بالإنجليزية عن رغبتى وأنا أضع حبات الزمرد أمامه على المنضدة .. فنظر إليها مليا بدون اكتراث وهو يوجه إلى نظرة جامدة ..
     ثم أخرج المجهر وجعل يتفحصها حبة حبة وقال فى إنجليزية سليمة ..
     ـ إنها زمرد خالص ..
     ـ وكم حبة تنقصها لتكون عقدا .. ؟
     ـ خمس حبات فقط ..
     ـ وبكم الخمس .. ؟
     وحرك أصابعه على آلة فيها بلى .. ثم قال بهدوء :
     ـ بمائة دولار ..
     ـ دولار ( هونج كونجى ) ..؟
     ـ نعم ..
     ـ أليس هذا كثيرا .. ؟
     ـ هذا هو سعر السوق ..
     ـ لقد انفرط العقد من زوجتى وهى خارجة من السينما .. وضاعت منها الحبات الناقصة .. أرجو أن تقدر هذه الظروف ..
     ـ اسأل عن السعر فى الخارج .. وستعرف كم أنا أكرمتك ..
     ـ لا فائدة .. ؟
     ـ آسف هذا آخر سعر ..
     ـ وإذا بعت لك هذه الحبات فبكم تشتريها .. ؟
     ـ أشتريها بألفين من الدولارات ..
     ـ فقط .. ؟
     ـ فقط ..
     ـ سأشاور زوجتى .. وأعود ..
     ـ كما تشاء ..
     وخرجت وحدى ومشيت فى شارع ضيق .. وسمعت أقداما خفيفة تتعقبنى .. ثم رأيت شابا يدخل من باب جانبى .. ولم أعره انتباها وخرجت إلى الطريق الرئيسى والحبات فى جيبى ..
     وكانت الساعة قد بلغت الواحدة بعد الظهر .. فتغديت وجبة سمك .. وخرجت أتمشى فى المدينة ولمحت دار من دور السينما فيلما يعرض لسلفانا مانجانو .. وكان الفيلم مثيرا فأحببت أن أراه كاملا قبل أن يعمل فيه مقص الرقيب فى أى بلد آخر ..
     وقطعت تذكرة فى ( البلكون ) وكانت السينما قد اشتغلت ويبدو أن العرض مستمر .. وأدخلنى العامل وأجلسنى فى صف من الصفوف الخلفية ..
     فجلست فى الظلام وأنا أمر بالسكون العميق فلا نأمة ولا همسة ولا حركة من مخلوق حى .. وبدا لى جليا أن الرواد مشغولون بحلاوة ( سيلفانا مانجانو ) ومتابعة الفليم عن أى شىء آخر ..
     ولكن تبين لى بعد أن أخذت عيناى على الظلام أننى الجالس الوحيد فى كراسى ( البلكون ) كلها .. ثم ظهر شبح وحيد .. فى الصف الثالث .. وكان متطرفا إلى أقصى اليمين ..
     وكانت السينما طويلة طولا لاحد له .. وقليلة الاتساع فى العرض .. فبدت لى فى هذا الظلام الرهيب كالنفق الموحش .. ولولا أن سيلفانا كانت تضحك وتتجرد من ملابسها قطعة قطعة .. لخرجت مفزوعا من فرط الرعب ..
     ولكن سيلفانا لم تمنعنى من التوتر والإحساس بالخوف .. إذ شعرت بأننى المخلوق الوحيد الذى يتنفس فى المقصورة .. والآخر الجالس هناك شبح .. وليس إنسانا وكان وجوده وصمته يزيدنى رعبا ..
     وبحركة عفوية أخرجت سيجارة من جيبى وأشعلتها .. وقبل أن أستمرئ مذاقها رأيت شبحا يقف على رأسى ويقول بصوت فيه غلظة :
     ـ التدخين ممنوع ..
     ـ آسف لقد كنت ناسيا .. هل أستطيع أن أدخنها فى الخارج .. ؟
     ـ تفضل ..
     وأضاء لى بنور البطارية الطريق فى الظلام .. ووقفت فى البهو الخارجى .. أدخن وأفكر فى مبارحة السينما .. وقد وجدتها فرصة لأهرب ..
     واتخذت طريقى إلى الخارج فعلا .. وشعرت وأنا أهبط السلالم بأقدام تتحرك ورائى ..
     وفى الشارع رأيت وجه الشاب الذى كان يلاحقنى .. فى متجر الجواهر وخارجه .. وجعلتنى هذه المطاردة أحافظ على الحبات بكل حواسى وأنا أتحرك فى الطريق ..
     وفى صباح يوم التقيت « بجوان » .. فى أحد شوارع « كاولون » الجانبية بعيدا عن الميناء .. وكانت تقف على باب حانوت ولما لمحتنى أسرعت نحوى ..
     وقالت بسرعة :
     ـ أرجو أن تصحبنى فى جولة قصيرة .. أريد .. أن أشترى شيئا .. وهم يرفعون السعر أضعافا مضاعفة إذا كانت السيدة وحدها ..
     ـ أنا طوع أمرك ..
     ونظرت إلى صدرها .. فوجدته عاريا .. ليس فيه عقد الزمرد ..
     فسألتها بدافع من الفضول :
     ـ أراك تركت العقد اليوم .. فى الفندق ..
     ـ لا .. لقد سرق منى ..
     ـ سرق .. ؟!
     ـ أجل ولا أدرى هل نزع منى وأنا أصعد جسر البواخر .. أم فى الشارع أم فى السينما .. إن النشالين فى هونج كونج .. ليس لهم ضريب فى العالم كله ..
     ـ أدركت هذا منذ الأسبوع الأول ولهذا أحافظ على جيوبى .. وهل ستشترين غيره .. ؟
     ـ أجل .. الآن .. وإلا ظن بى زوجى الظنون .. فإنه لا يصدق أبدا أنه نشل ..
     واحمر وجهها .. أكثر وأكثر .. وأشفقت عليها .. وتحسست بيدى مكان حبات الزمرد التى فى جيبى ..
     وقلت لها وبى رغبة قوية لأن أعطيها هذه الحبات بعد أن استكمل لها الحبات الخمس الناقصة ..
     ـ أعرف متجرا فى هونج كونج .. دعك من متاجر « كولون » .. وسنذهب إليه غدا فى أى وقت تشائين .. ونبتاع لك العقد من هناك .. فهذا أضمن وأدعى إلى الاطمئنان ..
     ـ أو تعرف صاحب المتجر .. ؟
     ـ أجل ذهبت إليه مرة ..
     ـ وأسعاره معقولة ..
     ـ إلى حد كبير ..
     ـ حسن .. كم أشكرك .. لأنك ستنقذنى من موقف محرج للغاية ..
     واشترت بعض الحاجات ورافقتها إلى الفندق ..
     وعبرت البوغاز إلى هونج كونج واشتريت الحبات التى تنقص العقد .. بحوالى مائة دولار .. ونثر الجواهرى الفصوص كلها ثم كون منها عقدا جميلا .. فوضعته فى جيبى وفى عزمى أن أعطيه « لجوان » فى الصباح .. كهدية مفاجئة لها .. بدل العقد الذى سرق منها ..
     واسترحت فى مشرب إلى الساعة الخامسة مساء .. ثم أحسست بالرغبة إلى أن أذهب إلى « ابردين » .. فركبت سيارة إلى هناك ..
     ووقفت على الرصيف .. ومئات الزوارق تتهادى فى عرض الماء .. وآلاف منها راسية فى صفوف منتظمة على الساحل .. وعلى البيوت المواجهة يلمع الغسيل الأبيض فى ظلام الليل ..
     وكان العشى قد دخل وأضيئت المصابيح الصغيرة فى الزوارق والسفن .. وبدت الميناء كلها كحبات من النجوم تناثرت على أرض من الزئبق ..
     ورأيت النساء الصينيات .. يتعلقن بالسائحين ليحملوهم على النزول إلى زوارقهن .. كل شابة تقبل على نفر منهم وتشير إلى زورقها .. وبعد نزول الجميع فى الزوارق .. بصرت بزورق منفرد .. يقف وحده بعيدا وشابة صينية فى مؤخرته .. جلست وحدها .. وكانت لا تغرى أحدا بالركوب فى زورقها .. بأية إشارة أو حركة .. وكان على وجهها تعبير من الصمت والأسى دفعانى لأن أتقدم نحو زورقها ..
     وهبطت الزورق حتى دون أن أسألها إن كانت على استعداد لأن تبحر بى ..
     وظلت فى مكانها نصف دقيقة وهى لا تحرك ساكنا بعد أن توسطت الزورق .. ثم جذبت الحبل الذى يربط الزورق .. وأمسكت بالمجداف .. وبعد أن خرجنا من صف الزوارق .. وأصبحنا وحدنا فى عرض الماء .. نظرت إليها والى طول قامتها ورشاقة حركاتها .. وكانت ملساء العود .. طويلة على عكس الصينيات وتضع على شعرها الأسود منديلا .. وتلبس جونلة وصديرا أزرق .. وفى قدميها حذاء خفيف يساعدها على الحركة والتنقل من مكان إلى مكان ..
     وعندما بعدنا عن مكان الزوارق والرصيف .. والذهبية التى يتناول فيها السائحون السمك المصطاد حديثا .. وكل ما فى المكان من حركة وصخب .. بدا الخليج ساكن الموج وبيوت الفقراء على الساحل فقيرة شاحبة ..
     وقلت للفتاة :
     ـ استريحى .. واتركى المجداف .. فإنى أحب أن يتهادى الزورق على صفحة اليم ..
     فتركت المجداف .. وجلست عند الدفة وهى تنظر إلى بعيد .. وتأملت وجهها وشعرها وقوامها كله .. فى جلستها المنثنية .. كانت جميلة تقاطيع الوجه .. وفى عينيها الناعستين اللتين تزيدها فتنة وكأن أسنانها صف من اللؤلؤ .. يلتمع فى ليل لم يطلع فيه قمر ..
     وكانت مستديرة الوجه وإذا نظرت إليها من جانب .. ظهر حاجباها الغزيران وخط الهدب .. وشحمة الأذن الصغيرة وقد تخطتها سوالف الشعر الأسود ..
     وسمعت وأنا أتأملها وأتأمل الليل والنجوم تحادث شخصا بالصينية .. فارتجفت إذ كنا فى وسط الماء .. ولم أشاهد شخصا غيرها فى الزورق ..
     ثم تبينت فتاة صغيرة فى القاع .. خارجة تفرك عينيها وكانت نائمة ثم استيقظت ..
     وسألتها :
     ـ أهذه بنتك ..؟
     ـ أجل ..
     ـ وأين أبوها .. ؟
     ـ مات منذ ست سنوات ..
     ـ هنا .. ؟
     ـ أجل .. هنا فى « ابردين » .. مات ودفن فى الماء ..
     وسألتها :
     ـ وأنت .. هل تشتغلين بالصيد ..؟
     ـ إننى أكتفى بنقل السياح .. إلى الذهبية .!
     ـ وتربحين من عملك هذا ..؟
     ـ بعضهم يعطى كثيرا .. وبعضهم يعطى قليلا وإنى راضية ..
     ـ وأنت .. هل تعمل هنا فى هونج كونج .. ؟
     ـ إننى سائح .. ؟
     ـ ما هو اسمك .. ؟
     ـ إبراهيم ..
     ـ وحيدا .. ؟
     ـ نعم ..
     ـ أو ليس معك زوجتك .. ؟
     ـ لم أتزوج بعد ..
     ـ وهل شاهدت كل الأماكن الجميلة فى « هونج كونج » « وكولون » ..
     ـ بعضها .. وأحب أن أشاهد الباقى .. ولكن ينقصنى رفيق من المدينة ..
     ـ ألا تعرف أحدا .. ؟
     ـ كلا .. هلا ترافقيننى ..
     ـ وهذه ..؟ أتركها لمن ..؟ إننى لا أستطيع أن أترك الماء ساعة واحدة ..!
     ـ يحزننى ذلك ..
     ونظرت إلى ما حولى .. وقلت لها .. وأنا أود أن أبعد بالزورق وأبعد إلى قلب المحيط ..
     وسألتها :
     ـ ما اسمك .. ؟
     ـ ... ..
     ـ هل تسمحين لى بأن أجدف ..
     ـ أتعرف ..؟
     ـ إننى فلاح .. وقريتى على النيل ..
     وأمسكت بالمجداف ..
     واتجهت بالزورق إلى الشمال وهى تواجهنى بنظراتها فى ثبات .. وكانت فتاتها جالسة فى المقدمة صامتة .. ولا أدرى أتعرف الصغيرة الإنجليزية أم لا .. لأن أمها كانت تحادثها بالصينية التى لم أكن أفهم منها حرفا ..
     وبعد أن قطعت مرحلة طويلة فى التجديف .. ألقيت بالمجداف .. وجلست بجانبها ..
     وسألتنى فى عذوبة :
     ـ أتعبت ..؟
     ـ كلا .. ولكن أود أن أتأمل هذا الجمال ..
     وقلت مستطردا .. وأنا شاعر بنشوة ..
     ـ رأيت فى هذه الرحلة أجمل فتاتين فى العالم أجمع .. واحدة فى « يوهان » والثانية فى « ابردين » ..
     ـ فى « ابردين » .. من هى ..؟
     ـ أنت ..!
     ونكست رأسها واحمر وجهها ..
     وأضفت مستطردا :
     ـ وإذا سألتنى .. أيهما الأكثر جمالا والأكثر فتنة .. أقول لك التى فى « ابردين » ..
     فرفعت رأسها وقالت ضاحكة بعذوبة ..
     ـ أنا لم أسأل ..
     ـ ولكننى أجبت .. على السؤال على أى حال ..
      واقتربت منى وقالت برقة .. وهى تميل علىّ بوجهها ..
     ـ هل تقول هذا الكلام .. لكل فتاة .. ؟
     ـ لا .. لا .. ما قلته لسواك قط ..
     ومسحت على ذراعى ..
     ـ ولكنى ما سمعته قبلك من إنسان ..
     والتصقت بى ..
     فقلت هامسا ..
     ـ الفتاة تنظر إلينا ..
     ـ إنها عمياء ..
     وكأنى قد لسعنى سوط .. فابعدتها عنى فى رفق ونكست رأسى وأنا أحس بدوامة الحياة ..
     ولم تستطع .. أن تدرك ما طرأ على مشاعرى من تحول على الفور فصمتت ..
     ورفعت رأسى .. ورأيت حبات الزمرد متناثرة هناك فى هذا المكان .. على الأرض .. وفى الماء .. وفى كل رقعة فى العالم ولكن يغطيها تراب الفقر .. فلا تراه عينى ..
     وبرق فى ذهنى خاطر بوحى الساعة .. فاقتربت من الفتاة الصغيرة ومسحت على شعرها .. وأخرجت حبات الزمرد من جيبى ووضعتها فى حجرها ..
     وكانت أمها تنظر إلىّ فى ذهول .. والزورق يتهادى .. ولا أحد يحركه .. وحبات الزمرد مازالت تبرق فى حجر الفتاة وأصابعها الصغيرة تلمسها فى حنان .. وكنت أحس أن عينيها المنطفئتين قد بدا يلوح فيهما شعاع من النور ..




=================================  
نشرت القصة فى كتاب " مساء الخميس "سنة 1966
=================================






فهرس

اسم القصـــــة                         رقم الصفحة

وقفة على الدرب       ......................   2
سوق الأحد             .....................    8
مساء الخميس           .....................   14
الغضب               .......................   23
صقر الصحراء      .......................    34
فى الغسق           .......................    39
السائق              ........................   44
خيط من النور      ........................    49
حقل البطيخ         .......................    56
صقر البحار        ........................    63
الأصابع العارية     ......................     74
البائع الجوال        ........................   82
الوحش             .......................    86
القرية الوادعة      .........................   93
درس              ........................    97
الجوع              .......................   100
النجوم             ........................   104
بداية طيبة         .........................  110
المظلة اليابانية     ........................   114
حبات من الزمرد   .......................   133








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق