السبت، 11 أبريل 2015

القصة القصيرة عذراء ووحش للأديب المصرى الراحل محمود البدوى









السلسلة

     كان سليم آخر العنقود فى أسرة البحيرى .. وكما يدلل الأبن الأصغر فى كثير من الأسر المصرية حتى يطرى عوده ، ويفسد .. دلل سليم حتى فسد .. وفشل فى دراسته فرسب ثلاث مرات فى امتحان التوجيهية .. وفصل من المدرسة ..
     ولما علم والده برسوبه وفصله أستشاط غيظا وأخذ يحرق الأرم ..
     فقد بذل كل ما فى وسعه من مال وجهد ليستقيم عود ابنه ويفلح .. ولكن ذهبت كل هذه الجهود مع الريح ..
     ودخل سليم البيت بعد الظهر ليتغدى كعادتة .. فألفى والده فى أشد حالات الغضب وأمسك به قبل أن يقرب من الطعام وما زال يضربه بقوة حتى أدماه وهرب الفتى وهو يصرخ .. وأختفى من القرية .. ثم رجع ذات ليلة متسللا فأخفته أمه عن عين أبيه حتى خرج الوالد .. فى بكرة الصباح إلى مزارعه ..
     وأنتهز سليم هذه الفرصة لينفذ ما أعتزم عليه وغافل أمه وسرق منها مفتاح الدولاب .. حيث يضع والده بعض النقود للمصاريف البيتية فوجد مائة جنيه .. فأخذها وإنطلق إلى المحطة لا يلوى على شىء ..
     وتحرك به قطار الإكسبريس من محطة المنيا وهو يود لو سابق الريح .. كان قد أنتوى الإختفاء فى القاهرة .. فى حى الحسين حيث الزحام والفنادق الرخيصة ..
     ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان .. فإن صاحب الفندق لم يقبل أن ينزل عنده بأقل من خمسين قرشا للسرير فى الليلة لأنه لم يحمل بطاقة .. وسيغامر ولا يقيد أسمه فى سجل النزلاء .. ورضى سليم .. ولكن إقامتة لم تطل فى القاهرة أكثر من عشرة أيام .. فقد التقى به الشيخ عبد الحافظ فى مقهى بشارع الأزهر .. وأخبره أن والده عرف مكانه وأرسل ابن عمه عبد التواب ليبحث عنه ويرده مكبلا بالحديد ..
     فطار مفزوعا وأخذ أول قطار إلى الإسكندرية ..
     وفى ميدان المنشيا اتخذ سبيله إلى فندق إعتاد التردد عليه .. فوجد الإدارة قد تغيرت وطلب منه كاتب الفندق البطاقة قبل أن يعطية مفتاح الغرفة فسقط فى يده ..
     واتجه إلى فندق آخر .. فطلبوا نفس الشىء ..
     فخرج مستاء .. إذ لم تكن هذه المسألة فى حسبانه قط .
     وظل يمشى متجها إلى محطة الرمل وكانت الأنوار تلمع فى الشوارع والحوانيت تعرض فى واجهاتها أجمل ما عندها من سلع .. وكان عقله يحدثه بأن يعود إلى المحطة .. ويسافر إلى طنطا أو المنصورة .. وأخيرا رأى أن يذهب إلى منطقة الرمل حيث تكثر ألوف الغرف المفروشة ولا يعقل أن يطلب منه البطاقة هناك أحد ..
     وركب ترام الرمل وهو لايزال يشعر بالضيق والقلق .. ونزل فى محطة أسبورتنج قلب المصيف ..
     ووقف على باب دكان قريب من المحطة يشترى علبة سجاير ويسأل البائع عن غرفة مفروشة ودله على سمسار فى الشارع الجانبى .. فاتجه إليه .. وخرج معه السمسار يرود المنطقة فى الليل .. وكانت الساعة تقترب من العاشرة وكلما شاهد غرفة طلب سليم غيرها أرخص وأنسب لحالة .. لأنه لن يبقى فيها لفترة الصيف فقط وإنما يقيم إقامة طويلة ..
     وأخذ السمسار يقدح زناد فكره .. وكانت الشوارع لا تزال مزدحمة بالمارة ورصيف البحر يموج بالمصطافين .. وسارا على الكورنيش ولما دخلا منطقة  كليوباتره .. تذكر السمسار غرفة هناك فى بيت قديم عند دوران مصطفى باشا ..
     ووقف على الرصيف يسأل عن الغرفة .. وظهره إلى البحر .. وعينه على البيوت .. فسمع صوت أنثى يقول :
     ـ توجد .. غرفة خلت من ساعة ..
     وتلفتا فوجدا سيدة تطل عليهما من طابق أرضى لايعلو عن الشارع إلا قليلا ..
     وكانت صبيحة الوجه فى حوالى الثلاثين من عمرها .. تلبس فستان البيت .. وتركت شعرها تداعبه النسمات الآتية من البحر ..
     ودلتهما على الغرفة .. فى نفس البناية ..
     وكانت لا بأس بها .. وإيجارها تسعة جنيهات فى الشهر .. فأخذها سليم دون تردد ..  
     ونام فيها إلى الضحى .. ولما استيقظ أحس بثقل رأسه .. كان يفكر فى السرقة وكيف أن والده لن يغفر له هذه الفعله أبدا ..
     وأخذ يدور ببصره فى جوانب الغرفة .. وكانت صغيرة ولها نافذة مربعة تطل على الطريق ومرتفعة عن الأرض بمقدار متر ونصف المتر .. وبها سرير ومنضدة ودولاب من طراز عتيق .. ورأى المصطافين وهو مضجع على السرير .. وكان الصيف فى ضجيجه .. والموسم على أشده .. من الزحام ، ولكن هذه الجهة المتطرفة لم تكن فى معظم الحالات تزدحم قط .. لأنها تقع فى نهاية البلاجات الشعبية ..
     وكان السكان فى الغرفة الملاصقة له مشغولين بالإستحمام فى البحر .. وبالأكلات الدسمة فلم يعيروه التفاتا .. وظل فى وحدته ..
     وخرج ليأكل ويتمشى على البحر .. ثم ركب الترام إلى الإسكندرية ليشترى بعض الملابس الداخلية ولوازم أخرى إذ لم يكن يحمل معه أى شىء على الإطلاق ..
***
     ومرت الأيام رتيبة .. وكان يقضى النهار فى منطقة الرمل ..
     ولكنه فى الليل كان يشعر بالوحدة وبالفراغ .. فكان ينطلق إلى المدينة ويذهب إلى الملاهى والحانات ليسكر .. كان يشعر فى أعماقه بأنه ضائع ..
     وكان قد نسى حادث السرقة بعد أن صرف نحو نصف ما سرقة فى أقل من شهر متبطلا شريدا لا يعرف له مقرا .. ولا مكانا فى الحياة ..
     وفكر فى أن يبحث عن عمل فى الإسكندرية ما دام قد قطع صلته بالقرية .. ولم يكن يعرف أحدا يلحقه بعمل .. وأخذ وهو يلعب النرد مع شخص تعرف عليه فى مقهى البورصة يفاتحه فى الأمر .. فطلب منه هذا خمسين جنيها ستدفع إلى من يقوم بالوساطة .. وحدثه أن المرتب لن يقل عن خمسة عشر جنيها بحال .. وعليه أن يبحث عن غرفة خالية بأربعة جنيهات فى الشهر على الأكثر ليستطيع أن يعيش ويتدبر أموره .. وبعد محاورة ارتضى الرجل أن يأخذ ثلاثين جنيها مقدما ويدفع له الباقى عندما يتم التوظف ..
     ودفع سليم ثلاثين جنيها .. على أن يوظفه فى مدى أسبوع .. وأرجأ سليم ترك الغرفة المفروشة .. والبحث عن غرفة خالية إلى ما بعد التوظف ما دام الأمر سيتم فى أسبوع .. وانقضى شهر كامل دون أن يوظف فأغتاظ .. وأختفى الرجل فى المنطقة فأدرك أنه وقع فى يدى محتال .. فزاد ألمه وغيظه .. وأخذ يقامر بالمبلغ الذى تبقى معه ليسترد نقوده الضائعة ولكنه كان يخسر دائما ..
     وكان يعود فى الليل وحيدا ضائعاً .. فيجد الحى ساكنا .. وموج البحر يصفق وريح الخريف قد بدأت تزأر ..
     وكان قبل أن يتوارى من خلف ضوء الشارع ويدخل فى الدرب الضيق.. يجد المرأة التى دلته على الغرفة واقفة أمامه فى الشباك تنظر إلى البحر نظرة حالمة ..
     وكان عندما يظهر فى الدرب ويقترب من البيت .. يراها تنظر إليه وهو داخل .. وكان يتريث فى مشيته ليملأ عينيه منها ..
     كانت رائعة التكوين ذات جسد رشيق وشعر فاحم وبشرة أنصع من بياض العاج وقد جعلتها شمس البحر كأنما أشربت بماء العسجد .. وكان صدرها النافر يطل من الشباك .. كأنه يود أن يرتمى فى الماء ليبترد ..
     وفى كل ليلة كان يراها وهو عائد بمفرده إلى غرفته .. إنها كانت دائما هناك .. بصمتها وسكونها .. وعيناها المفتوحتان تحملق فى البحر .. كأنها تترقب أحدا على سفينة ..
     وكان يتصورها وحيدة فى مسكنها ثم رأى فى داخل الشقة سيدة أخرى مسنة .. قريبة الشبه منها .. وعرف إنها أمها .. وكانت السيدة العجوز .. تقوم بكل أعمال البيت .. وتركت الشابة الجميلة تنعم بمنظر البحر ..
     وفى أمسية من أمسيات الخميس رأى رجلا سمينا يفتح شقة السيدة بمفتاح فى جيبه .. وكان قصيرا مربوعا .. غليظ العنق ضخم الكرش .. وله وجنتان منتفختان وعينان ضيقتان ..
     ورآه يخرج مع السيدة فى صباح الجمعة وينطلقان فى اتجاه البحر ..
     وعرف إنه زوجها ويشتغل فى شركة السكر بالحوامدية .. وإنه مستأجر هذه الشقة خالية طوال العام بإيجار رخيص .. وتبقى زوجته ومعها أمها فيها إلى منتصف أكتوبر .. ويزورهما هو كلما سمح له عمله ..
***
     واستمرت هذه العلاقة الصامتة بين سليم وبين جارته التى دلته على الغرفة مدة شهر بطوله .. دون أن يتبادلا كلمة واحدة .. إلى أن حدث أن كانت والدتها فاتحة باب الشقة وواقفة فى مدخل البيت .. تتحدث مع جارة لها فدفع الهواء الباب فإنغلق ..
     وكان المفتاح بالداخل .. وسعديه أبنتها فى الخارج .. فذعرت الأم وحارت ماذا تفعل .. وجاءت سعديه وعرفت الخبر ووقفت بجانب أمها تفكران فيما تفعلانه فى هذا الليل ..
     ودخل سليم من الباب ورأى ما هما فيه من حيرة وارتباك .. فكان هو المنقذ .. وأخذ يعالج الباب الخارجى ولكنه استعصى عليه .. فاضطر أن يتسلق من نافذة المطبخ الداخلية المطلة على المنور ودخل الشقة وفتح لهما الباب ..
     ودخلت السيدة سعديه ووجدته واقفا أمامها .. وظل واقفا فى ردهة بيتها لحظات وهى تتأمله وجها لوجه ، ولأول مرة تراه بقامته الطويلة وصدره العريض وجسمه المفتول .. ولأول مرة تسمع صوته الخشن .. وأشاع هذا كله الأضطراب فى أعصاب المرأة الشابة ..
      وأخذ منذ حادث الباب يبادلها التحية وهو خارج من البيت وراجع إليه .. وكانت ترد عليه فى ابتسامة ناعمة ..
     وإذا سمعها تنادى على بائع من النافذة .. خف سريعا إليها وعرف ما تطلبه وحمل إليها الأشياء بنفسه إلى داخل الشقة .. وانصرف على الفور ..
     وكانت تتمنى لو بقى ليحادثها قليلا فإنها كانت تشعر بالوحدة المرة .. رغم وجود أمها معها .. ولكنها كانت تتوق إلى محادثة رجل .. محادثة رجل له لطف وإيناس هذا الشاب .. لينسيها متاعبها مع زوجها .. ويدخل السرور على قلبها .. فإنها منذ تزوجت وهى فى خلاف ومنازعات معه ..
     وفى الفترة القصيرة التى يأتى فيها لمدة يوم أو يومين يمرضها بسوء معاملته حتى ملت عشرته وكانت تبقى فى الإسكندرية إلى منتصف أكتوبر أو نهايته وتدفع إيجار الشقة من إيرادها الخاص .. لتكون بعيدة عن بيتهم فى الحوامدية ولتريح أعصابها أربعة شهور كاملة ..
     وكانت لا تحب الإختلاط .. وتتوق إلى الوحدة .. لتتأمل نفسها .. وتتأمل ما حولها .. ولكنها أحست بحاجتها إلى محادثة رجل .. تحادث أى إنسان له لطف وإيناس سليم ..
     ولكن سليما لم يكن يبقى إلا لحظات .. ثم يمضى .. يشيع فى نفسها الاضطراب ثم ينسحب بهدوء ..
     وكانت ترقبه وهو يمضى بجسمه الفارع .. ولم تكن تدرى ما الذى يعمله على التحقيق .. فسنه أكبر من سن الطالب .. ولكنه لا يشتغل .. يبدو متعطلا لا عمل له ..
     فهى تراه يعود إلى البيت مرة فى الظهر ومرة فى العصر .. ومرة بعد منتصف الليل .. لم تكن له مواقيت إطلاقا .. فهو من غير شك متعطل .. وأعجبت به لأنه متعطل وإنه ينطلق على هواه .. وكانت تود أن تنطلق مثله وتذهب إلى كل مكان .. وفى محبسها كانت تشعر بالتعاسة .. وفى خلال تسعة أعوام من الحياة الزوجية كانت تشعر بالكآبة .. لم يضحك قلبها فى خلالها مرة واحدة ولم تتفتح براعم نفسها لكلمة حلوة نطق بها الرجل الذى ارتبطت به .. وحتى عندما يجئ إلى المصيف وفى خلال الأيام القصيرة التى يقضيها معها كلما فرغ من عمله .. كان ينكد عليها عيشتها ويثور فى وجهها كالزوبعة محملة بالتراب والهباب ..
     وذات مساء وكانت سعديه ساهرة تطل من وراء النافذة إلى البحر والكورنيش .. رأت سليما عائدا وحده وكان يمشى متثاقلا ويبدو حزينا .. مثقلا بالهم على غير ما رأته من قبل .. وأحست بالعطف عليه وإنها يجب أن تشعره بعطفها .. فحملت له طبقا من الحلوى صنعته بنفسها ..
     وتناول من يدها الطبق وهو ينظر إلى عينيها وشعرها وصدرها والعطر الأنثوى من جسدها ..
     وكانت تود أن تخرج هاربة بالسرعة التى دخلت بها .. ولكنه أشار إلى الكرسى لتستريح فى حجرته الصغيرة ، فلم تجلس ووقفت تحادثه .. وتنظر إلى عينية وشبابه وخلوته فى تلك الغرفة الصغيرة بعيدا عن الأنظار ..
     وحدثها عن بلده وعن رسوبه فى الإمتحان وعن سبب مجيئه إلى الإسكندرية .. ولكنه كتم حادث السرقة ..
     وشعرت المرأة بعد حديثه بعطف أكثر عليه ..
     وسألته بحنو وبساطة :
     ـ وكيف تعيش .. ؟
     ـ معى بعض النقود وسأبحث عن عمل ..
     ـ هل تشتغل فى شركة السكر .. ؟
     ـ أين .. ؟
     ـ فى الحوامدية .. سأحدث زوجى ..
     ـ لا .. لا تحدثيه بشأنى .. سيسألك ما علاقتك به .. هل هو قريبك .. وستجرين على نفسك المتاعب ..
     ـ سأقول إنه جارنا ..
     ـ أن هذا لا يكفى .. أرجوك .. لا تسيئى إلى نفسك ..
     ونظر إليها فاحمر خداها والتهبا ..
     وازداد عطف المرأة على الشاب لما علمت بسوء حظه .. وفتحت صدرها له .. وأستغل الشاب تلك المعاملة الكريمة فأخذ يتودد إليها ويحادثها فى رقة ..
     وكلما رأته أرتعشت ثم تنظر إليه نظرة غريبة ..
     رآها أمامه ساكنة تحدق فى وجهه وتود أن تقول له شيئا ولكنها تعجز عن النطق به ..
     إنها كانت هناك دائما فى نافذتها ترقبة بصمتها ..
***
     وفى ذات ليلة .. عاد متأخرا .. وكان مغموما وقد أحس بنقوده قاربت على النفاد .. وازداد غما أنه غازل امرأة تسير وحدها فى طريق الكورنيش فردت عليه بغلظة وقالت له :
     ـ امش يا جعان .. واشتر لك قميصا قبل أن تغازل ..
     وشعر بطعنة كالخنجر ..
     لقد ردته المرأة إلى واقعه .. وسيجوع فعلا ولا يجد ثمن القميص .. وارتعش بدنه لهذا الخاطر ..
     ورأى سعديه كعادتها جالسة قرب النافذة ووجهها إلى البحر ونظرها إلى الفضاء .. وراقب خيال أمها فى داخل الشقة فلم يره .. فأدرك أن العجوز قد نامت ..
     وظل واقفا على الحاجز ينظر إلى البحر .. وفكره مع المرأة التى طردته بقسوة .. والمرأة التى خلفه هناك على بعد خطوات منه .. وأخذ يدخن .. أن أفتقاره إلى المرأة ألهب حواسه .. ورآها تنظر إليه تراقبه من بعيد .. كأنها تناديه ..
    كانت خصائل شعرها محلولة .. وثوبها الفضفاض أشبه بقميص النوم، واسع العروة قصير الأكمام يداعبه هواء الليل ويترك جسمها ينطلق على حريته ..
     وبصر بذراعيها العاريتين تسحبان دلفتى النافذة إلى الداخل ..
     وبعد لحظات أنطفأ نور الغرفة فأدرك أنها دخلت الفراش ..
     وظل يروح ويجئ فى مكانه فى خط واحد كأنه يقيس أبعاد الأرض بقدميه .. وكان البحر يهدر بجانبه ولكنه لا يسمع هديره كأن حسه كله هناك فى الغرفة التى أظلمت منذ لحظات ..
     وقد الهبت حواسه الرائحة المنبعثة من البحر .. وتخيل العطر الأنثوى ، من جسد المرأة فظل فى مكانه شاردا لا يطرف .. ثم تحرك فى اتجاه الكازينو ووجده ساهرا وكان يود أن يجلس هناك ليشرب شيئا ، ولكنه أحس بقلة النقود فى جيبه وهو فى حاجة إلى الطعام أولا ليعيش ويتحرك ، فظل يمشى على البحر ..
     ولما ارتد إلى مسكنه كانت الساعة تقترب من الأولى صباحا .. وفتح خياشيمه لليل وهواء البحر .. وعندما دخل من الباب لم يتجه إلى غرفته وإنما ظل واقفا فى ردهة البيت ، وعيناه تبرقان فى الظلام ..
     وكما يفعل اللص تماما، اتجه إلى المنور وإلى مطبخ السيدة وعالج النافذة الصغيرة سريعا ، ثم علا وقفز منها إلى داخل الشقة وظل قابعا فى الظلام ملتصقا بالحائط حتى يتبين أن سعدية تنام وحدها .. وبعد دقيقة واحدة رأته بجانب فراشها .. وكانت متيقظة فى خوف كأنها تتوقع منه هذه الحركة .. فلم تصرخ وردت الباب حتى لا تسمع أمها أى حس .. كان الخوف يشل كل حركة لها ..
***
     وعندما خرج متلصصا كما جاء ، لم تسرح شعرها المنفوش ولم تسو طيات ثوبها .. كان عقلها يود أن يبقى الأثر إلى الصباح ..
     وفى الليلة التالية جاءها متسللا من المنور ، فلم ترده ولم تصرخ .. وظلت العلاقة بينهما أشبه بمد البحر .. ظل البحر يحملهما على موجه .. ويدور بهما مع مهب الريح العاصف ..
***
     ولم تعد سعدية تحسب حساب أمها النائمة فى الغرفة المجاورة أو تحسب حساب أى إنسان آخر .. أنطلقت مع أنوثتها كأنما مسها السعار ..
     وكانت سعدية تشعر بأنه جائع ومحروم وعاطل ، وإليها يلقى به موج البحر .. كما يحمل موج البحر العشب الميت والعفن إلى الساحل ولكنها لم تكن تشتم العفن ولا تراه .. كانت تعيش بحواسها المخدرة ..
     وذات ليلة لمح وهو يسوى شعره ساعتها فى غرفتها على منضدة الزينة .. فوضعها فى جيبه بهدوء ..
     وعرفت فى الصباح إنه سرقها .. ولكن لم تحدثه قط ..
ولما جاء زوجها وسألها عن الساعة قالت له إنها سقطت من يدها فى الترام دون أن تشعر ..
     ومر الحادث بسلام .. وكانت تعرف أن سليما باع الساعة ليأكل بها .. فأخذت تعطيه النقود بسخاء دون أن يطلب منها ذلك ..
     واستمرأ هذه العلاقة ولم يعد يفكر فى العمل أو فى أى شىء آخر ..
     وكان فى الساعات التى ينفرد بها فيها .. ويحسان بالخلوة وأن العالم لهما وحدهما يحدثها عن عواطفه وما ينطوى عليه صدره ..
     وحدثها عن والده وكيف كان يدللـه وهو صغير حتى فسد ثم أصبح يخافه خوفه من الموت لأن التدليل والحنان انقلبا فى يوم وليلة إلى قسوة وحشية وأصبح يضربه بقسوة بالسوط ..لأدنى سبب ..
     وقال لها معللا فشله ..
     ـ ومن الخوف من أن يضربنى بالسوط .. رسبت فى الإمتحان .. ومن الخوف من سوطه فشلت فى كل خطوة فى الحياة .. وجاء أخيرا الرجل الذى ضحك على وأخذ منى كل ما معى من نقود ليوظفنى .. وكنت وأنا صغير أود أن ألقى بنفسى فى ماء النيل وأستريح من كل عذاب .. ولكننى عشت معذبا وأنا أكتم كل أحاسيسى فى نفسى ..
     وجئت إلى هنا طريدا لأجد عطفك ..
     وأمسك بيدها ..
     ـ لا تفكر فى شىء ..
     قالت هذا بعذوبة ..
     ودفن رأسه فى صدرها .. وأخذ يبكى ..
***
     ومنذ تلك اللحظة أصبح لا يمر يوما دون أن يلتقيا ولكنها كانت تتجنب السير معه على سيف البحر وتحسب لذلك ألف حساب ..
     أما إذا أرخى الليل سدوله وهدأت الكائنات فإنها كانت تتوقع قدومه إليها فى كل لحظة فى منتصف الليل وفى أخرياته وقبيل الفجر فى كل الحالات كان يأتى وتتلقاه بخوف .. فإنها فى كل لحظة كانت تتوقع إستيقاظ أمها أو عودة زوجها من السفر فجأة ولهذا الخاطر كانت أعصابها تشد كما يشد الوتر على الكمان ثم تسترخى وتروح فى مثل الغيبوبة بين ذراعيه وهى مغمضه عينيها .. وتظل العينان مغمضتين حتى بعد أن يتسلل إلى الخارج هاربا وتحس بلفحة الهواء البارد تهب على وجهها فى الفترة التى يفتح فيها الباب.. ويمضى كالسهم وفى خلال أربعين يوما أحست تماما بأنها قد رجعت إلى طاحونة جدها الشيخ عبد الفتاح عندما كانت تذهب مع الخادمات لطحن القمح وتجلس بجانب « الكادوس » وترى الحجر الثقيل يلف والحب يتساقط ويدور تحت الرحى فى مثل الدوامة ..
     وكانت تشاهد هذا المنظر والجعجعة تصم أذنيها والصداع يمزق راسها ..
     ولكنها مع ذلك كانت فى كل مرة تذهب وهى منتشية ..
وقد رجعت الآن إلى الطاحونة وفى كل مرة ينتابها الصداع من الخوف ومن وقع المفاجأة .. ولكنها لا تستطيع غلق الباب لأنها وقعت تحت سيطرته تماما ..
     وقد جعلها الإحساس الغريزى تفكر فى أن تضع الغطاء على رأس أمها وهى نائمة إلى الحد الذى يكتم أنفاسها وعجبت أن يسرح بها التفكير إلى هذا الحد .. ولكنها كانت تسير بقوة لا تستطيع ردها ..
***
     وهبت ذات ليلة من نومها مذعورة على حلم مزعج .. فقد حلمت أن زوجها يخنقها فى الفراش وهى تصرخ وجاءت أمها على صراخها وخلصتها من قبضته ..
     وفتحت عينيها فوجدت أمها على السرير ..
     ـ مالك يا بنتى .. ؟
     ـ لا شىء .. يا أماه .. كابوس .. وقد ذهب ..
     وظلت أمها فى الغرفة ولكنها تضايقت من وجودها :
     ـ أريد أن أنام يا ماما .. اتركينى أرجوك ..
     وتكورت .. دون أن تضع الملاءة الخفيفة على جسمها ..
وبعد ساعة فتح زوجها الباب ودخل .. وظنها نائمة .. فخلع بذلته وتمدد بجوارها دون أن يوقظها ..
     وغفى الزوج .. ثم تنبه على سقوط شىء على الأرض .. وظن قطة دخلت من نافذة المطبخ لتلعق بقايا الطعام .. ولكنه لما حرك عينيه ونظر فى الظلام رأى شيئا يقترب من غرفته ..
     فنهض من الفراش سريعا .. وجرى الشبح فى الصالة ولكن الزوج أمسك به وتصارع الرجلان فى الظلام صراعا رهيبا فى صمت دون أن يتبادلا كلمة واحدة وكل واحد منهما يضرب رأس الآخر بكل ما يقع تحت يده ..
     وأخيرا سقط الزوج صريعا مضرجا بدمه ..
     ووقفت الزوجة وأمها تصرخان فى قلب الليل الساكن وفر الرجل الآخر.. فر سليم لا يلوى على شىء وهو يعدو عدو المجنون وقميصه ممزق ملطخ بالدم .. ولما وجد ثغرة فى سور الكورنيش قفز إلى البحر وغاص بحذائه فى الماء وظل يبتعد عن الشاطئ وهو يبحث بيديه وقدميه عن حفرة تحتوى جسمة كله ..
     وسمع صفارة تزعق .. ورأى الناس يجرون على الساحل ويقتربون منه .. على شكل حلقة .. ولكنه لم يعد يخافهم فى هذه اللحظة فقد قطع السلسلة التى كانت تربطه بهم وبالحياة ..
     وقد راح فى الدوامة ولم يعد يدرك ما حوله .. ولا يحس بأى شىء على الإطلاق ..
================================   
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة بالعدد 1403 بتاريخ 13/9/1961وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963 
=================================
الشيطان

كان المقهى الوحيد فى القرية وكان يقع فى الناحية الشرقية قريبا من الجسر .. وملاصقا لبستان مهجور .. كان فيما سلف من الأيام من أنضر البساتين .. كان فيه من أصناف البرتقال والعنب والرمان كل لذيذ ومستطاب .. ثم اجتثت أشجاره من فوق الأرض .. وعفى عليها الزمان وبقى النخيل وحده قائما يتمايل مع الريح .. وأعطت جذوعه الطويلة الشاحبة جوا من الكآبة المقبضة للمكان يحس بها العابر فى الليل والنهار ..
ولكن وجود المقهى كان يخفف من وقع هذه الرهبة .. فقد كنت تجد فيه دوما بعض الجالسين من أهل القرية .. ومن الغرباء الذين يفدون عليها فى موسم المحاصيل الزراعية ليتسوقوا حاجاتهم من نتاج الأرض .. وتلقى بهم " المعدية " فى " الموردة " .. أو ينزلون من " الحلزونة " هناك على الطريق المترب فى خط السيارات الكئيب ..
وكانت أمسية من أماسى الخريف .. هبت فيها الريح لينة بعد الغروب .. وزحف الغسق ثقيلا فأضىء " الفانوس " الوحيد المعلق فى سقف المقهى .. وألقى ضوءا شاحبا على المكان وظهر الهباب ونسيج العنكبوت أول ما ظهر فى دائرة السقف ..
ثم ظهرت المناضد الخشبية العارية فى الوسط وحولها الكراسى من القش والخيرزان موضوعة فى غير نظام .. وعلى الجوانب دكتان طويلتان ومقاعد مفردة .. وبجوارها مناضد صغيرة خفيفة الحمل ..
وكان المقهى مستطيلا له كوة علوية وباب واحد تصعد إليه ثلاث درجات على الطريق .. ومبنيا بالطوب الأسود .. ولكن صاحبه طلاه بالجير من الداخل والخارج وزينه بالنقوش البدائية على قدر ما استطاع نقاش القرية وتحركت فرشاته .. فبدت رسوم فى الحيطان باللون الأزرق الصارخ تمثل المراكب الناشرة قلوعها والسباع المتحفزة للوثوب على فرائسها .. وخط طويل فى ذيل الجدار يصور أبا زيد الهلالى متأهبا للمعركة ..
وكان رمضان صاحب المقهى رجلا متوسط الطول يميل إلى السمنة قليلا فى السابعة والأربعين من عمره .. وكان يعمل من قبل فى النيل .. كان من أصحاب المراكب التى تنقل الغلال والعسل والقطن والتبن من الإسكندرية إلى أسوان .. فلما ظهرت الصنادل والوابورات النهرية وأصبح مركبه مستهلكا ولا يقوى على المنافسة .. باعه واختار المقهى ..
واكتسب من السفر والتنقل فى البلاد خبرة واسعة وعرف كيف يتعامل معهم ويقضى حاجته منهم كما عرف من كثرة تردده على القاهرة والإسكندرية كيف يزين مقهاه ويأتيه بالراديو .. وأدوات القهوة والشاى والتنباك والبن من مصادرها بأسعار رخيصة ..
كما كان يأتى لأهل القرية بالمسكنات والعقاقير المجهزة من بلاد بعيدة فاكتسب شهرة عريضة ..
وكان رواد المقهى من الفلاحين الذين يشقون فى الحقل فى النهار فيجدون الراحة والمتعة فى الاستماع للراديو فى الليل وشرب الشاى الأسود ولعب الدومينو .. أو من تجار الغلال والماشية العابرين الذين كان من السهل عليهم أن يتبادلوا البيع والشراء فى المقهى ..
ومن الرواد من كان يجلس ساكنا يسبح مع خواطره .. ومنهم من كان يرفع عقيرته كأنه فى السوق .. فكان رمضان يخفف من هياجهم ويسكتهم بالكلمة الحلوة والابتسامة الناعمة ..
وعلى الرغم من رداءة موقع المقهى .. ووحشة الطريق إليه .. فإنه كان المكان الوحيد فى القرية .. بعد المسجد الذى تتلاقى فيه الوجوه .. وتفيض فى أرجائه النفوس بالرغبات المكبوتة والأحلام وأمانى المستقبل ..  فهناك يأخذ الفلاحون فى الحديث عن شئون معاشهم وأحوال زراعتهم .. عن السماد والبذور والقطن .. ومحصول القمح والذرة والبصل والشعير وأسعار الماشية .. والغلال فى السوق .. وعن الغيطان التى أهلكها المن وأكلها الدود والتى بورك فيها فأتت بأجود المحاصيل .. وعن الذين يمرضون ويموتون فى بيوتهم وتأكل أكبادهم البلهارسيا .. والذين يذهبون إلى المستشفيات فلا يلقون أية عناية على الاطلاق ولا يحفل بهم أحد ماداموا فى الدرجات المجانية ..
وعن الذين يقتلون ويقاتلون فى ظلام الليل أخذا بالثأر أو انتقاما للنفس والعرض ..
وعن الذين يركبون المخاطر للسطو والنهب فى غلس الليل ومنهم من يصل إلى بغيته ومنهم من يرتد على عقبيه خائبا مدحورا ..
كان الحديث متصل الحلقات وفيه طرافة وإن كان معادا ومكررا فى كل ليلة ..
وكانوا يتحدثون عمن يحبونهم باعتزاز وفخر .. يزيدون نتاج أرضهم ومقدار محاصيلهم أما الذين يكرهونهم فكانوا يتناولونهم بالسخرية اللاذعة ويخفضون محاصيلهم حتى لا تأتى زراعتهم إلا بالقليل أو لا تأتى بأى شىء على الاطلاق ..
***
وفى الهزيع الثانى من الليل .. تخطى العتبة شاب مسلح فى الثامنة والعشرين من عمره طويل أغبر السحنة ضيق العينين وفى صدغه جرح غائر وكان يرتدى جلبابا داكنا وحذاء أحمر من جلد البقر .. وعلى رأسه لبدة حمراء .. ودار ببصره سريعا فى أرجاء المقهى ثم جلس وهو يلقى تحية عابرة على الموجودين ناصبا قامته ومرسلا عينيه إلى الخارج .. وأراح البندقية السريعة الطلقات بجانبه ثم طلب فنجانا من الشاى وأشعل سيجارة وأخذ ينفض رمادها بحركة رتيبة من يده .. وكان من يقع بصره عليه فى مجلسه .. يدرك مقدار زهوه بنفسه .. وصلفه وغروره والجهالة التى تغشى عينيه وتملأ فراغ رأسه .. والواقع أن فى أعماقه كانت تدور أشياء كثيرة .. أكثر من فورة الشباب ووفرة الصحة واحساسه بالقدرة على أن فى استطاعته أن يحصل على كل ما يريد بقوة ساعده ..
وتحركت عيناه فى كل اتجاه وهى تخترق حجب الظلام فى الخارج .. وظل مسددا بصره وهو يسمع بأذنيه كل حركة ..
وكان رمضان صاحب المقهى يراقب هذا الشاب من مكانه منذ جلس ووضع البندقية بجانبه ..
وكان دياب يأتى فى بعض الليالى إلى المقهى بصفة غير منتظمة يشرب الشاى ثم يمضى لطريقه .. وكان شريرا شديد البطش ومعروفا بغدره .. ومنذ قتل أبوه غيلة وهو يحمل فى صدره الحقد والضغينة على الناس أجمعين .. وشب ليقتص وينتقم ويقتل قاتل أبيه .. واستلذ صوت النار وأخذ يقتل ويسرق دون حساب ودون غاية وكان كلما قبض عليه يخرج من السجن لأنه لا أحد يجرؤ على الشهادة ضده .. خوفا من بطشه .. ولا أحد رآه وهو يفعل فعلته .. فينهار ركن الجريمة ويخرج وهو أشد ضراوة مما كان ..
***
وأخذت الريح تزداد هبوبا فحركت فروع الأشجار وخفت الأرجل فى الدرب .. ولم تكن المقهى تتوقع أى قادم جديد بعد هذه الساعة .. وبدأ النعاس يزحف على الجالسين ..
وبدأ ظل الليل يزحف على القرية بظلامه ووحشته .. وظهرت الوحشة واشتد نباح الكلاب كلما أوغل الليل .. وقل نفس الناس فى الدروب ..
ونظر دياب إلى صبى المقهى الذى أخذ يداعبه النعاس .. وقال له :
ـ هات لى شايا يا حسانين ..
والتفت إلى الداخل وهو يضيف :
ـ تقيل .. شوية .. يا معلم رمضان ..
ـ حاضر ..
وعمل له صبى المقهى فنجان الشاى ..
وجلس دياب يشرب الشاى فى صمت ووجوم ..
***
تحرك شىء كالشهاب فى السماء ثم بدا نور أحمر على الجسر .. نور سيارة تخطف خطفا فى الليل المعتم ..
وكانت الكلاب تنبح فى الناحية الشرقية من القرية كأنها تطارد أشباحا جديدة .. ظهرت فى البساتين ..
ثم عاد السكون قليلا والظلام أشد وقعا على النفس ..
ومر على باب المقهى عابر لم يكن يتوقع مروره أحد فى هذه الساعة .. مر الصراف يرافقه الخفير يحمل له دفاتره .. وقال الصراف وهو واقف فى الظلام فى الخارج :
ـ تسمح بكوب من الماء البارد يا معلم رمضان ..
ـ حاضر .. تأخرت الليلة يا عم خير ..
ـ أتعبنى الفلاحون كما تعرف .. وفاتتنى سيارة مرت الآن على الجسر .. وأرسلت حمدان ليوقفها ولكنه نام فى الطريق ومرت السيارة قبل أن يوقفها أحد .. أفيون .. تصور العمدة .. لم يجد غير حمدان آكل الأفيون ليرافقنى ..
ـ تفضل استرح ..
ـ لا يمكن .. لا بد من الرواح الليلة للبندر .. التوريد بكرة .. ومعى ألفا جنيه تحصيلا .. لا بد من توريدها ..
ـ تفضل العشاء ..
ـ شكرا .. زهرة أعدت لى لقمة بسيطة فى بيتها  .. وأرسل لى الشيشة هناك .. نتسلى بها إلى أن تأتى السيارة التى طلبتها بالتليفون من البندر ..
ومشى رمضان مع الصراف حتى دخل بيت زهرة ..
وكان دياب لا يزال فى مكانه من المقهى .. وعينه وسمعه إلى ما يجرى فى الخارج .. وبدا أكثر قلقا ..
وأشعل سيجارة ..
وأزاح اللبدة قليلا إلى الوراء ثم عاد فسواها ..
وكان رداءه الأسمر جديدا ويبدو كأنه خارج لتوه من يد الخياط .. وقد زاد الحائك من اتساع عروة الصدر وضيق من الأكمام فبدا الجلباب كزى أهل السواحل ..
وحرك عينيه عن يمين وشمال ثم خرج متجها إلى بيت زهرة .. ولكنه وقف على الباب لم يدخل واتخذ طريق الجسر ..
وكان بيت زهرة .. على ناصية الدرب .. وفى طرف البستان المواجه للمقهى وكانت قد خرجت منذ ساعة تضع الحب للدجاج فى الحظيرة وتتفقد النعجات .. ثم عادت إلى مجلسها من مدخل بيتها .. والريح تحرك سعف النخل وأوراق شجرة النبق القائمة بجوارها ..
وكانت الظلمة تلف كل شىء والسكون عميقا وكان يقطع هذا السكون نباح الكلاب فى الدروب من حين إلى حين ثم ينقطع صوتها ويخيم السكون من جديد ..
وتحركت زهرة إلى سطخ بيتها وتطلعت فرأت قلاع المراكب بيضاء تنتفض فى جوف الليل .. وكانت المراكب من قبل جزءا من كيانها ووجودها .. فقد كان زوجها نوتيا فى النيل ثم " تغرب " وكان يذهب ويعود إليها بعد شهر .. بعد سنة .. وتنتظره فى كل مرة بلهفة الأنثى وهى تترقب عودة رجلها .. ثم أقصر فى الزيارة وعلمت أنه تزوج من " بحرى " وحز الخبر فى نفسها ومزق أعماقها فقد كانت جميلة ومطمع أنظار الشبان فى القرية .. فلماذا يتزوج عليها ويؤذيها فى أنوثتها ويطعنها بغدر .. وأخذت تتلقى الغمزات من القرويات الحاملات البلاص .. والمارات من تحت بابها وتدفن الألم فى نفسها وتود أن ترى زوجها لتغرس أظافرها فى لحمه ولكنه مات فى " الغربة " وحزنت عليه وبكت بحرقة رغم كل ما جرى منه ..
وبعد موته بسنة كانت تطمع فى الزواج لأنها جميلة ولكن لسوء حظها لم تتزوج وظلت أرملة ..
وكانت فقيرة وتود أن تجد شيئا تتكسب منه لتعيش .. وكان بيتها فى الطريق إلى " الموردة " ..
وكان " النوتية " يسرقون حاجات السلطة فى زمن الحرب من " الصنادل " ويبيعونها بأرخص الأسعار ..
وكان الذين يشترون منهم هذه الأشياء يبيعونها لأهل القرية والقرى المجاورة ويكسبون كثيرا فباعت زهرة قطعة حلى لها وأخذت تشترى منهم هذه الأشياء وتبيعها ..
وكسبت وعاشت مستورة ..
***
وذات غروب قرع شيخ الخفراء بابها .. وأطلت مذعورة ..
وقال الرجل بوجه جامد وهو يدخل من الباب والبندقية على كتفه :
ـ مساء الخير يا زهرة ..
ـ مساء الخير يا أبو حسن ..
ـ سمعت خبرا .. آلمنى ..
ـ خيرا إن شاء الله ..
ـ أنك تتاجرين فى بضاعة السلطة العسكرية الإنجليزية ..
ـ أنا ..
واحمر وجهها ..
ـ أجل .. وصابر ورسلان .. شاهدان عليك ..
ـ أبدا .. لا تصدق ما يقوله الناس .. إنهم ملاعين ..
ـ يا زهرة .. حرام .. تؤذين نفسك وأنت وحيدة مسكينة ..
وفحص بعين الصقر المكان ثم صعد إلى الرواق وأغلقت الباب وصعدت خلفه وهى ترتجف ..
ودار ببصره يتفحص القاعة .. ونبش فى كل الأشياء المستوردة ثم نبش فى صومعة للغلال .. وأخرج منها أشياء كثيرة من المسروقات واصفر وجه المرأة .. وقالت بضراعة :
ـ فى عرضك ..
وأمسكت بثوبه .. وركعت على الأرض .. ونظر الرجل الجسور إلى عينيها الباكيتين المتوسلتين وإلى منديلها المطرز بالترتر على جبينها المتألق وأمسك بذراعها ورفعها عن الأرض .. وهى تزداد التصاقا به وضراعة ..
ـ فى عرضك ..
ـ طيب يا زهرة من أجل خاطرك .. هذه المرة سماح ..
وقبلت يديه .. وتركها وخرج من بيتها ..
ولكن فى نفس الليلة قرع بابها مرة أخرى .. وكانت تعرف هذه المرة لماذا عاد .. عاد ليأخذ ثمن سكوته .. وأغلق الباب وراءها وألقاها على الحرام ..
واستجابت له وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة .. لتشعر بالأمان ..
ومنذ تلك اللحظة أصبحت عشيقته .. وأخذت تتصرف كما يحلو لها ..
وعرفت القرية أمر هذه العلاقة .. وكان هناك من يود أن يتقدم لزواجها ولكنه تراجع ولم يجرؤ لما علم أنها معشوقة شيخ الخفر ..
وأصبحت عشيقة شيخ الخفر وحده .. فلما مات كانت قد بلغت الأربعين من عمرها ولكنها ظلت محتفظة ببعض جمالها .. وظلت مطمع الرجال .. ولكن كانت لها شخصيتها .. فلم تكن رخيصة ولا مبتذلة ..
وكان دياب يمر على بابها عابرا يطلب جرعة ماء .. ثم أصبح يتودد إليها .. ثم أصبح يجىء عندها فى آخر الليل بعد جولاته الليلية .. ينام إلى الصباح .. ولا يحس به أحد ولا تراه عين .. بعد أن تعشيه وتؤانسه وأحبته أكثر من أى رجل .. مع أنها كانت تعرف أنه شقى ومطارد .. ومع ذلك ظلت تحبه ..
وكانت بطبيعتها نظيفة تكنس البيت وترشه وتهىء المكان المريح للرجل .. وبيتها أول بيت يستقبل القادم للقرية كما كان آخر بيت للخارج منها ..
وكان الصراف بعد أن يؤدى عمله فى القرية وهو يسكن فى " البندر " .. يجلس عندها لأنه يجد كوب الشاى الجيد والمصباح المضىء الذى يراجع على ضوئه دفتر اليومية وورد المال ..
وكانت المرأة التى تحب الشباب وتبحث عن الرجل القوى .. تجد ايناسا فى حضرة الصراف العجوز .. كان الرجل قد اقترب من الستين .. بطربوشه الطويل الأحمر وجاكتته على جلبابه الأبيض الزاهى ..
كانت زهرة تستريح إلى وجوده وتشعر بالأمان فى حضرته .. وكانت تستريح إلى نغمة صوته وهو يراجع حساباته بصوت عال ..
وعندما يجىء أحيانا فى العصر ويدخل بيتها مستأذنا ويجلس على الحرام فى المجاز ويطلب فى وقت الصيف كوب ماء المروق من الزير المقام فى  مهب الريح فى المكان الظليل ..
كان هو نفسه يشعر بانتعاش وحيوية ويطلب من الخفير أن يجىء له بالفلاحين المطلوب منهم المال .. ويشرعون فى الزعق وهم يحاسبونه على مطلوباتهم .. لم تكن زهرة تضيق بهم ذرعا أبدا من أجل خاطر الرجل ..
كان الفلاحون فى جذب وشد معه .. ليس فيهم من يدفع دون معاركة كلامية أبدا .. وكان الرجل واسع الصبر ويقابل عراكهم بالبسمة واللين ويأخذ منهم الأموال باللطف والحيلة بطريقة ناعمة .. وقد اعتاد على زعقهم .. ولم يكن ذلك يعوقه عن أداء عمله أبدا ..
ولم يكن ـ وهو يعرف أنهم أميون لا يقرأون ولا يكتبون ـ يزور أو يضيف حساب رجل إلى مطلوبات رجل آخر .. كما يفعل سواه .. بل كان أمينا ونادر الوجود فى أمانته وعمله ..
وكان معظم الفلاحين فى القرية يحبون الرجل لأنهم ذاقوا الويلات من سلفه .. من الذى كان يضطرهم لدفع المال مرتين .. ومن الذى كان يطلب الرشوة .. إذا حرر استمارة بنك التسليف للسلفة أو السماد أو التقاوى ..
ودخل الصراف بيت زهرة هذه الليلة مبتسما رغم تعبه وارهاقه فى العمل .. وقال :
ـ العشاء .. يا زهرة ..
ـ حالا ..
ـ خلاص لن تتعبى منى بعد .. هذه آخر ليلة فى بلدكم ..
ـ لم .. كفا الله الشر ..
ـ المعاش ..
لا زلت فى نظرى شابا ..
ـ ولكن السن .. رفضوا أن يمدوا لى سنة واحدة .. قالوا الشباب كثير .. غيرك يبحث عن قوته .. وأنت أخذت دورك فدع غيرك يأخذ دوره .. ولهم الحق ..
والحمد لله .. ربيت أولادى جميعا .. واستطاعوا أن يقفوا على أرجلهم ..
ـ كم عندك من الأبناء يا عم خير ..؟
ـ ستة أولاد ..
ـ ما شاء الله ..
ـ والبنات ..
لم أخلفهن قط .. وكذلك كان والدى .. لقد خلت خلفتنا من البنات ..
وبرقت عيناه سرورا .. وأدركت سر سروره فإن معظم الرجال لا يحب خلفة البنات ..
وجاءت النرجيلة للعم خير فطوى دفاتره وأخذ يدخنها ..
وكان الخفير الذى يرافقه .. قد جلس على الباب .. وأخذه النعاس والبندقية بين رجليه ونظر إليه الصراف وابتسم وهو يقول لزهرة :
ـ سرقوا منه البندقية ثلاث مرات .. وحوكم أمام المجلس العسكرى .. وفى المرة الرابعة سيفصل بإذن الله .. إنه الأفيون ..
ـ ضربة فى قلب عبد الموجود .. هو الذى علم الشباب أكل الأفيون فى البلد .. أنه يبيعه لهم بالأجل ..
ـ كان الفلاحون .. يزرعون الأفيون فى هذه المناطق بأيديهم ولا يأكلونه .. ولا يفكرون فى ذلك أبدا .. فلما حرم عليهم أصبح مستطابا .. هكذا الحياة ..
وصاح الصراف فى الخفير :
ـ أصح يا حمدان .. وكلم النقطة ترسل لى أى سيارة .. إذ يبدو أن عربة السائق توفيق فى مشوار آخر ..
ـ مروح الليلة يا عم خير ..؟
ـ ضرورى يا بنتى .. غدا التوريد .. وهذه آخر ليلة فى بلدكم .. أراك بعافية فى ملوى .. زرينا ..
ـ حاضر .. والنبى نفسى أرى ملوى ..
ـ أنا فى انتظارك هناك ..
وخرج الخفير يطلب السيارة .. وجلس الصراف مسترخيا .. يرقب النجوم من خلال السحاب الذى أخذ يظهر فى السماء ثم يتبدد ..
وكان القمر لم يطلع بعد .. والريح قد ازدادت هبوبا .. وخشيت زهرة أن يدخل عليها دياب فى هذه الساعة فيجد الصراف وحده عندها فتحدثه نفسه بالشر .. وظل هذا الخاطر فى ذهنها فشحب لونها .. كانت تحب أن يرجع الرجل العجوز إلى بيته فى أمان .. وظلت ترتعش خوفا حتى جاءت السيارة وركب الصراف وبارح القرية ..
***
وعندما فتح دياب عينيه من مكمنه حيث كمن للصراف عند القنطرة ليعترض طريق السيارة فى غلس الليل بسلاحه الرهيب ويسرقه .. وجد الصبح قد طلع والشمس تشع على الكون ووجد فى رأسه أثر المخدر .. ولم يحدث أن نام قط مثل هذه النومة وأحس فى عينيه بمثل هذا الثقل ..
وعرف أن رمضان صاحب المقهى قد وضع له المخدر فى فنجان الشاى الأخير الذى شربه هناك قبل أن يتحرك فى الليل ..
واستدار بغيظ شديد وهو يعرف أن الفرصة قد أفلتت منه إلى الأبد وأنه لايمكن أن يحدث نفس الشىء فى الحياة مرتين قط .. ورفع بندقيته .. وأطلق ثلاث رصاصات فى اتجاه المقهى أصابت كلهاالباب ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 69 الصادر فى أكتوبر 1962 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
========================  

      


العذراء والوحش

     كان الخواجة لمبو يملك فندقا جميلا على ترعة الابراهيمية قريبا من شريط السكة الحديد ..
     وكان للفندق حديقة مزهرة .. يجلس فى ظلها النزلاء بالنهار .. وفى الليل كانت تتحول إلى مرقص ..
     وكان لمبو يجلب لهذا المرقص أشهر الفرق الراقصة من القاهرة والإسكندرية وفيها أجمل الراقصات فى دنيا الفن ..
     وكان المكان يضيق على سعته .. بالعمد والأعيان والوجهاء من منطقة الصعيد كلها من حدود الروضة حتى سوهاج .. وكانت الأكف تضيق من التصفيق .. وأوراق البنكنوت من الفئات الكبيرة .. فئات العشرة جنيهات والخمسين جنيها تحرق تحت أنفاس الغانيات ..
     كان كل رجل ينافس غريمه فى ارضاء الغانية الأولى فى الفرقة .. البريمادونا .. ليفوز بها فى آخر الليل ..
     وكانت زجاجات الخمر .. تفيض من الكؤوس المترعة على الموائد والمفارش .. وعلى سجاد الأرض مختلطة بأعقاب السجائر ..
     وكان الدخان الذى يملأ سماء المكان يزكم الأنوف ويدمع الأعين ويهيج الصدور .. ويتحول إلى كثف من الضباب .. ولكن الجالسين فى المكان كان احساسهم متبلدا من فرط الصخب والضجيج .. فلا يحسون بهذا الاختفاق .. وما هو شر منه .. لأن كل شىء ينسى فى غمار الأجسام العارية التى كانت تتلوى .. وتتثنى على المسرح ..
     ويحدث فى كثير من الحالات .. أن تقف راقصة على حافة كرسى من الخيزران .. ترقص رقصا مثيرا .. وفى كل حركة بالبطن .. ولفتة بالعين .. وغمزة بالحاجب .. يتطاير طربوش .. أو تسقط لبدة على خشبة المسرح .. أو تتكور عمامة ..
     ثم يبدأ التنافس المروع على حرق أوراق البنكنوت ..
     ويخيل اليك وأنت تشاهد أوراق البنكنوت بالخمسين جنيها .. تمتد بها الأيدى لتشعل سيجـارة لراقصة .. لاتساوى مليما واحدا فى الآدميين .. انك تعيش فى مستشفى المجـاذيب .. ولكن هـؤلاء المجاذيب .. كانوا هم فى الواقع الحكام الحقيقيين للإقليم ..
     وكانت محادثة تليفونية بسيطة من واحد منهم .. تطير المدير .. ونظرة غضب تطيح بالحكمدار ..
     وكان الواحـد منهم يأتى إلى " البندر " فى موكب مسلح من العبيد ..
     فإذا رأى الراقصـة التى يشتهيها .. تجالس آخر .. أو تساقيه الخمر .. يتطاير الشرر من عينيه .. ويبدأ أمامها فى عرض جبروته وثروته .. بصورة مثيرة تثير الفزع حقا ..
     يأمر بصوت جهورى .. أن تفتح جميع زجاجات الويسكى .. وتوزع على حسابه على جميع الحاضرين .. ليموت غريمه من الغم ..
     أو يحـرق ثلاث أوراق من فئـة الخمسين جنيها لثلاث راقصات معا ..
     وكانت إذا اشتدت المنافسة وتحول الكلام إلى نار .. يتدخل الخواجة لمبو .. بلباقته .. وابتسامته .. ويوزع الغانيات .. على المتنافسين ..
     وكان الفندق يتحول فى آخر الليل .. إلى وكر رهيب للملذات ..
     وكان المال الذى يتدفق على لمبو .. يجعله قادرا على أن يغمض كل العيون ويخرس كل الألسنة ..
***   
     ثم هبت الريح العاتية .. وطار ورق الحديقة .. وعرى الشجر .. وقوض المرقص وانقطع العمد والأعيان .. وتحول الذهب إلى تراب .. وأصبح الخواجة لمبو لايستطيع أن يدفع أجر ثلاثة من الفراشين هم كل من بقى من العمال فى الفندق ..
     وفى خلال تلك الفترة العصيبة ، ماتت زوجته .. وتركت له بنتا وحيدة فى الخامسة عشرة من عمرها .. وكانت تتلقى العلم فى مدرسة أجنبية فى ملوى .. فلما انتهت من دراستها الثانوية .. أشارت عليها خالتها ماريكا بأن تأخذها معها إلى أثينا لتدرس الطب ..
     ولم يكن فى أثينا طب مشهور حتى تذهب إليه .. أورانيا ولكن الرجل وجد نفسه وجها لوجه .. أمام مشكلة لم يكن مستعدا ولا قادرا على مواجهتها وحده .. فترك الفتاة مع خالتها وسافرت بها ..
***  
     ولما عادت أورانيا بعد ثلاث سنوات .. لم تكن قد حصلت على إجازة تؤهلها لمزاولة مهنة الطب .. فى مصر .. ولكنها حصلت على شىء آخر .. حصلت على جسم .. يفوق كل الأجسام .. التى كانت تتثنى على مسرح الفندق ..
     وعندما دخلت الفندق .. لم يكن به أكثر من خمسة من النزلاء .. منهم موظف واحد يقيم بالشهر .. وبائع متجول يغدو .. ويروح .. ورجل عجوز من سكان القاهرة .. كان يجىء فى فترة الإيجارات ليجمع إيجار الأرض .. ويبيع ما استطـاع من أملاكه .. فقد مرض مرضا شديدا .. توقع بعده الموت فى كل لحظة .. وكان يجب أن يتخلص مما عنده قبل أن ترثه وزارة الأوقاف ، فلم يكن له وريث غيرها ..
     وكانت مدخنة الفندق تدخن فى الفترة التى يقضيها السيد عصام فى الفندق .. فهو يصرف على طعامه وشرابه عن سعة وفى اسراف ..
     وكان عصام قد اعتاد أن يشرب فى مجلس من الصحاب ليتحدث ويضحك .. كما يفعل فى الباريزيانا ..
     ولكن كيف يجد الصحاب فى الصعيد .. وهو غريب عن المدينة .. فكان يجالسه لمبو فى وقت فراغه وتجالسه أورانيا .. كذلك ..
     وكان هناك شخص فى المدينة يتردد على الفندق فى ساعة معينة كل ليلة ..
     كان زكى نديم الأثرياء والوجهاء فى حانة الفندق .. فلما ذهبوا ولم يعد يراهم أصبح يتجول فى المدينة كل ليلة ويدخل كل حانة كانوا يترددون عليها ، وفى ساعات الليل التى ألف أن يراهم فيها ..
     وكان يعرف أنهم ماتوا .. وأنهم ذهبوا إلى غير رجعة .. ولكنه .. كان يكرر الجولة .. فى كل ليلة .. كأنه يتوقع عودتهم فجأة .. أو كأنه يعجب للقدر .. الذى انتزع منـه رزقه مرة واحـدة .. فى قسوة شديدة ..
     أو كأنه .. يقول للجالسين وهو داخل عليهم .. ألا تعرفوننى ..؟ أنا نذير لكل السكارى ..
***  
     وذات ليلة لمح زكى أفندى .. السيد عصام جالسا إلى مائدة وأمامه الكأس .. فجلس بجانبه ومن وقتها أصبح جليسه .. ولكنه كان يجلس منكمشا طاويا " قفطانه " على ركبتيه .. وضاما جبته على صدره .. ومرسلا طربوشه إلى أسفل ..
     وكان من نزلاء الفندق نزيل آخر رجل فى الستين من عمره .. وكان من أصل شركسى وموظفا فى أحد التفاتيش ، فلما استولى الاصلاح الزراعى على التفتيش بقى فى مكانه .. وأقام بصفة دائمة فى الفندق .. وكان الرجل .. مغرما بالكلاب .. يعيش معه كلب منذ سنوات طويلة .. وكان يلازمه ملازمة الظل ..
     ولم يكن حسين .. يؤدى أى شىء خلاف رياضته للكلب .. كان ينطلق به فى الصباح بين المزارع .. حتى يخرج من البلدة ..
     وفى العصر يجول به نفس الجولة .. وكان الكلب .. فى الواقع مدربا .. كأحسن كلاب الحراسة .. ويربض فى الحديقة .. أو يدخل طرقات الفندق .. وينام فى أى مكان يختاره .. أصبح مألوفا لدى الجميع وكأنه نزيل من النزلاء ..
     وكان فى الواقع يحرس الفندق كله .. ومع أنه كان شرسا إلى حد التوحش إذا أحس بحركة فى المزارع القريبة أو سمع دوى الرصاص .. ولكنه كان فى داخل الفندق لاينبح قط .. وكان يوجه إلى الداخل الغريب نظرة صارمة .. ثم يقعد .. واضعا رأسه بين رجليه ..
     وفى الفترة التى كانت تقوم فيها ابنة صاحب الفندق بالعمل فى المطبخ كانت تقدم له قطع اللحم .. والثريد .. وإذا عاد من جولة فى الخارج وهو يلهث من الحرارة قدمت له مايرطب حرارة جوفه .. وأصبحت بينهما ألفة .. زائدة ..وكان الكلب إذا شاهدها من بعيد يبصبص بذنبه .. ثم يقف ينتظرها وكأنه يرحب بها .. فإذا جاءت إليه انطلق بجانبها .. وهو شاعر بالمرح والنشاط ..
     وكان الفندق فى العام المنصرم .. قد بدأ فى الانتعاش .. وفى خلال موسم القطن كان يأتى إليه بعض النزلاء .. ثم يرحلون ..
     وكان لمبو .. وقد ابيض شعره .. يجلس إلى الصالة المغطاة بإعلانات الخمور وحيدا .. وتكون ابنته قد فرغت من عملها .. وذهبت لتنام ..
     يجلس فى الركن .. يسترخى ويتـذكر .. يتذكر .. الرقص والأغانى .. والصاجات والشمبانيا .. وأوراق البنكنوت المحترقة .. والذهب الذى كان يتدفق عليه ويشعر بهزة ويتساءل لماذا ذهب هذا كله مرة واحدة .. لماذا ذهب ..؟ الأنه كان يسير فى طريق معوج .. ويجمع المال بكل الطرق غير الشريفة ..؟ الأن الفندق كان ماخورا ..؟ ما أكثر المواخير الباقية ..
     ولماذا هبت عليه العاصفة .. وحده .. لماذا ..؟ وكان ينظر إلى ابنته .. وقد غدت أنثى ويتصور أنها واقفة فى الصالة الخلفية تتثنى .. وقد خلعت ملابسها قطعة قطعة .. كما كانت تفعل نرجس وعزيزة .. وباتريشا .. وأولجا .. من سنوات .. وعرق جسمه وأحس بالأرض تدور به .. ونهض بعد أن أفاق ليشغل نفسه بأى عمل ..
***  
     وحدث ذات مساء .. وكان أحد الأعيان قد شاهد أورانيا .. جالسة فى الحديقة ورأى فتنتها وجمالها ..
     أن قال للخواجه :
      ـ إيه .. يا خواجه لمبو .. الحاجات الحلوة اللى نازلة عندك دى بتفكرنا .. بأيام زمان ..
     فأحمر وجه لمبو ولم ينبس ..
     وهمس الوجيه فى أذن لمبو .. وهو صاعد إلى غرفته ..
     ـ ابعتها مع عبده .. ومعاه زجاجة ويسكى .. واللى انت عاوزه خده ..
     فأحمر وجه لمبو وسقط رأسه على فكه ..
     ـ إيه ..؟
     ـ دى .. بنتى .. يا توفيق بيه ..
     ـ بنتك .. عندك بنت حلوة كده ..؟ وكانت فين ..؟
     ـ فى أثينا ..
     ـ جوزها .. حالا ..
     ـ هيه .. عاوز يشتغل .. مش عاوز يجوز ..
     ـ جوزها .. أولا .. دى خسارة ..
     وصعد توفيق إلى غرفته آسفا ..
     وكان الخواجه لمبو .. فى الواقع .. يريد أن يزوج أورانيا .. ويستريح ـ كأب ـ من مشكلتها ..
***   
     ومادام يعيش فى الفندق فإنه لم يكن فى حاجة إلى رعاية من المرأة .. لأن الخدم يقومون بطعامه وكل مايحتاجه ..
     وفى خـلال تفكيره .. فى كوستا .. ابن مخالى .. كزوج مثالى لابنته .. أورانيا هبط نزيل جديد على الفندق ..
     وكان سالم شابا فى الرابعة والثلاثين من عمره .. وكان يعمل فى الصباح فقط .. ويقضى بقية النهار والليل فى الفندق ..
     وفى خلال الأسبوع الأول من نزوله المدينة .. لم يشاهد فى صحبة أحد .. وكان فى الفنـدق يجلس وحيدا فى المدخل .. وبيده مجلة مصورة .. قد تلوثت وتمزقت من الجوانب من عرق يديه ..
     ولم يكن قصير القامة .. لكنه كان ينحنى بجذعه ويميل إلى الجانب الأيمن فى مشيته فيخيل لمن يراه على هذه الحالة أنه قصير وأنه أحدب ..
     وكان أول من يعود من النزلاء إلى الفندق فى ساعة الغداء .. ويرى أورانيا فى المطبخ .. أو جالسه بجانب والدها .. على " الخزانة " .. ولكنه لم يكن يوجه إليها أى كلام .. أو يبادلها أى تحية .. وقد حيته مرة .. بلفظة .. بنجور .. فلم يرد عليها .. وخرس لسانه فى حلقه .. ومن وقتها لم تكلمه أبدا ..
     وفى الليل .. كان يجلس منزويا فى الحديقة ويرى أورانيا وهى جالسة تتعشى وتشرب مع السيد عصام .. وقد وضعت ساقا على ساق .. حتى كشفت عن فخذيها فكان يحس بمثل السعار .. ويعود منكمشا على نفسه ..
     وكان يسهر وهو جالس فى الحديقة وحده .. حتى لايبقى أحد من النزلاء ..
     فإذا وجده لمبو .. جلس بجواره قليلا .. يحادثه ولكن سالما فى الواقع كان لايستمع إلى ثرثرة لمبو ..
     كان يرى أورانيا .. من بعيد .. وهى رائحة غادية فى طرقات الفندق .. ثم تغيب عن بصره ..
***    
     وذات ليلة سمع صوتها وهو متمدد على السرير .. تحادث شعبان الفراش .. فتلفت وتسمع كالثعلب ..
     ولما خرج شعبان سمعها تغنى قريبا منه .. فأيقن أنها بجواره .. فى الغرفة الملاصقة له تماما .. وأحس برعشه .. ونهض .. ووضع أذنه على الحائط .. ودار برأسه فى الغرفة .. يتفحصها .. فرأى لأول مرة أن الدولاب الذى فى غرفته وراء باب يفتح على الغرفة المجاورة .. ووضع الدولاب وسمر الباب ليمنع الاتصال ..
     ورأى شراعة زجاجية فوق الباب مغطاة بالقماش فدار فى الغرفة يفحص كل شىء .. بعين صقر .. وقلبه يرتجف .. ثم سحب كرسيا .. وطلع من فوق الدولاب يتطلع فى الظلام .. من الشراعة .. واستطاع بعد مشقة .. وبعد أن فتح ثغرة بأظافرة وأسنانه فى القماش أن يرى أورانيا .. فى الغرفة المجاورة ذاهبة رائحة فى الغرفة بقميص النوم وهى تنحنى ..
     ثم تنهض كأنها تبحـث عن شىء سقط منها .. قريبا من مائدة الزينة ..
***   
     وفى الليلة التالية .. حبس سالم نفسه فى غرفته من الساعة الثامنة مساء .. وكان الصيف .. فى حميمه والحر شديدا .. فحبس نفسه داخل الجدران .. فى الظلام وأغلق النافذة الخشبية حتى لايتسرب أى ضوء من الخارج .. وليكون الظلام على أشده .. وصعد إلى الشراعة ليوسع الثغرة .. ويرى أكثر .. وأكثر .. ولمس .. وهو يفعل هذا مسمارا .. ثم أدرك أن الشراعة .. تتحرك .. وأنها مسمرة من ناحيته فقط ..
***  
     وفى اليوم التالى جاء بكماشه ونزع المسامير فى هدأة الليل .. بعد أن أحكم اغلاق باب الغرفة .. ورد النافذة ..
***    
     وفى العصر خرجت .. أورانيا من الفندق .. متعطرة وهى فى أجمل ثيابها .. كان اليوم يوم أحد .. ورآها سالم وهى تمشى مع سيدتين على الترعة ..
     وجلس ساعة فى حديقة الفندق ثم خرج يتمشى .. وعاد فى هدأة الليل إلى غرفته ..
     وأغلق الباب وراءه بالمفتاح .. ورد النافذة الوحيدة .. وجلس يخلع ملابسه فى الظلام .. وصعد إلى الدولاب .. وحرك الشراعة فانفرجت .. فأعادها إلى مكانها .. بهدوء ..
     وجلس على سريره .. وقد أحس برغبة شديدة إلى التدخين .. فدخن ..
     وبعد أن هدأت الرجل تماما .. وانقطع كل حس .. وأطفئت جميع الأنوار فى الحديقة .. وبقيت فقط الأنوار الضعيفة التى فى طرقات الفندق صعد مرة أخرى .. إلى الدولاب بعد أن تلثم .. حتى لاتعرفه أورانيا إذا كانت متيقظة .. وأزاح الشراعة فانفرجت ونظر إلى الفراش فرأى أورانيا .. نائمة ثانية فخذها .. وقد جعلها الحر الشديد لاتطيق حتى .. قميصها .. 
     وتصور هذا الجمال الذى سيكون فى أحضانه بعد لحظة .. وأغلق عينيه وأخذ يتدلى من الناحية الأخرى بحذر شديد .. وأحس فجأة بكف وحش تضربه بمخالبها فى صدره فصرخ وسقط على الأرض ..
     وعندما دخل لمبو الحجرة على صياح أورانيا .. كان سالم .. قد استفاق من هول الصدمة .. وأدرك ما حدث .. ولكنه لم يستطع أن يتحرك من مكانه .. لأن الكلب كان رابضا أمامه .. وقد تهيأ للوثوب عليه إذا أبدى أية حركة ..
     وعندما مر زكى .. على الفندق فى الليلة التالية وجد مائدة عصام خالية ..
     فقال باسما :
     ـ ذهب أيضا ..
     واسـتدار ليخرج فرأى الكلب فى جانب من الحديقة رابضا وحده .. وكان حزينا لأن أورانيا .. كافأته على عمله النبيل بطرده .. من غرفتها ..



==================================== 
نشرت القصة بمجلة " الجيل " فى 5/1/1959 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " عذراء ووحش "
====================================







خياطة للسيدات

كانت مدام ايزابيل خياطة أجنبية مشهورة .. فى حى قصر النيل .. وكانت تقيم فى شقة أنيقة مكونة من أربع حجرات .. وعندها ثلاث عاملات مصريات من الفتيات العذارى ..
وكانت المدام تدفع إليهن أجورا طيبة لأنها تربح كثيرا .. وزبوناتها من أحسن وأرقى الطبقات ..
ولم تكن مدام إيزابيل فى أول عهدها خياطة .. بل كانت زوجة ماركو المهندس فى شركة النور فلما مات فى شبابه وترك لها مكافأة قليلة لا تستطيع أن تعيش بها هى وابنها الوحيد سيمون .. رأت أن تشتغل بالحياكة .. لأنها كانت تحسن التفصيل .. وتقرأ بانتظام مجلات الأزياء الباريسية ..
وبدأت عملها فى نطاق الصديقات والمعارف .. ثم اتسعت الدائرة حتى أصبحت تعتذر لكثير من السيدات ..
وبقيت فى شقة المرحوم زوجها واحتفظت بصورته المجللة بالسواد فى غرفة الجلوس ..
وفى هذه الغرفة الصغيرة كانت تستقبل العميلات وتتحمل ثرثرتهن المملة وتتفق معهن على الأجر .. ومواعيد البروفات .. وتركت الغرفة الثانية للفتيات العاملات .. وفى الغرفة الثالثة كانت تنام هى وابنها سيمون .. أما الغرفة الأخيرة فقد جعلتها للبروفة وعلقت الفساتين الجاهزة بعد أن عرفت بالتجربة الدقيقة أن السيدات يسترحن إلى تغيير ملابسهن وعمل البروفة فى غرفة مستقلة بعيدا عن الأنظار ..
وبرعت إيزابيل فى صنعتها وابتكرت وأصبحت تتبع موضات الأزياء وتعرف آخر تطورات الفستان والبلوزة والجونلة .. والتايير .. وآخر ابتكارات كريستيان ديور وغيره من مشاهير الخياطين فى باريس ..
ومع أنها لم تدخل مدارس للحياكة .. فقد تفوقت على المشهورات من الخياطات لأنها كانت ذكية وذوقها جميل .. وتعرف رغبة الزبونة وتقابلها بابتسامة مشرقة ..
وكانت تعمل وتسهر الليالى وهى تقص الأقمشة وتفصلها وتقابل كل المتاعب التى تعترض الحياة بابتسامة وصبر .. لغرض واحد .. لتربى ابنها سيمون .. فقد تركه لها المرحوم طفلا ..
***
وكان سيمون صغيرا وفى السابعة من عمره عندما بدأت أمه تمسك المقص .. وكان يجلس بجوارها .. وهى تعمل البروفة للسيدات .. ويراهن أمامه فى الجونلة والفستان .. والقميص المفتوح والملابس التحتية وشبه عرايا ..
وكانت الزبونات جميعا يعرفن سيمون ويقدمن له الشيكولاتة والحلوى .. ويتحدثن معه ويضحكن .. ويقصصن عليه الأحاديث والأخبار .. وكان سيمون يحبهن ..
ولكن عندما كبر سيمون .. ودخل المدرسة الثانوية .. منعته أمه من دخول غرفة البروفة .. وأصبح بذلك لا يرى السيدات الجميلات وهن يخلعن ملابسهن ويرتدينها .. على أن السيدات كن يحببن أن يشاهدنه دائما كلما جئن إلى البيت .. فإذا لم يجدنه فى الصالة سألن عنه ..
" فين سيمون .. تعبان شوية .. مون آمور مالكيش حق يا مدام قولتلك وكليه لحمة حمرة كتير كتير .. "
" فين سيمون .. نايم .. بدرى كده ..؟ "
فين سيمون .. فى رحلة مدرسية .. ويهون عليكى تخليه يسافر .. دا ضناكى .. مور أمور .."
وكانت أمه قد وضعت له مكتبا صغيرا بجوار الحائط فى الصالة .. وكان يجلس إلى هذا المكتب بعد أن يعود من المدرسة ليذاكر .. ويعمل واجباته ..
وكان من بين الزبونات .. آمال هانم .. ومدام جاك .. وكانت آمال هانم أرملة فى الأربعين .. وهى امرأة ككل النساء .. وتلبس السواد كالأرامل .. ولكنها تتميز عنهن جميعا بصوت حلو فيه غنة طبيعية وبعينين دافئتين .. لاتراهما إلا وتتصور أن صاحبتهما بكت كثيرا .. وبقى الاحمرار وآثار الدمع .. ومدام جاك عروسة فى السابعة والعشرين .. ولكنها أصيبت فى زواجها بخيبة أمل .. وكانت من أكثر السيدات عطفا على سيمون ومداعبة له .. كلما جئن إلى البيت .. وكانت مدام جاك تقول له وهى باسمة فى دلال :
ـ كبرت .. بسرعة .. يا سيمون ..
وكان سيمون قد تطور جسمه ونضج سريعا بعد المراهقة واخشوشن صوته .. وبرزت عضلاته .. وقوى جسمه كله حتى غدا محل الاعجاب ..
وكانت أم سيمون .. لحادث بسيط .. وقع فى بيتها منذ سنوات قد حرمت على السيدات أن يصحبن معهن الرجال اطلاقا .. حتى ولو كن أزواجهن .. ذلك أنها فاجأت مرة إحدى الزبونات وهى تعانق رجلا كان بصحبتها .. فى فترة قصيرة تركتهما فيها وحيدين فى الغرفة لتجىء بالموديل .. وظهر الخجل على وجه السيدة .. وارتبك الرجل ..
وبعد هذا الحادث .. لم تسمح لأى زبونة بأن تصحب معها أى رجل على الاطلاق .. وبذلك استراحت نهائيا من كل مشاكل المرأة وألاعيبها .. وأصبح سيمون هو الرجل الوحيد فى البيت الذى تقع عليه أنظار السيدات ..
وكانت المدام تسمع ضحكات السيدات ومداعباتهن لسيمون فلا تتصور أكثر من عطف على الابن ومجاملة لها .. ولا شىء غير ذلك ..
***
وذات مساء من أمسيات السبت جاءت آمال هانم .. فلم تجد مدام إيزابيل فى البيت ووجدت سيمون .. وحده .. يذاكر ..
وكانت أمه قد ذهبت لتزور قريبة لها .. مريضة .. فى مصر الجديدة ..
ـ تليفونكم عطلان والا إيه .. يا سيمون .. بقالى ساعة أضرب .. ولا حدش بيرد ..
ـ أيوه .. عطلان .. من الصبح ..
ـ ماما راحت فين ..؟
ـ عند مدام جوزيت .. وحالا جاية .. اتفضلى ..
وجلست آمال هانم تنتظرها .. وترقب سيمون وهو يذاكر .. وكان الهدوء يخيم على البيت كله .. وتحركت آمال حتى اقتربت من المكتب .. وقالت فى دلال :
ـ و .. وبتقرأ .. عربى كمان ..؟
ـ أنا باعرف عربى كويس خالص ..
ـ بأه كده .. ماما قالتلك جاية الساعة كام ..؟
ـ الساعة ثمانية .. عندك بروفة النهاردة ..؟
ـ كانت امبارح .. ومقدرتش آجى ..
ـ سكند .. ولا ثيرد ..؟
ـ أوه .. دا انت باين عليك ترزى .. ديزيم .. نقوم نعمل البروفة بدل ماما ..؟
وخجل سيمون.. ونكس رأسه ولم يرد ..
وسألته :
ـ متعرفش ..؟
ـ طبعا ..
ـ أمال اتعلمت إيه فى المدرسة ..؟
ـ صنعة ثانية ..
واقتربت منه جدا .. ولامست أصابعه .. ونظرت إلى قميصه المفتوح .. وعضلات صدره البارزة .. وسألت فى صوت ناعم .. وهى تضغط بيدها على ذراعه :
ـ أنت بتلعب رياضة ..؟
ـ أيوه ..
ـ بأه قوى .. وتقدر تضرب ماما ..؟
ـ أضربها ..
ـ طبعا .. مش أنت الراجل فى البيت .. أنت شايف أنها أتأخرت كتير .. بقالى ساعة مستنية ..
ـ حالا جاية .. أنت عارفه المترو .. بيتعطل ..
ـ عمرك كام دلوقت ..؟
ـ كاترز ..
ـ بالعربى .. من فضلك أنا معرفش فرنساوى ..
ـ أمال بتتكلمى مع ماما بالفرنساوى إزاى ..؟
ـ لكن دلوقت نسيت الفرنساوى .. ونسيت حتى العربى ..
ـ ليه ..؟
ـ ....
ـ فاكرنى وأنت صغير .. لما كنت باشيلك .. وأبوسك ..
ـ طبعا ..
ـ دلوقت ما أقدرش أبوسك .. علشان بقيت راجل ..
والتصقت به وأخذت تمر بيدها على شعره .. وأدار رأسه ورفع وجهه إليها .. والتقى نظره بنظراتها .. ورأى عينيها الداميتين .. تلتمعان ومشبعتين إلى أقصاهما بالرغبة .. ورأى شفتيها منفرجتين قليلا .. وأنفاسها تتردد .. وترفع صدرها وتخفضه .. ونظرت إلى عينيه طويلا .. ثم انحنت على شفتيه وأخذت تأكلهما بشفتيها ..
وكان هو فى أثناء ذلك يهتز ويرتجف .. ولا يدرى من أمر نفسه شيئا .. فقد كان هذا شيئا جديدا عليه وغريبا .. وحمله إلى عوالم أخرى ..
***
ولما كلمته بعد ذلك لم يرد عليها لأنه لم يسمعها .. وأراح رأسه على الكتاب وأغلق عينيه ..
ولما رآها فى الأسبوع التالى .. أصفر وجهه وارتجف .. كان يخشاها ويخشى كل النساء ..
***
وطلب من أمه أن تنقل مكتبه إلى غرفة النوم .. ليذاكر فى هدوء .. ففعلت ..
***
وأخذت الحياة تجرى .. وكان سيمون متفوقا فى دراسته .. ورأت الجامعة الأمريكية أن ترسله فى بعثة قصيرة إلى أمريكا .. ورفضت أمه هذا أولا .. ولكنها قبلت أخيرا تحت الحاح ابنها .. ويقينها بأنه عن قريب سينفصل عنها ويتزوج .. ككل الشبان ..
وسافر سيمون إلى أمريكا .. وجاءت الزبونات .. فلم يجدن سيمون .. ثم علمن أنه سافر فى بعثة فأخذن يهنئن الأم .. وهن يشعرن بحسرة على فراقه وخيبة أمل ..
وفى الشهر التالى انقطعن جميعا بالتدريج عن مدام إيزابيل .. لم تجىء منهن واحدة بفستان .. ولا جونلة .. وتوقف عملها تماما ..
وذهلت .. وأخذت تروح وتجىء فى ردهة البيت وهى منفعلة من الغضب بعد أن أدركت السبب الحقيقى لانقطاعهن .. وأخذت تردد بصوت عال :
" أوه .. الكوكيت .. الكوكيت .."
========================= 
نشرت القصة فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
========================  













السيجارة

اعتدت فى خلال موجة الحرارة الشديدة التى هبت على مدينة القاهرة فى العام المنصرم وكانت محملة بزوابع الخماسين .. أن أقضى الفترة التى تعقب الغداء مباشرة فى محل ديانا بحى قصر النيل ..
وكان المكان فى تلك الساعة من النهار يجذبنى إليه سحر لا يوصف .. فهو مكيف الهواء وقليل الرواد وهادىء جدا فلا تكاد تسمع فيه همسا .. واتخذت مكانى فى الزاوية الغربية من البهو الخارجى .. وجلست أدخن فى استرخاء وأطلق العنان لأفكارى .. وأتركها تسبح مع تحركات الناس فى الشارع الذى أخذ يخلو من المارة ..
وجذب انتباهى وأنا أنظر إلى الطريق ثلاثة أشخاص أخذوا يهبطون فى بطء شديد من باب سيارة فخمة ويتجهون إلى المحل وفى صف واحد ..
وكانوا عبارة عن رجل عجوز متهالك يعتمد على سيدتين فى خطوه وفى كل حركة تصدر منه ..
وكان الرجل يبدو شبه مشلول ..
وكانت السيدتان مختلفتين جدا فى السن والشكل فإحداهما عجوز دميمة والأخرى شابة فاتنة الجمال ..
وتحرك الثلاثة فى خط واحد إلى منضدة قريبة منى .. واتخذوا مقاعدهم .. وكان محل الرجل فى الوسط ..
وطلبوا بعض المثلجات .. وكانوا فى خلال الساعة التى قضوها فى المحل أكثر صمتا منى ..
ولاحظت أن الرجل العجوز قليل الكلام والحركة .. وعيناه فقط هما اللتان تتحركان فى رجرجة الزئبق .. وبدا لى جليا أن يده اليمنى كلها لا تستطيع الحركة ..
وكانت الشابة الجميلة هى التى تقدم له كل شىء .. كوب الماء .. وكل ما يحتاجه .. وتقوم على رعايته .. وتشغل نفسها به تماما .. ووضح لى أنها موجودة فى صحبته لهذا الغرض ..
وكان رغم مرضه حليق الذقن جدا .. وأنيقا فى ملبسه ..
وكانت المرأة العجوز ترتدى فستانا ورديا واسع الأكمام .. لا تعير بالها كثيرا للرجل المريض منصرفة بكليتها إلى ماوراء الزجاج فى المدخل من فطائر وحلوى .. كأنها تنتقى بعينيها ما ستأخذه وهى خارجة ..
وظهر لى وأنا أتأمل الفتاة أنها مرهفة الحس ومتعبة وكانت جالسه فى وضع واحد منذ دخلت .. وكنت أقرأ فى عينيها الذابلتين حاجتها الشديدة إلى النوم ..
ولم أكن أدرى لماذا ظللت أكثر من ربع الساعة .. وأنا أحدق فى وجهها ببلاهة تفوق كل حد ..
فقد كانت رائعة الجمال حقا ولعلى أشفقت عليها جدا .. من سكونها ورقتها ومن جلستها المؤدبة ..
وألقى الرجل إلى سمعها بشىء فى صوت خافت .. فتحركت إلى التليفون وكان فى زاوية فى المدخل ..
وفى أثناء هذه الحركة استطعت أن أحدد طولها وعرضها بدقة .. وأن أراها وهى تمشى بطبيعتها ..
كانت طويلة العود .. فى استدارة جميلة .. وبروز عند الفخذين ودقة مرهفة عند الخصر وكان ساقاها أكثر ما فيها فتنة .. وكان شعرها مقصوصا على الطريقة اليابانية ..
وبدا وجهها وهى منحنية على التليفون أكثر طولا منها وهى جالسة وعيناها أكثر نعومة .. وكنت أتوقع أن يكون الحديث بالفرنسية .. ولكننى سمعته بالعربية .. وباللهجة المصرية الخالصة ..
وعادت فجلست فى مكانها .. وعادوا إلى جمعهم ..
وبعد نصف الساعة خرجوا فى مثل الخطو الهادىء الذى دخلوا به ..
وأركبت السيدتان الرجل نصف المشلول السيارة ثم مضوا لسبيلهم ..
***
وكنت كلما جلست فى المحل بعد ذلك أتوقع أن تدخل علىّ هذه الفتاة وحدها أو فى صحبة الرجل العجوز ومن كانت فى تقديرى أمها .. ولكنها لم تأت أبدا ..
ومرت الأيام .. وحدث بعد ذلك بقرابة شهر .. وكنت فى السينما فى حفلة الظهر وأجلس على مقعد فى الشرفة .. ولم يرقنى الفيلم فاسترخيت .. وغفوت أكثر من ربع الساعة وتنبهت وأنا فى غفوتى .. على صوت قداحة .. ففتحت عينى .. وكان الصوت يأتى عن يمينى مباشرة .. فوجدت سيدة جالسة معى فى نفس الصف تحاول أن تشعل سيجارة فى فمها بولاعة صغيرة فى يدها .. ولكن الولاعة كانت تقدح شررا خفيفا ثم لا تلبث أن تنطفىء .. وكررت السيدة المحاولة فى عصبية أكثر من مرة .. وقد اقترن حاجباها جدا وارتفعا .. فى غضب فأشفقت عليها فى تلك اللحظة .. ومددت لها يدى بولاعتى ..
فمدت يدها الرخصة إليها بهدور وضغطت على المفتاح .. فأشتعل اللهب الأزرق الخفيف فأضاء لى وجهها وعرفتها وابتسمت هى بدماثة بعد أن أشعلت السيجارة .. وجاءتها فى نفس اللحظة المفاجأة التى لم تتوقعها أبدا .. فقد كانت الولاعة تخرج نغما موسيقيا عذبا .. وأبقتها فى يدها لحظات وهى تنصت للأنغام .. ثم أغلقت مفتاحها وأعادتها إلىّ فى لطف وابتسامة ..
وأثناء هذه الحركة نظرت إلىّ نظرة من رآنى من قبل .. وحاولت أن تتذكر فقد كانت هى الفتاة التى شاهدتها منذ شهر فى محل ديانا بصحبة السيدة الأخرى والرجل العجوز ..
وقالت برقة وهى تنظر إلى الولاعة .. وكانت لاتزال فى يدى :
ـ إنها جميلة ..
ـ تفضلى ..
ووضعت الولاعة فى جيبى ..
وعدنا إلى الشاشة .. ولكننى كنت أنظر إليها من جانب بين حين وآخر .. ورأيت أنها تحاول أن تشعل سيجارة أخرى من السيجارة التى كانت فى يدها ..
فأخرجت الولاعة من جيبى ومددت يدى إليها وأنا أقول :
أبقها معك .. إلى أن ينتهى الفيلم .. فأنا لست فى حاجة إليها الآن ..
ـ شكرا .. ولماذا أحرمك منها فى هذه الفترة .. سأشعل السيجارة من السيجارة ..
ـ إن هذا يؤذى أصابعك .. وسأضع الولاعة على حافة الكرسى الخالى بيننا .. ومن يحتاجها يأخذها ..
ووضعت الولاعة على حافة الكرسى وعدنا إلى الشاشة مرة أخرى ..
ولم يعجبنى الفيلم .. ولكننى لم أغف كعادتى .. فقد كنت أنظر إلى الفتاة .. ولاحظت يدها وكانت قريبة منى وهى تمسك بالسيجارة .. كانت ترتعش رعشة عنيفة .. مما يدل على أنها تعانى إرهاقا عصبيا شديدا ..
ولاحظت أنها بعد هذه السيجارة عادت وأخرجت من حقيبتها سيجارة أخرى وأشعلتها من الولاعة فى الحال ..
وأحصيت فى مدى دقائق قليلة أنها دخنت أكثر من خمس سجائر .. كانت تدخن بنهم شديد وتضم السيجارة على شفتيها فى لذة واسترخاء وهى تغلق عينيها كأنها تدخن الأفيون ..
وبدا لى عن يقين أن الذى يحترق .. ليس هو السيجارة وإنما هى الفتاة نفسها ..
***
وكان الفيلم طويلا .. ونظرت فى ساعتى فوجدتها قربت من السادسة .. وكنت على موعد مع صديق فى هذه الساعة فخرجت مسرعا دون أن تتنبه الفتاة لحركتى وركبت تاكسيا إلى المكتب ..
وتذكرت الولاعة .. وأنا فى الطريق .. ولم آسف عليها كثيرا .. وإن كانت نادرة ..
وكانت كل أمنيتى أن تكون الفتاة قد أخذتها معها ولم تنسها مثلى ..
وذهبت إلى السينما أكثر من مرة لعلى ألتقى بالفتاة ولعلى كنت أود أن أطمئن على الولاعة ..
ولكننى لم أشاهد هذه الفتاة فى أية مرة ..
***
وبعد ظهر يوم من أيام السبت .. دخلت نفس السينما بعد أن ابتدأ العرض بعشر دقائق .. وجلست فى مكانى فى الظلام أدخن وقبل أن تضاء الأنوار سمعت حركة موسيقية ورائى .. فحولت رأسى فوجدت الفتاة فى الصف الذى خلفى مباشرة .. وقالت برقة وهى تقبل علىّ بوجهها :
ـ لقد بحثت عنك طويلا .. وتفضل ..
وقدمت إلىّ ولاعتى ..
ـ شكرا .. لقد كنت أخشى أن تنسيها على حافة الكرسى ..
ـ إنها جميلة ونادرة .. وسمعت من موسيقاها ما فيه الكفاية .. ونسيانها خسارة لا تعوض ..
ـ تفضلى ..
ـ لقد استعملتها ..
وكانت تتحدث وبين أناملها الرقيقة نفس السيجارة الرفيعة .. وكانت تدخن بنهم وهى تغلق عينيها بلذة وبعدت عنى برأسها ..
ورأيت فى الضوء الشاحب أن وجهها قد توتر .. فملت عليها وأطلت التحديق فانبسط وجهها الشاحب وسألتها .. وكان فى مقدمة الرواية عرض عن الصواريخ :
ـ هل رأيت الصواريخ ..؟
ـ لقد أفزعتنى .. حتى تصورت أن الشرفة كلها صاروخ .. انطلق فى الجو ..
ـ إنها شىء مفزع حقا .. وكيف تكون الحياة بعد عشر سنين .. أو عشرين سنة .. إن كانت كلها صواريخ ..
ـ ستكون فظيعة حتما .. وما أتعس البشرية .. بحرب الصواريخ ..
وظللنا نتحدث وكل فى مجلسه ..
ثم قلت لها .. بعد أن بدأت الرواية .. وكان الصف الذى تجلس فيه خاليا :
ـ أتسمحين لى بأن أجلس فى صفك ..؟
ـ تفضل ..
وجلست بجوارها .. وسبحت أعيننا فى الشاشة .. وكانت حواسنا كلها معلقة هناك فقد كانت الرواية رائعة وتستهوى نظر المشاهد ..
وكانت الفتاة تمسك بالسيجارة وتدخن وعيناها على الشاشة .. وأحسست أن الدخان الذى تنفثه قد تحول إلى عنبر وهو يخرج من فمها الرقيق ..
ونظرت إلى وجهها .. إلى حاجبيها وأهدابها .. وعينيها .. وخديها وأنفها .. وشفتها السفلى الرقيقة .. المهتاجة ..
كانت تكون صورة رائعة من الجمال الفتان ..
ولم أكن أستطيع أن أصف شعورى فى هذه اللحظة .. كنت لا أستطيع أن أعبر عن شىء لم أكن قد أدركت كنهه تماما ..
كان الغموض .. يلفنا معا .. كأن شابورة صباحية ثقيلة .. ظلت تدوم فى الجو قبل الشروق .. ولكننا لم نكن نحب هذا الشروق أبدا كنا نحب هذه الشابورة .. وأن يلفنا ضبابها .. وأن نفتح أعيننا فلا نرى أبعد من أنفينا ..
ولهذا أحببنا مجلسنا فى هذا الظلام ..
ولم أكن أحب أن أعرف شيئا عنها أكثر من أنها فتاة مصرية جميلة .. وعلى جانب من الثقافة ..
كما أنها لم توجه إلىّ أى سؤال .. لم تسألنى عن عملى ولم تعرف حتى اسمى ..
وظللنا فى هذا الخضم المجهول نسبح ..
وكان وجهها ماخلا عينيها مغطى دائما بقناع من الضباب الأزرق ..
وسألتها :
ـ يبدو لى أنك تحبين السينما ..؟
ـ أنها تسليتى الوحيدة ..
ـ وتفضلين حفلة الساعة الثالثة ..؟
ـ لأنه الوقت الذى ينام فيه .. وأجد فرصة للراحة .. فأجرى إلى السينما ..
ـ هل هو والدك ..؟
ـ لا ..
وكان صوتها يتمزق وأصبح وجهها جامدا ..
فصمت .. وتركتها تنفث الدخان .. ثم قلت لها وكأنى أحدد موعدا :
ـ إنى أجىء إلى هذه السينما فى الساعة الثالثة من حفلة السبت ..
ـ وأنا مثلك ..
ـ إذن سنلتقى ..
ـ إذا كنت تحب ذلك ..
وغدا وجهها لينا ..
وكانت السيجارة قد خلصت فألقت بها فى الطفاية .. وأطلت التحديق إليها وهى تفعل ذلك ..
ونظرت إلى أسفل وهى تتناول الحقيبة من على الأرض .. فلاحظت أنها كانت قد خلعت حذاءها .. وجلست حافية .. ولم أكن قد لاحظت ذلك من قبل ونظرت إلى قدميها الصغيرتين من غير جورب .. وقد برزت أصابعها رفيعة وجميلة ومطلية أظافرها بالأحمر .. والحذاء هناك ملقى كما اتفق .. إن المنظر جميل .. رغم ما فيه من فظاعة .. ولكن أعصابها المرهفة دفعتها إلى هذا .. وأحسبها كانت تود لو تتخفف من بعض ملابسها .. كما خلعت الحذاء ..
وأحسست بنهاية الفيلم ..
ورأيت أن أنصرف قبل أن تضاء الأنوار حتى لا أحرجها ما دمنا لم ندخل السينما معا ..
فاعتذرت .. وحييتها وانصرفت ..
***
وفى الأسبوع التالى دخلت السينما وفى قلبى احساس جديد .. وكنت أدخل السينما من قبل وأنا مجرد من كل عاطفة أما فى هذه المرة فقد شعرت بضربات قلبى .. وأنا أصعد السلالم إلى الشرفة ..
وكنت أخشى أن أدخل السينما فلا أجدها .. فأتلقى صدمة عاطفية ..
ووجدتها .. وأنا أقترب منها فى الظلام كأنها جالسة فى انتظارى .. وكانت فى يدها السيجارة كالعادة .. وكانت ساكنة الملامح جدا ووجهها بارد ولكننى لمست فيه الحرارة وأنا أقترب .. وانبسط وجهها وتطلق وشاع فيه البشر ..
كان حديثنا قليلا ولكننى لم ألتفت للفيلم .. وأحسبها كانت كذلك ..
ولاحظت فى عينيها الرغبة فى النعاس ..
وقالت أنها كانت ساهرة تمرض طول الليل .. ولكنها جاءت لترى الفيلم بحكم العادة ولولا هذا لنامت فى البيت إلى الغروب ..
وابتسمت فى حرارة ..
فحدثت نفسى بأن هذا الشخص المريض الذى تسهر بجواره طول الليل والذى رأيته معها فى محل ديانا .. ربما كان زوجها .. مادام ليس والدها .. ربما تكون مجرد ممرضة عنده .. ومهما يكن الأمر فإنها تتعذب عذابا قاسيا .. وأسرار عذابها فى عينيها ..
وقبل أن أنصرف فى هذه المرة فى الظلام كالعادة أمسكت بيدها .. ووجدتها باردة رخصة فى يدى ..
والتقينا فى الأسبوع التالى ومر شهر آخر ..
وأصبحنا نلتقى مرتين فى الأسبوع فى حفلات النهار ونجلس متجاورين ..
***
أحسست بأنى أحبها وأدركت أن الحب أحلى من كل شىء .. أحلى من كل شىء فى الوجود ..
وكنت سعيدا بالقرب منها ولكنها كانت حزينة وكان جرس الحزن الأخرس فى صوتها .. وأدركت أنها مرتبطة بذلك الرجل المشلول الذى فى البيت برباط قوى .. بسلسلة مضفرة مالها من فكاك ..
وسواء أكان زوجها .. أو كانت مجرد ممرضة عنده .. فهى فى كلتا الحالتين جارية .. ولا أكثر ..
ونظرت إليها تحت الضوء الناعم .. وكانت بائسة رغم مظهرها المتألق ..
ورأيت المكان خاليا .. وأحسست برغبة جياشة فى صدرى فانحنيت ..
انحنيت لأقبلها .. فمال رأسها لتبتعد عنى وحتى لا أبلغ فمها .. وتدلى جسمها متخشبا .. ولكننى اقتربت أكثر ..
كانت لا تزال مترددة وكنت أناديها بعينى .. وبكل جوارحى فنظرت إلى عينى طويلا .. وهى مبتعدة .. ثم اقتربت بصدرها .. وشدتنى إليها وتلقيت شفتيها مع زفرة حارة .. كأنها صرخة من أعماقها ..
ثم خلصت نفسها منى سريعا ..
وعاد وجهها جامدا فى لحظة وظلت صامتة ..
وبعد قليل .. لبست حذاءها وتناولت حقيبتها .. خرجت فى الظلام وهى تهمس بشىء لم أتبينه تماما ..
***
وفى السبت التالى .. لم تأت ولم أرها بعد ذلك أبدا ..
وكنت وأنا أخرج الولاعة الموسيقية من جيبى أحس بأن فى نغمها حشرجة كأن وترا من أوتارها الموسيقية قد تمزق .. كما تمزقت أوتار قلبى ..
========================
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 445 بتاريخ 4/7/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
=======================  
ـ 
    


الشيخ تمام

كان الشيخ تمام صديقا لوالدى .. وكنت أراه كلما جاء والدى إلى القاهرة فى موسم القطن .. ولم يكن يخطو خطوة واحدة فى المدينة دون صحبته .. كان يرافقه فى جولته على الوزارات ليسلم على أصحاب الشأن .. وفى جلوسه فى قهوة النيل بالعتبة .. وكنت أذهب إلى هذه القهوة .. أحمل الرسائل التى ترد من البلد فأجد الشيخ تمام جالسا وسط حلقة من العمد والأعيان .. يحدثهم عن نعيمة المصرية والشيخ سلامة حجازى وسيد درويش .. وعن فتيات مصر العذارى من أكرم الأسر حتى يسيل لعابهم .. فقد كان الشيخ تمام يعرف كثيرا من الأسر المصرية ويلذ له أن يتحدث عن الزواج وتعدد الزوجات ..
وكان كل واحد من هؤلاء العمد يفكر كلما جاء إلى القاهرة عامر الجيب أن يتزوج " بمصرية " لأنه سئم رائحة الدريس ويريد أن يشم رائحة البنفسج ويجدد شبابه .. وكان الشيخ تمام يلهب فيهم الخيال الشعرى ويصور لهم العرائس من بنات القاهرة .. كأنهن من الحور .. وينسيهم كل متاعب الحياة ويسليهم ويقص عليهم نوادره .. وكان طويل الجسم نحيلا يرتدى عمة صغيرة وكاكولة سمراء ..
وكان رغم شيخوخته منتصب القامة .. مشاء .. يتجول معهم طول النهار وبعض الليل ثم يذهب ماشيا إلى بيته فى بولاق ..
وكان يرافق والدى إلى بيتى ساعة الغداء .. ويتغدى معه ويظل ينتظره حتى يستريح ساعة القيلولة ..
وكان عندى فتاة تقوم بشئون البيت .. وكان والدى يتصور أنه طباخ .. لأنها كانت تختفى عندما يحضر .. ولكن الشيخ تمام كان يعرف الحقيقة ..
ومع ذلك لم يخبر والدى لأنه كان يعرف أننى سأشنق .. وكان يقول هامسا :
ـ هل ستتزوجها ..؟
ـ لأ ..
ـ إذن لماذا تعيش معك ..؟ حرام يا بنى .. حرام ..
ـ ليس بينى وبينها أى شىء .. إنها تخدمنى ..
ـ تخدمك .. وهذا الشعر .. والروب .. دى شامبر .. أرجوك .. هل تتصور أننى من ناس زمان .. ولا أفهم الحياة العصرية ..
ـ أنه مجرد عطف إنسانى .. فهذه الفتاة .. مات زوجها فى حادث وهى فقيرة ومسكينة .. ولو خرجت إلى الطريق .. فأنت تعرف مصيرها .. ولهذا جئت بها إلى هنا لأصونها من الدنس ..
ـ عال يا بنى عال .. بس .. حاسب عليها .. دى مسكينة ..
ولقد سرنى أنه أصبح يعطف على الفتاة ويحبها مثلى .. ويمدح طعامها أمام والدى ويقول باسما :
ـ ابنك حسن يا حضرة العمدة .. عنده طباخ عظيم ..
***
وكان الشيخ تمام يظل مع والدى حتى يسافر .. ولم أكن أدرى كيف يعيش الرجل فى القاهرة .. هذه المدينة الكبيرة .. القاسية التى تطحن الفقير وتسحقه سحقا .. فلم يحدثنى قط عن ابن له أو أخ أو عم أو خال .. إذ يبدو أنه فقد هؤلاء جميعا وغدا وحيدا فى الحياة ..
وكنت أتصور أن كل واحد من هؤلاء الأعيان يمنحه خمسة جنيهات على الأقل وهو يركب القطار .. وبذلك يستطيع الرجل أن يعيش بقية العام .. إذ أن حياته كانت بسيطة .. ولا يحتاج لأكثر من ذلك ليعيش وهكذا كانت تحل مشكلة حياته فى نظرى ..
***
وعندما مات والدى .. جاء ليعزينى وظل فى البيت حتى تعشى معى وقرأت على وجهه الأسى وحزن الصديق على صديقه واللوعة المستكنة .. ووضعت فى يده وهو خارج جنيها فابتسم واختفى غضبه وأعاده إلىّ بلطف وأدب .. وقال :
" يا بنى .. أننى لا آخذ نقودا من إنسان .. لأن هذه شحاذة .. ووالدك الله يرحمه كان يعرف طباعى جيدا .."
وقد عجبت لحماقتى وقصر نظرى .. إذ رغم عشرتى الطويلة لهذا الرجل .. لم أكن أعرفه ..
======================== 
نشرت القصة فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
========================  





















الجوهرة
                             
     كان السيد إبراهيم شابا وسيما فى الثلاثين من عمره ومتزوجا حديثا من فتاة جميلة ومتعلمة مثله .. وكانا يقيمان فى القاهرة فى شقة أنيقة بحى قصر النيل قريبا من محل عمله .. فقد كان الزوج موظفا فى بنك الاتحاد التجارى .
     فلما حل الصيف هذا العام بلهيبه أشفق على زوجته العروس الرقيقة من شدة الحرارة .. وطلب أجازة لمدة شهر .. وسافر بصحبتها إلى الإسكندرية .
     وانقضى الأسبوع الأول من الإجازة فى متعة هنية .. والزوجان يتصوران من فرط السعادة أنهما رجعا إلى شهر العسل .. ثم جاءت برقية ذات ليلة .. تنبىء بمرض والد العروس وخطورة حالته .. وجمعت الزوجة جواهرها فى حقيبة صغيرة .. وتركت كل شىء آخر فى الشقة المستأجرة .. وانطلقت مع زوجها تهرول إلى محطة سيدى جابر وهى تحس برجفة الخبر .. وتتوقع تطور الحالة وتقدر أنها ستـصل بعد فوات الأوان .. وأنها لن ترى والدهــا وهو يموت ..
     فتأثر الزوج وهرول إلى داخل المحطة .. ولكنه وجد قطار الديزل الأخير محجوزا كله .. ولا مكان حتى للوقوف .. فخرج مستاء ليخبر زوجته .. وفى تلك اللحظة تقدم إليه شخص ليدله على تاكسى مسافر إلى القاهرة فى الحال ..
     ومشى إبراهيم مع زوجته دون تفكير وراء الدليل .. فقد كانا يودان السفر فورا بأية وسيلة .. وقادهما الدليل إلى مكان توجد به سيارة " تاكسى " خالية وكانت واقفة فى جانب من الطريق .. فركبا فى الحال .. 
     ـ الأجرة جنيه يا بيه ..
     فقالت السيدة على الفور ..
     ـ خذ ما تريد بشرط أن تتحرك حالا .. نحن فى عجلة ..
     وفى اللحظة التى هم فيها السائق بالتحرك جاء راكبان آخران ودخلا فى جوف العربة ثم راكب ثالث .. وهكذا .. أصبح الركاب خمسة واتخذت العربة سبيلها فى الطريق الصحراوى وهى تنهب الأرض نهبا ..
                                   ***     
     وبعد أن خرجت السيارة من منطقة البحيرات واستوت فى قلب الصحراء .. نظر إبراهيم إلى وجوه الركاب لأول مرة وتفرس فى سحنتهم .. فلاحظ أن الراكب بجانبها فى المقعد الخلفى كئيب السحنة ويحمل وجه شرير .. وأن الراكبين الآخرين الجالسين فى المقعد الأمامى بجوار السائق من نفس الطينة .. ويلبسون جميعا بدلات من نسيج واحد ودون رباط عنق وأن الثلاثة يكونون عصابة تهرب المخدرات فى الليل أو تقطع على الناس الطريق .. وعجب كيف غفل عن هذا قبل أن تتحرك بهم السيارة .. ونظر إلى زوجته ليقرأ سوانح فكرها .. فى هذه اللحظة .. فرآها تحرك يدها على الحقيبة الصغيرة وتخفيها بثوبها وجسمها فى الجانب الأيسر بعيدا عن عيون الركاب ..
     ولم يحدثها بشىء .. وأشعل سيجارة ليخفى انفعالات نفسه .. وكان فى كل لحظة ينظر فى الظلام إلى وجه الراكب الذى عن يمينه ليطبع صورته فى ذهنه .. حتى إذا حـدث شىء استطاع أن يصفه بدقة !!
     وحاول كذلك أن يرى وجهى الراكبين الجالسين فى المقعد الأمامى بجانب السائق .. التقط الصورة بعدسة عينه كأنها فوتوغرافيا لاقطة .. مرة من الجانب الأيمن ومرة أخرى من الجانب الأيسر .. ومرة ثالثة من الخلف ..
     وكانت أقفية الثلاثة واضحة .. إذا أضفنا السائق .. وكذلك شحمة آذانهم .. وكانت أذن الذى على يمين السائق كبيرة ومفرطحة كأذن الشامبانزى .. وكانت هناك ضربة بحد الموسى .. تحت الأذن مباشرة ملتئمة .. ثم تركت أثرا ظاهرا .. خط أسود محروق الجلد ..
     وزاد هذا من خوف إبراهيم .. وجسم توقعه الشر ..
     وكان الليل فاحما شديد السواد .. والصحراء تبدو رهيبة وصامتة وموحشة فى الظلام .. وسرى صمتها إلى الركاب جميعا .. فلم يتبادلوا كلمة واحدة ..
     وكان إبراهيم من خلال السيجارة التى لم تبرح فمه يلقى بكلمة كالهمس فى أذن زوجته من حين إلى حين .. وكانت خائفة مثله وحزينة وزاد الحزن من خوفها ..
     وكانت هذه أول مرة تركب فيها سيارة أجرة مع غرباء .. ومع غرباء فى الليل ومعها كل الجواهر التى تملكها .. تحمل ما يزيد ثمنه على الف من الجنيهات وتنطلق به فى الليل .. إنها مجنونة .. لماذا لم تترك الحقيبة هناك فى الإسكندرية .. فإن تسرق هناك .. خير من أن تسرق هنا فى الصحراء وتقتل هى ويقتل زوجها ..
     وكان الرجال الأربعة يدخنون .. حتى السائق أشعلوا له سيجارة .. وهى وحدها جالسة صامتة .. لاتستطيع أن تفرج عن أعصابها بشىء ما ..
     وكان الليل الشاحب يلف كل شىء فى شملته .. والريح تصفر .. وسمعت عواء كعواء الذئب .. يأتى من حين إلى حين مختلطا مذابا فى صوت الريح ..
     وكانت الرمال ساكنة لاتحركها الريح أبدا .. وأعمدة التليفون تبدو صامتة وفى مثل حزنها تتلقى المصير فى الليل الشاحب ..
     وفجأة أحسوا بضربة شديدة كأن شيئا سقط من محرك السيارة إلى الأرض وخف دوران المحرك ثم تعطل تماما ..
     ونزل السائق ودار حول العربة ثم رفع غطاء المحرك .. وأخذ يعالجه على ضوء البطارية .. ونزل بعده الركاب الثلاثة وبقى إبراهيم وزوجته فى داخل العربة .. ونظر إبراهيم إلى الظلام حوله والسكون المخيم وأدرك أنهم اختاروا المكان المناسب لفعلتهم فشحب وجهه وتصبب من جسمه العرق ..
     وشاهد الرجال الثلاثة يتحدثون فى جانب من الطريق فأدرك أنهم يتآمرون على التخلص منه هو .. فمال على أذن زوجته
     ـ الأحسن أن نخرج من السيارة ..
     فقالت له :
     ـ أبدا .. لن أخـرج .. لو خرجـت سيرون الحقيبة .. ويسرقونها ..
     ـ جلوسنا هنا خطر ..
     ـ أبدا .. وأين نذهب على الرمال .. أبدا .. سأظل مع الحقيبة .. أخرج أنت ..
     وبقى الزوج بجانبها .. وهو يشعر بالغيظ فقد كانت هذه أول مرة تخالفه فيها ولا تنـزل عند رأيه ..وعجب لأن تفكيرها كله محصور فى الجواهر .. ولا يخطر على بالها أى شىء آخر .. وأدرك الآن مسؤليتة كزوج لأول مرة .. فإنه مسئول عنها وعن حمايتها من كل ما تتعرض له قبل أن يحمى نفسه ..
     وعرف أن عيون الرجالة الثلاثة الآن على زوجته الجميلة .. وأنها بجمالها فتنتهم .. ودبروا الأمر مع السائق .. ليقف فى جوف الصحراء لتكون لديهم الفرصة .. ولكنه سيخنقهم جميعا قبل أن تمتد يد إلى زوجته .. سيخنقهم جميعا .. وأحس بنفسه يرتعش وهو جالس من فرط الانفعال ..
     وسألته زوجته :
     ـ مالك ؟
     ـ لاشىء ..
     ـ اطمئن .. الحقيبة لم يرها واحد منهم ..
     وزادته غفلتها استياء ! .. وأخيرا مرت سيارة كبيرة فأشار إليها سائق التاكسى فتوقفت وتعاون السائقان على إصلاح المحرك ..
     وأسرعت سيارة التاكسى إلى القاهرة دون أن تتوقف فى الاستراحة لتعوض مافات .. وكانت السيارة الكبيرة تسير وراءهم ولا تتقدم عليهم .. كأنها مستعدة لنجدتهم إذا حدث عطل آخر ..
     وتنفس إبراهيـم الصعداء لمـا اقتربوا من منطقـة الأهـرام ..
     وفى ميدان الجيزة نزل الركاب الآخرون وبقى وحده مع زوجته ..
     وسألته زوجته بصوت خافت :
     ـ لاحظت عليك الاضطراب فى طريق الصحراء .. هل كنت تخاف على الجواهر ..
     ـ لا .. لم أكن أفكر فيها قط ..
     ـ وعلام الخـوف إذن ؟ لقد لاحظت ذلك على وجهك فلا تنكر ..
     ـ كنت أخاف على جوهرة واحدة ..
     ـ جوهرة واحدة ؟ ..
     أجل جوهرة واحدة .. لاتعوض أبدا .. وأمسك بها الآن ..
     وأمسك بيدها .. ففهمت أخيرا .. وابتسمت .. وضغطت على يد زوجها .. وهى تشعر بفرحة غامرة ..    
=================================   
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 518 بتاريخ  27|11|1961 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
=============================   

















الأخرس

     كنت أسير مزهوا فى حى البنوك بالإسكندرية وفى قلبى الفرحة لتأميمها فقد أحسست بعد كل هذه السنين الطويلة من الإستغلال الأجنبى بأنى أضع قدمى على أرضى ولم أعد دخيلا على هذا الحى ..
    وكانت الساعة الثامنة مساء .. واليوم يوم الأثنين والمتاجر لا تزال مفتوحة ، فأخذت أستعرض ما فى واجهتها من ملابس جاهزة وعطور وادوات الزينة ولم أكن أبغى أن أبتاع شيئا بعينه .. ولكن وجود هذه الأشياء أمامى بطريقة منسقة ومغرية .. جعلنى أفكر فى شراء هدية لوالدتى ..
     ورأيت حقيبة سوداء أنيقة من الجلد الفاخر فى واجهة متجر وبجوارها ورقة صغيرة مكتوبة بالفرنسية تعلن عن غرفة مفروشة للإيجار تطل على البحر فى حى كليوباترا والإستعلام بالداخل .. ولم أكن فى هذه اللحظة أفكر فى استئجار غرف أو ما هو من هذا السبيل ولكن حب الإستطلاع أدار فى خاطرى أن أسأل عن موقعها وإيجارها فقد تروق فى نظرى وأنتقل إليها وأترك الفندق ..
     ودخلت من باب صغير إلى متجر مستطيل ولا عرض له .. وكانت منضدته مستطيلة بطول المحل كله وأشبه بالمناضد التى ترى فى الحانات .. ولكن المتجر مع رسمه هذا غير المألوف كان جميلا وبالغا حد الروعة فى التنسيق وطريقة عرض البضائع ..
     وبرزت أمامى فتاة ممشوقة القوام .. جميلة تقاطيع الوجه .. فسألتها عن الحقيبة .. ورأيت أن أرجىء السؤال عن الغرفة إلى حين .. فأخرجت لى عدة حقائب من صناديقها المزركشة .. وأخذت تعرض مزاياها وما فيها من محاسن..
      وتناولت واحدة منها .. وقلبتها تحت بصرى ولما قرأت الفتاة التردد على وجهى أمسكتها بيدها .. وأخذت تقبل بها وتدبر منسابة برشاقة فى طول المحل .. لأرى الحقيبة رأى العين على الطبيعة فى يد الحسناء .. ولأقطع حبل التردد ..
      وفيما أنا أستدير وقد أعجبت بحركة الفتاة أكثر من أعجابى بالحقيبة التى فى يدها .. لمحت رجلا ضخما جالسا فى الداخل فى العتمة الشاحبة .. وكان صامتا وجامدا كالتمثال .. وقد عجبت لسكون طائرة .. وسكون جوارحه .. فإن الزلزال وحتى النار نفسها كانت لا تحركه من مكانه فى هذه الساعة .. ولمحته يرقب كل شىء بهدوء وخمول عجيبين .. فأغفلت وجوده كله ..
     وطلبت من الفتاة أن تخفض لى الثمن .. والظاهر أنه سمعنى .. فقال بصوته المجلجل كجرمه :
     ـ أذهب حضرتك إلى هانو .. بجوارنا .. وسترى بكم تباع هذه هناك ..
     ـ المسألة بسيطة ياخواجه .. !!
     ـ لأجل خاطرك سننقصها نصف جنيه ..
     ولم أكن أطلب المزيد .. وأخرجت ورقتين من جيبى بعشرة جنيهات .. وتناولت الفتاة المبلغ ودفعته إلى عاملة الخزينة .. وعادت تحمل لى الباقى ..
      ولما أخذت تلف الحقيبة وتغلفها .. سألتها عن الغرفة المفروشة المعروضة فى الفترينة .. فقالت لى انها فى شارع البحر وإيجارها عشرون جنيها فى الشهر ..
     فقلت لها على الفور ..
     ـ أحب أن أراها ..
     ـ دقيقة واحدة ..
     وهنا سمعت من يقول :
     ـ من الذى يسأل عن الغرفة .. ؟
     وبرزت من الداخل سيدة مكتنزة حمراء الخدين .. ترتدى فستانا على اللحم .. ورمقتنى بنظرة فاحصة .. وبادلتها نظرة مثلها .. وأنا أجد لها شبها بالرجل الجالس فى الداخل .. وخمنته شقيقها .. فقد كانت تشبهه إلى حد بعيد ..
     وقلت لها بصوت قد أخذ بحلاوة تقاطيع وجهها رغم ما فيها من سمنة :
     ـ أنا يا سيدتى .. يسرنى أن أراها ..
     ـ بمكنك أن تذهب فى أى وقت .. وهذا هو العنوان ..
     وكتبت بخط متأنق شيئا على ورقة صغيرة ..
     وكانت الغرفة فى الدور الثالث فى بناية حديثة فى نهاية حى كليوباترا ولها شرفة صغيرة تطل على البحر .. وأمامها السلم المؤدى إلى الشاطئ وكانت مفروشة ببساطة .. فالشقة نفسها أنيقة وليس فى البيت أطفال .. فكانت فى واقع الحال وفق مناى .. ولذلك رأيت أن أنتقل من فندق هايد بارك إليها دون إبطاء وأن أحجزها مدة شهرين .. فأروح وأجئ من القاهرة إليها كلما شعرت بالحاجة إلى نسيم البحر .. وحملت حقيبتى .. وانتقلت إلى الغرفة فى مساء اليوم نفسه ..
     ومن خلال حديث عابر عرفت مدام مارى أننى أشتغل فى مكتب المحاسبة وأعرف شئون الضرائب فسرت جدا .. ورجتنى أن أراجع دفاتر المحل .. فى الساعات التى أختارها فى الصباح أو بعد الظهر .. وأطلب الأجر الذى أريده..
     ولم أكن أبغى أن اقوم بأى عمل وأنا أصطاف .. ولكننى وجدتها مسكينة .. وفى حالة ارتباك ودفاترها فى غاية السوء .. فأشفقت عليها وجلست إلى مكتب فى داخل المحل وأخذت أعمل كلما وجدت الفرصة مواتيه وساعة الفراغ ..
     ومن اليوم الأول وأنا أراجع الدفاتر فى المتجر شعرت بإنتعاش وجو من الألفة جعلانى أواصل العمل بأمانة .. ولم أدر أكان ذلك لأنى أشغل غرفة صاحبة المتجر وأنام فى بيتها أو لأنى كنت أشم العطر فى كل ساعة ..
    وكان فى المتجر ثلاث شابات عاملات فيهن مصرية واحدة .. وفراش عجوز .. وكان نشطا رغم شيخوخته ..
     وكانت مدام مارى أبدا مرحة ومنطلقة على هواها .. ولاحظت دخول شاب أجنبى من الباب عدة مرات فى الساعة التى أكون موجودا فيها ..
     وكانت المدام تناديه بكوستا .. وكان يعمل فى محل بن مجاور .. وظهر لى أنها متيمة به .. فكانت تجعله يقضى كل وقته معها ويتخلف عن عمله وتطلب من المحل قهوة وشايا وشيكولاته دون حاجة حقة .. لغرض أن تراه ويكون ملاصقا لها ..
     وكانت تغازله بشكل مكشوف أمام عمال متجرها ..
     وكانوا جميعا يتضايقون من كوستا .. ويكوهونه ..
     وكان يتردد على المتجر شاب مصرى فى حوالى الثلاثين .. وكانت مدام مارى تسأله فى كل مرة :
     ـ عملت أيه يا شيخ عبد الحفيظ .. ؟
     ـ المسألة ماشيه .. بعد اسبوع حتعرفى النتيجة ..
     وحدثتنى المدام بعد أن خرج .. أنه يسعى ليكسب الجنسية المصرية لزوجها ..
     وسألتها :
     ـ وما دخله وصفته فى الموضوع .. ؟
     ـ إنه يعرف كل ذوى السلطان فى الإسكندرية ..
     وخمنت أنه يستغلها .. ولم أشأ أن أعرفها الحقيقة ..
     وفهمت من كلامها أنها أعطته مبلغا ليسهل لها الأمور ..
     وكان الشيخ عبد الحفيظ أنيق الهندام مرحا خفيف الظل .. ومع أننى كنت على يقين أنه أستغل حاجة المدام وسذاجتها وأنه يضحك عليها ولا يقوم لها بأى عمل .. ولكننى كنت استلطفه وما من مرة دخل فيها المتجر إلا وحوله إلى عاصفة من المرح ..
     وكان صغير الوجه مدور العمامة .. وكاكولته دائما مفتوحة وممتلئة بالهواء ..
     ولم يكن يزاول أى عمل على أى وجه من الوجوه فى مدينة الإسكندرية ومع ذلك كان عامر الجيب .. ويصرف بسخاء .. وكل من فى المدينة يعرفه ..
     فعذرت المدام وهى تسعى إليه بعد أن قدرت ما هو عليه من جاه وسلطان ..
     وكان البرتو زوجها الرجل السمين البليد الطبع الذى يظل قابعا فى داخل المتجر ويرى زوجته تغازل الشباب وتضاحكهم أمام بصره ولا يحرك ساكنا ولا ينطق بحرف .. يحرك لواعجه إلى الفتاة العاملة على الخزينة ..
      فكانت أجمل العاملات فى المتجر .. وظهر لى جليا أن الفتاة المسكينة واقعة تحت سيطرته تماما .. وعرفت أنها دفعت ثمن تشغيلها عنده .. وأنه كان يهددها بالطرد إن لم تستجب إلى رغبته .. فوقعت تحت سلطانه تماما ورضيت بالهوان.. وكانت تخضع لرغباته وتكرهه بكل قلبها ..
      وكنت أقرأ فى وجهها العذاب والصراخ الأخرس كلما رأيته يقترب منها ليحادثها .. ولقد قر قرارى بعد شهر من عملى فى المتجر .. أن أخلص هذه الفتاة المسكينة ـ وكانت يتيمة وتعول أمها ـ من براثن هذا الوحش وأن اسعى إلى توظيفها فى متجر آخر وقد أكتسبت خبرة كعاملة للخزينة ..
     وكانت مدام مارى تذهب إلى المتجر بإنتظام عدا أيام الآحاد ومساء السبت .. فإنها كانت تقضيهما فى البيت أو فى نزهة خلوية على البحر ..
     وفى صباح يوم من أيام الآحاد رأيتها تسرف فى الزينة والتعطر .. ثم ظلت ساعة قلقة حتى جاءها كوستا .. وأخذها إلى شاطئ العجمى ..
     ومر الأسبوع الأول من شهر سبتمبر .. وقد وجدت ما يربطنى بالإسكندرية إلى نهاية الشهر ..
     وفى عصر يوم رأيت وأنا داخل البيت شخصا جديدا لم أره من قبل .. وكانت المدام جالسة قبالته على كرسى طويل وفى فمها السيجار ..
      وكان شابا مصريا فى الخامسة والعشرين من عمره نحيلا أسمر براق العينين وكان يعمل فى الطقم الذى فى الصالة ويغير الكسوة..
     وأدركت بعد فترة وجيزة أنه أخرس لما لم يرد تحيتى .. وجلست معهما لحظات أراقبه وهو يعمل ببراعة وحدثتنى المدام أنه اعتاد أن يقدم عليها مرة فى السنة .. يجدد الفراش والمراتب والمخدات ويغير الكسوة إن احتاجت إلى تغيير وأنه منذ خمس سنوات وهو يجئ إليها فى مثل هذا الشهر ولم يتاخر قط عن موعده ..
     وظل فى البيت أسبوعا كاملا يعمل إلى ساعة متأخرة من الليل ..
     وكان يذهب فى الليل إلى جهة « الحدرة » لينام ويجيىء مبكرا فى الصباح .. والواقع انه كان شعلة نشاط ليس لها ضريب .. واستطعت أن أتفاهم معه تماما بالإشارة ولاحظت أنه أخذ يعنى عناية خاصة بالغرفة التى أشغلها ويغير فراشها إلى شىء جديد ترتاح له العين ..
     وكان مرحا وضاحك السن .. ولاحظت أن مدام مارى لا تحتشم فى ملابسها أمامه فقد وجدتها مرة لابسة قميص النوم على اللحم وجالسة بجانبه تراقبه وهو يعمل بأبرته .. وكان السكون يخيم على البيت ..
     وكان هناك شىء قد أخذ ينمو على توالى الساعات والأيام والليالى فى عقل الأخرس وقلبه .. حتى أحب مدام مارى .. وتيم بها صبابة .. وكان يلاحظها بعينيه ويراقبها وهى رائحة غادية فى البيت وجالسة أمامه ومطلة من الشرفة على البحر .. وصانعة له فنجان الشاى .. ومقدمة له صحن الطعام ومحدثته بيدها .. ومحركة شفتيها وعينيها .. وكاشفة له عن صدرها ..
     وكان ينظر إلى عينيها ويستغرق فى التأمل .. ويستغرق فى الدوامة التى تلفه ..
     وكان يعيش فى شبه غيبوبة مطلقة وهى أمامه متنفسا أنفاسها وسامعا حركة أقدامها ..
     وكان كلما بعد عنها يرجع إليها .. وفى قلبه شحنة من العواطف الدافئة..
     وكانت بعد هذه السنوات الخمس من الحب الأخرس .. وقد ناهزت الخمسين وهو فى الخامسة والعشرين .. وزاد قلبه صبابة .. وجسمه اشتعالا ..
     ولم تكن تحس به ولا تدرى من عواطف قلبه شيئا ..
     والتقيت به ذات ليلة وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء .. نازلا على السلم فراعنى أن وجهه أصفر كوجوه الموتى .. ولما حييته رد بفتور وهو سارح البصر ..
     ولما دخلت البيت سمعت صوت كوستا فى غرفة مدام مارى .. فأدركت سبب غضب الأخرس ..
     ومر يومان وأقتربنا من نهاية الشهر .. وكان كل شىء عاديا فى البيت والمتجر .. وفى نصف الليل .. وكان السكون يخيم استيقظت على صرخة مفزعة .. ولما خرجت أهرول من غرفتى .. وجدت كوستا مضرجا بدمه فى الصالة .. والمدام مرتمية على جسمه وقد أصابتها مثل طعناته ..
      وكان الأخرس .. على بعد متر واحد منهما .. ولا يزال ممسكا بالسكين . ووجهه الشاحب قد سكن تماما .. ولا يبدو عليه الخوف من شىء ..
================================
نشرت القصة بصحيفة المساء 12/12/1962 وأعبد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
==========================================




النافذة

      سافرت إلى الإسكندرية لأقضى فيها ليلة واحدة أريح فيها أعصابى من عمل متصل مرهق ..
     ومع أنى كنت أود أن أقضى هذه الليلة قريبا من البحر ولكنى لم أنزل من القطار فى محطة سيدى جابر .. وبقيت فيه حتى بلغ محطة « مصر » ..
     ولما خرجت من نطاق المحطة .. استقبلنى أكثر من حمال ليحمل عنى حقيبتى .. الصغيرة .. واخترت الذى سألنى إن كنت أرغب فى غرفة مفروشة ..
     لأنى كنت أعرف زحام الفنادق فى شهر يوليو .. وأود أن أتعلق بقشة .. فإن لم أجد مكانا فى الفندق الذى اعتدت أن أنزل فيه .. دلنى هذا الحمال على الغرفة المفروشة ولم نجد فى الفندق الذى أعرفه ولا فى غيره من الفنادق فى دائرة محطة الرمل أية غرفة خالية ..
     فاستأت جدا .. لأنى أخترت هذا الوقت بالذات لأقضى عطلة الأسبوع .. وسرت مع الشاب إلى الغرفة التى حدثنى عنها ..
     ولما رأيتها لم تعجبنى إطلاقا .. وبدت لى صاحبة البنسيون نفسها .. بدت كأنها « عالمة » فى شارع القلعة .. ‍!
     فذهب بى الحمال إلى غرفتين أخريين .. فلم تروقا لى أيضا .. وأخيرا قال لى :
     ـ لا يوجد سوى هذا .. نحن فى عز الموسم ..
     فقلت له :
     ـ أنى أفضل أن أقضى الليل .. فى الشارع .. على النوم فى مثل هذه الغرف .. إبحث عن شىء مناسب ..
     ففكر قليلا ثم قال :
     ـ تفضل واسترح قليلا .. على هذه القهوة .. هناك غرفة ستعجبك .. لكن صاحبتها .. لم ترد أن تؤجرها لإنسان وسأحاول إقناعها بكل الوسائل ..
     وجلست وجاءنى بعد نصف ساعة .. وهو يسرع فى مشيته وقال بلهفة ..
     ـ تفضل .. قبل أن تغير رأيها ..
     ومشيت معه .. حتى وقف على باب بيت كبير .. وصعدنا إلى الدور الثانى .. وفتحت لنا سيدة مسنة الباب .. وكانت تضع يدها على عينيها كأنها لا تقوى على مجابهة الضوء ..
     ونظرت إلينا طويلا .. لتذكر سبب وقوفنا على بابها .. ثم قالت :
     ـ آه تفضل ..
     ودخلنا البيت .. وطالعنى الهواء المرطوب .. وخيل إلىَّ وأنا فى الصالة ألا أحد يتنفس فى الداخل .. فقد كان الجو خانقا ومحبوسا وبدا لى أن نوافذ الشقة لا تفتح أبدا ..
     وتقدمت أمامنا السيدة إلى غرفة فسيحة بعد أن فتحت النور فرأيت غرفة جميلة مفروشة بفاخر الرياش وهو شىء لم اقع على مثله فى المصيف ..
     وطلبت من السيدة أن تفتح نافذة الغرفة .. ففتحتها بعد تردد وهى تنظر إلى ناحيتى بقوة ..
      وسألنى الشاب :
     ـ أعجبتك الغرفة .. ؟
     ـ رائعة ..
     ـ السيدة تطلب .. جنيها فى الليلة ..
     ـ طيب .. هل أدفع لها المبلغ الآن ..
     ـ أبدا .. على راحتك .. أدفع بكرة ..
     وأخرجت ورقة بخمسة وعشرين قرشا ناولتها للشاب فاخذها وأنصرف .. وبقيت أنا فى الغرفة ..
     وسمعت السيدة تقول له .. قبل أن تخرج من الباب الخارجى :
     ـ الم تقل لى .. إنه عجوز .. هل هذا عجوز .. ؟
     ـ ياسيدتى .. إنه شاب طيب وسيقضى ليلة ويذهب لحاله .. هل سيأخذ قطعة من الشقة ..
     ـ ما كنا .. نريد أحدا ..
     ـ يعنى نقول له أخرج .. الآن .. أظن هذا لا يليق ..
     ـ إنك تعرف أننا وحدنا .. ماذا يقول الناس .. ؟
     ـ يا سيدتى كل الناس الآن تستفيد من الصيف والبيه يجىء كل أسبوع .. يعنى لماذا لا تستفيدين منه بضعة جنيهات أحرام .. ؟
     وانقطع صوته بعدها وخرج ..
     وفتحت حقيبتى وأخرجت فوطة .. وذهبت إلى دورة المياه لأغسل وجهى ..
     ولما رجعت سألتنى السيدة .. وكانت تنظر إلى بتوجس ..
     ـ هل تريد شيئا .. ؟
     ـ كوبا من الماء المثلج .. إذا أمكن ..
     ـ حاضر ..
     وذهبت .. وعادت تحمل الماء .. وكانت فى الخمسين من عمرها .. ولكنها كانت تبدو أكبر من ذلك .. كانت التجاعيد قد ظهرت على وجهها... والعينان انطفأ منهما البريق ..
     ودارت ببصرها فى الغرفة ثم حيت وانصرفت .. ودخلت غرفتها وأغلقت عليها بابها .. وطالعنى السكون المطلق من البيت .. سكون الرمس .. فلم أسمع حسا ولا صوت ولا دقة ساعة ولا منبه ولا صوت وابور .. ككل الأشياء التى نراها فى البيوت ..
     ورغم إحساسى الشديد بالجوع .. فإننى لم أترك البيت لأتعشى .. ودفعنى الفضول لأن أبقى ساعة ثم أخرج فقد كنت أود أن أعرف مع من تعيش هذه السيدة .. ولكنى بقيت ساعة .. دون أن أبصر أحدا سواها .. وأخيرا خرجت لأتعشى وأتنزه فى المدينة ..
     وعدت فى نصف الليل .. وفتحت لى نفس السيدة الباب .. وخيم السكون من جديد .. ووجدت كل النوافذ وأبواب الغرف مغلقة .. ومع أنى اعتدت على النوم فى الفنادق والبنسيونات وفى الفراش الغريب .. ولكننى توجست خيفة من البيت ومن السكون المخيم ومن نوافذه وأبوابه المغلقة دائما ..
      وقد أخذت هذه الخواطر تتجسم وترعبنى وتذكرت كل ما قرأته من القصص المرعبة عن الفنادق والبنسيونات مرة واحدة .. قفزت كل هذه السوانح إلى ذهنى فجأة ..
     وأغلقت الباب .. ولم أجد فيه مفتاحا .. وزادنى هذا رعبا .. فظللت ساهرا ..
     وفى صراع مع هواجسى النفسية .. حتى تعبت وأخذنى النوم وأنا مضطجع ولما فتحت عينى كان الصبح قد شعشع ..
     ورأيت وأنا ذاهب إلى الحمام بابا نصف مفتوح .. ووجها ينظر إلىَّ بفضول .. وجه فتاة لا تتجاوز العشرين عاما كانت تنظر إلىَّ بعينين مفتوحتين جدا .. كأنها ترى رجلا لأول مرة فى حياتها ..
     وأحسست فى الحمام بالرطوبة الشديدة .. تطل من الجدران .. وبدا لى أن النافذة لا تفتح أبدا .. واغتسلت سريعا .. وعندما عدت إلى الصالة .. وجدت الفتاة لا تزال واقفة فى مكانها .. ونظرت إلىَّ بعينين أشد جسارة ..
      ودخلت غرفتى وتركت الباب مفتوحا ومرت الفتاة أمامى ووراءها السيدة كانتا تنظفان البيت .. دون فتح النوافذ ..
     وكانت الفتاة كلما دخلت غرفة .. دخلت السيدة وراءها .. وظهر لى جليا أنها تتبعها كظلها فى كل حركة.. وأنها بمثابة الحارس .. عليها ولكنه الحارس الأحمق الذى يمنع عنها الشمس والهواء ..
     وكانت الفتاة مع جمالها النادر .. صفراء شاحبة .. وبدا لى اضطراب أعصابها .. من كل حركاتها فى البيت ..
     وطلبت فنجالا من القهوة من السيدة بكل لطف وأدب مخافة أن ترفض ..
     وحملته لى الفتاة على صينية صغيرة .. فطلبت منها أن تضعها على المائدة التى فى الصالة .. وبعد نصف دقيقة كانت السيدة وراءها وكانت الفتاة مضطربة جدا وخجلى ..
     ونظرت إلى الظلام الذى يخيم على البيت فى الساعة الثامنة صباحا وإلى الهواء الراكد .. وإلى جو يحس معه المرء بالاختناق ..
     وقلت للسيدة :
     ـ لماذا لا تفتحين النوافذ كما فتحت نافذة غرفتى ألا ترين فعل الشمس .. ؟
     ـ لقد اعتدنا على ذلك منذ سنوات طويلة ..
     ونظرت إلى حالها فى أسف وأخذت أشرب القهوة وأحادثها وعلمت أنها عانس وأن سعاد هى أختها الوحيدة .. وأن والدتهما كانت لبنانية وأبوهما مصرى وكانا يشتغلان فى صيدلية مشهورة فى المدينة وتوفى الوالدان منذ سنوات وتركاهما لعيش الكفاف وهما الآن يقضيان معظم الوقت فى البيت ولا يتنزهان ..
     ولم أسألها لماذا لم تتزوج لأنه وضح لى جدا أنها تنفر من الرجال وأنها رفضتهم منذ سنوات وقد تكون كرهتهم وأنها تحاول الآن أن تجعل الفتاة الشابة مثلها وتعيش حياتها ..
     وزادت نفسى حسرات على الفتاة وأن أرى هذا الجمال النادر يروح ويجىء أمامى وهو محبوس فى شبه قمقم ..
     وارتديت بدلتى وقلت للسيدة وأنا أحمل بيدى ماكينة الحلاقة الكهربائية ..
     ـ هل توجد ( بريزة ) فى الحمام أضع فيها الماكينة .. ؟
     ـ فى المطبخ أريها له يا سعاد .. وسأجىء لك بمرأة صغيرة حالا ..
     ومشيت وراء سعاد إلى المطبخ وتناولت منى حبل الماكينة الكهربائية لتضعه فى البريزة ووقفت أبحث عن المكان الذى نعلق فيه المرآة ..
     وسمعت صرخة حادة من الفتاة .. كانت وهى تضع طرف الحبل فى البريزة قد سرت فيها الكهرباء من الرطوبة الشديدة فارتعشت ووقفت حائرة وقد شلت عن الحركة فجذبتها بسرعة ووجدتها دون شعور ترتمى على صدرى بقوة وتضغط وتبكى بحرقة ..
     ولما جاءت السيدة بالمرآة شاهدت هذا المنظر الأخير ففتحت فمها ولم تنطق ..
     ومشينا بالفتاة إلى الصالة وبعد أن مسحت عبراتها وذهب عنها الروع ..
     قلت للسيدة :
     ـ أرجو أن تفتحى نوافذ البيت كلها الآن لتدخل الشمس وإلا سيتكرر الحادث على صورة بشعة ..
     ففتحت السيدة فمها .. كانت تود أن تحتج ولكن أمام نظراتى القوية تحركت وفتحت أول نافذة وفتحت أنا وسعاد باقى النوافذ ..
***
     وسافرت إلى القاهرة فى عصر اليوم نفسه ولكنى عدت إلى السيدة والفتاة مرة أخرى فى الخميس التالى بعد أن شعرت بأن لمسة الكهرباء مستنى أنا أيضا وأن جذبة سعاد إلى صدرى هى تنبيه قوى من الفتاة المسكينة لأنقذها من هذا العذاب ..
     وتزوجنا فى الصيف نفسه ودخلت حرارة الشمس وملأت كل جنبات البيت ..
========================================  
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 397 بتاريخ 3/8/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963 ================================



رجل فى القطار
                

     كانت الليلة شديدة البرودة .. والريح تنذر بالعواصف .. وكان كازينو " فينوس " قد أغلق نوافذه وأبوابه وترك فقط الباب الصغير الموصل للطريق مفتوحا .. وكان هذا بابا عتيقا فأخذت الريح تهزه .. وانطلق كلما دفعته الريح يدور على مفصلاته ويحدث صريرا مزعجا ..
     وجلس من وراء الباب بعض رواد الكازينو الدائمين متناثرين حول الموائد ولائذين بالأركان فبينهم من كان يشرب ويتعشى ويثرثر .. وبينهم من كان يحتسى الخمر فى صمت كئيب ..
     وكان الضوء شاحبا وقليلا فى الخارج والداخل .. وأنفاس الدخان الحارة تذوب فى الهواء البارد .
     وكان الجو كله يوحى بالكآبة والوحشة ورهبة الصمت وفى حوالى الساعة التاسعة من المساء .. دخلت من الباب الصغير امرأة شابة .. ترتدى معطفا سنجابيا .. ويبدو على وجهها الهزال والتعب ..
     وكانت جميلة حلوة التقاطيع متناسقة القوام ولكنها غطت هذا القوام البديع .. وبدت محتشمة فى ملابسها .. ولاتبرز شيئا من مفاتن جسدها .. وكانت وهى تتحرك بين الموائد مضطربة وفى أشد حالات الخجل .. وكأنها تبحث بعينيها عن شخص ينقذها من دخولها وحدها إلى مثل هذا المكان ..
     ثم جلست وحيدة .. منكمشة فى ركن قصى .. وما لبثت أن عـاودها الشرود فذهلـت عن نفسها .. ثم استـفاقـت على صـوت " الجرسون " يسألها عما تطلب ..
     فحدقت فيه برهة .. وهى أشد ما تكون اضطرابا .. كانت جائعة جدا وتود أن تطلب شيئا تسد به رمقها .. ولكنها تخشى أن يكون ثمن الطعام أكثر من القروش الخمسة التى فى حقيبتها .. فنظرت إلى الجرسون فى حيرة .. كانت تشتهى طبقا من المكرونة أو شطيرة صغيرة بالجبن .. وخجلت من أن تسأله عن ثمنها .. وأخيرا طلبت فنجالا من الشاى .. وهى تنظر إلى وجه الرجل فى استكانة وكأنها ترجوه أن يبتعد عنها ويرحمها إذ أنها فى الواقع لم تكن ترغب فى أن تطلب أى شىء على الاطلاق ..
     وبعد أن تركها " الجرسون " ومضى إلى داخل المحل .. جمعت سعاد أشتات نفسها المضطربة وأخذت تحدق بوعى فى المكان ..
     ولاحظت رجلا متوسط العمر .. يسدد إليها النظر بقوة .. فاضطربت جدا ولكن انتباه الرجل إليها سرها فى الحقيقة .. وتذكرت أنها رأت هذا الوجه من قبل وهى نازلة من الترام ..
     وسرت لأنه تبعها فقد كانت فى الواقع تبحث عن شخص تلجأ إليه فى محنتها وفرحت لهذا الغرض .. وكانت قد جاءت إلى هذا الكازينو من قبل مرة واحدة مع صديقة لها .. وعرفت منها أن تحت رواقه يلتقى الرجال بالنساء .. ومن الرجال من يدفع بسخاء طيب فى سبيل ملذاته ..
     وعندما سمعت سعاد هذه الكلمات لأول مرة امتعضت وخرجت تجر صاحبتها من الكازينو بسرعة وابتعدت عنه .. كانت رغم فقرها الشديد تخشى أن تتردى فى هذا الوحل أو يصل بها الحال إلى هذا الحضيض .. ولكن الكلمات ظلت مع ذلك فى أذنيها ..
     فلما مرضت أختها زكية مرضا أشرف بها على الموت .. وعجزت عن أن تشترى لها حتى زجاجة صغيرة من الدواء خرجت إلى الطريق كالمجنونة وعادت إلى رأسها صورة الكازينو .. والكلمات التى سمعتها من قبل .. فاتجهت إليه مغمضة العينين ..
     وكانت سعاد تشتغل من قبل فى منسج ثم طردت منه .. منذ أربعة أشهر دون سبب ظاهر .. ولم تستطع أن توفق إلى أى عمل وتستمر فى أدائه بعد ذلك .. فقد كان جمالها هو سبب نكبتها فى الحقيقة .. فقد طردت من قبل من مصنع العلب الكرتون .. ومن معمل للحلوى لنفس السبب .. كان كل من تعمل عنده ويدفع لها الأجر يود أن يخضعها لنزواته ويفترسها أولا كما يفترس الذئب الشاة .. فكانت تفزع من هذا .. وطارت على وجهها مذعورة وظلت محتفظة بصفائها .. ولكن الجوع حطمها .. ومرض أختها الطويل هز كيانها .. وكانت أصغر منها وهى عائلتها الوحيدة ..
     فخرجت من البيت فى ليلة شديدة البرودة مظلمة .. وفى رأسها أن تفعل كل شىء ..
     وعندما رأت هذا الرجل يلاحظها بنظراته سرت .. فقد كان هذا هو ما تطلبه وتسعى إليه .. وبعد أن حدق الرجل فى وجهها قليلا .. ولاحظ البسمة الخفيفة التى مرت على شفتيها والومضة التى فى عينيها .. اتخذ مجلسه فى مائدة ملاصقة لمائدتها ولكنه لم يحدثها بادىء ذى بدء بل ظل ينظر إليها طويلا ..
     ثم التفت إليها وأخذ يحادثها ولاحظ بعد تبادل بضع كلمات معها أنها أشد اضطرابا مما كان يتوقع .. ومع ذلك صبر على خجلها وظل يتبسط معها فى الحديث برقة وايناس ..
     وكان " الجرسون " قد جاء فى تلك الآونة يحمل الشاى .. فطلب الرجل منه فى الحال عشاء دسما وكأسين من الخمر .. ولكن سعاد رفضت أن تشرب فشرب الرجل الكأسين .. وطلب الكأس الثالثة والرابعة وظل يشرب ..
     وتعشت سعاد وملأت جوفها .. وظلت طول فترة العشاء تتفرس فى وجه الرجل .. تستوضح ملامحه .. كان مستطيل الوجه .. فى حوالى الخامسة والثلاثين من عمره ذا شارب صغير وعينين صغيرتين ولكنهما نفاذتان وكان صوته ناعما ملفوفا .. وفيه براعة ورقة من اعتاد التحدث مع النساء والتودد لهن ..
     ومع أنه كان جذاب الملامح وحلو الحديث ولكن سعاد أحست بعد أن شبعت وملأت بطنها بشاعة ما هى مقبلة عليه .. وفكرت فى أن تترك الرجل .. وتخرج ..
     ولكن كيف تتخلص منه بعد أن أطعمها من جوع .. وكيف تنسى أختها المريضة فى البيت .. ورجعت بفكرها إلى البيت وتصورت أختها وهى تموت دون علاج وظلت فى عذاب شديد .. وجعلتها سذاجتها تفكر فى أن تطلب من الرجل جنيها .. وتتركه على الباب ..
     ولكن الرجل قطع عليها حبل التفكير فى الحال بأن خرج بها من الكازينو وركب معها سيارة أجرة من قلب المدينة إلى محطة كوبرى الليمون وعرفها فى الطريق أنه يقيم فى ضاحية عين شمس وكانت قد ذهبت إلى هذه الضاحية مرة واحدة منذ خمس سنوات فى زيارة سريعة وعابرة .. وأعجبت بها وراقها هدوءها ودفؤها فى الشتاء ..
     وقد انشرح صدرها لأن الرجل يقيم هناك وستدخل بيته فى سكون بعيدا عن الأنظار وعن فضول الناس ..
     وعندما جلست بجواره فى عربة القطار المكشوفة ذات المقاعد الجلدية مع جموع الركاب .. شعرت بالاطمئنان ولكن عندما بدأ الناس ينزلون من العربة ويتركونها فى مختلف المحطات .. أحست بالخوف ..
     وكانت تصعد بصرها فى وجه الرجل وتراه يبتسم إليها فى وداعة فعادت تطمئن إليه ..
     وقد نسيت فى رحلة القطار ودخانه ووجود الركاب معها .. ما هى مقدمة عليه .. فلما خف الركاب أحست بأنفاس الرجل بجوارها وبالخشب .. والمقاعد الفارغة .. خافت .. وارتعشت من مجرد التفكير فيما هى ذاهبة إليه ..
                                  ***     
     وقبل أن يقف القطار على محطة الزيتون ظهر فى ممر العربة .. رجل طويل القامة عظيم الهامة .. يرتدى معطفا من الصوف الثقيل ويضع على رأسه عمامة بيضاء .. وكانت ذقنه طويلة سوداء لامعة تتخللها شعيرات بيضاء .. وعيناه شديدتا البريق .. وحرك دفترا صغيرا فى يده ..
     وأخذ يخطب فى الركاب بصوت جهورى ويحثهم على التبرع لبناء مسجد .. فى جهة الزيتون ..
     وكان يتحدث ببلاغة مذهلة وتتدفق الكلمات من فمه كالسيل .. وأثرت الكلمات فى الموجودين جميعا فانهالت عليه التبرعات .. ومنهم من دفع ورقة بخمسة قروش وبعشرة قروش .. وخمسة وعشرين قرشا .. وبلغ التأثر من راكب بأن أخرج جنيها صحيحا وسلمه للخطيب وعيناه تفيضان بالدمع ..
     وكان يفك للذين ليس معهم فكة .. ولا يترك راكبا دون أن يدفع ويتبرع ..
     وبعد أن انتهى من ركاب العربة .. دفع النقود فى جيب معطفه .. ولاحظت سعاد مع كونه لم يترك راكبا فى العربة إلا وأخذ منه التبرع ولكنه ترك الرجل الذى معها عن عمد .. ولم يوجه إليه أى كلام .. ولكنه كان يلاحظها هى بنظراته القوية حتى شعرت بالخجل من نظراته وكأنه عرف لماذا تركب القطار فى صحبة هذا الرجل فاستحيت وانكمشت ..
     وترك الرجل الضخم ذو العمامة هذه العربة .. ونفذ إلى العربة الأخرى ولكنه عاد .. بعد بضع دقائق .. إلى نفس العربة ومر بجوار سعاد بجسمه الضخم وقامته الفارعة .. وذقنه الطويلة ووجد مقعدا خاليا قريبا منها .. وفى الناحية الملاصقة للشباك .. فجلس عليه مسترخيا .. وقد بدا عليه التعب من الجهد الذى بذله .. ورأته بعد قليل يغمض عينيه وجعلته هزات القطار الرتيبة ينام فعلا ..
                                    ***   
     وكان الرجل الذى يرافق سعاد قد تعب من الخمر .. فمال برأسه على صدره .. فانتهزت سعاد هذه الفرصة وأخذت تلاحظ الرجل الآخر جامع التبرعات وقد أعجبها شكله وهندامه وقوة البريق الذى فى عينيه ورأت ورقة مالية تطل من جيب معطفة .. فاضطرب قلبها ..
     وطاف برأسها خاطر سريع .. دفعته عنها بقوة ولكنه عاد يسيطر عليها ووجدت نفسها تنهض من مقعدها بخفة وتتجه إلى دورة المياه ..
     ومرت بجوار الرجل عن قرب وتحققت من نومه .. ورأت الورقة المالية .. متدلية بأطرافها .. فزاد اضطرابها .. ومشت حابسة صوت أقدامها .. وهى تحدق فى كل ما حولها .. فوجدت المكان خاليا .. وهناك ثلاثة ركاب فى الناحية الأخرى من العربة .. ولا أحد بجوار الرجل النائم ..
     وذهبت إلى دورة المياه سريعا ثم عادت فوجدت الرجل الضخم جامع التبرعات نائما وحده على مقعده والورقة لاتزال تطل من جيب معطفه ..
     وأحست بالرهبة وبلسعة شديدة فى أطراف أناملها وهى تمد يدها سريعا وتتناول الورقة المالية وطوتها فى لمح البصر فى صدرها ..
     وكانت ورقة بجنيه كامل ..
     وظلت فى مكانها شاردة إلى أن أحست بالقطار يهدىء من سرعته ويقف على محطة المطرية فاندفعت بسرعة من الباب .. ونزلت من القطار إلى المحطة ..
     وبعد دقيقتين ركبت القطار المضاد الذاهب إلى القاهرة ..
                                      ***   
     وقبل أن ينتهى الإسبوع .. سمعت سعاد من جيرانها فى البيت الحديث عن رجل سفاح نشرت صورته فى جريدة الصباح يتصيد النساء الوحيدات من الأمكنة العامة ودور السينما ويذهب بهن إلى بيته فى ضاحية عين شمس .. وبعد أن ينال منهن وطره .. يقتلهن ويدفنهن فى الرمال .. وانتفضت سعاد لما سمعت .. عين شمس .. وتطلعت إلى صورة الرجل فى الجريدة .. ولما رأتها صرخت .. انه نفس الرجل الذى صحبها .. وهربت منه فى تلك الليلة ..
                               ***    
     وتزوجت سعاد .. وسكنت فى خط المرج .. وكانت فى كل مرة تركب فيها القطار .. تتمنى أن تلتقى بالرجل الضخم الذى أخذت من جيبه الجنيه .. والذى أنقذها من الموت والعار .. لترد له ما أخذته وتشكره من قلب بتول .. ولكنها لم تلتق به بعد ذلك أبدا .. وصور لها خيالها وسذاجتها أن الرجل لم يكن بشرا وانما هو ملاك هبط عليها فى تلك اللحظة من السماء ..
==================================== 
نشرت فى صحيفة المساء بالعدد 1551 بتاريخ 20|1|1961 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
====================================                                               

الرجل الشريف

أقمت فى بداية الحرب العالمية الأخيرة .. فى غرفة مفروشة عند أسرة أجنبية كانت تسكن فى شارع طشتمر بحى سليمان باشا .. وكانت الأسرة مكونة من رجل يونانى وزوجته الإيطالية .. وولدين أكبرهما فى السابعة .. وكان الرجل صاحب حانة فى شارع شريف وكان يمكن أن تدر له هذه الحانة الذهب فى وقت تحول فيه التراب إلى تبر .. لو سار مع عجلة الحرب وانغمر فى دوامتها .. ولكنه كان صارما وشريفا ..
فعندما جاءت الحرب بأعاصيرها وقاذوراتها .. وقف فى وجهها ولم يغير طريقته فى الحياة فلم يبع الخمور المغشوشة ولم يسرق ولم يقدم رشوة لأحد .. ولم يسمح لجندى واحد من جنود الحلفاء بأن يدخل البار .. كتب بالخط العريض " ممنوع " .. وقد حرمته هذه اللافتة من كل الميزات .. وكل الخيرات ولكنه كان راضيا .. وسعيدا .. ولم يكن من عادته أن يؤجر فى بيته غرفة لأى إنسان .. ولكنه رآنى بعد أن رجعت من السويس .. وكنت أقيم فى فندق صغير كان يديره هناك .. وسألنى أين أسكن .. فقلت له أننى أقيم مؤقتا فى فندق بالاس .. بشارع عماد الدين .. فقال :
ـ ولم هذا ..؟ تعال .. سأعد لك غرفة عندى ..
فشكرته ..
وقال بعد أن أرانى الغرفة :
ـ إن إيجارها جنيهان وهى خالية وسنأخذ جنيها واحدا للفرش ..
فقلت له وأنا فى غاية السرور :
ـ كنت أدفع ضعف هذا الأجر فى الفندق ..
ـ وهل أنسى أنك أقمت عندى أربع سنوات كاملة .. فى السويس فلم تتركنى رغم كل مغريات الفنادق والبنسيونات الأخرى ..
والحق أننى أقمت عند هذا الرجل فى السويس طوال هذه المدة .. ولم أترك فندقه قط وكنت أستمر فى دفع الأجر حتى عندما أسافر فى أجازة طويلة أو أرحل إلى الخارج ..
وكانت تمر عليه شهور طويلة ولا يكون عنده نزيل سواى ومع ذلك كان يكافح ويصمد فى وجه أعاصير الحياة ..
وكان فندقه نظيفا .. وشريفا .. فلا يسمح فيه قط بصحبة نساء الليل .. ولهذا كان نزلاؤه محدودين ولم يكن الرجل فى السويس متزوجا ولم أعرف أين التقى بسيلفانا وتزوج بها ..
وكانت حسناء شابة وتتحدث بكل اللغات ..
وكانت تعنى بولديها وشئون المنزل .. ولكنها كانت تتعطر وتتزين كل يوم .. وتخرج للنزهة .. وكانت ترتدى قرطا أسبانيا يتدلى وتضع على عينيها منظارا أحمر .. وتلبس جونلة وقميصا قصير الأكمام يبرز مفاتن الصدر أو فستانا قصيرا يكشف عن ساقيها .. وتمشى بمفردها تتبختر .. ونظرات المارة تلاحقها ..
ولم أكن آكل فى البنسيون أو حتى أتناول الشاى فى الصباح .. لأننى لا أشربه اطلاقا .. ولذلك لم أكن ألتقى بسيلفانا إلا قليلا خصوصا وأن معى مفتاح الباب الخارجى .. أما ميتشو زوجها فكنت أراه عندما أذهب إلى البار .. فى ساعات الوحدة الحزينة لأشرب شيئا ..
وكان يعرف أننى موظف فى أحد البنوك بمرتب صغير .. وأننى فى أول عهدى بالحياة .. وأريد أن أبنى الأساس للمستقبل .. وأرتفع بمستواى الاجتماعى .. وأزيد من ثقافتى ومعرفتى بالحياة والناس لأتزوج وأعيش سعيدا ..
ومع ذلك فأنا أجىء إلى البار كل مساء لأسكر .. وأعيش فى دوامة من الأسى لأننى فقدت الإيمان بالحياة وبالمستقبل ..
وكان جنود الحلفاء يحتلون المدينة .. ويقضون الليالى فى المواخير والحانات ودور اللهو وكانت الغارات .. والظلام .. والجوع ونقمة المواطنين على التموين .. وكان الخبز يختفى ثم يظهر أسود كالطين .. ومع ذلك كنا نأكل لأنا نود أن نعيش .. وكفى ..
ولم يكن ميتشو .. يبيع الخمور المغشوشة أو يقدم الماء الملون بدل الويسكى أو يفعل أى شىء ضد الحلفاء .. ومع ذلك أعتقل وأغلق البار .. وأصبحت أعيش وحيدا مع سيلفانا ..
وعلمت أنه أعتقل لأنه متجنس بالجنسية الإيطالية فقد عاش سنين طويلة فى نابولى .. ومتزوج أيضا بإيطالية .. ثم سمعت أنهم وجدوا عنده خمورا مسروقة من " النافى " ..
ولكثرة الأقاويل لم أسأل عنه وتركت الرجل للمقادير ..
***
وكان فى مواجهتى منزل قد اتخذ مسكنا " للمجندات " .. وكنت أرى هـؤلاء الفتـيات وهن رائحـات وغاديات فى حجرات البيـت وردهاته .. وأشاهدهن وهن جالسـات يدخـن السجـاير .. ويشربن البراندى .. وأراهن يخلعن ملابس المجندات استعدادا للنوم .. ويرتدينها فى الصـباح .. ويقـمن بالحركات الرياضـية " السـويدية " وأشاهدهن فى أحزان الوحدة .. أو عندما يعدن من سهرة صاخبة .. ويستلقين على الأرائك يسترجعن الذكريات الحلوة ..
     وكان منظرهن يثير أعصابى ..  وأنا  أراهن من نافذة غرفتى .. كاشفات عن كل المفاتن .. فأجلس أدخن بعصبية وقلق .. وعلى مدى قليل منى فى الغرفة المجاورة تنام سيلفانا وحدها .. دون زوج ودون رجل يدفىء فراشها ..
***
وكان من السهل علىّ أن أترك الغرفة بعد أن أعتقل الرجل .. ولكننى وجدت من الدناءة أن أحرم عياله من ثلاثة جنيهات فى الشهر .. وكنت أعرف أن سيلفانا لا تحفظ رباط الزوجية .. وأنها تخون زوجها .. لا لأنها تكرهه بل لأنها لا تجد فى الخيانة أى بأس .. وكانت بوهيمية ذات طبع نارى .. وكانت تذهب برفقة العساكر الإنجليز إلى السينما وإلى البنسيونات وتقضى معهم ساعات من الليل .. ولولا أنها تخشى بأسى وتعرف طباعى لجاءت بهم إلى بيتها ونامت معهم فى فراش ولديها .. فلم تكن ترعى أى حرمة .. وكنت أعيش معها وأحاول دائما أن أجعل حاجزا بينى وبينها .. وكانت هى تدخل غرفتى فى النهار والليل .. وترتب فراشى .. وتأخذ ملابسى إلى الغسيل .. وتجىء بالملابس المكواة .. وتحادثنى وهى جالسة ونائمة وتقترب منى حتى أشعر بعطر جسمها .. وبالزفير الذى يخرج من فمها .. ومع ذلك فما فكرت فيها قط .. ولا رأيتها إلا زوجة الرجل الذى ائتمننى وأسكننى فى بيته .. وجعلنى أراها فى كل مباذلها .. فيجب أن أرعاها على الأقل فى الساعات التى أكون موجودا فيها فى المنزل وكانت هى تحاول إغرائى بكل ما تستطيعه الأنثى .. ولكننى كنت جامدا كالصخر .. ولما يئست أخيرا منى تحول اندفاعها نحوى إلى كراهية شديدة خصوصا بعد أن ضيقت عليها الخناق فى البيت ..
وحدث ذات ليلة من ليالى الشتاء أن عدت إلى البيت متأخرا فوجدتها جالسة وحدها فى الصالة .. وكانت تبكى وقد استغربت البكاء منها .. لأنها ضاحكة أبدا ولعوب .. وتصورت أن زوجها توفى وأن النبأ حمل إليها بطريقة أثارت أعصابها ..
وسألتها عن سبب البكاء .. فقالت أن ابنها جورج .. مريض وحرارته 40 .. وكانت وهى تقول لى هذا الكلام ترتعش وقد عجبت للأمومة الفياضة التى انبثقت منها فجأة .. ودخلت معها إلى فراش الغلام وجسست نبضه وحرارته .. وطمأنتها .. فقالت :
ـ ألا نستدعى الطبيب ..؟
ـ أبدا .. ليس به شىء على الاطلاق ..
ـ سأعطيه نصف قرص من الأسبرو ..
ـ ولا أسبرو .. هاتى شوية سبرتو أحمر .. وخل .. وإذا لم يشف فى الصباح .. أخنقينى وأنا نائم ..
وضحكت .. ونهضت لتجىء .. بالسبرتو والخل ..
ودلكت الغلام جيدا ودعكته .. ثم دثرته ببطانيتين من الصوف .. وبقينا بجانب فراشه حتى نام .. وكانت تنظر إلىّ وتحادثنى هامسة بعد أن نام الغلام .. وقد اكتسى وجهها بفيض من الحنان الأمومى .. وقد أعجبت بها فى هذه الساعة وأحببتها .. وتمنيت أن تكون لى .. وألا تكون زوجة ميتشو ..!!
وعندما لمست جسم الغلام بعد ساعة ووجدته يسح بالعرق .. همست إليها بأن تقترب لترى النتيجة .. فمدت يدها .. ولما وجدت أن الحرارة ذهبت نظرت إلىّ فى فرح .. وأخذت يدها تتحرك من تحت البطانية حتى لامست يدى .. ثم أمسكت بها وضغطت عليها .. ووجدت أن الحرارة التى كانت فى الغلام قد انتقلت إلينا .. وأن يدى قد استراحت فى يدها والتصقت بها .. وما من فكاك .. وظللنا على ذلك مدة .. ثم وجدت نفسى ابتعد عن فراش الغلام وظلت ممسكة بى .. ودون أن تنبث اقتربت منى والتصقت بى ودفعتنى إلى الحائط ودارت ذراعاها حول عنقى وكان مفتاح النور خلف رأسى فأطفأته وشدتنى إليها .. وطوقتها وانحنيت على فمها .. وكأن فى شفتيها نارا متقدة .. وفى أثناء هذه الحركة سقط ازارها .. وبدا لحم كتفيها وصدرها العاجى .. تحت نظرى .. وعندما رأيت هذا انتفضت فجأة وشعرت بقرب الهوة التى اقترب منها .. وتذكرت الرجل المسكين .. فدفعتها عنى فى عنف ووحشية .. وارتمت على بلاط الغرفة تلهث .. ودخلت غرفتى وأغلقت الباب بالمفتاح ..
***
وفى الصباح لم أرها .. وأنا خارج .. وفى المساء وجدتها فى الصالة .. وكان ابنها المريض بجانبها وقد نهض من الفراش فحييتها .. ودخلت غرفتى وعندما وجدت أننى لم أبرح الغرفة .. جاءت إلىّ بدورق من الماء وبفنجان من القهوة .. ووضعتهما على المائدة دون أن توجه إلىّ أى كلام .. وخرجت .. وشربت القهوة وظللت ثلاث ساعات ساهرا .. وأنا أحس بحركتها فى البيت كأنها وحيدة معى لأول مرة .. تحت سقف واحد .. كنت أحس بها وهى ذاهبة إلى المطبخ .. وهى راجعة منه .. وهى تتحرك فى الصالة .. وهى تنيم الطفلين .. وهى تتزين قبل النوم .. وهى تخلع ملابس البيت وتلبس القميص ذا الحمالات .. لتذهب إلى الفراش .. وهى تتحرك بكامل حريتها فى الغرفة ..
وقد تبقى عارية تتأمل محاسنها فى المرآة .. وتتساءل لماذا يرتمى الناس تحت أقدامها .. وأصدها أنا .. لأنى أحمق .. أم لأنى جبان .. أم لأنى أشغل نفسى بالحماقات .. بالصداقة والمحافظة على العهد والوفاء لرجل محبوس ..
ولماذا أصد امراة .. أعرف أنها تخون زوجها مع أى رجل .. وربما كان زوجها يعرف ذلك .. ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا .. أو يستطيع ولكنه لا يريد لأنه تبلد .. وتحت سيل من الخواطر المنهمرة نمت وأنا أتقلب فى الفراش ..
***
وفى صباح يوم أفرج عن ميتشو وجاء إلى بيته واستقبلته زوجته وولداه بالعناق وهكذا عاد رب الأسرة واستأنف عمله فى البار ودارت عجلة الحياة ..
***
وكنت أذهب إلى البار لأشرب معه ولاحظت على مر الأيام أنه تغير وأنه يطوى نفسه على لوعة مستكنة وفى مساء يوم أحد .. وجدته يشرب فى البيت فدعانى إلى مائدته فجلست وشربت وشرب هو كثيرا وشربت معنا زوجته .. ثم أحست سيلفانا بالتعب فتركتنا إلى غرفتها .. وظل هو على المائدة يشرب حتى ثقل تماما .. فأخذ يلعن الحرب وكل آلات الدمار البشرى .. وكل الكوارث التى تعقب الحروب وسمعنا حس سيلفانا فغمز لى بعينه .. وقال :
ـ إنها تناديك ..
فانتفضت ..
ـ من ..؟
ـ سيلفانا ..
فنظرت إليه فى حنق وأدركت أنه مخمور فلم أقل شيئا ..
وقال :
ـ إنها سكرانة .. وإذا لم تذهب إليها أنت .. ستنزل بالروب وتصطاد أى رجل من الشارع .. هكذا هى عندما تسكر .. فاذهب إليها .. وأنا كما ترى .. سكران .. وعاجز .. رجعت من المعتقل هكذا .. لقد سقطت بالقرب منى قنبلة مباشرة .. مباشرة ..
واحمرت عيناه وأغلقهما وانطلق يهذى ..
وأخذت أسبه وتركته حانقا ..
وفى الصباح اعتذر لى ..
***
ولكننى لم أمكث فى بيتهما بعد ذلك مدة طويلة .. فقد استيقظت ذات ليلة على صراخ سيلفانا ولما أسرعت إليها .. وجدته يطعنها فى جسمها والدماء تغرق الفراش ..
ووجدت بجانب الفراش .. صورة لامرأة .. فى أحضان رجل .. وكانت الصورة ممزقة فلم أتبين الأشخاص ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 161 بتاريخ 24/1/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
==========================














البخيل والعروس

عاش السيد مراد أعزب حتى جاوز سن الستين .. وكان مترددا فى الزواج فى شبابه وفى حياة والديه .. فلما أدركته الشيخوخة .. ومات الوالدان ظل التردد يلازمه وبدت الحسرة فى أعماقه على شىء كان يعتبره ضروريا ولكنه عجز عن تحقيقه ..
وازداد الأمر سوءا عندما مات كل من يمت له بصلة القربى .. وأصبح وحيدا .. فى الحياة ..
وكان يحس بمرارة الوحدة أكثر وأكثر عندما يترك بيته فى القاهرة ويسافر إلى الريف حيث ورث ضيعة كبيرة وعليه أن يحصل على إيرادها .. ولم يكن يذهب إلى الضيعة وإنما كان يقيم فى مدينة مغاغة فى فندق يطل على ترعة الابراهيمية مباشرة .. وكان الفندق فى بناية حديثة من ثلاثة طوابق وخلفه حديقة جميلة .. والخدمة فيه لا بأس بها .. ولكن السيد " مراد " كان يحس بأن الصلة التى تربطه بالناس أساسها القرش الذى فى جيبه ولا شىء سواه .. فإذا لم يكن هذا القرش موجودا فإنه يصبح ضالا .. وطريد الحياة ..
وكان هذا الخاطر المتسلط يستحوذ عليه فى الواقع بشكل رهيب .. ويدعوه إلى البخل الشديد وإلى تحصيل إيراده بالمليم الواحد ..
وكان كثير الحركة ولا يستقر فى مكان واحد فى الفندق فيخرج من البهو الداخلى إلى الحديقة الخارجية .. ثم يعود إلى البهو ثم يجلس بجوار التليفون .. ثم يصحب كرسيا إلى الناحية الشمالية من الحديقة .. وهناك يجلس مسترخيا كأنه يتأمل .. ثم لا يلبث أن يقف مذعورا كأنما لسعته عقرب .. ويصيح بإبراهيم أصغر الخدم فى الفندق ..
وكانت طلباته لا تنتهى .. ولا تكف يده عن التصفيق لحظة واحدة ومن عادته أن يشغل أربعة من الخدم فى وقت واحد .. فيبعث عبده ليأتى له بالأسبرين .. وإبراهيم يشترى له علبة السجائر ويطلب من إسماعيل فنجانا من الشاى .. ومن توفيق أن يأتى له بالنظارة التى تركها فى غرفته ..
وما من واحد من الخدم يمر عليه فى الصباح وهو جالس فى حديقة الفندق إلا ويعرف أنه سيكلفه بمشوار ..
ومنهم من كان يأتى له بما يطلب .. ومنهم من يقول " حاضر " دون أن يفعل شيئا ولكن مراد كان راضيا عنهم جميعا لأنه كان ينسى ما طلبه بعد دقيقة واحدة لكثرة ما يشغل به فكره من حاجات .. ولأنه كان يعتبر نفسه فى الواقع يعامل معاملة خاصة من صاحب الفندق وحتى من الخدم رغم بخله ..
وكان غرضه الأول من التصفيق هو أن يشعر الجميع دائما بوجوده وبسطوته ..
وكان ثراؤه العريض هو شفيعه فى كل تصرفاته وما يصدر منه من مضايقات .. وكان كل من يؤدى له خدمة يتصور أنه سيمنحه فى آخر الأمر هبة مجزية .. أو يوصى له ببعض المال فى ساعاته الأخيرة ..
وكان مراد يمتلك أحسن ضيعة تغل القصب فى المنطقة كلها ..
وكان من السهل عليه أن يعهد بالأمر كله إلى وكيل عنه فى المدينة يحصل أمواله ويريحه من مشقة السفر ومن المشوار ولكن مرادا كان حريصا على أن يزاول كل شىء بنفسه وقد ساعدته صحته القوية على العمل .. وكان طويل العود .. أبيض مشربا بحمرة خفيفة .. وورث عن أبيه القامة الصلبة والصحة والصبر على العمل ..
وقد وصل إلى هذه السن دون أن يمرض بمرض يشغل البال ..
وكان يمشى فى طرقات الفندق ويقفز السلالم إلى الطابق الثانى كأنه لم يتعد الثلاثين ..
وكان يضايقه أنه يقضى اليوم كله فى الفندق ويأتى الفلاحون إليه فى الساعات الأولى من الصباح ويظل معهم فى حساب ومنازعة إلى الليل فيبقى فى دائرة ضيقة .. وأخذ بعد ثمانية أيام يحس بالملال والوحدة القاتلة .. فكان يخرج يتمشى على ترعة الابراهيمية وينطلق إلى حيث تقوده قدماه فى الليل الحالم ..
ومغاغة مدينة طيبة المناخ من أجمل مدن الصعيد وهى كثيرة البساتين وقد حبتها الطبيعة مناظر خلابة .. فكان يحس وهو منطلق على الترعة بالبهجة لأنه ظل إلى هذه السن قوى البدن .. ولكنه كان يحس بالتعاسة لوحدته .. وأدرك أنه يعيش فى الحياة من غير غاية ولا غرض .. ولا حتى ذكرى .. رغم كل ما معه من مال ..
وكانت النقود التى يجمعها كل يوم من الفلاحين .. هى التى تقلق راحته وتشغله كثيرا .. فلم يحب أن يتركها فى غرفته بالفندق خشية السرقة أو أن يدعها كأمانة عند صاحب الفندق .. لأن المبلغ كبير ومطمع لكل من تتذبذب أمانته .. وكان يمكن أن يدعها فى فرع من فروع البنوك الكثيرة فى المدينة ولكنه لم يكن يحب أن يودع نقوده فى البنوك ..
وأخيرا ارتضى أن يضع المبلغ فى حزام له جيوب يشده على بطنه ويحمله ويدور به حيثما ذهب .. وكان قد شاهد هذا الحزام مع أحد الحجاج الذاهبين إلى البيت الحرام .. فاشترى مثله ..
ومع حبه الشديد لجمع المال ومع صحته القوية .. وجسمه الذى ظلت خلاياه متماسكة .. تعمل فى نشاط عجيب .. إلا أنه فى الأيام الأخيرة كان يفكر فى الموت كأمر حتمى يقع لكل إنسان ..
وكان مما يزيد الحسرة فى نفسه أنه سيترك العالم من غير ذكرى .. وأن شجرة الأسرة ستقطع تماما .. تقلع جذورها من الأرض ..
وكان هذا الخاطر يؤلمه ويعذبه عذابا شديدا ..
وكانت جولاته على حافة الترعة تفسح له المجال للتأمل ..
ففكر فى أن يكتب وصيته ويجعل فيها ثروته كلها للفقراء من أهل بلدته ..
***
ورجع إلى الفندق وفى عزمه تحقيق هذا الخاطر .. ودخل جذلا مبتهج النفس .. وقد ازدادت بشاشته وسمع وهو يدلف إلى غرفته صوت أنثى .. وكان الصوت جميلا ومنغما ..
ولم يكن فى الفندق نساء .. ولا كان رأى منذ نزل فيه ثوب امرأة فأحس مراد بقلبه يرتجف .. وكان صوت الأنثى فى الواقع يرعش بدنه ..
ورأى هذه السيدة تتناول طعام الافطار فى الصباح مواجهة .. وهو جالس فى حديقة الفندق الصغيرة ..
وكانت تشرب الشاى .. فى نفس الحديقة وترتدى ثوبا أسمر أكسبها جمالا .. وأضفى عليها طابع الأرملة الحزينة وإن كانت عيناها العسليتان ضاحكتين أبدا .. والتهبت عواطفه فهذا هو الجمال والاحتشام الذى ظل طوال هذه السنوات يبحث عنه ولا يلتقى به .. وها هو يلتقى به مصادفة ..
وشعر بهزة .. أنها أرملة وفى حاجة إلى رجل .. كما أنه فى حاجة إلى امرأة وفكر فى أن مثل هذه المرأة تسعده حقا وتعوضه عما فات من حياته الجافة ولم يكن يدرى كيف يبدأ معها الحديث ..
أن لها وكيلا يأتى إليها كل صباح فى الفندق .. أيحدثه .. واستحيا مراد من هذا الخاطر .. ولكنه سيسأل عنها ويعرف من أين هى قادمه ..
وفى مساء اليوم نفسه عرف أن اسمها مديحة وأنها من أسرة كبيرة فى القاهرة .. وجاءت إلى مغاغة مثله لتحصل على الإرث الذى ورثته عن زوجها ..
***
وعندما خرج مراد يتمشى فى الليل بجوار الترعة وحده كان يتصور أن مديحة بجواره وأنه يسمع ضربات قلبها ويحس بأنفاسها العطرة ..
ويرى وجهها المضىء فى الليل الحالم منعكسا على صفحة الترعة ..
وكانت المدينة زاهية فى نظره بمصابيحها البللورية وأشجار السرو والجميز واللبلاب وخط الكافور الطويل الممتد بجوار المزارع ..
كانت زاهية بكل ما فيها من حياة .. كانت الحياة جميلة .. ولأول مرة يحس بأنه يعيش لغاية وغرض ..
وفكر فى أن يغير طريقته فى الحياة وأن يرخى حبل بخله المشدود .. وأن يتعاون مع الناس ولا يوجد أحد قائم بذاته كالجزيرة .. إذ يجب أن يتعاون الناس بالاحسان والبذل .. وأن يبدأ بالخير بانشاء مستشفى فى قريته .. ومدرسة ابتدائية ومسجد ويجزل العطاء لكل محتاج ..
وأن يعطى عشرة جنيهات قبل سفره إلى صاحب الفندق ليوزعها على الخدم .. قرر هذه الأشياء كلها وهو عائد إلى الفندق ..
***
وتعشى .. وقبل أن يذهب إلى فراشه كان يفكر فى هذه السيدة الجميلة .. وظلت صورتها فى ذهنه حتى استغرق فى النوم ..
واستيقظ ليتوضأ ويصلى الفجر حاضرا ..
وسمع .. وهو يمشى على مهل فى الطرقة حابسا صوت أقدامه حتى لا يوقظ النائمين فى الجناح .. صوت همس فى الحجرات فحبس أنفاسه .. وتوقف فى الضوء الشاحب وهو يمسح بالفوطة على وجهه .. وسمع حركة الباب وهو يفتح .. ثم أطلت مديحة هانم الأرملة من فرجة الباب ورأى وجهها وهى تتلفت فى ذعر يمينا وشمالا .. وكان شعرها منكوشا وملامحها مضطربة .. فتوارى مراد فى الردهة الصغيرة حتى لا تراه .. وظل فى مكانه تنتابه الهواجس حتى رأى إبراهيم الخادم يفتح الباب بحذر ويخرج من غرفتها ويمضى كالسهم .. فى الطرقة .. ولا يدرى أبصر به الخادم أم لا .. وهو يمر بجواره .. ولكنه ظل فى مكانه مشلول الحركة لا يريم والمكان يدور به وعيناه مظلمتان تماما ..
ولما وصل غرفته .. انكفأ على الفراش دون أن يصلى ..
وعندما رآها فى صحوة النهار .. لم ير فى وجهها ما يدل على أنها أحست به وهو يتلصص عليها أو أن الخادم شاهده وهو يجاوزه فى الليلة السابقة .. ومر اليوم كئيبا وخانقا .. وابتعد عنها ..
وبعد أربعة أيام .. قضاها فى الفندق فى كآبة موحشة وشك قاتل .. عن له خاطر ذات ليلة .. وهو يمر فى ردهة الفندق .. وكانت الغرفة الملاصقة لغرفة مديحة خالية من النزلاء .. وجميع من فى الفندق قد نام .. أن يدخل هذه الغرفة الخالية ويستمع إلى ما يدور فى غرفة مديحة من الباب المغلق الموصل إلى الغرفتين ..
ودخل الغرفة فعلا بحذر شديد ووضع أذنه على الباب .. وسمع مديحة .. تحادث شخصا .. وتبين بعد لحظات أنه إبراهيم بعينه .. وسمع صوت القبلات .. فدارت به الأرض ..
وعندما فتح الباب وخرج .. رآها فى الطرقة تنظر إليه بوجه نمرة .. وكانت قد أحست به وبكل تحركاته ..
وأسرع وانزوى فى غرفته ..
***
وفى صباح اليوم التالى وجد مراد فى غرفته مقتولا بسكين ووجد الحزام ملقى فى وسط الحجرة فارغا .. وقد أخرج كل ما فى جيوبه من أوراق البنكنوت ..
ووجد فى أوراقه بضعة سطور كان قد كتبها من الوصية التى كان يرغب فيها أن يجعل ثروته للفقراء ..
========================== 
نشرت القصة فى صحيفة المساء بالعدد 1488 بتاريخ 18/11/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
======================= 
   

     




تذكار

          شارع القلعة شارع تاريخى .. ومن أقدم شوارع العاصمة .. وهو شارع طويل وحافل بمختلف الأشياء والسلع .. ففيه توجد دار الكتب المصرية والمكاتب التى تبيع الكتب القديمة والحديثة ودكاكين التجليد الفاخرة والمطابع الصغيرة .. ومحلات الدباغة بكل أنواعها .. والحوانيت التى تبيع الآلات الموسيقية الشرقية والغربية .. والصور الفوتوغرافية ورسوم الزيت والخردوات بكل أشكالها .. ودكاكين البقالة الصغيرة والكبيرة .. ومحلات الحلوى الشعبية .. والمطاعم الصغيرة .. والحانات .. وكل مايحتاجه الإنسان يجده فى هذا الشارع الشعبى ..
     والحانات فى هذا الشارع تقع فى المنطقة التى بين دار الكتب وميدان العتبة .. وهى ليست كثيرة .. ولكنها حافلة بالرواد .. لأنها قريبة من مركز الثقل فى المدينة حيث تتركز كل الأعمال الثقيلة فى شارع الأزهر وشارع الجيش .. فبعد عمل شاق يجد الشيالون والعمال أنفسهم مسوقين بقوة لاتقهر إلى المقاهى والحانات .. لينسوا تعب النهار وكده فى الشاى الأسود والخمر ..
     وكان الخواجة تاليدس .. يملك حانة صغيرة فى شارع القلعة .. ولما توفى فجأة اضطرت زوجته .. ايرين .. أن تديرها لتأتى برزق الأطفال .. وبعد شهر واحد من موت زوجها روعت بسيل من الأوراق التى لاتدخل فى حسبانها من الجهات الرسمية .. ومن التجار المتعاملين مع زوجها .. حتى فقدت أعصابها وأدركت أنها لاتصلح لهذا العمل ..
     وكان يؤلمها أنها لاتعرف لغة هذه الأوراق ..
     وفى كل يومين أو ثلاثة .. كان يدخل عليها العسكرى .. متأبطا .. ملفا قديما متسخا يخرج منه ورقة .. يقدمها لها فى غير مبالاة .. وكأنه يقدم لها صك الموت .. ومرة تكون الورقة من الضرائب .. ومرة أخرى من السجل التجارى ومرة من الأحوال الشخصية ..
     وكانت تنظر لهذه الأوراق ببلاهة .. وتحدث نفسها .. هل ترك تاليدس كل هذه التركة المثقلة بالديون لى .. وهو يعرف أننى وحيدة .. ولماذا فعل هذا ..؟
     وكانت عيناها تدمعان وهى ترى هذه الأوراق فى بيتها وهى وحيدة مع أطفالها ولا نصير لها ولامعين  كانت تبكى بحرقة .. وزاد الحال سوءا لما اشتكاها أحد العمال لمصلحة العمل .. ثم حدث ماشل حركتها تماما عندما توقع عليها الحجز من الضرائب ..
     وكان من زبائن الحانة .. رجل فى الأربعين من عمره ويدعى شفيق أفندى .. وكان يأتى فى الليل عادة بعد الساعة الثامنة .. مساء ولا يتخلف ليلة .. ويجلس وحده إلى مائدة ملاصقة للبنك الذى تجلس عليه ايرين ..
     وكان يشرب البراندى ونظره عالق بها .. يأخذ جرعة ويضع الكأس كأنه يحتسى فنجالا من الشاى فلاحظها ذات ليلة وهى تخفى دموعها وسألها عما حدث فحكت له ايرين كل ما جرى فى الأيام الماضية ..
     وقدمت له آخر ورقة .. تركها لها العسكرى فى الصباح .. وطمأنها شفيق أفندى .. وقال لها باخلاص :
     ـ سأقوم بكل الإجراءات .. نيابة عنك .. ولاداعى لأن تشغلى نفسك بهذه الأشياء ..
     ـ كم أشكرك .. إن هذه الأوراق روعتنى وحطمت أعصابى .. وأنا لا أعرف أى إجراء .. لا أعرف كيف أحل هذه المشاكل كلها .. لا أعرف شيئا على الإطلاق .. وكل من يؤدى لى خدمة يطلب الفلوس .. وليته يأخذ الفلوس ويأتى بنتيجة .. أنا أرملة مسكينة .. أعمل معروفا انقذنى من هذا العذاب ..
     ـ لاتفكرى فى هذه الأشياء من الآن .. سأنهيها كلها .. لاتشغلى نفسك بها .. اعتبرينى كالمرحوم ..
     وشكرته بحرارة .. وهى تقدر أن عذابها قد انتهى .. ومن هذه الساعة أشرف شفيق أفندى على كل حاجاتها .. وكان يقوم لها بكل الأعمال التى تتصل بالجهات الرسمية .. ويظل يلف فى النهار كالنحلة حتى يخلصها من كل المتاعب ..
     وانزاح عنها الحمل الذى كانت تدور به .. وكان يعذبها .. وتفتحت نفسها للحياة من جديد .. وأخذت تبتسم وتتزين ..
     وكان يجلس بجانبها كل ليلة يحادثها .. واطمأنت لصوته .. كما اطمأنت لخدماته .. وكان صوته يشيع فيها الدفء .. ورثت لحاله وأشفقت عليه لما عرفت بعض حياته الخاصة .. عرفت بأنه أرمل تزوج منذ خمسة عشر عاما .. ومكثت معه زوجته اسبوعا واحدا ثم هربت .. ومن وقتها وهو فى نزاع معها فى المحاكم .. لأنها حملت منه وأخلفت بنتا ..
     ومن الوقت الذى بدأ فيه شفيق يحادث ايرين عن حياته الخاصة .. وهى تشعر بأنها فى حاجة لأن تتزين .. وأن تخفف من مظاهر الحداد على المرحوم ..
     وكانت فى الثانية والأربعين من عمرها ممتلئة الجسم بيضاء البشرة سوداء الشعر .. وكانت تأنس بحديث شفيق كل ليلة .. حتى أصبح جزءا من حياتها .. كان يحدثها عن أحواله وآلامه بقلب يتمزق .. كان تعسا على طول الخط لم يشعر بالسعادة قط .. وقد جرته التعاسة إلى الخمر ..
     وكانت ترثى لحاله .. وتجد رابطة خفية قد جمعتها به .. وشدتها إليه .. وعندما كانت تجمع نقودها من خزينتها فى الساعة العاشرة مساء وتنطلق إلى بيتها .. القريب .. فى أول شارع الهدارة بعابدين .. بعد أن تسلم المحل لأحد العمال .. كانت تشعر بأسف .. وتود أن تبقى فى المحل إلى نصف الليل .. لأنها تشعر فى البيت .. بوحشة .. وفراغ .. لم تكن تحس بهما فى الحانة ..
     وكان أولادها الثلاثة .. يشغلونها فى الصباح .. وهم ذاهبون إلى المدرسة .. ولكن فى الليل .. وهى راجعة .. من المحل .. كانت تجدهم نياما .. وتجد الخادمة بدرية نائمة أيضا .. وكانت تحس بالوحدة القاسية وبهزة فى أعصابها .. كأن شيئا يتمزق فى كيانها ..
     وكانت الليالى دافئة .. ولكنها كانت تحس بالبرودة وبالوحشة وبالعذاب الذى يضنيها ..
     وبعد موت تاليدس .. بشهرين اثنين عرض عليها أكثر من رجل الزواج .. ولكنها رفضتهم جميعا .. كانت تعرف أنهم يرغبون فى ايراد الحانة وأن أحدا منهم لم يفكر فيها فى الواقع .. كأنثى ..
     وكانت تود أن تبقى كما هى دون زواج لتربى الأطفال الصغار .. وكانت تعلم أن أى رجل يدخل فى بيتها .. مهما تكن صفاته وتكن أخلاقه سيشغلها عنهم .. ويتضايق فى الوقت نفسه منهم ..
     وكانت تتسلى فى النهار بالعمل .. وبالإشراف على المحل ..
     وفى الليل كانت تشعر بالراحة عندما يقبل شفيق .. ويجلس بجوارها .. كانت تشعر بسعادة غامرة .. ولكن هذه السعادة لم تدم .. فذات ليلة لم يحضر شفيق كعادته .. وانقطع فجأة .. وكانت تود أن تعرف بيته لتسأل عنه .. أو حتى تذهب إليه بنفسها فقد خشيت أن يكون مريضا .. ولا يجد من يمرضه ..
     واستبد بها القلق .. فكانت تطالع الحوادث فى الصحف .. إذ خشيت أن يكون قد وقع له حادث ..
     ومرت الأيام دون أن تراه .. وأخيرا شغلت نفسها بالعمل .. وأحست بأن الأيام زادتها خبرة بعملها واطمأنت لحالها .. وعرفت كيف تدير الحانة وكيف تشترى من التجار .. وكيف تحرك العمل بالابتسامة والمعاملة الحسنة .. وبدأ الحال يزدهر .. وجلبت أحسن أنواع الشاى والبن .. والخمور .. وكانت تشرف بنفسها على نظافة الأدوات .. وكل ما يستعمله الزبائن .. وكان كل شىء يسير على أحسن حال ..
     وفى ظهر يوم وهى جالسة على البنك .. فوجئت بشىء طير صوابها ولم يكن فى حسبانها أبدا .. أمر بإغلاق الحانة .. لأن هناك إجراءات لم تتم تتعلق بالرخصة .. فانتهت وأصبحت غير معمول بها .. وإذا كانت ترغب فى فتح الحانة عليها أن تستخرج رخصة جديدة والحكومة لاتفتح حانات جديدة .. فى هذا الحى الشعبى .. لأنها لاتريد أن تجعل هذه السموم قريبة من هذه الأيدى الكادحة .. وذهبت ايرين إلى بيتها .. وهى تبكى .. ولم تستطع أن تمنع عيونها عن البكاء أمام الأطفال ..
     وقبل أن يمر أسبوع على إغلاق الحانة طرق عليها شفيق أفندى الباب .. ولم تكن تدرى من الذى دله على العنوان .. واستقبلته فرحة .. وسألته أين كان طوال هذه المدة .. وعرفت أنه كان فى المنصورة ينجز بعض أموره الخاصة .. وكان الجو باردا .. فقدمت له ايرين فنجانا من الشاى .. وحكى لها كيف عرف بإغلاق المحل .. وآلمه الخبر .. فطار إليها .. وبعد حديث طويل معها وهو يتأمل بيتها .. ويتأملها .. وهى فى لباس البيت .. وكانت فى غير ثوب الحداد .. ولم تشأ أن تغير الثوب .. فزادت فى نظره فتنة ..
     ونظر إلى عينيها .. وإلى بشرتها النقية .. وإلى جسمها الناضج .. وأحس باضطراب قلبه ..
     وكانت جالسة أمامه .. صامتة حزينة .. فرق لحالها .. وكان يفكر فى مخرج لورطتها ..
     وقال لها وقد فكر فى الرجل الذى سيلجأ إليه :
     ـ هاتى الرخصة .. التى باسم المرحوم زوجك ..
     ونهضت ايرين تبحث فى الأوراق حتى عثرت عليها .. وتناولها منها ونهض وهو يقول لها :
     ـ اطمئنى وفى أقل من أسبوع .. ستكون الرخصة باسمك وتفتحين المحل ..
     ـ ألا تريد نقودا ..؟
     ـ لمن ..؟
     ـ للرسوم .. والإجراءات .. وللشخص الذى يسهل العمل ..
     ـ إن كانت هناك رسوم سأدفعها .. وأطلبها منك وأظنها بسيطة .. أما أن أدفع نقودا لأى شخص .. فهذا لايحدث أبدا لأنى لا ألجأ إلى إنسان ساقط المروءة فى عمل أبدا ..
     ـ أنت إنسان نبيل .. ولا بد أن يكون أصحابك كلهم نبلاء مثلك وطيبين ..
     ثم عادت تسأله بعد لحظات وكأنها تسترجع نفسها :
     ـ ألا تقدم له حاجة أبدا ..؟
     ـ أبدا ..
     ـ إذن سأقدم لك أنت هدية ..
     ـ أحسن هدية أننى أعود أجلس بجوارك هناك .. تحت نظرتك .. الحلوة ..
     واحمر وجه ايرين وصمتت ..
     وبعد خمسة أيام أتم شفيق أفندى لها الإجراءات الناقصة .. وفتحت المحل ..
     وعادت ايرين إلى عملها .. وعاد الحال إلى ازدهاره وكانت كلما رأت شفيقا .. فكرت فى الهدية التى تقدمها له .. نظير خدماته لها ..
     وكلما خطر فى بالها شىء وجدت أنه لايليق وفكرت فى غيره فى الحال .. وظلت هذه الخواطر تشغل بالها .. وتعذبها ..
     وذات مساء .. وجدته متغير اللون عابسا ووجهه كأنه يتمزق .. فسألته عن السبب ..
     فقال بأسى وصوته يتمزق ..
     ـ أننى كنت النهار بطوله فى المحكمة الشرعية ..
     فنظرت إليه باستغراب .. ولم يخطر على بالها قط أنه لايزال فى منازعات مع زوجته السابقة ..
     ـ لماذا ..؟
     ـ عندى بنت من زوجتى وقد بلغت الرابعة عشر من عمرها .. ولى ثلاث سنوات وأنا أحاول ضمها ..
     ـ ثلاث سنوات ..؟
     ـ ثلاث سنوات .. كاملة .. وأنا أتردد على المحاكم ..
     ـ لم أكن أعرف .. أن لك بنتا كبيرة هكذا .. إنك فى نظرى لم تتجاوز الثلاثين ..
     ـ فى الواقع لقد تزوجت صغيرا .. وتلك هى غلطتى الكبرى .. وإن كنت لم أتزوج إلا على الورق ..
     وابتسمت ايرين .. وأشفقت على حاله .. وقالت :
     ـ كل إنسان معرض للخطأ .. لأننا بشر ..
     ـ ولكن غلطتى لا تغتفر .. لأنى سعيت إليها بكل جوارحى المتفتحة .. ثم مر الحادث كالكابوس المروع .. ومن فرط ما روعت لم أفكر فى أن أكرر المأساة ..
     وشرب جرعة كبيرة من كأسه .. ونفث دخان سيجارته .. وقال :
     ـ تصورى حال عريس يعود من عمله ويجد عروسه قد أخذت أثاثها وهربت .. تصورى هذا .. وهو ما حدث لى .. عدت من عملى فرحا بلقائها .. فوجدتها قد أخذت أثاث البيت كله .. وهربت به إلى بيت أبيها .. وكان قد مضى على زواجنا أسبوع واحد .. أننى لم أستطع أن أنسى هذا اليوم أبدا وإن مضى عليه أربعة عشر عاما ..
     ـ ولماذا لم تترك البنت لأمها ..؟
     ـ إنها فى الواقع لا تصلح .. ولا يمكن أن تكون أما لتربى أو تحتضن فتاة فى مثل سن سعاد .. وهى سن خطيرة .. ولكن القاضى يرى العكس .. يرى أنى أنا الذى لا أصلح كأب يحتضن ابنته ..
     ـ لماذا ..؟
     ـ لأنى سكير ..
     واحمر وجه ايرين .. واستطرد شفيق :
     ـ ولم يسألنى القاضى لماذا أشرب الخمر .. ولماذا شربتها .. شربتها بسببها هى .. لأنها هى التى حطمت أعصابى .. لم أكن أحب أن أقتلها فقتلت نفسى .. وأبقيت عليها .. كانت أعصابى .. فى حالة ثورة مجنونة لمدة أسبوع كامل .. بعد الذى حدث منها .. فشربت الخمر .. لأخدر أعصابى وأحاول أن أنسى .. ما حدث .. وأنسى حقارتها ولو لم أشرب الخمر لقتلتها .. ولكنى آثرت أن أقتل نفسى ببطء .. خيرا من أن ألوث يدى بدمها ..
     ونظرت إليه ايرين بلطف وحنان .. كانت تعرف أنه يتعذب .. وأن الذكرى المؤلمة آلمته ومزقت نفسه .. وأن ما حدث له اليوم فى المحكمة زاده ألما وعذابا .. عندما عرف أنه لا يصلح فى المجتمع كأب .. آلمه هذا .. أكثر وأكثر ..
     فلا شىء أفظع من أن يكون الرجل ضائعا فى الحياة لا قيمة له ولا وزن .. بين الناس ..
     ونظرت إليه بحنان أكثر .. لما وجدته يطوى ألمه بين ضلوعه مرة أخرى ويعود إلى صمته وإلى الكأس يفرغ فيها أحزانه ..
     وكانت تود أن تقول له :
     ـ أنس ما حدث .. أنس .. أنس هذه المرأة وابحث عن غيرها .. إن عذابك استمر لأنك لم تبحث عن غيرها .. وكل امرأة .. ترغب فى الزواج منك .. لأنك شاب ووسيم ..
     ونظرت إليه .. وفكرت فى أنه لو تقدم للزواج منها فى هذه اللحظة لقبلت على الفور .. مع أنها رفضت كثيرين غيره .. رفضت كل من تقدم إليها ..
     ولم تكن تدرى لماذا تقبله على الفور .. الأنه يشعر بالتعاسة مثلها .. ولأن الحياة تمزقه دون ذنب جناه .. ولأنه يتعذب بسبب زوجته وبنته .. وتتعذب بسبب تركة زوجها وأولادها ..
     ثم عادت وفكرت فى أنه ليس من جنسها .. ولماذا تتزوج رجلا من غير جنسها ..
     وكان هو فى هذه الأثناء يدخن وحده .. يأخذ نفسا طويلا من سيجارته .. ويمسك الكأس بين أنامله بحنان ..
     وفى خلال نصف ساعة أحس بأنه خرج من وسط الضباب الذى كان يسبح فيه وحده ووجدها لاتزال على البنك .. فسألها :
     ـ ألست مروحة ..؟
     ـ لا .. سأنتظر إلى آخر الليل .. أغلق أنا المحل .. عبده روح ..
     فعاد يدخن صامتا ..
     وكان هناك رجل واحد يجلس إلى مائدة منزوية .. فشرب ثم نهض .. وأخذ الفراش يطوى الكراسى .. ويخفف الضوء ..
***   
     وكانت ايرين منذ ساعة تنظر إلى شىء هناك من وراء الزجاج فى البوفيه الموضوع فى جانب من المحل .. وكان نظرها يرتد عنه .. ثم يعود إليه .. فى خلال ذلك انتابتها موجة من الإنفعالات فظهر أثرها على وجهها .. ولولا أن أحدا التفت إليها لاكتشف أمرها ولعرف ما تعانيه من عذاب وأخيرا تحركت من مكانها وفتحت البوفيه وأخرجت زجاجة ..
     ومسحت عنها التراب بحنان ولفتها فى ورقة ..
     كانت زجاجة من نبيذ بوردو النادر جاء بها المرحوم زوجها فى أحد أسفاره .. وأبقتها فى مكانها حتى الساعة .. كأعز تذكار .. كشىء ثمين تحرص عليه .. لأنه يذكرها به .. كانت هذه الزجاجة أعز عليها من كل شىء فى الحياة ..
     وعندما كان الفراش ينزل أبواب المحل من الخارج كانت ايرين لاتزال فى الداخل .. وكانت تنظر إلى صورة صغيرة لزوجها معلقة فى الجدار .. وتنهدت ومدت يدها وجعلت وجه الصورة إلى الحائط .. ثم تناولت الزجاجة وأعطتها لشفيق وعيناها تتألقان ببريق فهم معناه ..
     وسار بجانبها فى الشارع .. وهو يشعر بسعادة لم يحس بمثلها فى حياته . وكان يعرف أنها ذاهبة به إلى بيتها حتى وإن لم تحدثه عن ذلك صراحة .. وكان متيقنا من ذلك ..
     وكان الفرح يغمره .. وكان يمشى كالمأخوذ .. ولكنه يحس بأن عذابه انتهى وأن روحه عادت إليه ..
=============================================
نشرت القصة فى مجلة " الجيل " بعددها رقم 349 بتاريخ 13/7/1959وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
============================================
    


ليلة فى العربة

كان لوالدى مزرعة صغيرة .. على خط الحواتكة .. فلما توفى تركها أخوتى لى كنصيبى فى الإرث .. لأن الرجل الذى كان يزرعها أتعبهم .. كان من أبرز صفاته الخداع والمماطلة وأنا أعيش قريبا منه فى مدينة أسيوط .. وقد خالطت مثله من الفلاحين وخبرت طباع الكثير منهم لأنى أزرع وأحصد ومن السهل علىّ أن أحصل على حقى بمختلف الوسائل .. أما هم فيعيشون فى مدينة القاهرة ولا طاقة لهم على الزراعة وجمع المحاصيل وتحمل مشقات السفر ..
وكنت أذهب إلى الشيخ عبد الحميد فى موسم المحصول أكثر من أربع مرات فى الشهر الواحد .. وأستعمل كل وسائل المواصلات .. فى الوصول إليه .. القطار والسيارة العمومية .. والسيارة الصغيرة المشتركة ..
وألاقى المشقة والغبار .. وتعب الأعصاب فى كل مشوار .. لكننى رغم هذا كنت أذهب .. لأننى لمست بنفسى المشقة التى لاقاها والدى فى تكوين هذه المزرعة ..
وكنت بعد أن أعود منها .. أنتظر السيارة العمومية عند كوخ صغير على الطريق بناه " طاهر رشوان " صاحبه من البوص والطين .. ملاصقا .. لترعة الابراهيمية .. وكان يستريح عنده العابرون .. ويجدون قلة الماء .. وكوب الشاى ..
وكان بجوار كوخ طاهر هذا مصلى صغير مطوف بالطين وفيه حصيرة واحدة قديمة .. وكانت تغنى الفلاحين .. عن الركوع والسجود على الأرض ..
وذات ليلة .. وكنت أنتظر السيارة العمومية .. كالعادة .. وأشرب الشاى فى الكوخ .. لمحت فى المصلى رجلا جالسا القرفصاء وبيده بندقية قصيرة .. وكان قد خلع نعليه .. ولكننى لم أشاهده يصلى بل جلس صامتا وعيناه مركزتان على الترعة ..
وكان وجهه كظيما وسحنته تنم عن الشر .. فجلست أرقبه وأنا أتوجس منه فقد خشيت أن يكون الشيخ عبد الحميد قد أرسله ورائى ليقتلنى ويستريح منى إلى الأبد ..
وطال سكون الرجل .. وطال انتظارى للسيارة .. وخفت أن أقضى الليل فى العراء .. فنهضت وقلت لطاهر .. وأنا أحاول أن ألتمس مخرجا من المكان :
ـ قد تكون السيارة تعطلت فى الطريق .. هل أستطيع أن ألحق قطار التاسعة .. إذا ذهبت إلى محطة الحواتكة ..
ـ تستطيع إذا ركبت ركوبة ..
واقترب منا الرجل الجالس فى المصلى فى تلك اللحظة وطلب فنجالا من الشاى ..
وقال له .. طاهر ..
ـ سلم على إسماعيل أفندى .. ابن المرحوم الدكتور عز الدين ..
فمد إلىّ الرجل يده وهز قبضتى عدة مرات بقوة وقد تهلل وجهه ..
وقال له طاهر فى غمرة انفعاله :
ـ تستطيع أن تأتى بركوبة .. لإسماعيل أفندى .. توصله لغاية المحطة ..
ـ حاضر ..
وتركنا فى الحال .. ومضى إلى الجسر ..
وسألت طاهر بعد أن ذهب :
ـ من الرجل ..؟
ـ أنه زيدان ..
ـ المجرم المشهور .. الذى يتحدث عنه الناس ...
ـ هو بلحمه ودمه ..
وسألت فى تعجب :
ـ وكان يعرف والدى ..؟
ـ معرفة قوية .. وكان والدك نقطة تحول فى حياته ..
ـ هذا أعجب شىء ..
ـ لا داعى للعجب .. لقد تحول بعد أن التقى بوالدك من مجرم شرير إلى رجل مسالم .. نافع .. حدث هذا بكل بساطة .. أنه الآن يخفر وابور الشيخ سلطان .. ويزرع كما يزرع أى فلاح .. يعيش من عرق جبينه ..
واستطرد طاهر .. وهو ينفث دخان سيجارته :
ـ دخل على والدك .. العيادة .. فى منفلوط ليلا .. منذ سبع سنوات .. وكان قد جرح جرحا بليغا .. ونفذت رصاصة إلى كتفه .. على إثر معركة مع الخفراء وهو يسطو على إحدى المزارع .. وطلب من والدك .. والبندقية فى يده .. أن يخرج الرصاصة من جسمه .. ومن واجب الطبيب أولا .. أن يعرف سبب الإصابة .. وأن يبلغ البوليس فى الحال ولكن والدك نظر إلى وجهه وكأنه رأى فيه شيئا .. غاب عن إدراكنا وعرفه كطبيب .. وفى هدوء أمره أن يضع البندقية جانبا .. وسحبه إلى الغرفة المجاورة وأخرج له الرصاصة ..  ولما قدم له ورقة بعشرة جنيهات رفضها والدك .. وقال له أنه لن يتقاضى عن هذه العملية أى أجر .. وتوقع زيدان بعد ذلك أن يبلغ عنه والدك البوليس .. وفى كل يوم كان يتوقع القبض عليه .. ولكن والدك صمت .. وظل يغير على الجرح حتى شفى تماما ..
ولعل زيدان تأثر من هذه المعاملة التى لم يكن يتوقعها أبدا .. ونالت من نفسه .. والذى حدث أنه انقطع من بعدها عن الشر .. وتاب .. ولم ينحرف بعدها قط ..
***
وأخذت أفكر فيما حدثنى به طاهر .. وعجبت لطباع هؤلاء الأشرار .. وتغيرها .. وتحولها لأتفه الأسباب من الشر إلى الخير .. وقد يحدث النقيض .. وصورتهم بالمعدن النفيس الذى يعلوه التراب .. فالذى يصل إلى قرارة هذه النفوس هو الذى يزيل هذا التراب .. ويجلو النفس البشرية .. ويبرز فضائلها للعيان ..
وفى غمرة خواطرى .. رأيت زيدان عائدا على الجسر راكبا حماره ومعه غلام صغير ..
وفى الوقت الذى وصل فيه .. رأيت نور سيارة مقبلة .. ولما اقتربت من الكوخ توقفت وكانت سيارة عمومية .. وطلب سائقها من طاهر شيئا .. فسألته :
ـ إلى أين يا أسطى ..؟
ـ إلى منفلوط ..
ـ وراجع الليلة .. لأسيوط ..؟
ـ على الفور ..
ففضلت أن أركب هذه السيارة .. بدلا من الركوبة .. لأننى قد لا ألحق القطار .. وشكرت زيدان على تعبه .. وركبت السيارة العمومية إلى منفلوط ..
وانطلقت بنا السيارة ..
وكانت قديمة .. وممتلئة بالركاب ..
ولما بلغنا منفلوط .. شرب السائق والكمسارى الشاى .. وتعشيا .. واسترحا ..
ثم عدنا فى نفس الطريق .. وكانت السيارة مزدحمة بالركاب .. ولكن هذا لم يمنع الكمسارى من أن يطلب المزيد بعد كل مرحلة ..
وأخيرا بدا لى أنه اكتفى وانطلقنا على قدر سرعتها تثير الغبار فى الطريق .. وتطقطق ..
وكان الليل ساكنا .. والسماء كابية النجوم .. والقمر لم يطلع فى كبد السماء ..
وكان هناك ثلاث من الفلاحات فى العربة .. جلسن فى صف واحد على مقعد خلفى .. ومن بينهن حسناء .. كأنها العروس المجلوة ..
وكان باقى الركاب .. من التجار والفلاحين .. يلبسون اللبد .. والجلاليب .. والزعابيط .. ولم يكن فى العربة أفندى سواى ..
وأخذ الركاب يتحدثون عن أسعار الغلال والبهائم فى السوق وعن مياه الرى .. وعن الدودة .. وآفات الزراعة وعن السماد الذى يصرفه بنك التسليف .. ولاحظت أنهم لا يتحدثون الأحاديث الجنسية أبدا .. كأهل المدن .. وأن الحسناء الموجودة فى العربة لا تثيرهم ألأنهم فى شبع ولا يعيشون فى حرمان .. كما يعيش أهل المدن .. وأنهم يتزوجون مبكرين .. ولا توجد عقد فى حياتهم .. ولا يوجد أى كبت على الاطلاق .. أم لأن المرأة عندهم لا تكشف عن مفاتنها أمامهم ولا تثير غرائزهم وتطلقها كما تفعل فتاة المدينة .. فكرت فى هذه الأشياء والعربة تمضى بنا .. ثم طال المشوار .. وظهر تعب النهار .. فنام بعضهم على كرسيه وصمت الآخرون ..
وكنت بجوار النافذة ألمح القرى والضياع المضيئة المظلمة .. تظهر ثم تختفى .. على مرمى البصر ..
وفكرت فى الحياة .. التى يعيشها هؤلاء الفلاحون المساكين .. وفى ليل الريف وظلامه .. وقارنتها بحياة الناس فى المدينة .. وكان يزيد الموقف فى نظرى سوءا أن زجاج العربة كان مكسورا والتراب يلسع عينى وأنفى وفمى ..
وكان هناك راكبان يدخنان .. أردأ أنواع الدخان ..
والعربة كلها تهتز على طريق وعرة أوجعت ورضت أجسامنا ..
وفجأة سمعنا طلقتين .. من النار .. ورأينا العربة تتوقف .. ثم عرفنا أن رصاصة اخترقت الإطار الداخلى للعجلة الخلفية ..
اضطربنا وأصابنا الذعر .. ونظرنا إلى الخلف .. وبرز على باب العربة الخلفى رجل مسلح ووقف رجل مثله بجانب السائق من أمام .. وكانا كأنهما خرجا من جوف الأرض .. وكان الشر المجسم يطل من عيونهم ..
وقال الرجل الواقف على الباب الخلفى .. بصوت خشن :
ـ أخرجوا .. محافظكم .. ولا تضطرونى للتفتيش ..
ونظر إليه الركاب .. ومرت لحظات رهيبة .. وتحدثت العيون .. ولكن واحدا لم ينطق بحرف .. أو يضع يده فى جيبه ..
وظهر لنا أن خلفه رجلا آخر يقف ويده على الزناد .. ودخل الرجل الأول جوف العربة .. وأخذ يفتش ويخرج النقود والمحافظ من جيوب الركاب ٍ..
وقد يكون مع بعض الفلاحين الجالسين فى العربة سلاح .. فى تلك اللحظة .. ولكن الموقف كان رهيبا .. والعصابة كانت قوية .. حركتها مفاجئة .. شلت كل حركة لنا ..
ولما جاء دورى أخرجت محفظتى .. قبل أن يفتشنى الرجل الرهيب .. وناولته ثلاثة وأربعين جنيها وأنا أحرق الأرم .. وكان هناك رجل سمين معمم .. وكان مظهره يدل على أنه تاجر غلال .. فقد أخرج من جيبه .. لفة من الأوراق المالية .. كان يضعها فى كيس كبير .. ولما جاء دور النساء لم يرحمهن الرجل .. أخرجن ما معهن أيضا وهن ينظرن إليه باحتقار ..
وعندما جمع النقود كلها فى كيس جلدى كالجراب .. ضم عليه يده واستدار فى ممر العربة .. وأعطانا ظهره .. ولكننا لم نلتفت إليه .. كنا نود أن نقطع كل خيط يصلنا به ..
ولقد أدركت فى هذه اللحظة .. حقارة المال .. وأن نفس الإنسان أعز عليه من أى شىء آخر فى الوجود ..
فقد كنا نفكر فى هذه الساعة الرهيبة فى شىء واحد هو أن ننجو بأرواحنا ..
وحدث فجأة شىء جعلنا نتلفت جميعا إلى الخلف .. كأن رءوسنا .. ربطت بلولب .. فقد سمعنا من يقول بصوت قوى :
ـ أترك .. النقود .. لأصحابها .. يا كلب ..
وجاوب اللص .. على ذلك .. بطلقة من بندقيته .. أطلقها من نافذة السيارة المفتوحة على الصوت الذى جاء من الخارج .. ورد الآخر عليه .. بطلقات سريعة .. ولكن فى الهواء .. وتصور اللصوص .. أنه يريد أن يحاصرهم ويقضى عليهم .. فطاردوه فى العراء .. المكشوف وكان هو فى الواقع يريد أن يبعدهم عن السيارة ..
وأبعدهم عنا فعلا .. والتقى بهم هناك .. فى بطن الوادى .. وكانت النيران تلمع فى السماء كالشهب .. وخيل إلينا من فرط ما أطلق من النار .. أن فيلقين التقيا .. وجها لوجه .. فى معركة حامية .. ثم انقطع صوت النار .. وخيم السكون والظلام من جديد .. وكفت قلوبنا عن الخفقان ..
وحدقنا فى الظلام .. إلى شىء حى يتحرك هناك .. ويقترب منا ..
وبرز من جانب الجسر .. رجل أعرفه .. كان يمشى على مهل .. كما يمشى الجريح .. وبيده شىء .. ونظر زيدان فى وجوهنا .. ولما استقرت عيناه على وجهى مد إلىّ يده بالجراب الذى كان فى يد اللص وقال بصوته المألوف :
ـ وزع عليهم .. نقودهم ..
فتناولت منه الكيس ..
ونظرت إليه فوجدته قد صمت وطوى رأسه عنا ونظر إلى بعيد .. ولا أدرى أكان ذلك إحساسا منه بالخجل .. أم شعورا بالكبرياء ..
فصمت مثله .. ولم أوجه إليه كلمة شكر واحدة .. احتبست الكلمات فى حلقى ..
وعندما غير السائق العجلة الخلفية .. وانطلق على الجسر .. ركب زيدان على السلم يحرسنا حتى بلغنا حدود المدينة ..
========================
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 382 بتاريخ 20/4/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
========================       









الركشـــا

اشتريت من محل هويت وبز بشارع دى فو .. بهونج كونج قميصا أمريكيا من الذى يغسل ويلبس دون أن يكون فى حاجة إلى مكواة . وفرحت به مع غلو ثمنه .. لأنه سينفعنى منفعة ملموسة فى سفرى الطويل ..
ولكن فرحتى لم تتم .. فعندما رجعت إلى الفندق وفتحت اللفافة التى تناولتها من المحل لم أجد فيها القميص ووجدت بدله بيجامة حريرية نسائية .. فابتسمت لتصاريف القدر ..
فماذا أصنع ببيجامة نسائية فى هونج كونج .. كانت البيجامة أنيقة ومن النوع الغالى وتساوى ثمن القميص وتزيد .. ولكن ماذا أصنع بها ..
فكرت فى أن أهديها .. لفتاة يابانية فى طوكيو ... أو أن أقدمها لأى سائحة ألتقى بها فى الفندق .. أو أن أبقيها معى فأهديها لواحدة من قريباتى فى القاهرة ..
وقد جعلنى الخاطر الأخير أنشرها .. لأعرف مقاسها .. وأخصص الفتاة التى تناسبها .. فسقطت منها على المرتبة علبة بودرة ذهبية .. كانت مطوية بين ثناياها .. وكانت العلبة دقيقة الصنع ومطعمة بالصدف ..
ودفعنى هذا إلى أن أحمل اللفافة إلى المحل فى عصر اليوم نفسه ..
وأسفت الفتاة العاملة لما حدث .. وقالت لى إن السيدة صاحبة البيجامة اتصلت بها بالتليفون .. وتركت اسمها ورقم الغرفة التى تشغلها فى الفندق ..
فطلبت من الفتاة أن تتصل بها تليفونيا بالفندق وتحدثها عن رغبتى فى أن أحمل إليها البيجامة بنفسى .. لأنى أعرف موقع الفندق ..
واتصلت بها .. وكانت السيدة تود أن تجىء إلى المتجر ولكننى أعفيتها من هذا المشوار ..
وخرجت من المتجر .. وعبرت الخليج واتخذت طريقى .. إلى فندق ميرامار بشارع كيمبرلى رود بكولون ..
وركبت المصعد .. وسألت الغلام .. الذى كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة عن السيدة كريستينا بالغرفة رقم 86 .. فقادنى إليها .. وسط مظهر من مظاهر الفخامة والأناقة اللتين تتميز بهما فنادق كولون ..
وضغطت على جرس الباب .. وفتحت لى شابة طويلة العود .. ونظرت بعينين زرقاوين إلى كيس الورق .. الذى فى يدى ..
وقلت لها بالإنجليزية :
ـ أرغب فى مقابلة الآنسة كريستينا ..
ـ إننى كريستينا ..
ـ لقد جئت لك بالبيجامة
ومددت يدى بالكيس .. وكنت أود أن أذهب ..
ـ شكرا .. تفضل .. حتى أجىء لك بالقميص ..
وأدخلتنى إلى صالون صغير .. ملحق بغرفتها .. واعتذرت لها عن الخطأ الذى حدث بسببى .. لأننى تناولت لفافتها من فوق الطاولة وأنا أحسبها لفافتى ..
فقالت بدماثة وهى تطيل النظر إلىّ بعينيها الواسعتين ..
ـ إن هذا الخطأ .. أتاح لنا فرصة لنلتقى بشاب هندى .. ونحن فى طريقنا أنا وزوجى إلى بومباى ..
ـ لست هنديا ..
ـ حقا .؟
ـ إننى مصرى .. وقد رأيت بومباى .. ويمكننى أن أحدثك عنها ..
ـ جميل .. هل تشرب قهوة .. أو أطلب لك بعض العصير المثلج .. اليوم شديد الحرارة ..
واخترت العصير .. لأن الحرارة كانت شديدة حقا ..
وكانت السيدة كريستينا ترتدى فستانا أبيض خفيفا ..من قطعة واحدة .. قصير الأكمام .. ومفتوحا عند الصدر .. يتناسب مع هذه الحرارة .. وكانت مقصوصة الشعر .. ينسجم ثوبها على جسمها ويبرز تقاطيعه ..
وبعد أن شربت العصير .. دخل علينا رجل سمين من الباب دون استئذان فخمنت أنه زوجها ..
وابتدرته قائلة :
ـ ألبرت .. إن السيد مصرى .. وقد زار بومباى .. وسيحدثنا عنها ..
فقال ألبرت ..
ـ حقا ..؟
ووضع آلة تصوير ـ كان يحملها ـ جانبا .. ونظر إلىّ فى ابتسام .. وكان سمينا وعمره ضعف عمر زوجته .. ويبدو من شكله وهندامه وحديثه أنه رحالة ويحب عشرة الناس .
وكانت كريستينا أكثر حيوية وحركة منه .. وأكثر تعطشا لمعرفة الغريب ..
ولاحظتها جيدا .. وهى رائحة وغادية فى الغرفة .. كانت فى الثانية والعشرين من عمرها .. طويلة العود .. وكانت بشرتها ناصعة البياض نقية .. ولاحظت أن أنامل يدها وهى تقدم لى كوب العصير طويلة مع دقتها ورقتها .. وأن الأظافر طويلة أكثر مما رأيت فى أنامل الحسناوات ..
ولما نظرت إلى ساقيها بإمعان رأيت شعرا خفيفا كالذى بدا فى سيقان بلقيس .. عندما كشفت عن ساقيها .. منذ آلاف السنين .. وهى تخوض فى عرشها ..
وسألتنى برقة وهى تنظر إلىّ بقوة ..
ـ هل تسافر على خطوط شركة اسكندنافيا .. مثلنا .. أحسبنى رأيتك فى بانكوك .. هل رأيت الحر .. الذى هناك ..؟
ـ إن الحر فى بومباى .. ضعف هذا مائة مرة ..
ـ أوه .. إذن ستشوى جلودنا هناك ..
وأيدت هذا بحركة من يدها على ثوبها .. كأنما تود أن تخلعه ..
وكنت أقدر أنها دانمركية .. أو هولندية .. ثم عرفت أنها سويدية وزوجها هولندى وأنهما فى سياحة طويلة مثلى إلى الشرق الأقصى ..
وبعد حديث عن هونج كونج .. وبومباى .. تناولت منها القميص وأنا أشكرها بشدة وحييتهما وانصرفت ..
والتقيت بهذه السيدة مرة أخرى بعد أسبوع وكان معها زوجها .. فى ردهة بنك شنغاهاى .. بهونج كونج ..
وفاض وجهها بالبشر لما رأتنى وقالت ..
ـ هالو .. السيد مختار ..
ـ هالو .. مدام كريستينا .. هالو مسيو ألبرت .. لازال اسمى فى الذاكرة .
ـ بالطبع ..
وخرجنا من البنك معا ..
وركبنا الباخرة .. وعبرنا الخليج وبعد أن نزلنا على رصيف شبه الجزيرة .. عزمت عليهما بفنجال الشاى فى « المزرعة » فقبلا ..
وبعد أن شرب ألبرت الشاى .. واستراح قليلا .. أبدى رغبته فى أن يذهب إلى شركة السياحة ليحجز تذكرة له ولزوجته .. إلى مانيلا ..
وقال لزوجته ..
ـ يمكنك أن تنتظرينى هنا .. إذا كان  المشوار يضايقك ..
فقالت ..
ـ سنتلاقى فى الفندق على الغداء ... ربما تجولت فى المدينة ..
وسلم علينا وانصرف .. ولاحظت أنه يحمل آلتين للتصوير ..
فحدثت زوجته عن هذا ..
فقالت باسمة ..
ـ إنه مغرم بالتصوير .. واحدة جديدة لايكا .. اشتراها أمس من هونج كونج .. والأخرى قديمة .. أحسبه سيذهب إلى الخليج ليصور .. قبل ذهابه إلى شركة السياحة .. وربما لا يذهب إلى الشركة وينساها فى غمرة ما يلتقط من صور ..
ـ إلى هذا الحد .. هو مغرم ..؟
ـ إلى هذا الجنون ..
وجلسنا نتحدث ولاحظت أنها تجيد الإنجليزية .. وتتحدث قليلا بالفرنسية والألمانية .. وأنها تكثر من التدخين .. وألقت بالسيجارة الرابعة .. أو الخامسة فى الطفاية ..
وقالت وهى تثبت عينيها على وجهى بابتسام :
ـ يمكننا أن نتمشى .. قليلا فى المدينة .. إذا لم يكن لديك موعد ..
ـ بكل سرور ..
ونهضنا معا .. وأخذنا نتجول فى مدينة « كولون » ..
وكانت عربة الركشا .. تعترضنا بعد كل خطوة .. لنركب فيها .. ويلح الرجل الذى يجرها رغم رفضنا ..
وأخيرا قلت لكريستينا ..
ـ هل تركبين فى جولة قصيرة ..؟
فركبت فرحة .. وركبت بجوارها .. وشعرت بسعادة لا توصف رغم أنى كنت متحفظا جدا .. وهى بجوارى فلم ألتصق بها فى عربة الركشا الضيقة .. وكان المجال يدعو إلى الالتصاق ..
وكانت العربات .. والسيارات تمر بنا عن قرب حتى تكاد تلتصق بنا ..
وكانت كريستينا تضحك لهذا وسألتنى ..
ـ هل رأيت لندن ..؟
ـ أبدا ..
ـ إن ترامها .. وسياراتها مثل هذه ..
ـ والخلاف الوحيد .. أنه لا توجد ركشا هناك ..
ـ أجل .. نسيت هذا ..
ومر علينا أطفال .. خارجون من المدرسة .. فتوقفت حركة المرور كلها حتى عبروا الشارع .. وقالت كريستينا بقلب منشرح ..
ـ ما أجمل ثيابهم .! وأنضر وجوههم ..!
وظلت تتبعهم ببصرها بلذة .. وكأنها تتمنى أن تلتقط واحدا منهم وتجلسه معنا فى العربة ..
وبعد جولة طويلة .. نقدت السائق أجره ومشيت مع كريستينا حتى باب فندقها وقبل أن نفترق دونت اسم الفندق الذى أنزل فيه وعرفت رقم غرفتى ..
وحوالى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالى .. حدثنى زوجها فى التليفون .. وقال لى إنه يسعده هو وكريستينا لو أرافقهما فى جولة فى الترام الجبلى ..
ومع أنى زرت هذه المنطقة السياحية من قبل أكثر من مرة ولكن قبلت الدعوة ..
وكان ألبرت يلبس قميصا .. قصير الأكمام .. على بنطلون من التيل الأخضر .. ومعه آلتا التصوير وكريستينا تلبس صديرا أبيض وجونلة قصيرة إلى الركبة وليس بيدها حقيبة .. وقد جعلنى هذا أنظر إلى أظافرها أكثر وأكثر وأفزعنى طولها على ضوء المصباح أكثر من أى مرة شاهدتها فيها ..
وصعدنا إلى الهضبة .. ثم انحدرنا إلى خليج استانلى .. ولم نذهب إلى ابردين لأننا أحسسنا بالجوع .. وكان يتحتم علينا أن نتغدى فى هونج كونج .. لأن ساعة الغداء فاتتنا فى فنادقنا بكولون .. فتغدينا فى مطعم صينى حافل بالأطباق المختلفة ..
ولما خرجنا إلى الشارع شاهدت على الرصيف المقابل اعلانا عن قصة « فيرن » حول العالم فى ثمانين يوما .. وكانت قلوبنا تواقة إلى هذا الفيلم فدخلنا .. مع أن الساعة كانت الواحدة والنصف بعد الظهر ومضى من العرض نصف ساعة ..
وأجلس الزوج المهذب كريستينا بينى وبينه .. وأخذنا نتابع الرواية على الشاشة ونحاول أن نفهم الحوادث التى سبقتنا .. ثم طال جلوسنا وطال صمتنا .. لأن الرواية طويلة ..
وفجأة أحسست بكريستينا تميل على أذنى وتهمس :
ـ أريد أن أدخن سيجارة ..
فنظرت إليها فى الظلام ولم أجاوب على رغبتها إلا بابتسامة بلهاء .. ورأيتها تميل على أذن زوجها ..
ورأينا أن نترك نحن الثلاثة الشاشة لندخن سيجارة فى خارج الصالة ثم نعود إليها ..
وعندما تحركنا فى الممر .. كانت كريستينا تمشى أمامى .. ولم أر فى الظلام من جسمها غير ساقيها العاريتين .. وبدا لى فى هذه المرة أنها أزالت من فوقهما الشعر الخفيف النابت ..
وقفنا نحن الثلاثة فى بهو السينما الخارجى ندخن بنهم .. والظاهر أن منظرنا كان لافتا للنظر .. فقد رأيت شخصا يرقبنا بعينى صقر .. على الرصيف المقابل ..
وقبل أن ندخل وثب نحونا .. قطع الشارع فى وثبتين .. وأصبح بجوارى ..
وقال هامسا بالإنجليزية :
ـ هل تريد أن تشاهد رقصا مثيرا .. وتدخن الأفيون .؟
ونظرت إلى صف أسنانه الذهبية وقلت سريعا ..
ـ لا .. اذهب ..
ـ إنه مثير .. ولن تدفع كثيرا ..
ـ لا .. اذهب .. اذهب ..
وكانت كريستينا تنظر إلينا وقد انفرجت ثناياها ..
وسألنى ألبرت :
ـ ما الذى يطلبه ..؟
ـ يدعونا .. إلى رقص صينى ..
وتحول الرجل إليه .. وأخذ يحادثه هامسا .. وسألنى ألبرت :
ـ ولماذا لا نذهب ..؟
ونظرت إلى كريستينا واحمر وجهى .. وقال ألبرت :
ـ إنها تسر جدا .. من هذه المناظر ..
وسألت كريستينا ..
ـ أى مناظر ..؟ إننى فى كل الأحوال معكما .. أينما تذهبان ..
وضحكنا.. واتفقنا على أن نقابل الرجل الصينى ذا الأسنان الذهبية ـ عند رصيف البواخر فى الساعة التاسعة ليلا ..
وعدنا إلى صالة السينما مرة أخرى ..
***

وفى الساعة التاسعة وجدنا الرجل فى انتظارنا .. وكانت كريستينا متأنقة فى ملبسها ومتعطرة .. كأنها ذاهبة إلى حفلة سواريه فى الأوبرا .. أما زوجها فكان كما تركته فى الساعة الخامسة لم يغير قميصه ..
وركبنا عربتين من عربات الركشا .. إلى المرقص الخفى عن العيون .. وركبت كريستينا معى فى هذه المرة أيضا .. وكان يمكن أن أركب ومعى الدليل ولكن ألبرت جذبه إلى عربته بلباقة .. وسرنا فى شوارع ضيقة ومظلمة وأنا أتوقع بعد كل خطوة شرا .. وأقدر أنها مصيدة .. وكنت أسمع عن كل حوادث هونج كونج التى تقع فى الظلام .. ولكن وجود كريستينا بجوارى فى العربة كان يطمئننى .. وجعلنى أشعر بقوة تجعلنى قادرا على مواجهة كل احتمال ..
وفجأة دخلنا فى تيه من الشوارع الصاعدة والهابطة .. ثم اخترقنا صفا من الأشجار المتعانقة المتشابكة ..
وقالت كريستينا .. وقد رأيتها تضع يدها  على خدها : أنها تشعر بأنها محمومة .. من الغروب .. وكان يجب أن تستريح فى الفندق .. بدل هذه الحماقة ..
وكان واجبى كجنتلمان أن أمسك بيدها .. وأجس مبلغ حرارتها ولكننى لم أفعل ونظرت إلى أظافرها مرة أخرى ..ورأيت أن المسافة بينى وبين ثوبها الذى على فخذها .. أكثر من سبعة سنتيمترات فجعلتهما عشرة ..
وقبل أن نصل إلى الشارع الذى فيه المرقص .. ! توقفت الركشا .. ونزلنا ..
ومشينا وراء الدليل .. حتى توقف وراء باب صغير .. وقرع الجرس .. وأطل رأس صغير من كوة .. ثم فتح لنا الباب ..
وانحدرنا عدة سلالم ثم اجتزنا دهليزا معتما .. أفضى بنا إلى قاعة فسيحة صفت فيها ست مناضد على الجوانب والأركان .. وكانت الإضاءة خفيفة .. والقناديل معلقة من السقف .. والدخان يعبق المكان .. والجو كله شرقى حالم ..
ولم يكن هناك رقص .. ولا ضربة دف .. وكان السكون يخيم رغم وجود أربعة من الصينيين فى ركن من المكان .. وكانوا يدخنون وأمامهم فتاة شاقة ثوبها وجالسة على حشية أمامهم تنظر إليهم فى صمت ..
ولما جلسنا إلى مائدة واحدة مستطيلة .. سمعنا صوت آلة أشبه بالقيثارة .. وغناء صينيا من نغمة واحدة .. وكان يقطر حزنا ..
وتقدم منا الساقى الصينى فسألنا بالإنجليزية عما نشرب .. واخترنا النبيذ ..
ووضع أمامنا .. الكؤوس ..
وبعد قليل أقبلت نحونا فتاة صينية حلوة .. وقدمت لكل واحد منا .. شيئا أكبر من البيبة .. ولم أكن دخنت الأفيون قط .. ولا أعرف كيف يدخن ..
وعلمتنى الفتاة الصينية .. وعلمت كريستينا وألبرت .. ودخنا كثيرا ودخنت قليلا .. كنت أتظاهر بمجاراتهما .. فى السباق ..
وضحكنا وشربنا .. حتى قرب الليل من منتصفه .. وعندما بدأ الرقص العارى لم نشاهده باهتمام وشوق .. كانت جفوننا ثقيلة .. والدخان يغشى أبصارنا ..
***
وعندما رافقت كريستينا وألبرت فى آخر الليل إلى فندقهما .. كان ألبرت يتماسك .. وخفت أن يسقط من زوجته فى الممر .. فرافقته إلى غرفته.. واضطررت أن أحمله معها .. إلى سريره .. وخلعت كريستينا له حذاءه .. وغيرت قميصه ثم طرحته على الفراش ..
وقلت لها بعد أن عادت إلى الصالون ..
ـ إنه مجرد تعب .. وسيفيده النوم .. فاطمئنى عليه .. ونهضت ..
فسألتنى وعيناها تلمعان ..
ـ هل أنت ذاهب ..؟
ـ أجل .. إننى أكثر منه تعبا ..
ـ أرجوك أن تبقى قليلا .. إننى خائفة .. وفندقك قريب .. تستطيع أن تصله فى خمس دقائق ..
فجلست أمامها .. أنظر إلى عينيها ورأيتهما .. أشد بريقا من قبل وأكثر فتنة ..
ودخلت على زوجها ثم عادت .. فوجدتنى واقفا .. أحرك ستر النافذة الحريرى وأنظر من فرجة صغيرة إلى الطريق ..
فوقفت بجوارى لحظات .. ولم أشعر بها وهى تلتصق بى .. وشددتها إلى صدرى بقوة ودخلنا وراء الستار ..
***
والمرأة التى كنت أبتعد عنها فى عربة الركشا .. وتبتعد عنى بمقدار عشرة سنتيمترات .. أصبحت تغرس أظافرها فى لحمى ولا أحس بها من فرط الأفيون .. ولا تحس هى بما تفعل لما غشى عقلها وحسها من ضباب ..
والشىء الوحيد الذى تنبهت إليه فى غمرة عواطفنا أننى أحسست بالباب المغلق على البرت .. يفتح ثم يغلق ثانية ..
ولما دخلت عليه بعد قليل وجدته نائما .. كما تركناه .. وليس هناك ما يدل على أنه تحرك أو حتى تململ .. فنفيت خاطر الباب عن رأسى ..
وفى الصباح التالى تحدثت مع ألبرت فى التليفون واطمأننت على صحته وشكرنى على تعبى وسهرى بجوار فراشه ..
وحدثته بأننى مسافر إلى طوكيو فى الصباح التالى .. فجاء هو وكريستينا إلى غرفتى فى الفندق ليودعانى ..
وكنت أرتب حقائبى .. وساعدنى هو وزوجته فى وضع الأشياء المبعثرة التى تسوقتها فى الحقائب .. وحزمنا الحقائب الثلاث ثم نزلنا إلى الطريق نقضى آخر ليلة فى هونج كونج معا ..
واتفقنا على أن نلتقى فى بومباى فى الخامس والعشرين من ديسمبر ونقضى عيد الميلاد فى فندق ( تاج محل ) ..
***
وفى الطريق من هونج كونج إلى طوكيو .. لم أكن أفكر إلا فى كريستينا .. وفى الجليد الذى تحول إلى شعلة من اللهب ..
وفى مطار طوكيو .. وقفت وراء الطاولة المستديرة .. وراء حقائبى .. وسألنى الكشاف ..
ـ هل معك .. سجائر .. هل معك ويسكى ..؟
ـ أبدا ..
ـ هل معك نقود .. من أى نوع .. أى عملة ..؟
ـ إن معى شيكات سياحية فقط .. وقد بينتها فى الإقرار ..
ـ ولا توجد نقود من أى نوع ؟
ـ إطلاقا ...
ـ تسمح تفتح الحقائب ..
وفتحت الحقائب الثلاث .. وأنا أنظر إليه بثبات .. وفجأة ارتجف قلبى .. وسال العرق من خدى .. فقد أخرج من حقيبة من الحقائب رزمة من الينات اليابانية ... وعقوبة هذا ليست المصادرة فقط ولكنها الحبس .. وبرزت أمامى صورة ألبرت فى الحال وهو يساعدنى فى غرفتى بالفندق .. وأدركت أنه عرف كيف ينتقم .. بدهاء وصبر ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل بالعدد 387 بتاريخ 29/8/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
=================================




الدليـــل

     طوكيو مدينة ضخمة وعميقة كالمحيط والغريب فيها لا يستطيع أن يخطو خطوة من غير دليل ..
      وكان المستر ميشى هو دليلى منذ خرجت من المطار .. وهو رجل متوسط الجسم سريع الحركة .. ويجيد اللغة الإنجليزية إجادة أستاذ لها ويعرف كل شبر فى المدينة .. والشىء التاريخى يقترن فى دقته بالبناء العصرى .. فمعبد بوذا كبرج التليفزيون كلاهما لابد أن تراه ..
     ومنذ هبطت المدينة وأنا أتنقل فى صحبته بالتاكسى .
     ثم أشفق على جيبى وأصبحنا نركب الترام .. ولقد أدركت بعد ثلاث رحلات بالترام أنه إلى جانب الوجه الاقتصادى للمسألة فإنه يود أن يغفو فى زحمة الركاب ..
      فقد كان يحدثنى وهو مغمض العينين .. ثم ينقطع صوته فأتصور أنه قد نعس فعلا من فرط سكون ملامحه .. وإرخاء جفونه .. وأخاف أن نكون قد تجاوزنا المكان الذى نقصده وعلينا أن نركب الترام الراجع .. ونستقبل من طريقنا ما استدبر ..
     وفجأة أسمعه يرد على خواطرى بقوله : ـ
     ـ بقيت ثلاث محطات على شمباسى .. تفضل سيجارة ..
وكان يخرج علبة سوداء فى حجم الكف .. فأعتذر له بأنى لا أدخن .. وكنت أقدر بأنه أصابه شىء حتما من شعاع نجازاكى أو هيروشيما .. وجعله بهذه الحالة ..
      فقد حدثنى أنه عاصر الحرب العالمية الثانية واكتوى بنارها .. وشاهد النكبة التى حلت بالمدنيين المساكين .
***
     وكان الرجل يخصص اليوم كله لتجولاتى .. فقد شاهدت فى خلال صحبته كل ما يمكن أن يراه زائر للمدينة الكبيرة ..
     ولم يكن يطلب أكثر من ألف ين فى اليوم ثم أصبح يأخذ خمسمائة فقط .. وكنت أجد هذا المبلغ ضئيلا فى مقابل الخدمات التى يؤديها لى فى مدينة ندر أن تجد فيها من يتحدث بغير اليابانية والجمهور فيها يكره الأجانب ويغلى من الغيظ .. بسبب الاحتلال الأمريكى .
     وليس فيها اسم لشارع أو ترقيم للبيوت .. فإنك تمضى فى تيه من الشوارع المتشابهة ..
     وإذا سرت فى حى جنزا فى الليل فإنه يلفك فى سحره وضبابه ولا تعرف كيف تخرج منه ابدا أو تسترد أنفاسك المبهورة .. وإذا اتجهت إلى قصر الإمبراطور فإنك تجد نفسك قد بلغت بناية المحطة وسمعت صفير القطر فى محطة فى جدولها ألف وسبعمائة قطار فى اليوم بين خارج وداخل .
     وإذا ركبت تاكسى وحدثت السائق بالإنجليزية لف بك ساعة .. ثم وقف بك بجوار عسكرى المرور .. ليستعلم عن وجهتك بالدقة .
     وقد أعفيت نفسى من كل هذه المشقة بالمستر ميشى .. وكان فى حوالى الخمسين من عمره .. ومصبوبا صبا .. لايكل من المشاوير ويبدو لى أنه زاول المصارعة اليابانية فى شبابه ..
      كما بدا لى أنه ليس رب أسرة .. ولا يعول أحدا على الإطلاق .. لأنه كان يقضى الليل فى الحى الذى نقضى فيه آخر جولة لنا وينام كما اتفق .. مرة وجدته فى الصباح جالسا فى مدخل الفندق فأدركت أنه قضى الليل على هذه الحالة .
     وكان يجيد الكتابة أكثر من إجادته للحديث حتى تصورته أحد أساتذة الجامعة المتقاعدين وكان يقدم لى بعد كل رحلة فى تواضع الأستاذ كراسة منمقة تصف ما شاهدناه بالأمس .. وقدم لى مرة ست عشرة صفحة من حجم الفولسكاب عن معهد الصم والبكم فى المدينة وكانت بأسلوب بلغ الذروة فى الوصف والسرد الأدبى .
     وكان كل شئ جميلا فى طوكيو .. وكنت أسبح فى بحر من الجمال الأخاذ ليس له نهاية .. ولكننى بعد سبعة عشر يوما أحسست بالتعب من الضجيج فى قلب العاصمة ومن الراقصات العاريات فى الملاهى .. ومن السيارات التى تنطلق فى جنون وأنوارها تغشى البصر ومن الناس الذين يشربون الساكى فى المشارب الشعبية .. ومن لاعبى القمار بالأكر والبلى .. ومن نساء الليل اللابسات الفراء والمنتظرات تحت البواكى فى الظلام ومن كل شئ يمزق الروح البشرية ويخدر الحواس .
     وكان جنود الاحتلال يحتلون قاعات الفندق الذى أنزل فيه ويمضون عطلة نهاية الأسبوع فى يومى السبت والأحد فى صخب وصراخ .. فتضايقت من وجودهم ..
      وخرجت مع المستر ميشى إلى ضواحى المدينة وأبديت له رغبتى فى أن أتذوق الساكى الشراب الوطنى .. وكنت أسمع عنه .. وأحب أن أعرف طعمه .. فمضى بى إلى مشرب مشهور يقدم أجود أنواعه .. ولاحظت وأنا جالس فى المشرب بناية من طراز يابانى عتيق .. ساكنة وكل ما حولها ساكن .. وعلى الواجهة أنوار خافتة تتدلى من قناديل .
     وسألت ميشى :
     ـ ما هذه البناية .. معبد ...؟
     ـ لا ... إنها نزل ..
     ـ وهل أجد فيه غرفة ...
     ـ هل فكرت فى أن تترك فندق يوكوهاما ..
     ـ أجل .. أحب هذا الطراز اليابانى البحت .. وأرغب فى أن أكتب مذكراتى عن طوكيو .. فى مثل هذا المكان الهادئ .
     ـ إذن سأذهب وأرى ...
     وغاب عنى دقائق ثم رجع بوجه جامد الملامح ..
     فسألته فى لهفة ..
     ـ هل وجدت غرفة ..
     ـ أجل .. ومتى تحب أن تأتى إلى هنا ..
     ـ فى صباح الغد .. إن أمكن ..
     ـ إذن جهز حقائبك الليلة .
***
     وفى صباح اليوم التالى .. قرعنا باب هذا النزل .. وفتحت لنا فتاة ترتدى الكومينوالباب .. وبعد أن أحنت رأسها مرحبة .. قادتنا إلى الداخل على ممشى طويل مفروش بالحصير .. وكانت معى حقيبة ثقيلة ..
     وكنت أشفق على من يحملها .. وفى فندق يوكوهاما كانت توضع على عربة صغيرة ذات عجلات ..
     أما فى هذا النزل الصغير .. فلم أكن أدرى كيف تحمل .. وقطع على خواطرى .. عملاق برز من الداخل وتناول الحقيبة بيد واحدة وصعد بها إلى الطابق الثانى ..
     ولم أكن قد رأيت يابانيا بمثل هذا الطول .. وكان النزل من طابقين وبه قليل من النزلاء .. وأكثر هدوءا مما قدرته ..
وكان على نسق يابانى بحت .. وتحيط به حديقة ناضرة والزهور والتماثيل الخزفية منثورة فى كل مكان .. وكانت أرض الغرف كلها مفروشة بالحصير الجميل .. والأبواب تفتح جانبا وتدور على أكر صغيرة .. والغرفة الواسعة يمكن أن تقسم فى دقيقة واحدة إلى أربع غرف صغيرة .
     ومن السقف تتدلى القناديل والبالونات من كل الألوان وتبدو هذه الصور للعيان كلوحات خطها فنان .
     وقد خلعت حذائى على الباب الخارجى ولبست خفا يابانيا .. وجلست على حشية فى قاعة الشاى .. وحولى ثلاث فتيات يقدمن لى الشاى والفطائر ..
     وكان فى الطابق الذى أقيم فيه سرب من الحسان العاملات يلبسن الكومينو الأزرق والمزركش .
     ولقد عرفت أيهن التى تقدم الشاى وأيهن التى تساعد النزيل على خلع ولبس ملابسه.. وأيهن التى تقوم على الخدمة فى المغطس ..
     ولم أكن أدرى لماذا توجد المرأة بكثرة فى فنادق اليابان ونزلها .. وأدركت أنها تزاول كل الأعمال السهلة وتترك الأعمال الشاقة للرجل .
     وكانت مديرة النزل سيدة أيضا فى حوالى الأربعين من عمرها .. وتجلس على حشية فى المدخل .. وتحرك كل هؤلاء العاملات بابتسامتها ومجرد إيماءة من رأسها .
     وكنت أراها .. لا تبرح مكانها إلا قليلا .. وكانت أكثر لطفا من أية سيدة يابانية وقع عليها بصرى ..
      ووجدت فى تقاطيع جسمها الجميلة .. وملامح وجهها الحنون ما جعلنى أتأمل ..
     فقلت لميشى :
     ـ لابد أنها كانت جميلة جدا فى صباها ..
     ـ كانت أجمل فتاة فى طوكيو ..
     ـ أتعرفها من قبل ..
     ـ أعرفها من خمسة عشر عاما .. منذ سقطت علينا القنابل فى الحرب الأخيرة ..
     ـ أمتزوجة ..؟
     ـ أبدا إنها لم تتزوج قط ..
     ـ ولماذا ..؟ 
     ـ لم يوجه لها أحد هذا السؤال ..
     ـ إنها لا تزال نضيرة .. وأجمل من كل عروس ووجهها يضئ كالشمع .. وأحسبه فى مثل نعومته ..
     ورفع ميشى الكأس الخزفى إلى شفتيه وأغلق عينيه كعادته ولم ينبس ..
      وكانت تحيينى على الطريقة اليابانية .. ومن عينيها يطل البشر والإيناس ..
     ولم تكن قد طلبت منى جواز السفر .. تأدبا منها فنهضت لأعرض عليها أوراقى ..
     وكانت تعرف قليلا من الإنجليزية ..
     فقالت برقة :
     ـ لا داعى لجواز السفر .. أو أية أوراق أخرى .. إنك هنا فى بيتك .. فقط قل اسمك لتعرفه البنات ..
     ـ إسماعيل الشربينى .. ويكفى مناداتى بواحد منهما ..
     فقالت ضاحكة :
     ـ كلاهما صعب .. على البنات .. اختر لك اسما يابانيا ..
     فقلت باسما :
     ـ اختار ( ياما ) ..
     فضحكت وضحكت ..
***
         وفى خلال الأيام الأولى من إقامتى فى هذا النزل لم أعد أبرحه إلا قليلا وكنت أجلس فى القاعة الجانبية .. أشرب الساكى وأحس بمثل النار فى أحشائى ولكننى كنت أشرب لأرى هذه السيدة أكثر نضارة ..
     ولم تكن لى أقل رغبة فى التجول فى المدينة فإنى كنت أود أن أستريح فى هذا الحى وأخلص من كتابة المذكرات ..
***
     وكان ميشى دائم القعود فى هذا النزل .. منزويا فى ركن .. يدخن ويشرب الساكى وهو يغمض عينيه .. وكل من يراه يتصوره نائما ..
     وكنت لا أحب أن تأتى الفتاة القائمة على خدمتى إلى غرفتى فى الصباح حسب العادة اليابانية لتساعدنى على ارتداء ملابسى أو تربط لى ياقة رقبتى وأقاوم هذا والفتاة العاملة تضحك ..
     والظاهر أنها حدثت السيدة المديرة بما حدث فجاءت هذه إلى وهى تبتسم وكانت تكتفى بربط الكرافتة .. وضم سترتى على صدرى .. وكنت أحادثها فى هذه الفترة وأشعر بأنفاسها على بعد شبر واحد منى .. وألمس نعومة بشرتها وأنظر إلى أصابعها العاجية الدقيقة .. وهى تتحرك على عاتقى .. وشعرها الأسود الغزير يتموج فوق رأسها .. ويكاد يلمس شفتى ..
     كنت أشكرها وأتناول يدها .. بعد هذه المساعدة وأقبلها وكانت تقابل هذه القبلة على يدها بالفرح الذى يغمر القلب ..
     ولاحظت ذات صباح .. وهى تقترب منى وتربط لى ربطة العنق أن فى وجهها شيئا ولما دققت النظر تيقنت أنها تضع ما يشبه القناع من البلاستيك على وجهها وقد غطته ببراعة بطبقة من الدهون والمساحيق ليظهر طبيعيا .. وأبعدت عينى عنها حتى لا تلاحظ أنى أتفحصها .. ولكنى شغلت بما رأيت .. وددت أن أتأكد منه وقد أكد لى الأمر .. عندما رأيتها ذات ليلة فى غرفتها تخلع هذا القناع .. وكان الستر منزاحا قليلا .. فلما استدارت لترده ابتعدت مسرعا حتى لا يقع بصرها على .. ولكننى رأيت الحروق تشوه خدها الأيمن كله .. وأسفت لها .. وازداد تعلقى بها ..
     ولم أشأ أن أسأل ميشى عن سبب هذه الحروق .. إذ لا يوصل السؤال إلى شئ وإن كنت قد خمنت أنها أصيبت فى غارة على طوكيو .. فى الحرب الأخيرة ..
     وقد تأكد لى ذلك دون أن أوجه سؤالا مباشرا لشخص بعينه ..
     وكان ميشى يغمض عينيه كعادته .. والدورق الخزفى الممتلئ بالساكى أمامه .. والسيجارة بين أصابعه ..
     وكان ينسى كعادته أنى لا أدخن ويخرج العلبة ليقدم لى سيجارة ثم يستدرك .. فيغمض عينيه وهو يضحك ..
     ولم أكن أدرى فى أى مكان فى طوكيو مرقده .. وكان كواحد من التسعة الملايين التى تتحرك مع العجلة الدوارة ..
     ولقد مزقت الحرب أوصالهم .. ولكنها لم تقتل روحهم .. ولم تغير شيئا من فتوتهم الجبارة ..
***
     وكانت المدينة الكبيرة تظل هادئة فيما خلا يومى السبت والأحد حيث يخرج جنود الاحتلال من معسكراتهم أو يطيرون إليها من قواعدهم ...
     ومع أننا كنا بعيدين عن قلب العاصمة ولكن جاء فوج منهم فى الساعة الثامنة ليلا وقرع باب النزل فردوهم من الباب ..
     وكانت السيدة لا تقبل الجنود فى النزل قط ولاتدخل أحدا منهم .. ولقد تبينت السبب فى وجود اليابانى العملاق فى هذه اللحظة فإن كل من يأتى كان يدفعه إلى الخارج دفعا فى قوة وصرامة .. وحتى الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل لم يكن قد طرق باب القندق طارق جديد ..
     وكانت الفتيات قد ضممن أطراف أرديتهن .. وذهبن إلى الفراش .. وبقيت السيدة المديرة قليلا وكانت آخر من يدخل غرفته ..
وظل العملاق فى مكانه هادئا يرقب الباب ..
     وكان المستر ميشى .. قد ثقل رأسه من الساكى وأغلق عينيه كعادته ولعله كان ينتظر .. صفير المترو لينهض ..
     وبرز شئ فى المدخل أحدث ضجةهائلة قطعت هذا السكون فقد دفع الباب فى عنف  .. ثلاثة جنود من الأمريكان ومعهم فتاة أمريكية طويلة ولها ساقان أطول من ساقى الزرافة ..
     وتحرك العملاق .. ليصرفهم كعادته بالحسنى فنحوه عن الطريق .. وحاولوا الولوج إلى الداخل .. فوقف فى طريقهم .. وحدث اشتباك رهيب .. وأمسك العملاق بعنق واحد منهم وضغط عليه .. ثم حركه فأخرج أحد العساكر .. خنجرا وطعن العملاق .. فى صدره وصرخت الآنسة وتقدمت نحو العسكرى .. فأسرع إليها شاهرا خنجره ..
     وفى أثناء هذه اللحظة الرهيبة دوت طلقة وسقط الجندى .. ولمحت المستر ميشى فى مكانه بعد أن أطلق النار .. يضع فى جيبه شيئا وكان نفس العلبة التى اعتاد أن يقدمها لى دائما كمحفظة للسجائر ..
     وتجمع العساكر الأمريكان عليه وطعنوه بالخناجر فسقط فى مكانه ..
وكان ينظر إلى المديرة .. بعينين تفيضان بالحب الدفين ..
     وانحنت المديرة عليه وأخرجت المسدس سريعا وناولته لى فوضعته فى جيبى فى خطف البرق .. وأدركت براعتها فى هذه الحركة ..
     وعندما قدم البوليس وفتش المكان .. ظللت أنا فى غرفتى .. ولم يدخل على أحد ..
     وأحسست بعد ساعة بالهدوء .. وعلمت أنهم خرجوا وحملوا معهم الجرحى .. وسمعت بأقدام المديرة .. ورأيتها تدخل على الغرفة .. وكان وجهها ساكنا .. وقد أدركت من عينيها أن ميشى لم يمت ولكنه سينتهى فى ساعات ..
     وقلت لها :
     ـ سنذهب لزيارته معا فى المستشفى غدا ..
     فقالت :
     ـ نعم سنذهب .. معا .. وسأعرفه بما فعلته ..
     ـ إننى لم أفعل شيئا ..
     ـ لقد فعلت الكثير ..
     وتناولت يدها فى غمرة عواطفها لأقبلها ..
     ولكننى لم أفعل ذلك بل اقتربت من خدها وشفتيها وأنا أضمها إلى صدرى وكانت شفتاى فوق الشىء غير الحى ولكننى أحسست بالحرارة النابعة من القلب ..
     وفاضت عبراتها .. وهى بين ذراعى .. فما أحسب إنسانا ضمها هذه الضمة .. منذ وقع لها الحادث الرهيب وقد شعرت فى هذه اللحظة أنها استردت حياتها كأنثى ...
==============================    
نشرت القصة بمجلة الجيل بالعدد 453 بتاريخ 29/8/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
=================================




فتاة من جنزا

     سكان طوكيو تسعة ملايين منهم ربع مليون على الأقل يلعبون القمار بحى شمباسى .. فى لعبة جهنمية ليس لها ضريب ..
     آلة أتوماتيكية تسقط فيها القطعة من العشرة ينات فتأتى لك بخمسين قطعة فى لمح البصر .. بشرط أن تقطع أنفاسك وأنت تحركها وتلمس بأصابعك لولبها ..
     وقد تسقط فيها مائة قطعة ولا يأتى لك شىء أبدا .. ولا تسمع أى رنين للعملة على الإطلاق .. ومع ذلك تظل واقفا تلعب .. وبجانبك مئات الآلات.. ومئات من المهووسين مثلك يراودهم الأمل للكسب السريع .. ولشىء يعجز عن تعليله حتى أدلر ..
      تستغرق فى اللعبة وتنسى نفسك .. وتستمر فى المقامرة فى هوس المخبول غافلا عن كل شىء ناسيا الطعام والشراب إلى الصباح .. ملتذا بضجيج الآلات وحركتها الأتوماتيكية وهى تبلع الينات وتفتح فاها لتصيح هل من مزيد ..
     رأيت هذا المكان وأنا أعبر الطريق متجها إلى حى ، جنزا .. وسحرنى جوه الغريب والضجيج المنبعث منه ورأيت اللاعبين واقفين أمام الآلات لا يبرحونها لحظة كأنما ربطوا بها بسلاسل من حديد ..
      وبارحت الملعب وعدت إليه بعد أربع ساعات .. فرأيت نفس الوجوه واقفة على الآلات وقد انتابتها حمى اللعب ..
     والغالبية من هؤلاء المقامرين لم تكن تكسب أى شىء على الإطلاق .. وكانت تذهب لتحرق أعصابها وتمزق روحها ..
     وأخذت أدور فى الملعب كما يدور الفراش حول النار .. وكنت أود أن أدخل فى الصف .. ولكنى لم أجد آلة واحدة خالية .. كانت كلها مشغولة.. عن يمينى وعن يسارى وفى كل صف وقف الرجال والنساء فى استغراق عجيب ..
     وغادرت المكان واتجهت إلى الشارع الخلفى .. وأنا أضرب فى الأرض على غير وجهة فى ليل طوكيو الحالم .. وكانت البالونات تدور فى سماء المدينة متألقة زاهية .. ورأيت الساعة المضيئة فى البرج تقترب عقاربها من نصف الليل ..
     وأخذ الجو يبرد ولم أكن أرتدى معطفا .. فبدا لى أن أذهب إلى الفندق .. وكان قريبا لألبس معطفى ثم أعود ..
     واجتزت نفق المترو .. وتحت الضوء الشاحب .. برزت لى فتاة .. وكنت أتصور .. أنها تقف تحت الباكية .. تستهوى المارة كما تفعل الفتيات فى هذا المكان .. ولكنى لمحت بابا صغيرا من الزجاج الملون عليه ستار كثيف .. فأدركت أن الفتاة خرجت من هذا الباب ..
     وابتسمت لى وأحنت رأسها وقالت برقة :
     ـ تفضل ..
     وحركت لى الباب .. فدخلت دون تردد وكان المكان من الصغر .. بحيث تحيرت كيف يمكن أن يقوم ملهى فى برميل ..
     كان أجوف ومستديرا كالبرميل تماما ..
     وصدم بصرى أول ما توسطت القاعة شاب يابانى .. يجلس أمام البنك وأمامه فتاة تساقيه الشراب فى هذا الجو الشاحب ..
     وكانت الستر مسدلة على النوافذ والرسومات تزين المكان .. والبالونات الصغيرة المضيئة من كل الألوان تسبح فى الجو ..
     والضوء المغشى يضفى ظلا جميلا على الأركان تستريح إليه العين والنفس.. وشممت رائحة العنبر .. وأنا أجلس على كرسى مغطى بالقطيفة الحمراء .. وأمامى منضدة مزركشة عليها مصباح بلورى يلقى سائلا من الشعاع الأزرق على هذا الركن الصغير .. وعلى وجه الفتاة التى ردت الباب وجلست أمامى تحيينى فى رقة .. لقد كانت الفتاة الأخرى تعد الشراب وتجالس الزبون اليابانى ..
     وكان الكومينو يضم جسما دقيق التكوين بالغ الحد فى الدقة والوجه الصغير .. فيه شحوب العذراء التى تسهر الليل قبل الأوان ..
     وكان أنفها الدقيق يكاد يلامس أنفى .. وهى تسألنى فى صوت خافت بإنجليزية سليمة :
     ـ ماذا تشرب .. ؟
     ـ كأس من النبيذ ..
     ـ ألا تشرب الساكى .. ؟
     ـ إنه ينزل فى جوفى كالنار ..
     فابتسمت فى نعومة تجذب القلب .. وغابت وراء باب خلفى .. وتركتنى وحيدا أمام نظرات الشاب وزميلته ..
     وكان اليابانى ربع القوام عريض الصدر .. فى يده سيجارة وأمامه كأس نصف ممتلئ .. والفتاة طويلة ملساء العود تلبس كومينو أزرق وشعر رأسها معقوص فوق جبينها كالتاج .. ولم تكن تشرب وكانت نظرات عينيها تقع على وجهى من حين إلى حين ثم تعود تؤانس صاحبها ..
     وجاءت رفيقتى .. ووضعت الكأس وأنا أنظر إلى شعرها المتموج الشديد السواد ..
     وسألتنى بدماثة :
     ـ أقادم من مانيللا .. ؟
     ـ من هونج كونج ..
     ـ إيه .. إنها مدينة جميلة .. كما سمعت ..
     ـ أجمل المدن .. بعد طوكيو ..
     ـ أعجبتك طوكيو .. ؟
     ـ إنها عروس المدن جمعاء .. وأنت أجمل من رأيت فيها من النساء ..
     ـ أهذا إطراء .. ؟
     ـ أبدا .. إننى أقول الحقيقة .. ولولا أن بهرنى جمالك .. مادخلت إلى هنا على التو ..
     ـ هل زرت قصر الإمبراطور .. وبرج طوكيو .. وجنزا .. ؟
     ـ زرتها كلها .. وأنا الآن أعاود التجول فى جنزا ..
     ـ سائح .. ؟
     ـ أجل ..
     ـ وهذه أول مرة .. ؟
     ـ أول مرة ..
     ـ ستبقى طويلا .. ؟
     ـ شهرا ..
     ـ شهر لا يكفى .. ابق شهرين ..
     ـ والنقود .. ؟
     ـ سأريك الأماكن الرخيصة .. وستصرف القليل .. طوكيو ليست غالية ..
     ـ هذا صحيح .. إلا شيئا واحدا ..
     ـ ما هو .. ؟
     ـ الخمر من أيدى الحسان ..
     ـ لا تشربها إذن ..
     وكانت تبتسم لى مفترة الشفتين ..
     ـ سأشربها من يد ..
     ـ جينا ..
     ـ اسم جميل .. من جينا الحسناء فقط ..
     ـ ستأتى كل ليلة .. ؟
     ـ كل ليلة ..
     وكان صوتها يفيض حنانا ..
     ـ ما اسمك .. ؟
     ـ مصطفى ..
     ونطقته .. ثلاث مرات بصعوبة وهى تضحك ..
     ـ مهندس .. ؟
     ـ فى الواقع كل المهن التى تخطر على البال ..
     ـ أقرأ هذا فى خطوط يديك ..
     ـ أو تقرأين الكف .. ؟
     ـ قراءة جيدة .. أعطنى يدك ..
     ووضعت يدى فى يدها .. وكانت يدها رخصة ناعمة .. واقتربت منى بعينيها الباسمتين وأنفاسها المعطرة .. وقالت كلاما كثيرا لم أعره التفاتة .. وكنت أنظر إلى عينيها وهى تتحدث وفى صوتها نفس النبرات المثيرة .. وأشتم رائحة لحمها .. وكانت تحرك يدى فى راحتها وتنظر إلى نظرة لا يخطئها رجل ..
     وسألتنى :
     ـ أفهمت كل ما قلته .. ؟
     ـ بالطبع ..
     ـ ماذا قلت .. ؟
     ـ إننى أحب فتاة فى حانة ...
     ـ أهذا كل ما قلته .. ؟
     ـ هذا زبدته ..
     وضحكت وأخذنا نتحدث .. وكان الشاب اليابانى يتابعنا بنظراته ويقترب بأذنه كأنه ينصت لحديثنا .. فأخرجت ورقة بخمسة آلاف ين .. وأنا أفكر فى القمار .. فى الآلة الجهنمية ..
     وسألتنى :
     ـ لماذا أنت مستعجل .. والليل طويل وأنت وحيد فى المدينة ..
     ـ تجولت كثيرا .. وأحس بالتعب ..
     ـ ومتى أراك .. ؟
     ـ غدا .. سأجىء بعد العاشرة مساء ..
     ـ حقا .. ؟ 
     ـ حقا ..
     وسلمت عليها وخرجت من المكان والليل فى هزيعه الثانى .. وقد خفت حركة المواصلات ولكن المدينة ظلت ساهرة تتألق بأنوارها الساطعة ..
***
     ولما دخلت ملهى القمار كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا وألفيت اللاعبين وقوفا على تلك الآلات الجهنمية ولكن الزحام قد خف .. وأشبعت رغبتى فى اللعب .. وأنا أتلذذ من الانفعال الذى كان يصيبنى بعد كل ضغطة على الزر .. ولقد عجبت جدا لطباع الإنسان وهوسه ..
     وكانت قد انقضت ساعة كاملة وأنا ألعب دون أن أكسب شيئا .. وكلما هممت بالانصراف يعاودنى الأمل فى الكسب فأبقى وألعب ..
     وانتابتنى حالة من الهياج وأنا أقرع الآلة بعنف بآخر قطعة فى جيبى من ذات العشرة ينات ..
      وسمعت من ورائى بعد هذه الحركة صوتا هادئا يسألنى :
     ـ هل خسرت كثيرا .. ؟
     ـ كل ما معى من قطع برونزية ..
     ـ وتريد أن تستمر فى اللعب .. ؟
     ـ سأفك ورقة بمائة ين .. وألعب بها فإن خسرتها .. لن ألعب بعدها أبدا ..
     وابتسم الرجل وهو يسمع منى هذا الكلام .. كان يعرف أننى لا أستطيع أن أنفذ هذا الوعد وأن المقامر لا إرادة له ..
وفككت الورقة ..
      ولما هممت بأن أضع أول قطعة من البرونز فى ثقب الآلة سمعت الرجل يقول بصوته الهادئ :
     ـ أتسمح بأن ألعب لك هذه المرة .. ؟
     ووجدته يتقدم نحو الآلة .. فناولته القطعة ووضعها بيده وضغط على الزر ضغطة خفيفة .. ضغطة خبير .. فتساقطت مئات القطع .. فى الخزان ..
      فقال وقد غلبه السرور :
     ـ اجمع .. حظك ..
     ـ إنها نقودك ..
     ـ ألم أقل لك بأنى سألعب من أجلك .. خذ نقودك ..
     وسألته وأنا أضع النقود فى جيبى ..
     ـ هل أنت محظوظ دائما ..؟ وتكسب من أول جولة .. ؟ 
     ـ إننى أكسب عندما ألعب للآخرين ..
     ـ ولنفسك .. ؟
     ـ لا أكسب قط ..
     ـ لماذا .. ؟
     ـ المسألة .. كقانون الجاذبية .. وتحتاج إلى شرح طويل ..
     ـ هل هناك ما يمنع من شرحها لى .. خصوصا وأننى خسرت كثيرا هذه الليلة .. ؟
     وضحك الرجل ..
     ـ لست أول خاسر .. وأخاف إن شرحتها لك أن يلازمنى النحس دوما وأفقد السيطرة على الآلة فأرجو أن تعفينى .. وسيظل الأمر سرا مغلقا .. وأنت تعرف هواجس المقامر ...
     وابتسم المستر تاكاشى الذى فى رأسه تجارب رجل الخمسين فى رقة وهو يقول هذا وتحرك بجسمه وكان ربعة وثيق التركيب عريض الصدر حتى تصورته يشتغل بالمصارعة ..
      وقلت له وقد أحسست بالرغبة فى أن أجازيه على صنيعه .. وكنت قد شعرت بالجوع لأنى تعشيت فى الساعة السابعة ..
     ـ هل تسمح بأن نشرب كأسين من النبيذ .. ونأكل شيئا ..
     ـ لا بأس .. بشرط أن نذهب إلى مطعم شعبى .. فلا أحب أن أكلفك كثيرا ..
     وخرجنا إلى الشارع .. وفى مطعم صغير .. جلسنا إلى مائدة من الرخام وجاءت شابة ترتدى المعطف الأبيض لتخدمنا ..
     وكانت صبوحة الوجه ضاحكة .. فطلبنا نبيذا .. ولحما مشويا على النار وشوربة ساخنة ..
     وسألت تاكاشى على الطعام :
     ـ هل هذا هو المكان الوحيد الذى يلعب فيه مثل هذه اللعبة فى طوكيو..؟
     ـ إنه أشهر مكان ..
     ـ وهل تلعب فيه كثيرا .. ؟
     ـ إنى دائم التردد عليه .. بعد قنبلة نجازاكى ..
     وعلا وجهه السهوم فأطرق وهو يدير الكأس بين يديه ..
ثم استطرد :
     ـ وجدته المكان الوحيد الذى أقضى فيه الليل .. مستغرقا وملتذا باللعبة نفسها .. ولم يكن فى مقدورى أن أفعل شيئا آخر ..
     ـ هل خسرت تجارتك فى الحرب ..
     ـ فقدت زوجتى .. وكانت كل شىء بالنسبة لى .. عروس فى شهرها الثانى .. ولم تصب بإصابة مباشرة ولكنها عانت من تأثير صدمة نفسية قاسية .. وعاشت أسبوعا فى عذاب لا يوصف ولا يحتمله بشر ثم ماتت فى ساعة رهيبة وأنا الآن أجتر الذكريات ..
     ـ وما زلت تذكر الحادث .. ؟ .. رغم مرور كل هذه السنين .. ؟
     ـ أجل كأن الأمر حدث بالأمس ولا زال فى أذنى الدوى المرعب .. ولقد تعذبت المسكينة طويلا وكانت أنضر من رأيت من النساء .. هل شاهدت (الكوين بى) ورأيت البنات الجميلات هناك فى هذا المرقص .. أحلى بنات طوكيو .. ولكن زوجتى كانت أجمل من هؤلاء جميعا .. لم يكن هناك من هو فى مثل جمالها ونضارتها ..
      ولقد حصلت معها على أكثر مما حلق له خيالى .. عرفت طعم الحب .. وطعم السعادة .. تزوجنا على حب ملتهب جارف .. ثم أنبت هذا كله .. وأنسلخ فى لحظة دامية ..
     ولقد أحسست بعذاب لا يوصف .. فكنت أهيم على وجهى فى الليل كالضال .. وأخيرا اخترت هذا المكان .. لأنسى نفسى .. وأنسى الحرب .. والذين يصنعونها ..
     وسألته :
     ـ وهل نسيت .. ؟
     فوضع الكأس :
     ـ أحاول أن أنسى .. وإننا لا نقاوم الشر .. بل نغذيه .. والحرب من صنع أيدينا نحن البشر .. وعلى الطبقات الكادحة من الشعوب فى العالم كله يقع العبء الأكبر فنحن الذين نصنع القنابل والمتفجرات بأيدينا .. ولذلك نتلقى كل ويلاتها ..
     ـ وماذا تفعل إذا اعتدى عليك مثلما اعتدى علينا .. ؟
     ـ أين .. ؟
     ـ فى حرب السويس ..
     ـ هذا شىء آخر .. هل أنت مصرى .. ؟
     ـ أجل .. ولقد هوجمنا غدرا .. ولم نكن نفكر فى الحرب إطلاقا ..
     ـ إن الموقف هنا يختلف .. وفى هذه الحالة نقاتل إلى آخر رمق ويقاتل معنا حتى الأطفال وأنت تعرف أن العالم كله كان معكم .. فى ذلك الوقت ..
     وسألنى بعد أن فرغنا من الطعام وأشعل لنفسه سيجارة :
     ـ هل اشتركت فى هذه الحرب كمقاتل .. ؟
     ـ كنت فى الدفاع المدنى .. ولكنى لا أعصم نفسى من القلق .. كنت أفكر فى مصير الأسرة بعد أن يذهب عنها الرجل الذى يعولها ..
     ـ هذا إحساس طبيعى .. إحساس كل إنسان مقاتل .. وكل ما نرجوه هو الاشتراك فى حرب أخرى .. وأن تعيش البشرية فى سلام ..
     ونظر إلى الفتاة .. وهى تقدم لنا القهوة وسألنى :
     ـ جميلة ..
     ـ غاية فى الجمال .. والدماثة ..
     ـ وطوكيو .. ؟
     ـ إنها أجمل المدن على الإطلاق ..
     ـ تصور هذا الجمال كله .. عندما يذهب به صاروخ واحد .. فى ليلة عاصفة ..
     ـ إن هذا محزن حقا ..
     ـ والتفكير فيه جنون مطبق .. ولماذا يعيش الناس على هذا الجنون .. وهذا القلق المدمر ..
     ـ والخوف من الحرب هو الظاهر فى عصرنا ..
     وقال تاكاشى :
     ـ هذا صحيح إن القلق طابع العصر حقا .. وهو الذى يدمرنا .. ذهبت إلى هونج كونج فى عمل منذ سنوات .. وأحبتنى فتاة ..
     ـ صينية .. ؟
     ـ أجل صينية .. وكانت .. قلقة .. تخشى أهلها ... وكنا نتعذب .. ويظهر أثر ذلك فى نفسينا ..
     كان الحب مشوبا بالمرارة وهذا عذاب غليظ ..
     ـ ولماذا لا تتزوجها .. ؟
     ـ إنها لا تحب أن تجىء إلى طوكيو .. وأنا لا أرغب فى العيش فى هونج كونج ..
     ـ والنتيجة .. ؟
     ـ العذاب .. وهذه هى الحياة ..
     وخرجنا نتجول فى المدينة مع أنفاس الصباح .. وقبل أن يودعنى الرجل ويأخذ طريقه قدمت له هدية من صنع خان الخليلى علبة سجائر مفضضة .. فتناولها وهو ينحنى بقامته خمس مرات ..
***
     وكنت خارجا عصر يوم من محطة المترو وصاعدا الدرجات سريعا .. عندما قابلت جينا فتاة الملهى هابطة السلم وحدقت فى وجهى وعرفتنى ..
      وقالت بعذوبة :
     ـ إنك لم تأت كما وعدت .. ؟
     ـ سآتى الليلة ..
     ـ سأنتظرك ..
     ومضت سريعا .. وأنا أسمع وقع أقدامها على الدرج ..
***
     وفى الليل ذهبت إلى الملهى .. وكان كعادته ساكنا .. وكان هناك أربعة من الرواد .. يرتدون جميعا الملابس الأوروبية وفى سن متقاربة .. يشربون الخمر ويحادثون فتاتين .. بخلاف جينا التى كانت تجالس الشاب اليابانى الذى رأيته أول مرة ..
     فلما رأتنى استأذنت من الشاب وأسرعت نحوى .. فجلسنا فى ركن نتجاذب أطراف الحديث ..
     وكان الدخان يملأ المكان .. والنوافذ كلها مغلقة وعليها الستائر الكثيفة.. فشعرت بالضيق .. خصوصا وأن الشاب اليابانى كان يتابعنا بنظرات المغتاظ وينصت لحديثى مع جينا .. ولم أمكث طويلا وهممت بالانصراف ..
     فسألتنى :
     ـ ذاهب .. ؟
     ـ أجل ..
     ـ هل أنت متضايق من المكان ..
     ـ رائحة الدخان تهيج رئتى ...
     ـ يمكن أن نصعد إلى الدور العلوى ...
     ونظرت إلى السلالم الخشبية الدقيقة التى تتوسط البناية ..
     وقلت لها :
     ـ إننى جئت لأعرض عليك نزهة فى الضواحى ..
     ـ متى .. ؟
     ـ الآن ..
     ـ إن الملهى يسهر طول الليل ..
     ـ نذهب فى الصباح إذن ..
     ـ فى الصباح أشتغل فى مطعم مارتا وأكون هناك فى الثامنة ..
          وفكرت ..
     تشتغل فى الصباح فى مطعم .. وفى الليل فى ملهى .. وهى فى هذه السن الصغيرة .. ولمن تكدح .. وتحمل نفسها هذا العذاب .. كانت قوية البنية موفورة الصحة وبشرتها الصفراء دافئة ..
     وسألتنى :
     ـ ما الذى تريده من النزهة فى الضواحى .. ؟
     ـ أحب أن أشتم أنفاس الورود هناك وأنت معى .. وأرى بيتا يابانيا .. على حقيقته ..
     ـ ترى بيتا يابانيا .. أترغب فى ذلك حقا .. ؟
     ـ إنها أحب الرغبات إلى نفسى ..
     ـ إذن سنرى بيتا فى ضاحية ..
     ـ متى .. ؟
     ـ سأحدث والدتى .. وأجيئك بالجواب غدا ..
     وتركتها منشرح القلب ..
***
     وفى المساء الثانى حدثتنى وهى مسرورة أن أمها ترحب بزيارتى ..
     واتفقنا على أن نذهب إلى بيتهم فى يوم الاثنين .. ونتجول ساعة أو ساعتين بالتاكسى قبل الذهاب إلى الضاحية .. وستعفى نفسها من العمل فى الملهى فى هذه الليلة لتكون فى صحبتى ..
***
     وانتظرتها يوم الاثنين فى محل أكيرا .. وجاءت فى الميعاد وكانت ترتدى ثوبا أوروبيا بسيطا للغاية .. يكشف عن قوامها النحيل وصدرها الناهد .. وبدت جذابة شهية ..
     وركبنا تاكسى انطلق بنا خارج المدينة .. وكنت أحمل هدية لها وهدية لأمها ..
     وكانت تود أن ترى هديتها وتفتح العلبة ولكنى أمهلتها إلى أن نصل إلى البيت فظلت تترقب المفاجأة ..
     وكان الهواء شديدا فأخذ يداعب شعرها .. فكانت تدفع خصلته بيديها .. فأغلقت النافذة الزجاجية الصغيرة .. وأمسكت بيدها .. فتركتها فى يدى ..
     وكان الجو قد تلبد بالغيوم وأخذت الأمطار تهطل بغزارة .. وبدت الأمطار الصغيرة عبر الزجاج وكان الطقس باردا .. وكنت أحس جسمها الحار إلى جانبى ..
     وكنت عبر نافذة السيارة أرى البيوت اليابانية الخشبية من طابق واحد .. والبالونات الزاهية والقناديل من كل الألوان على الأبواب الصغيرة وفى مدخل الحدائق .. وكان الطريق يلمع زاهيا متألقا كالأبنوس ..
     وكان سائق العربة رجلا مربوعا بيضى الوجه صامتا وكان قد تلقى التعليمات من جينا ثم انطلق لا يلوى على شىء ولامست بطرف شفتى أذنها الصغيرة فظلت جامدة وفمها مغلقا ثم ردتنى بلطف وهى تشير إلى السائق ومرآته ..
     وتوقف التاكسى أمام بيت يابانى صغير .. وفتحت الباب جينا وهبطت على الأرض .. وكنت أتأمل قامتها وجمالها والحب الجديد الذى ملأ كيانى ..
     وقابلتها سيدة مسنة على الباب انحنت لنا .. ودخلنا فى بهو فسيح تدور أبوابه بالأكر ثم انفرج الباب .. عن حجرة صغيرة أنيقة ذات نافذة زجاجية كبيرة تطل على الحديقة وبدت الورود والأزهار تعطر المكان كله ..
     وجلسنا على الحشيات وجاءت لى بقدح الشاى بعد أن غيرت ثوبها الأوروبى ولبست الكومينو .. وتركتنا أمها وحدنا فى القاعة وأخذت جينا تغنى على القيثار .. وأنا أتأمل بشرتها الملساء .. من خلال ثوبها الحريرى .. ووجدت الفرصة مناسبة لأقدم لها الهدية وفتحت العلبة .. ووضعت العقد الماسى الذى اشتريته لها فى عنقها ..
     ووضعت الآلة جانبا وهى تطير من الفرحة وأخذت تتزين .. وترجل شعرها .. وكانت هناك مرآة تعكس صورتها وكل جمالها ..
***
     وجلسنا نتعشى إلى مائدة واطئة وكان معنا أمها وأخوها الصغير كوزو ..
     وبعد العشاء تحدثنا فى كل الشئون وكانت تترجم لأمها حديثى .. واقترب الليل من منتصفه وكنا لا نزال نسمع صوت المطر غزيرا ومتدفقا ..
     ومع انهطاله الشديد استأذنت لأعود إلى الفندق ..
     ولكن جينا وأمها منعانى من الخروج فى المطر وأعدا لى غرفة خاصة ..
     ووجدت نفسى فى غرفة صغيرة جميلة مفروشة بالحشيات على الأرض ..
     ونمت بالكومينو .. ولعله من مخلفات المرحوم والد جينا .. وأغمضت عينى ملتذا .. وأنا أشعر بأنى أضع جسمى على ريش النعام ..
     وأحسست بالباب الصغير ينفرج .. على الأكر .. ودخلت جينا وكانت قد نسيت أن تحمل الأزهار بعيدا عن الغرفة ..
     وشعرت بى فاتحا عينى فسألتنى :
     ـ هل أنت صاح .. ؟
     ـ إنى أحلم بالمترو .. منطلقا فى الليل ..
     ـ لم يعد هناك مترو ..
     ورأيت العقد الماسى .. لا يزال على صدرها .. وكانت عيناها تشعان كأنهما جوهرتان فى الضوء الباهت ..
     وسألتنى وهى تتثنى :
     ـ أتريد شيئا .. ؟
     ـ أتمنى لو جلست لنتحدث قليلا .. فلن يأتينى النوم فى هذه الليلة ..
     ـ لماذا .. ؟
     ـ سأظل أحلم بك حلم اليقظة كما يحلم المؤمنون بالجنة ..
    وجلست على طرف الحشية متربعة صامتة ..
     وسألتها :
     ـ هل ناموا .. ؟
     ـ منذ ساعة ..
     ـ ولماذا لم تنامى أنت ..
     ـ فكرت فى الأزهار .. إن أنفاسها تؤذيك فى الليل ...
     ـ هذا صحيح .. وأنا الآن أشتم عطرك وأنفاسك وحدك استريحى .. واسترخى ..
     ووضعت وسادتين خلف رأسها .. ورحت أتأمل فى جيدها الماسى .. وكانت عيناها تلمعان كلؤلؤتين نادرتين .. أما صدرها الأبيض فلم يكن فى مثل هذه الاستدارة الشهية أبدا .. وكورت شفتين كحبة الكرز .. فلمستهما بطرف شفتى .. وأمسكت بيدها ..
     وسبحت فى عينيها سحابة من الدموع .. وأنا أشدها إلى صدرى ..
     ولقد أحسست بحريتى .. ككائن بشرى .. وبحقى أن أعيش ساعة من حياتى ..
***
     وكان ندى الصباح يفضض المدينة وأنا وحدى أدفع الباب الدوار وأدخل فندق دايتشى ..
***
     وفى الليل وأنا فى طريقى إلى الملهى الذى تعمل فيه جينا .. وقبل أن أجتاز النفق .. أنقض على الشاب اليابانى جليس جينا ليقتلنى .. وخلصنى منه فى وثبة سريعة تاكاشى وكان مارا فى نفس اللحظة وانتزع من يده النصل الذى كان سيغرسه فى قلبى .. وألقاه على الأرض ..
     وتيقنت فى هذه الساعة أن الشاب يعشق الفتاة فى جنون .. وعذرته .. فإن كل إنسان فى العالم يعشق هذه الفتاة لو رآها واشتم رائحة عطرها ..
===============================  
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة بالعدد 1391 بتاريخ  21/6/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
=================================




حانة البحار السبعة

تقع حانة البحار السبعة فى أجمل مكان على هضبة هونج كونج ..حيث التلال الزمردية وشجر الورد والتفاح والدردار .. وحيث أجمل ما خطت يد الطبيعة على وجه البسيطة ..
وكانت منحوتة فى جوف الصخر ومتخذة شكل التنين .. وتغطيها وتحيط بها الأشجار والأزهار .. وتدور بها طرق سوداء ملتوية كأنها طرق الحيات .. ولا يدرى أحد من أين جاءتها هذه التسمية وهى بعيدة عن البحر وعن الميناء .. ولا يدخلها بحار وندر أن تعرف مكانها بغير دليل ..
ولكن هونج كونج مدينة العجائب .. وحيث توجد أبردين .. ويوجد مائة ألف صينى يعيشون ويموتون فى الماء .. من الفقر والجوع فى زوارق فى حجم الذراع يوجد فى الجانب المقابل عشرات فقط من الأسر الإنجليزية الغنية على تخوم استانلى .. وتوجد الفيللات الأنيقة منثورة كالدر على صدر الهضبة .. ويوجد ألف متشرد ومتسول على أرصفة شستررود .. وكوين رود .. ودى فورود .. ويوجد ألف سائق لعربة يجرها الإنسان ..
ويوجد حشد عديم النظير يتحرك فى الشوارع حيث المتاجر والحوانيت الصغيرة والكبيرة فى قلب المدينة حيث السوق المفتوحة التى لا تخضع لأى قيود على الإطلاق ولا يوجد لها ضريب ..
وعندما تغلق الحوانيت والمتاجر تسطع أنوار الملاهى والحانات فى ليل هونج كونج الطويل ويظل الصخب والرقص فى مراقص من كل الأنواع تتخذ طابع البلاد المختلفة وفيها فتيات جميلات من الرقيق من كل أجناس الأرض .. يعشن حياة تعيسة .. ويذبل جمالهن قبل الأوان .. كما تذبل الزهور الناعمة تظل هذه المراقص المتخذة طابع المراقص الصينية والهندية والباريسية والتركية ... كما تسمع نقر الدف .. وصوت الجاز .. تظل صاخبة إلى الصباح ..
ولكن حانة البحار السبعة كانت تختلف عن كل الحانات .. فهى هادئة فوق الربوة .. بعيدا عن صخب المدينة وكأنما أوجدتها الطبيعة فى هذا المكان .. لينعم بها الشعراء والفنانون .. وتصعد إليها التل فى طريق لولبى وتدخل من باب معرش ثم تدفع بابا آخر سحريا وتهبط ثلاث درجات .. إلى قاعة واسعة منخفضة السقف سميكة الجدران تتفرع منها ثلاث قاعات مستطيلة فى مثل جمال الأولى ..
وفى القاعة الرئيسية بار نصف دائرى .. وعليه يقف كبير السقاة تشن .. بقامته المنتصبة ووجهه البيضى .. وقد لبس صدارا أحمر .. وسروالا .. من نفس اللون .. وراح يحملق بعينين مضمومتين فى القاعة الساكنة وفى ربة الحانة مدام يات وهى سيدة بدينة سمينة الخدين فى الأربعين من عمرها ترتدى ثوبا أسود يصل إلى العنق .. وتنفق كل وقتها وهى جالسة هادئة لا تتحرك أمام البنك ..
ولكن عينيها لا تغفلان لحظة عن الزبائن والسقاة ..
وكانت جدران الحانة مزينة بالنقوش والزخارف الصينية وعلى صدر المنصة صورة لتنين هائل .. وعلى الرفوف الجانبية التماثيل الخزفية وأصداف المحار وصور زيتية رائعة لمعبد بوذى .. وتمثال دقيق الصنع لبوذا نفسه ..
وكان على أديم الأرض بساط أحمر يغوص فى سمكه القدم والمناضد .. والكراسى مكسوة بالقطيفة الحمراء أيضا وبلورات المصابيح مكسوة بالحرير الطبيعى فى لون العناب ..
وفى الصدر المواجه للمدخل صورة كبيرة لقرصان ضخم .. يحمل فتاة عارية بين ذراعيه .. ويسير بها على جسر السفينة .. متجها إلى المقصورة ..
وكان فى الحانة ثلاث فتيات من السقاة .. صينيات ناعمات البشرة صفراوات ولم يكن دميمات ولا جميلات .. ولكن مودتهن .. وابتساماتهن وثوبهن المشقوق عن الفخذين كان يرضى الزبائن ..
وفى الطرف الجانبى من القاعة باب صغير يؤدى إلى ممر متعرج يفضى إلى غرفة معتمة محجوبة عن الأنظار بستائر من المخمل ..
ووضعت على أرضها الحشيات اللينة من الريش والوسائد الناعمة ..
وفى هذه القاعة السحرية الخفيفة الضوء التى يحوم فى جوها البخور يدخن الرواد الأفيون فى صمت عميق ويستمعون إلى الموسيقى الهادئة ..
وكانت ربة الحانة ترعى هذا المكان السحرى بقلبها وعينيها .. وهى جالسة أمام البنك .. وترقب فى الوقت نفسه الفتيات يغسلن الأكواب .. ويمسحن الصحون بالمناشف ..
وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحا .. وقد فتحت أبواب البنوك الكبيرة والمتاجر وبيوت المال فى هونج كونج .. وعادت الأقدام السريعة للرجال والنساء تهبط الكوبرى بعد أن تخرج من السفن القادمة من
« كولون » .. وتتجه إلى قلب المدينة ..
وتحركت عربات الركشا الواقفة فى انتظارهم لتنقلهم إلى السوق داخل المدينة وإلى نزهة خلوية فى الضواحى وفى جولة على الربوة ..
وكان « لو » يقف بعربته الركشا على الجسر الثالث هناك فى مرسى البواخر يرقب الخارجين من السفن عن كثب .. ثم يحرك الركشا فى تؤدة إلى أن يجد الزبون فيدور به فى جولات سريعة فى شوارع كوين رود وشستر رود ..
وفى خلال جولاته يحادث الراكب بإنجليزية سليمة ليعرف وجهته ثم ينطلق به أخيرا .. إلى حانة البحار السبعة ..
وكان من طبع « لو » أن يجتذب الزبائن الذين يسعون وراء الأشياء الغريبة أو الذين يعذبهم الفضول ليكتشفوا الجديد .. أو الذين يحبون أن يشتموا رائحة العنبر .. وكل ما اشتهر به الشرق العجيب ..
وكان قد حمل إلى المكان عجوزا أوربيا فى نحو السبعين من عمره يدعى سميث قضى زمنا طويلا متنقلا فى البحار ثم جاء إلى هونج كونج ليعيش على هواه فى أحد فنادقها وكان يقضى النهار والليل فى الحانة ولا يكف عن الشراب وتدخين الأفيون ..
وكان قد شعر بوطأة الوحدة فى شيخوخته .. فأخذت الفتيات يؤنسن وحدته بالحديث والغناء والضرب على القيثارة وصاحبة الحان تدرك حاله كعازب فرغ من حياته .. وتخصه بعطفها ..
ولكن نظرته مع كل ما يحيط به من نساء وبهجة ظلت حزينة ..
وكان يخاف ويعاوده الخوف من الموت ويود أن يتزوج من صبية شرقية .. صينية أو يابانية أو هندية .. قبل أن ينفد أجله ..
***
وكانت الشمس قد أرسلت شعاعها الأصفر .. من خلال أوراق الأشجار .. ولكن سميث فى قبوه لم يكن يبصر شعاعها أبدا ..
وتهدج صوته وهو يقول للساقية :
ـ هل من سبيل يغنى عن الأفيون .. هل تتزوجيننى .. ياحلوة .. وسأجعل قلائد العقيق والماس والزمرد تغطى هذا الصدر الجميل ..
ثم بعد عشر دقائق كان يغط فى النوم على الأريكة ..
وسمع صياحا وجلبة فاستيقظ وكان ثلاثة من البحارة قد نفذوا إلى المكان وهم سكارى فجلسوا يشربون ويغنون .. ويجذبون إليهم الفتيات ليرقصن معهم .. ولم تكن من عادة البحارة أن يأتوا إلى هذا المكان أبدا ولم تكن ربة الحانة تحب وجودهم .. لأنهم يثيرون العراك والصخب .. والعراك يستدعى تدخل البوليس وهى لا تحب أن يدخل البوليس المكان .. وتود أن تظل الحانة على مستوى عال للخاصة والقلة المختارة من السائحين التى تعشق الهدوء قبل أى شىء آخر ..
واحتارت ماذا تفعل ..؟
وكان تشن يود أن يتدخل ولكنها منعته .. وظل فى مكانه ..
ورأى مستر سميث الحمرة على وجهها وكان قد خرج إلى القاعة على صوت البحارة فتقدم إليهم ليهدئهم بإنجليزيته الناعمة .. ولكنهم ازدادوا هياجا .. وأمسكوا به ليضربوه ..
وفى اللحظة التى تصور معها الرواد أن سقف الحانة سيسقط عليهم .. دخل « لو » .. وأمسك بالبحارة الثلاثة وقذف بهم إلى الخارج وهناك أوسعهم ضربا وبدت قوته كمارد جبار .. وهو يصارع الثلاثة ويطاردهم وأخيرا فروا مذعورين .. وكانت ربة الحانة تتوقع عودة البحارة الذين ضربوا ومعهم بحارة السفينة جميعا .. بعد ساعة على الأكثر لينضموا لرفاقهم ..
ولهذا طلبت من لو .. أن يبقى فظل قريبا من المكان .. ومنذ تلك اللحظة أصبح قريبا من قلبها .. وخصصت له القبو لينام فيه ..
***
وأسدلت الستائر المخملية على المكان كله وأطلق البخور وأضيئت المصابيح الصينية كأنها قناديل من الزيت فى صحائف من الدر .. وكان ضوؤها يضفى على المكان جوا من السحر الحالم وبرزت للمشاهد من وراء الطاقات الصغيرة أشجار السرو والتين والبرقوق .. وتجلت غصونها المتموجة فى ضوء الشمس الباهر ..
ووفد على المكان بعض من السائحين والسائحات وابتدأت الموسيقى تعزف ألحانا راقصة ..
وخرج الراقصون والرقصات إلى باحة مسقوفة بأوراق الشجر .. ودار الرقص .. وظلت الموسيقى تصدح بالأنغام الشجية .. وكأنها تنوح على ما حاق بالإنسان .. من عذاب عبر القرون ..
واختلطت رائحة العطر .. برائحة التبغ والبخور .. والأفيون وذلك الأريج المنبعث من الحديقة ..
ولم يحول سميث عينيه عن عين فتاة بيضاء جميلة أطلقت العنان لساقيها .. وكانت تضع ذراعها على كتف مرافقها وتنثنى فى رشاقة وهى ترقص ..
وكان يلمح أحيانا طرف قميصها التحتى وهى تتطاير من دورانها السريع .. واختلطت الأحاديث والضحكات بالأقدام .. فى المرقص ..
وكانت الساعة قد أشرفت على الواحدة بعد الظهر ..
وبدأت قاعة الرقص تموج بالراقصين قبل فترة الغداء وأخذت الفرقة الصينية تعزف موسيقى صينية خفيفة ..
وكان العازفون الثلاثة فى قمصانهم الحمراء الزاهية الواسعة الأكمام وعلى رءوسهم الطواقى الحمراء بالزيق الأبيض والأصفر ..
وينتثى الزبائن بما شربوا من الخمر .. وتحمر وجوههم ..
ولكن ما من واحد منهم يتحرك من مكانه .. وكان الهدوء يخيم على المكان .. والبخور والسحر الصينى وجو القاعة كله يجعلهم يجلسون ذاهلين عن أنفسهم ..
وساعات النهار التى تعقب فترة الغداء كانت تمر بطيئة متثاقلة وكانت ربة الحانة تغفو فى خلالها ساعة واحدة .. ثم تشير برأسها إلى الفتيات فيتحركن .. ويأخذن فى مسح الأوانى والأكواب والصحون وتلميع كل شىء .. ووضع الزهريات الخزفية فى مكانها .. وهصر الستر .. وادخال الشعاع السحرى فى عينى التنين ..
وكانت شمس أكتوبر الحارة يعقبها المطر الخفيف فى كثير من الحالات ولكن رواد الحانة كانوا لا يحسون بشىء من هذا كله . ففى هذا القبو المظلم .. المنقطع عن الحياة .. توجد دنيا أخرى بهيجة وحالمة ..
وخلال الوجبات .. كانت تقدم الأكلات الصينية .. الشوربة وفيها تسبح الكرشة .. ولحم الطيور والسمك والمحار .. والأوز .. المخلوط بلحم العجول .. ثم البط القادم من بكين ..
وفى خفة ورشاقة تروح الفتيات ويجئن حاملات الصحون .. وسيقانهن العارية تبدو من خلال ثيابهن المشقوقة من الجانبين كأنها تطلب المزيد من الحرية ..
ثم تتحرك فتاة وحيدة وتدور على الموائد حاملة على صدرها صندوق السجائر .. وتنادى بصوت رخيم ..
ـ سجائر .. شكولاتة ..
فإذا أشار اليها أحد الرواد .. انحنت عليه برأسها وقربت شفتيها لتلقط ما يقول ..
وتحرك يدا رخصة وتخرج علبة أنيقة مغلقة ..
ويلقى إليها بالدولارات من غير حساب فتنحنى عدة مرات وهى باسمة .. ثم تتحول إلى مائدة أخرى ..
وفى خلال الفترة التى بعد الظهيرة .. كان يهوم شىء أشبه بالنعاس على الحانة ..
وكان « لو » يريح الركشا تحت ظل الأشجار .. ويدخل الحانة ليشرب كأسا .. ويجلس إلى منضدة كأنها أعدت له وحده ولم يكن غيره يقربها ..
وكانت الفتاة تضع له الكأس صامتة دون أن تتحرك شفتاها بحرف .. ويرفعه فى جرعة واحدة .. وهو يرمق المدام صاحبة البار بعينين نديتين .. ويسترخى مرسلا بصره إلى السقف .. والى الرسومات على الجدران ..
والساقية تقطع عليه أحلامه مرة أخرى وتضع أمامه صحنا من الأرز المخلوط بلحم البقر .. فيحرك العصوين .. فى الحال .. وتبرز طباع الصينى الأصيل فى هذه الأكلة الشهية ..
وكان يرسل وهو يحرك فكيه تحية خالصة لربة الحان التى أرسلت له الطبق فوق الحساب ..
وتبدو فى هذه اللحظة سنتان من الذهب فى الصف العلوى من أسنانه وهما تلمعان .. ثم يطبق فمه على سيجارة وبعد أن يدخنها ويستريح قليلا .. ينطلق بالركشا كالسهم .. إلى الميناء ولم يكن هناك من يعدو فى مثل عدوه .. كان سريع العدو طويل العود أطول من تقع عليه العين فى هونج كونج .. وأشد الرجال ساعدا ..
وكان كل الناس يعرفونه ... ويكلفونه بأشياء ..
ـ هات لى جريدة جنوب الصين .. يالو وأنت راجع ...
ـ أرسل هذا فى بريد كولون يالو .. أرجوك ..
ـ أعط .. هذا لمستر هنرى .. يالو .. فى بنك الصين .
وكان صف عربات الركشا يقف قريبا من الميناء ..
وأصحابها يقطعون على المارة الطريق فى رذالة ويجبرونهم على الركوب .. ولكن « لو » .. يقف صامتا حتى يتقدم إليه الراكب .. فيتحرك بأدب .. ويسأله عن وجهته ..
وكان الذى يركب دون أن تكون له وجهه معينة يتجه به إلى الحانة بعد جولة قصيرة فى المدينة ..
ولم يكن من طباعه أن يشتط فى الأجر .. فالدولار فى يده كالثلاثة .. المهم أن يأتى براكب جديد ..
وكانت عربته إذا قارنتها بسواها من العربات أنيقة وكرسيها مريحا ومغطى بالقطيفة .. وكان أكثر السائحين يختارونها لأناقتها ولأن لو يعتبر بمثابة الحارس لهم فى جولاتهم فى غابات هونج كونج وأحراجها .. وشوارعها المتعرجة ودروبها الطويلة ..
***
وفى أمسية من أمسيات السبت وكان واقفا فى مكانه على رصيف الميناء .. لمح سيدة ورجلا أوربيين يهبطان سريعا من الكوبرى الخشبى ويخرجان إلى الرصيف ..
ومرا بجواره .. فحرك العربة ثم ردها إلى مكانها ... لما لاحظ أنهما مترددان فى الركوب .. ثم ركبت السيدة الركشا وهى تقول شيئا بالإنجليزية وتبعها الرجل ..
ودار بهما لو فى المدينة فى شارع شستررود وكوين رود .. وسرت السيدة من المحلات الأنيقة ومن اللافتات الصينية وبالحروف الكبيرة على الواجهات . وفى الجوانب وكانت المدينة مزدحمة بالمارة والناس يتحركون فى سرعة وخفة .. وبدأ الصينيون أمامها قصار الأجسام قصار الخطو .. وأعجبت بهم فى الزى الصينى أكثر من إعجابها بهم فى الزى الأوروبى ..
وأبدت رغبتها فى أن ترى الهضبة .. وصعد بهما لو إلى الترام الصاعد ..
وبعد ساعة رجعا من جولتيهما وهبطا من الترام فأخذهما « لو » على التو إلى الحانة وكان الليل قد هبط وأضيئت المصابيح .. ولهب أحمر يندفع من فوق الربوة .. وظلال الأشجار الطويلة تتراقص حول الركشا ..
وكان لهب الشعلة الأحمر يدور فى الميناء والركشا تسير فى طريقها ولاح فى الأفق وهج أضواء مشتعلة تلقى ظلالها المتراقصة على أعلى مكان من الربوة ..
وتطلع الراكبان إلى السفح حيث تسبح المدينة فى بحر من الزمرد .. كانت الأضواء تتراقص فى الماء .. وتتلوى على صفحة الخليج الهادئ ثم تمضى مذعورة كأنها حيات طويلة قد اشتعلت فى ذيلها النار ..
وكانت كل الألوان الزاهية .. تتألق من المصابيح على السطح وفى التلال ..
وكان المنظر يحير الألباب ..
وسألت السيدة هيلين سائق الركشا :
ـ ما اسمك ..؟
ـ لو ..
ـ قف بنا لحظة يالو .. ما أجمل المنظر ..
ـ إن هذا المنظر يبدو أكثر جمالا من كالون ..
ـ حقا ؟
ـ بالطبع يا سيدتى سترين من الشاطئ المواجه جمال هونح كونج كله يتألق أمامك .. والهضبة تتوهج كأنها عقد كبير من الماس ..
ونظر لو إلى قلادة الماس على صدر السيدة ..
وقالت وهى تحرك يدها على القلادة كأنها تتأكد من وجودها ... فقد حذروها منذ هبطت المدينة من النشالين ومن أن تتركها فى الفندق ..
ـ ماس .. تمهل يالو .. ما أجمل ما حولنا .. أى منظر ..
ولما وقفت الركشا على باب الحانة كانا قد سكرا من المنظر ..
***
وكان لو رجلا وديعا هادئا .. وقد تناول ما قدمه له السائح .. وهو يحنى رأسه وينظر بإعجاب إلى المرأة التى بلغت الغاية فى الرقة والجمال ..
وكان السائحان زوجين من أواسط أوروبا يطوفان بالعالم .. وحطا الرحال بهونج كونج على أن يقضيا فيها شهرا أو شهرين ثم يتجهان إلى الهند فى الشتاء ..
وكان الرجل مهذبا دمث الخلق سمينا بعض الشىء .. أحمر الخدين ...
ولما وجد الحانة هادئة سر منها .. وكان يود أن يتناول عشاء صينيا خالصا أكثر من رغبته فى الشراب ..
وكانت الحانة فى الواقع مبتغى العشاق .. عشاق الهدوء وعشاق الطعام الصينى .. ويقصدها الذين ينشدون الهدوء والسكينة ولذة الغيبوبة التى تصيب الحواس ..
وهونج كونج الميناء التى تموج بالسفن .. والتى تبدو شوارعها فى كل الساعات فى أشد حالات الزحام والحركة ..
كانت تنتهى حركتها تماما إذا صعدت التلال ..
وتبدو الحانة فى كل الأوقات هادئة لا تحس بشىء مما يجرى حولها ..
وكان الهدوء قد جذب السيدة أكثر مما جذب الرجل ..
ولما دلتهما الساقية الصينية على القاعة السحرية .. دخلا وجلسا على الحشيات .. ووضعت السيدة البيبة بين شفتيها ودخنت لأول مرة الأفيون .. وأحست بلذة عارمة ..
ولما خرجت فى آخر الليل كانت تود أن تبقى إلى الصباح .
***
وبعد أربعة أيام .. جاءت فى الليل وحدها .. لم يكن فى صحبتها الزوج ..
ودخلت القاعة السحرية .. وتعرف إليها شاب صينى .. فظل معها إلى بعد منتصف الليل .. ثم ركب معها سيارة إلى الميناء .. وهناك رآها « لو » وهى تعبر الخليج .. فى صحبة الشاب .. إلى كالون..
وكان الشاب يرمى من عبوره معها الخليج أن يرافقها إلى فندقها إذ لم يكن من اللائق أن يترك سيدة وحدها فى الليل .. ولكنه راوغ فى الطريق كالثعلب .. وأخذها عندما أحس بأنها منتشية ومسلوبة الإرادة من فعل الأفيون إلى غرفة فى فندق رخيص وقضى معها ساعة ..
ولما خرجت من الفندق تفقدت قلادتها فلم تجدها .. فأدركت أن الشاب سرقها ولوعها الحزن .. وكتمت الخبر .. عن زوجها ..
وفى الصباح التالى زاد ارتباكها ..
وتحيرت ماذا تفعل وظلت حزينة .. ثم قالت لزوجها إنها ذاهبة فى جولة وحدها لتتسوق بعض الأشياء ..
ولما عبرت الخليج وجدت لو فى مكانه على الرصيف .. وكانت تود أن تحدثه عن ضياع القلادة .. ولكنها لم تستطع ..
ولما نظر « لو » إلى صدرها عاريا ولاحظ اضطرابها وشحوب لونها .. خمن أن شيئا حدث لها مع الشاب ولكنه لم يستطع أن يتكلم ..
ولكن نظرات المرأة إليه أشاعت اللوعة فى نفسه فقد كانت تستغيث به فى صمت وعذاب قبل أن تشيع الفضيحة ويعرف زوجها الخبر .. ويعلم بسقطتها وأدرك بذكائه وتعرفه على خفايا المدينة كل ما حدث ..
***
ولم يشاهد لو فى الحانة ولا الميناء قرابة شهر انقطعت أخباره .. ثم ظهر فجأة كما غاب فجأة ..
وكان يجر عربة الركشا بذراع واحدة .. وظهرت القلادة على صدر الزوجة الحسناء ..
ولكن أحدا لم يعرف السر .. ولم يعرف أن لو هو الذى أعادها للسيدة الشابة بعد معركة رهيبة فى ظلام الليل .. فقد بسببها ذراعه ..
=================================
نشرت فى صحيفة أخبار اليوم بالعدد 886 بتاريخ  28/10/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " عذراء ووحش " سنة 1963
=================================



فهرس

اسم القصـــــة                         رقم الصفحة

السلسلة       ..................................   2
الشيطان          .............................    14
العذراء والوحش      .........          .......   25
خياطة للسيدات             .............  .....   34
السيجارة      ............      ..........   .    40
الشيخ تمام           .........................    49
الجوهرة           ............................   52
الأخرس    .................          .......    57
النافذة      ..................  ..............    64
رجل فى القطار      ........................    70
الرجل الشريف     .................     ....    76
البخيل والعروس       .................          83
تذكار      ..................           .....    89
ليلة فى العربة            ...............   ...   98
الركشا       ............................. ..   105
الدليل       ............................... .   116
فتاة من جنزا              ...................   125
حانة البحار السبعة     ........................  141









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق