السبت، 11 أبريل 2015

قصة العربة الأخيرة للأديب المصرى الراحل محمود البدوى







العربة الأخيرة

       كانت عربة الترام الأخيرة التى تتحرك من ميدان العتبة فى الساعة الواحدة والدقيقة الخامسة عشر بعد منتصف الليل إلى الجيزة .. ولم تكن تكتظ بالركاب .. قليل منهم يركب من الميدان وكثير منهم يركب فى الطريق ..
       وكانت هذه العربة تجمع خليطا عجيبا من الناس .. رواد الملاهى ودور السينما فى الحفلات الأخيرة .. وبنات الليل اللواتى يتسكعن على الأرصفة .. والسكارى الذين يقضون الليل فى الحانات .. والغلمان الذين يجمعون أعقاب السجائر فى أخريات الليل .. ثم عمال الترام الذاهبين إلى منازلهم ..
       وكان سائق العربة يتحرك من الميدان بعد دقة ساعة البريد ويمضى على الشريط وهو فى أقصى سرعته .. فإذا اقترب من ميدان الأزهر خفف من سيره قليلا .. فمن هنا يبدأ الركاب فى الصعود والنزول ..
       وكان الركاب متجمعين فى وسط العربة .. وقد جلسوا فى صمت .. فقد كان التعب باديا على وجوههم جميعا .. والسكارى منهم كانوا يصخبون فى أول الأمر .. فلما قرصهم برد الشتاء انكمشوا وعادوا إلى السكون ..
       وعذارى الليل اللواتى جلسن فى ركن من العربة .. كانت وجوههن ذابلة .. وعليها ضروب مختلفة من المساحيق .. وكان التعب باديا على وجوههن .. ومع هذا فقد كن يبتسمن ليقعن على صيد جديد ..!
       وكان السكارى إذا بصروا بواحدة من هاته النسوة واقفة فى المحطة .. يمدون إليها أعناقهم .. ويلوحون لها بأيديهم .. فإذا ركبت العربة صمتوا كأنهم ما رأوها من قبل ..
       وكان الترام فى شارع قصر العينى ينطلق مسرعا .. وتصفر عجلاته وتدوى فى سكون الليل .. وفى سرعة ينزل منه الركاب وفى سرعة يمضى ..
       وكان سائق العربة يقف وحيدا فى الجزء الأمامى منها .. فما من أحد يستطيع أن يشاركه موقفه فى هذه البرودة الشديدة .. كان يتلقى البرد كله وحده .. وكان الهواء يصفر فى أذنيه ويلفح وجهه .. فقد كانت العربة مكشوفة ولا زجاج أمامى لها .. وكانت يده تتحرك على المفتاح .. والطريق يلمع أمامه على ضوء المصابيح البراقة .. وكانت رأسه تدور كما تدور يده بالمفتاح .. فقد ترك والدته فى البيت فى نزعها الأخير .. ولم يكن يدرى من أين يأتى لها بمصاريف الدفن .. كان قد أتعب ذهنه طول النهار دون أن يصل إلى نتيجة ..
       وكان يقف فى المحطات ويتحرك منها بحركة رتيبة وهو شبه مذهول .. كانت يده تتحرك من تلقاء نفسها كأنما يحركها لولب .. وكان ذهنه قد كف عن التفكير .. وعيناه قد ثبتت على الطريق المقفر ..
       وكان الشارع يلمع فى أخريات الليل .. وظهر الكناسون وهم يدفعون المياه إلى البالوعات الجانبية .. ويتحركون فى صف طويل ..
       وكان البرد قد اشتد فى الساعات الأولى من الصباح فضم السائق معطفه على صدره وانطلق ..
***
       وكان يجلس فى هذه العربة يوسف النجار .. وهو سمسار عقارات فى الأربعين من عمره .. ضئيل الجسم مستدير الوجه أبرص .. أفطس الأنف ضيق العينين .. ولكنه كبير الرأس جم النشاط .. يظل النهار كله يلف على عملائه كالنحلة .. متنقلا من مكان إلى مكان .. فإذا هبط الليل نفض يده من هذا كله وذهب إلى حانة صغيرة فى شارع محمد على وجلس فى ركن مظلم وأمامه مائدة خشبية قذرة وزجاجة من الخمر .. وأخذ يشرب ويراجع فى ذهنه أعماله فى النهار فإذا أغلق الحان أبوابه خرج منه وكأنه ما شرب شيئًا .. وأخذ يضرب فى الطرقات كعادته فى النهار .. فاذا اقتربت الساعة من الواحدة صباحًا رجع إلى الميدان وركب الترام ..
       ولم يكن يوسف متزوجًا وليس فى تاريخ حياته كلها امرأة واحدة .. ومع هذا فقد كان سعيدًا قانعًا من حظه فى الحياة .. وراضيا عن نفسه كل الرضى .. لم يكن يتصور أن شيئًا ينقصه لم يدر بخلده هذا قط ..
       وكان إذا ركب الترام أكثر من التدخين وأطال الصمت ..
       وكانت تجلس أمامه نرجس كامل .. وهى امرأة فشلت فى حياتها الزوجية ثم احترفت الرقص فى شبابها الأول .. وأولاها الدهر ظهره فوجدت نفسها فى الشارع .. وأخيرًا أشفق عليها صاحب ملهى وجعلها عاملة فى شباك التذاكر .. وكانت تغلق الشباك وتذهب إلى المشرب وهناك تشرب لتنسى مجدها الآفل .. فإذا انتهى المرقص خرجت من الباب الخلفى إلى الترام الأخير .. وجلست وحيدة فإذا رأت شابا فى العربة نظرت إليه فى اشتهاء وألم .. إنها لا تستطيع أن تحصل على شيء الآن .. لقد ذهب هذا مع شبابها الأول .. كانت تحلم وهى جالسة وحدها بشاب قوى يأخذها بين ذراعيه ثم تستفيق على زمارة الكمسارى وتعود إلى نفسها ..
       وكان يجلس أمامها جمال الدين عاصم .. وهو مقامر محترف فى الخامسة والثلاثين من عمره .. طويل نحيل .. أقنى الأنف .. بارز الذقن .. عريض الجبهة .. حاد البصر .. قامر بكل شيء معه حتى بزوجته .. وانتقل من حانات الكورسال والبارزيانا .. إلى السلسلة والنجم الذهبى فى أقذر أحياء العاصمة وكان يقامر بالجنيهات ..فأصبح يقامر بالملاليم ..
       وكان وهو جالس ينظر إلى نرجس فى استهزاء وسخرية .. ويدخن بشراهة .. وكان خارجا من الحلبة خاسرا كعادته .. وكان يقابل الخسائر من قبل باستخفاف المقامر دائما .. ولكنه فى هذه الليلة شعر بقنوط شديد وبحالة من بلغ أعماق الهاوية ..
       وكان يجلس أمامه عباس الضو .. وهو نشال بارع فى العشرين من عمره .. خارق الذكاء بارع الحيلة .. وكان يستعرض الجالسين معه فى العربة وعلى شفتيه ابتسامة .. ويراجع فى ذهنه الحوادث التى مرت به طول النهار  والتى تدل على غفلة الجماهير وبلادة حسهم ..
       وكان يجلس إلى جواره عبد العاطى منصور .. وهو شيخ من الريف ضخم الجثة فارع القامة قدم القاهرة لبعض أعماله .. وكان فى مرقص صاخب وكان منذ ركب الترام لا يحول وجهه عن فتاة بيضاء لعوب جلست أمامه وبجوارها شاب هزيل أسمر يطارحها الهوى على مرأى من الناس ..! وكان الشيخ ينظر إليها ويقارن بينها وبين زوجته منيرة التى ذهب شبابها فى عمل البيت وتربية الأولاد .. ويتمنى أن يجدد شبابه بتمضية ليلة مع فتاة كهذه .. وشردت به الخواطر .. والضو يرقب شروده هذا بعين ساهرة ..!
       وكان يجلس أمامه زكى جاد .. وهو شاب فى الثلاثين من عمره .. مفلس دائما .. ضاحك أبدا .. كان آخر من يركب الترام من الميدان لأنه لم يكن يحسب حساب الزمن ولم يكن يدرى كيف تمضى به الحياة أو يمضى هو فيها .. كان آخر من يطوف بالقاهرة فى الليل وأول من يبكر فيها فى الصباح .. ومع هذا فما كان يؤدى أى عمل .. لأنه لم يكن يفكر فى هذا ومثله .. وكانت توافه الحياة وعظائم الأمور تستوى فى نظره .. كلها فى نظره توافه .. ولم يكن يأسف على شيء فى الحياة .. وملهاة الحياة كمآسيها تمران أمامه والبسمة المشرفة لا تبرح شفتيه قط ..
       كانت قد فرغت علبة سجائره .. فتناول سيجارة من الشيخ عبد العاطى وأشعلها منه دون أن يشكره .. ثم وجد أن المقامر ينظر إليها فى اشتهاء .. فأعطاها له وتناول غيرها من الشيخ وهو يضحك .. وكانت السيجارة فاتحة التعارف مع كل من بقى فى العربة .. فقد أخذ يحادثهم بصوت عال حتى تحولت إليه الأنظار .. وكانت له قصة يحب أن يحكيها لكل الناس وقد وجد الوقت مناسبا ليقصها على الركاب ..
       رفع وجهه وقال :
       - منذ سنوات كنت أدرس فى جامعة ليون .. وذهبت فى العطلة الصيفية إلى باريس .. ونزلت فى فندق من فنادق الدرجة الثالثة فى الحى اللاتينى .. وقابلت فى الفندق فتاة لم أعرف جنسيتها إلى اليوم ..! وقد جاءت إلىَّ بعد ثلاثة أيام من اتصالى بها تبكى وتقول بأنها حبلى وأنها ستغرق نفسها فى نهر السين لتتخلص من هذا العار وبسذاجة وغفلة صدقتها وأعطيتها كل ما معى من فرنكات ..!
       وضحك زكى .. وضحك الركاب ..
***
       واجتاز الترام مستشفى قصر العينى واقترب من فم الخليج وكان ينطلق سريعًا .. وقبل محطة فم الخليج سمع السائق صفارة الكمسارى تدوى فى الليل وبعدها صياح عال وهرج شديد .. فأدار المفتاح بسرعة وجاهد حتى توقف الترام ..
       ونزل السائق من العربة وجرى إلى حيث الكمسارى وجمع من الركاب يجرون إلى الخلف على الشريط .. وكان أحد الركاب قد سقط وهو يحاول النزول فى أثناء سير الترام وكان هو المقامر جمال الدين .. وتجمع عليه الناس .. وكان قد جرح ولكن جرحه لم يكن بالغًا ..
     وجاءت عربة الإسعاف وحملت الرجل ..
***
       ونزل الركاب جميعًا من العربة بعد الحادث ليقطعوا ما بقى من الطريق سيرًا على الأقدام .. ونزل يوسف النجار فيمن نزل .. وسار قدمًا فى الطريق .. وكان بطبيعته سريع الحركة جاد السير .. ولكنه سمع وقع أقدام خفيفة وراءه فتلفت فرأى امرأة تمضى سريعًا .. إنها واحدة من الركاب دون شك .. وتمهل حتى اقتربت منه .. ثم جاوزته .. إنها نرجس .. ومر فى ذهنه خاطر .. لماذا لا يحادثها .. ويدعوها إلى بيته إنها غانية من الغوانى فلماذا لا يفعل هذا كغيره من الرجال .. لماذا يقضى حياته وحيدا محروما من متع الحياة وملذاتها ..! ما لذة العمل وما جدوى الحياة إذا خلت من امرأة ..؟ لقد عاش حتى الآن فى صحراء جرداء .. لم يفئ إلى ظل واحة ولم يشرب من نبع صاف .. إنه الليلة ظمآن وفى أشد حالات الظمأ ..
       وكان فى خلال خواطره قد أحس بجسمه يضطرب .. وبأنفاسه تتلاحق .. وكان يقترب من نرجس ويبتعد عنها .. ويتقدم ويتأخر .. كانت تنقصه الجرأة .. وأخيرًا شعر بشيء قوى يدفعه إليها دفعا .. فانطلق حتى اقترب منها .. ونظر إليها وقال بصوت خافت :
-      مساء الخير ..
ونظرت إليه وحولت وجهها عنه .. كانت تتمنى أن تجد غيره ولكنه سار بجوارها .. وظل يحادثها وهى صامتة ..
وأخيرا قال لها :
-      سأعطيك كل ما تطلبين .. خمسة جنيهات .. عشرة .. وها هى النقود ..
ونظرت إلى الأوراق المالية وفتحت عينيها جدا ..
وأخيرا رافقته إلى بيته ..
***
جلست نرجس فى صالة البيت .. بعد أن خلعت معطفها .. ووضع يوسف أمامها مائدة صغيرة عليها زجاجة من الخمر .. وجلس يشرب معها ويتحدث .. وكان يود أن يتشجع ويطرد من جسمه برودة الشتاء .. وكانت تود أن تسكر لتنسى نفسها وتغيب عن وعيها .. ولا تعود ترى وجهه الدميم الأبرص ..
وكان هو ينظر إليها بعينين نهمتين شرهتين .. ويحدق بشدة فى نحرها العارى .. وجيدها وكل جزء من أجزاء جسمها .. كان كأنه يرى امرأة لأول مرة فى حياته .. وكان فى حركاته ما يبعث السخرية والاشمئزاز فى نفسها .. وكان لا يصدق نفسه .. أحقا أنه مع امرأة .. وبعد قليل سيضمها إلى صدره ويطفئ نار وجده .. ويشرب من شفتيها .. هلى سيحدث هذا حقا بعد كل هذه السنين الطوال من الحرمان والجدب ..؟
واستكثر على نفسه كل هذا واخضلت عيناه بالدمع ..!
وأخيرًا جثا تحت قدميها وأخذ يبكى ويغمر رجليها بالقبلات ..
***
كانت نرجس ثملة متعبة فى الليل .. واستيقظت قبل رفيقها فى الصباح .. ونظرت إلى وجهه بجوارها .. نظرت إلى وجهه وجسمه وصرخت ..! ان برصه ودمامته لا حد لبشاعتهما .. شعرت بتقزز شديد وغثيان مفرط .. ونهضت من الفراش مسرعة وصرخت .. وفتح عينيه ونظر إليها كالكلب الذليل وقال بصوت مرتعش :
-      ما الذى جرى ..؟
ونظرت إليه فى احتقار .. وكان جسمها كله ينتفض من فورة الغضب ..
وصاحت بأعلى صوتها :
- أيها الكلب القذر .. كيف تسوغ أن تقترب من امرأة ..؟ لقد قتلتنى .. لا يمكن أن أنسى هذه الليلة .. لا يمكن أن أنساها .. لا يمكن أن أمحو صورتك البشعة من خيالى .. خذ نقودك ..
وألقت فى وجهه بالورقة المالية التى أعطاها لها فى الليل وخرجت ..
ودفن وجهه فى الفراش وبكى ..
***
ولما ارتفعت الشمس ارتدى ملابسه وخرج إلى عمله .. ولكن بجسم غير جسمه الأول .. وبنفس غير التى كانت بين جنبيه .. شعر بتغير مطلق فى كل ما يحيط به .. وأحس بثقل الحياة ومتاعبها يحطان على صدره فجأة ..
ولأول مرة فى حياته يتردد وهو يقدم على عمل جديد .. ويشعر بالحيرة والارتباك وبأن الناس والعملاء على الخصوص يسخرون من دمامته ويستبشعونها .. فود لو غاصت من تحته الأرض ودفن فى الأعماق .. لقد رمته هذه المرأة اللعينة بسهم قاتل .. واستلت منه سكينة النفس .. والرضا بما هو كائن .. والقناعة بما تأتى به الحياة .. لم يذكر له واحد من عملائه قط أنه دميم أو أبرص .. ولقد نسى هذا كله باستغراقه فى عمله وكان يؤديه على أحسن وجه .. لم يكن هناك من هو فى مثل نشاطه ..
أما الآن بعد أن رمته الأقدار بهذه المرأة فقد قتلت روحه .. وتحطم إلى الأبد ..
***
مرت أيام ولم يستطع فى خلالها أن يعمل شيئا .. تغيرت نظرته للحياة ونظرته للناس .. وأصبح قلق النفس .. مضطربا صامتا .. حزينا حزن الخصيان الأبدى ..
كان يسير فى الطريق شاردًا كالمذهول ويود لو ينقلب النهار المبصر إلى ظلام دامس سرمدى لكى لا يرى أحدًا ولكى لا تقع عليه عين إنسان ..
كان يسكر وينام .. وقد وجد فى النوم خلاصه الوحيد من شر نفسه وشر الناس ..
***
وفى ليلة من الليالى تحرك من ميدان إبراهيم إلى الترام الأخير وكان ثملا .. وجلس فى ركن من العربة وأطرق .. وتحرك الترام ورفع عينيه .. وكانت أضواء المصابيح ترقص فى الطريق ..! كان فى أشد حالات السكر .. وكان غمام كثيف يزحف أمام عينيه .. وسقط رأسه على صدره وأغفى .. وتنبه على حس امرأة ففتح عينيه وتلفت .. إنه يعرف صاحبة هذا الصوت .. إن العهد بها لم يكن بعيدا .. ودار ببصره ثم حدق .. إنها نرجس .
ورآها واقفة فى الممشى الخارجى .. وكان الترام قد وقف فى المحطة فنزلت .. ورآها وهى تنزل فنهض من مقعده واندفع وراءها .. ولم يكن يدرى لماذا تحرك وإنما شعر بيديه فى الهواء كأنما تطبقان على عنقها .. كان يحمل لها حقدا دفينًا ..
***
وسقط على الأرض وهو نازل من الترام .. ولم يشعر به أحد .. فقد كان الركاب يستمعون بانتباه شديد إلى بطل العربة الدائم الأستاذ زكى جاد .. وهو يقص عليهم قصته الخالدة ..! قصة الفتاة التى استغفلته فى باريس ..!
ــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى صحيفة السوادى بالعدد 69 بتاريخ 19/1/1948 وأعيد نشرها فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
ــــــــــــــــــــــ

رجل على الطريق
                          
          اشتغلت وأنا فى العشرين من عمرى فى شركة من شركات الملاحة بالسويس براتب تافه ، كنت أسكن بنصفه ، وأشرب بالنصف الآخر جعة ، ولا أحفل بعد ذلك بشىء فى الوجود ، وكنت أقيم مع أسرة إيطالية تسكن فى منزل صغير على شط القناة فى بور توفيق ، وتعيش عيش الكفاف ..
     وقد كانت الحياة شاقة على شاب فى مثل سنى ونشاطى فى هذه المدينة الصغيرة التى ليس فيها شىء سوى القناة ، ومنازل الشركة المتناثرة على الشاطىء ، وسكانها جميعا من الأجانب الذين وضعتهم الأقدار العجيبة فى هذا المكان ، ولاصلة تربطهم بالمواطنين ولا مودة ولا إخاء ..
     على أن ولعى بالمطالعة ، وحبى للهدوء ، خففا مما كنت ألاقيه من وحدة ووحشة فى هذه الضاحية . وكنت أذهب كل مساء إلى السويس لأشرب الجعة فى مشرب صغير ، وأتمشى فى طريق الزيتية .. ثم أعود إلى بور توفيق لأنام ..
     وكنت أجد على رأس الطريق الموصل لبيتى رجلا غريب الأطوار ،
يجلس على الحشـائش قرب القنـاة وبجواره كلب ضخم وزجاجة فارغة ..! وكان الرجل يجلس ينظر دائما إلى ناحية القناة ، ويخط باهتمام فى دفتر أمامه .. ويجلس هكذا معظم النهار ، فإذا غربت الشمس حمل متاعه ومضى ووراءه كلبه واختفى فى الظلام ..
     وكان موضع السخرية من العابرين فى الطريق .. وكان أكثر الناس سخرية به العمال الذاهبون إلى ورش الميناء .. وما كان الرجل يعبأ بسخريتهم أو يحفل بكلامهم .. كان يمضى فى عمله ولا يجيب ..
     ولعلى كنت الوحيد الذى يمر به فى الصباح والمساء ولا يسمعه كلمة نابية ، ولذلك كان ينظر إلىّ فى استغراب ودهشة . وكنت أخرج لأتمشى كل أصيل ومعى كتاب .. وأتخذ طريق القناة عادة .. وأجلس هناك على كرسى حجرى أطالع ، والرجل على مقربة منى يكتب فى كراسته ، ودنوت منه ذات مرة ، وجلست إلى جواره فوق العشب ، وحييته فحيانى بهزة من رأسه وهو يبتسم ، ومر مركب فى القناة فانحنى على كراسته وكتب شيئا فى تمهل وعناية ..
     فسألته :
     ـ ماذا تكتب ..؟
     فنظر إلىّ بوجه ضاحك وقال :
     ـ إننى أتلهى ..
     ثم أضاف وقد لمعت عيناه بعض الشىء :
     ـ لقد كنت ملاحظ " فنار " فى البحر الأحمر ، وكان هذا هو عملى فى النهار والليل .. أرقب السفن وأدون أسماءها ، وأنا أفعل هذا الآن بحكم العادة ، وأجد فى ذلك لذة تنسينى متاعب الحياة ..
     ـ لاشك أن العمل فى المنارة وسط البحر ممتع للغاية ..
     ـ جرب وسترى ..
     ثم شاعت فى وجهه ذى التجاعيد ابتسامة عريضة وسألنى :
     ـ هل أنت متزوج ..؟
     ـ لا ..
     ـ إذن فيمكنك أن تركب البحر إلى هناك .. ولا بأس عليك .. كتاب وفونوغراف ، وكل شىء سيمضى على سننه .. أما إذا كنت متزوجا فستعود من هناك نصف مجنون ..!
     ـ وهل اعتزلت هذا العمل من مدة ..؟
     ـ مدة طويلة جدا يا بنى .. منذ سنين وسنين ..
     وتغير صوته وأطرق .. فأدركت أنه تذكر شيئا يؤلمه .. فتحولت بوجهى عنه ، وأخذت أقلب صفحات الكتاب الذى معى حتى أقبل المساء ، فحييته وانصرفت ..
                                      ***    
     والتقيت به بعد ذلك كثيرا فى هذا المكان حتى توثقت بيننا مودة صادقة .. وكان الرجل مخمورا أبدا ، وما رأيته غير ثمل فى نهار أو ليل ، وكانت زجاجة الخمر معه لاتبارحه قط ، وكان ادراكه الصحيح للحياة قد جعله لايعبأ بشىء مما تواضع عليه الناس ، فهو يسكر وينام فى الطريق ..
     وما رأيته متبرما بشىء ، أو شاكيا من شىء ..
     ورآنى مرة فى حانة صغيرة فى مدينة السويس .. أتحدث مع زوجة صاحب الحان .. فلما انصرفت المرأة لعملها جاء وجلس إلى مائدتى ..
     وسألنى :
     ـ لماذا تسكر فى هذه السن ..؟
     ـ لأننى أشعر فى أعماق نفسى بالتعاسة
     ـ إن هذا أحسن جواب لسكير ..!
     ـ ولماذا النساء ..؟
     فصمت ولم أقل شيئا ..
     واستطرد هو :
     ـ انك تسكر لأنك وحيد .. ولا رفيق ولا أنيس لك فى هذه المدينة الكئيبة ، ومع كل مساوىء الخمر فإنها قربتك منى ولم تجعلك تسخر من ضعفى ، وأنا أشرب على قارعة الطريق فى بور توفيق ، إنك
تدرك الضعف الإنسانى لأنك إنسان ..!
     ـ إن هذا لايغير من نظرة المجتمع إلى السكير ..
     ـ هذا صحيح .. ولكنى أسكر رغم أنفى وكذلك أنت . وهناك شىء فوق إرادة الإنسان يربطنا بهذه الدنان .. وإن تشرب فى ساعة مظلمة من حياتك ثم تصحو .. إن هذا لاشىء .. ولكن النساء .. هذا شىء آخر .. إنك لا تستفيق من خمرهن إلا وأنت ساقط فى الهاوية ..
     وجاء له الساقى بكأس فشربها وعض على نواجذه .. ثم أشــعل لفافـة من التبغ ، وأخذ يسرح الطرف فى سماء الحان ..
     فسألته وأنا أنظر إلى وجهه وقد غضنته السنون :
     ـ لماذا تركت البحر ..؟
     ـ إنها الأقدار ..
     ثم صمت .. وأمسك بالكأس البللورية الفارغة .. ورفعها إلى عينيه كأنه يقرأ فيها من لوح الغيب .
     ثم سألنى :
     ـ أركبت البحر ..؟
     ـ ذهبت منذ سنتين إلى استامبول ..
     ـ أشاهدت منارات فى الطريق ..؟
     ـ أجل ..
     ـ سأحدثك عن قصة منارة من هذه المنارات ..
     ووضع الكأس البللورية على المائدة .. وأشعل لفافة أخرى وأقبـل
علىّ يتحدث :
     ـ كنت أعمل فى منارة بالبحر الأحمر منذ سنين .. وكان معى زميل لى يسـاعدنى على العمـل .. أمضيت شهرين فى المنارة وسط البحر .. ولا شىء تراه هناك غير البحر .. وكنا نطالع ونصطاد السمك ، ونسمع الفونوغراف .. وننير المنارة فى الليل للسفن ، ونغنى ونفعل كل شىء لنتلهى . ولكنك فى ساعة من الساعات تحس كأن شيئا يثور ويضطرب فى أعماق نفسك ، فتكاد تمزق الكتاب وتحطم الفونوغراف .. وتشعر بسأم .. وتضيق ذرعا بكل شىء .. وتحس بالاختناق .. وتنظر ولا ترى حولك غير البحر ، وبينك وبين الأرض سفر أيام ، فى هذه الساعات كنت أجلس على سلم المنارة وأدلى بساقى فى الماء .. وأحلم بعرائس البحر التى قرأت عنها فى الأساطير .. وأتصور أن واحدة منهن ستطلع وتجىء إلىّ .. وتمر سفينة من بعيد ، وأنوارها ترقص على الموج ، وأتصور أننى أسمع ضحكات نساء .. ورقص نساء .. وأرى بعين الخيال واحدة منهن تتجرد من ثيابها وتتهيأ للنوم ، فيأخذنى السعار .. وأظل أفكر وأحلم فى المرأة .. ولا شىء غير المرأة .. إنها تأخذ عليك مسالك تفكيرك ، وتشغل حواسك ، فإذا رأيت شيئا أبيض يلوح فى سفينة من بعيد تصورته ساق امرأة .. وإذا أبصرت شيئا ينثنى على سطح مركب تصورته امرأة .. إنك تراها فى كل شىء ولا تراها ..
     وكنت أنا وزميلى أحسن صديقين .. كنا نعمل فى صفاء ووئام .. وكان الطعام لابأس به ، ووسائل التسلية متوفرة .. أما إذا جن الليل وثارت الغريزة  فقد انقلب كل شىء إلى جحيم ..
     وكان صاحبى متزوجا وكنت أعزب ، وكان يحب زوجته ويحدثنى كثيرا عنها ..
     ومضت شهور ، واقترب موعد عودتى إلى السويس لأستريح فى الأجازة المقررة لأمثالنا ..
     وجاءت الباخرة التى ستقلنى إلى السويس ، وأعطانى صاحبى رسالة إلى زوجته ..
                                   ***     
     وأمضيت أياما فى السويس ، والرسالة موضوعة فى جيبى حتى كدت أنساها .. وفى أصيل يوم ذكرتها ، فاتجهت إلى بيت صاحبى وكان فى أقصى المدينة .. وتقدمت فى الشارع الضيق ، وشمس الأصيل تضرب رؤوس المنازل البيضاء بأنوارها الساطعة ، وكل شىء يسبح فى الضوء الباهر .. ووقفت أمام البيت ، واجتزت العتبة ، ورأيت فتاة فى مقتبل العمر تمسح الدرج وقد شمرت عن ساقيها .. ولما رأتنى توقفت عن العمل ، ونظرت إلىّ فى سـكون فاقتربت منها وسألتها وأنا مفتون بجمالها :
     ـ أهذا منزل عبد السلام أفندى ..؟
     ـ أجل ..
     ـ أريد أن أقابل زوجته ..
     ـ أنا زوجته ..
     فابتسمت وظهر على وجهى الارتباك ، فما كنت أتوقع أن تكون زوجة صاحبى صغيرة وجميلة هكذا ..
     رأيت أمـامى فتاة فوق العشرين بقليل ، خمرية اللون سوداء العينين .. جذابة الملامح إلى حد الفتنة .
     وعرفتها بنفسى وسلمتها الرسالة .. فأخذتها فى لهفة ثم ردتها إلىّ وهى تضحك وقالت بصوت ناعم :
     ـ أرجو أن تقرأها لى فأنا لا أعرف القراءة ..
     ـ وقرأتها لها فأشرق وجهها وزاد سرورها ..
     ثم طوت الرسالة وقالت وهى تشير إلى الداخل :
     ـ تفضل ..
     ودخلت وجاءتنى بعد قليل بكوب من الليمون ..
     وأخذت أحدثها عن البحر ، وعرائس البحر .. حتى أقبل الليل فحييتها وانصرفت وأنا جذلان طروب ..
***
     وبعد أيام التقيت بها عرضا فى السوق ، وكانت معها سيدة وفتاة أصغر منها قليلا ..
     وسلمت علىّ فى بشاشة وقالت :
     ـ لماذا لم تزرنا ..؟
     ـ سأزوركم طبعا ، قبل عودتى إلى المنارة ..
     ـ وقبل ذلك ..؟
     ـ وقبل ذلك .. !
     ـ سلم على أمى وأختى .. إنهما قادمتان من بور سعيد لزيارتى .. وقد حدثتهما عنك ..!
     وسلمت على أمها وأختها ، ومشيت معهن إلى البيت ، وبقيت معهن حتى ساعة الغداء ..
***
     وذهبت إلى الإسماعيلية ، وأمضيت فيها أياما .. ورجعت إلى السويس ، وفى أصيل يوم مررت بمنزل زينب زوجة صاحبى لأخبرها بموعد عودتى إلى المنارة حتى أعطيها فرصة لتعد بعض المأكولات لزوجها ، ووجدتها فى البيت وحدها ، كانت أمها وأختها قد سافرتا .. وشعرت وأنا جالس فى الحجرة بالسرور والارتياح .. وهذه مشاعر لم أستطع تعليلها ..
     وكانت زينب تلبس رداء أزرق بسيط التفصيل .. وقد صففت شعرها وعقدته جدائل فوق ظهرها ، وكانت تعصب رأسها بمنديل أزرق كذلك ، وفى عينيها كحل خفيف ، وعلى خدها الأيمن حسنة . ولما جاءت إلىّ بفنجان من القهوة ، ومددت يدى لأتناوله من يدها ، شممت من جسمها روائح الطيب ، فتنبهت حواسى ، ونظرت إليها وكأننى أراها أمامى لأول مرة ..
     ولأول مرة أشعر بقلبى يدق وأنا معها فى غرفة واحدة والعرق قد أخذ يتصبب على جبينى ..!
     ومالت الشمس إلى الغروب ، ونهضت لأنصرف فقالت وهى تنظر إلىّ :
     ـ لماذا أنت مستعجل ..؟
     ـ الليل قد أقبل ..
     ـ إن هذا أدعى لبقائك لأننى وحدى فى البيت ، فانتظر حتى تأتى خالتى أم اسماعيل ..
     وبقيت .. وظللنا نتحدث .. حتى مضت فترة من الليل ..
     ووجدت أمامى أنا الشاب القوى الذى يعانى مرارة الحرمان امرأة ناضجة محرومة مثلى ..
     كان فى نظراتها تكسر ولين ..
     وكان جسمها يروح ويجىء أمامى وهى فى أحسن مجاليها ، فأخذت أنظر إليها ، وأنا مستغرق فيها بحواسى ومشاعرى جميعا ، ونسيت أنها امرأة صاحبى ، نسيت هذا وذكرت أننى وحيد فى قلب الليل مع امرأة أشتهيها من كل قلبى ..
     ودون أن ندرى ما حدث كانت بين ذراعى وكنت أرتوى منها .
     وغرقنا فى النشوة فلم نحفل بأحد .
     وأصبحت أقابلها كل يوم ..
***
     ولما حان موعد عودتى إلى المنارة حملتنى هدية لزوجها ، وودعتها وفى قلبى جمرات من نار ..
     وذهبت إلى المنارة وأعطيت الهدية لصاحبى وسألنى عنها ، وكان يتلهف على كل كلمة يسمعها منى .. كان يحبها إلى درجة العبادة .. سألنى عن صحتها وأحوالها ، وأخذت أجيبه على مئات الأسئلة التى أمطرنى بها ، وكان من فرط ولهه يود لو يقبل يدى لأنها لمست يدها ..!
     وحل موعد عودته فتركنى ورحل ..
     وكنت فى خلال ذلك أعانى عذاب السعير ، وأتصورها بين ذراعيه فأكاد أجن ..
    وانتهت أجازته وعاد .. ورأيته يصعد سلم المنارة بعد غيبة ثلاثة شهور .. وكدت أنكره .. فقد تغير .. إذ ظهر على وجهه الشحوب والذبول وحيانى فى فتور .. ووضع متاعه فى جانب من المنارة .. وصعد إلى البرج .. وهو صامت ..
     وجلسـت بعد هذا أفكر وأسائل نفسى .. ما علة تغيره ؟ هل عرف ..؟ هل علم بكل شىء ..؟ ما أشد جنون المحبين ! إنهم يتصورون أن الناس لاتعرف عنهم شيئا .. وسيرتهم تدور على السنة الناس . إن الحب يعميهم عن ادراك الحقائق ..
     وكان عليـه أن يسهر فى البرج ، وعلىّ أن أنام لأحل محله بعد ذلك .. واستلقيت على الفراش ولكنى لم أنم .. كانت نظراته إلىّ ترعبنى .. وكنت أخافه .. كان أشد منى قوة .. فأغمضت عينى نصف إغماضة وسمعتـه يهبط السلم .. ويدور فى الغرفة الصغيرة حتى وقف على فراشى ، وتظاهر بأنه يبحث عن شىء وعاد إلى البرج ..
     وبعد ساعة سمعته يهبط السلم مرة أخرى .. ورأيته يتجه نحوى .. وكانت فى يده قطعة من الحديد .. إنه يود قتلى .. ودون أن نتبادل كلمة واحدة تشابكنا فى عراك دموى ، وظللنا نقتتل حتى لم تبق فينا قدرة على الحركة ، ورحت فى غيبوبة طويلة .. ولما فتحت عينى ونظرت إليه كان الدم يلطخ وجهه ، وكان صدغه قد تهشم من ضربة قاتلة .. فأدركت هول ما حدث وأغمضت عينى ..
***
     نمت على الأرض وهو بجوارى فاقد الحراك .. ونظرت إلى السماء فوقى ، وإلى البحر الصاخب من حولى ، وإلى الظلام الذى تضل فيه الأبصـار ، واستعرضت فى ذهنى صور حياتى إلى أن التقيت بصاحبى هذا .. وجمعتنى الأقدار معه فى عمل واحد .. وامرأة واحدة ..!
     وبكيت وماتت فى نفسى كل عواطف البغضاء .. وودت لو أفتديه بحياتى .. وأخذنى بعد قليل ما يشبه الدوار .. ثم فتحت عينى ، وتصورت أن الجثة تتحرك وأنها اقتربت منى .. وكنت مشلولا ولا أستطيع الحركة .. فتملكنى غيظ مستعر ، وجعلت أصر بأسنانى ، وأهذى كالمجنون ، وأصرخ بأعلى صوتى .. ولكن موج البحر كان أعلى من صوتى ..
     كان يزمجر وكنت أصرخ فيختلط الصـوتان معــا ويذهبان أباديد ..
    وظللت ساعة كاملة وأنا فاتح عينى ومعلق بصرى بالجثة .. وقد عجزت عن كل حركة .. وخيل إلىّ أنها انتفخت .. وأن وجهه يزحف عليه النمل .. والهوام ! وازددت كراهية لها ونفورا .. وخطر لى خاطر لماذا لا أدفعها إلى البحر .. وأتخلص من هذا العذاب ..
     وزحفت بجسمى كما يزحف الثعبان .. وحاولت أن أدفع صاحبى فلم أستطع .. فتمددت فى مكانى وبصرى إلى النجوم .. إن الليل مرتع للهواجس .. فإذا طلعـت شمس النهار ذهبت هذه الخواطر المرعبة أباديد .. ولكن متى يطلع الصبح ..؟
     لقد كنت أرتعش وأصر بأسنانى ، وأشعر بجفاف حلقى .. ولما صحت بأعلى صوتى كان صوتى قد انقطع .. فأغمضت عينى وأخذت أبكى كالأطفال .. وكنت كلما أغمضت عينى ازداد سمعى حدة .. وخيل إلىّ أننى أسمع صياح مردة فى برج المنارة وعواء ذئاب .. ووضعت أصابعى فى أذنى .. ولكن هيهات كان الصوت قويا ، وكان يجلجل فى البرج ..
     وارتعشت .. وتصبب العرق وأخذنى الدوار .
***
     ولما فتحت عينى ، كان النـور قد غـمر الكون .. وظللت طول النهار فى مكانى ، وأنا أتلوى من الألم والعذاب . . وكلما أدرت وجهى عن رفيقى .. عدت برغمى أنظر اليه وأرتعش .. حتى طار صوابى ..
     ومرت مركب فى المساء .. ولاحظت انطفاء المنـارة .. فاقتربت
وحملتنا .. هو ميت وأنا أشبه بالموتى ..
     وسجنت .. وخرجت من السجن .. وذهبت إلى كل مكان لأتلهى وأنسى .. ولكن صورة البحر بأمواجه وأشباحه والمنارة المنطفئة .. والزميل الراقد بجوارى لاتبارح مخيلتى أبدا ..
     إننى معلق هناك بخيط لايرى ..









=================================  
نشرت القصة لأول مرة بالمجموعة القصصية لمحمود البدوى " العربة الأخيرة " طباعة مكتبة مصر 1948
=================================  


الشيخ عمران

كانت عندنا فرس من كرام الخيل ، خرج بها الخادم إلى المرعى وعاد بدونها ، ولم نكن ندرى أسرقت منه وهو عائد بالخيل فى ظلمة الليل ، أم ذهبت على وجهها فى الحقول ..؟!.
وبحثنا عنها فى القرى والعزب المجاورة فلم نعثر لها على أثر ..
وأخيرًا رأى والدى أن يرسلنى إلى الشيخ " عمران " فى النجع .. ليبحث عن الفرس قبل أن تتسرب إلى السوق ..
وراح الخدم يخرجون الخيل .. وانطلقنا إلى النجع وقد انحسر الظل على دروب القرية ، وحميت شمس الضحى واشتد وهجها على الجسر . وكان معى خفيران من خفراء المزرعة ، مسلحان بأحدث طراز من البنادق ، فقد كان علينا أن نسير ساعتين على ظهور الجياد فى طريق مقفر يكثر فيه قطاع الطرق فى تلك المنطقة من الصعيد ..
وأخذ " مسعود " ـ أحد الخفيرين ـ يحدثنى عن الشيخ عمران حتى أفزعنى. فقد قص علىّ أنه كان ذات ليلة فى مزرعة بطيخ له ، فمر تحته قارب صيادين ، ورأى الصيادون بطيخ المزرعة الناضج ، فسولت لهم أنفسهم أن يقتربوا منه ، وأحس بهم الشيخ عمران .. وجاء بهم بعد أن أوثقهم بالحبال ، ثم صنع من لحومهم طعمًا للأسماك .. !
وكان فى ثورة سنة 1919 على رأس الرجال الذين عبروا النيل إلى قرية " الوليدية " فى أسيوط .. وكمن هناك فى النخيل قرب الخزان حيث يعسكر الإنجليز ، وأخذ يحصدهم حصدًا ..
ولما أراد العرب أن يعبروا الخزان ، أرسلوا إليه فتقدم ومعه رجلان إلى موقع المدفع الرشاش المصوب على الخزان ، وظل يطلق النار حتى سكت المدفع .. وأدير الكوبرى .. ومر العرب يقرعون الطبول ..
قص على مسعود هذا وغيره . وكنت أعرف الكثير عن الشيخ عمران ، أعرف أنه أشد الرجال بأسًا وأعظمهم جبروتًا ، وما من حادثة تحدث فى المنطقة بأسرها إلا يعرف سرها .. وما من رصاصة تطلق فى الليل إلا يعرف مصدرها .. إنه رجل رهيب ، إذا دخل قرية فى وضح النهار أرعبها وأفزع أهلها ، وإذا تنكر لقوم بطش بهم .. مسحهم من الوجود مسحًا . بدأ حياته كقاطع طريق صغير ، ثم تطور وعظم أمره ، وغدا أشد فاتك فى المنطقة وأعظم الرجال بطشًا ، كنا نسمع عنه الكثير من القصص المروعة ونحن صغار ، وشببنا عن الطوق وصورة هذا الرجل تملأ قلوبنا رعبًا ..
ولهذا ظللت طول الطريق أفكر فيه وأتمثله بعين الخيال ، رجلا فى طول المارد وبطشه ، له جسم ثور وقوة عنترة .. دائما مسلح ، دائما مقاتل ..
واقتربنا من النجع ، وكانت الجياد تتصبب عرقًا ، والتعب قد بلغ منا منتهاه .. ولاح لنا النخيل يطوق البيوت المبنية من الطوب الأسود ، ثم عيدان الذرة والحطب على السطوح ، والجريد والدريس والنواعير الخربة فى خارج البلدة .. والكلاب تنبح فى كل مكان ، إنها الصورة المكررة للقرية المصرية منذ الأزل ..
ولم نجد الشيخ عمران فى النجع ، بل كان فى جزيرة وسط النيل ، فتركنا الخيل فى النجع ، وركبنا زورقا إلى الجزيرة ..
***
وجدناه فى عريشة صغيرة على ربوة عالية فى طرف الجزيرة . ولقد ذهلت عندما رأيته ، كان رجلا متوسط الطول أقرب إلى النحافة ، مدور الوجه جامد الملامح ، ينسدل شاربه على فمه فى غير نظام ، جاوز الخمسين هادئًا ، ساكن الطائر . هل هذا هو الشيخ عمران الذى أرعب المنطقة قرابة ثلاثين عاما وما زال يرعبها .. ؟!.
رأيناه من بعيد جالسا القرفصاء وكان ينكت الأرض بعصا قصيرة ، ولم يكن يلقى باله إلينا ، ثم رآنا نصعد فى الطريق إليه فأرسل بصره ثم رده وعاد ينكت الأرض !! وكان يجلس فى ظل العريشة وحيدًا ... لم تكن حوله كلاب، وكيف تعيش الكلاب فى عرين الأسد ..؟!
وعرف مسعود ، ونظر إلىّ قليلا ثم قال :
ـ إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحيم ..؟
ـ أجل ..
فرحب ، وفرش لى " زكيبة " وجلست بجواره فى الظل ، وعيناى لا تتحولان عنه .. لا ، إننى مخطئ .. إن نظرتى الأولى كانت عاجلة .. إن هذا الرجل ليس كالرجال ، إنه من طراز آخر ، إن له شخصية جبارة ..
وشربنا القهوة ، وحدثته عن الفرس ، فضحك وقال :
ـ لم يبق إلا هذا ..!
ثم أردف :
ـ لقد شرفتنا ، ونحن فى موسم الإيجار ، ولقد بدأنا فى جمعه فعلا ، وستحضر بنفسك تحصيل الباقى ، وتعود إلى والدك محملا بالمال ..
ابتسمت وشكرته . إن جمع الإيجار معناه أننى سأبقى مع هذا الرجل القاتل المطارد ثلاثة أيام أو أربعة فى هذه الجزيرة الموحشة ..
وتغدينا وأكلنا البطيخ ، وصرف الشيخ عمران الخفيرين وهو يقول لهما :
ـ قولا للشيخ عبد الرحيم إن إبراهيم فى ضيافتى وسأرافقه حين عودته إلى القرية ..
ومشى معى يطوف بالحقول ..
***
مررنا على مزارع البطيخ على شاطئ الجزيرة ، ورأيت الفلاحين يقفون خاشعين صاغرين أمام الشيخ عمران ..
كانوا فى أخصاص من " البوص " قائمة فى صف واحد فى نهاية الحقول .. لكل مزرعة خصها وكلابها ورجالها ، فإذا بصروا بنا نهضوا ، وزجروا الكلاب ، ودار الفلاح فى حقله يضرب البطيح بيده لينتقى لنا أحلاه وأنضجه .. فإذا رفضنا قال فى حماسة :
ـ إن هذا لا يصح .. إن هذا لا يصح ..
ولقد وجدت البطيخ مكوما فى أطراف الحقول ولا أحد يحرسه .. والمواشى ترعى الكلأ فى قلب الجزيرة ولا أحد وراءها.. ولم أر فلاحا واحدًا يحمل عصا ، ولا خنجرًا ولا بندقية .. إنهم جميعًا فى حمى الشيخ عمران ، وقد عجبت للهدوء الذى يخيم على الجزيرة .. إنها فى قبضة مارد جبار ..
وحدثته عن هذا ، فنظر إلى مليًا ، ثم قال مبتسمًا :
ـ إن كل شىء هنا حسن .. والشر يجىء لنا دائمًا من المدينة .. عندما يذهب الفلاح إلى المدينة ليبيع فى السوق ، يعرف الشاى الأسود " والتمباك " و" الحسن كيف " .. ويرى الذين يلبسون الأحذية ويقرعون بها الأرصفة ، والذين يركبون السيارات الفخمة ويخطفون بها خطفًا فى الطريق .. ويرى الذين يسكنون القصور وحولها البساتين .. ويرى الأنوار تتلألأ فى الليل ، والملاهى البراقة فى كل مكان .. يرى كل هذا ، فإذا عاد إلى قريته جر رجليه جرًا .. كان كمن ضرب على أنفه .. إنه يسأل نفسه وسط الظلام والقاذورات والحشرات ، وروث البهائم .. هل أنا كائن حى .. ؟ هل أنا مخلوق بشرى حقًا .. ؟ هل أنا من طينة هؤلاء ؟.. عاد والغل والحسد والحقد وصفات الشر كلها تأكل قلبه أكلا .. وأنت تراهم هنا وتحسبهم ملائكة ، لفرط ما تحسه من سكون يخيم على الجزيرة .. ولكنك لو تركت الحبل على غاربه يا بنى لأكل بعضهم بعضًا .. إنهم يحبون السرقة والسطو على زراعة الجار .. ويغشون ويخادعون ، ولو لم أكن معك الآن لألقوا بك فى النيل ، لأنك صاحب الأرض ، ولأنك كما يتصورون تأخذ من قوت عيالهم ..
فكرت فيما قاله الشيخ وقلت لنفسى :
ـ إنهم يفعلون ذلك كله تحت تأثير نير القرون .. ظلم أجيال وأجيال .. إن الفلاح المصرى يسرق ، ويخادع ، ويستريب نتيجة لحياة البؤس والاستبداد التى عاشها منذ آلاف السنين ، ولم يتنفس الصعداء إلا فى عهد العرب ..
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا .. ؟
ثم ماتت هذه الكلمات وعاد الرق والاستبداد كما كانا ..
وعدنا إلى العريشة نشرب القهوة ، ونودع الشمس الغاربة ..
***
ابتدأ النساء فى الجزيرة يخرجن من الأخصاص ، وعلى رؤوسهن الجرار ويتجهن إلى النيل .. رأيت سواعدهن البضة وهى تتحرك من بعيد ، وبعض وجوههن النضرة .. كن يمشين فى خفر أسرابا ، وكن جميلات فاتنات ..
ونزل الشيخ عمران إلى النيل وتوضأ .. ولما غربت الشمس صلى .. وعاد فجلس بجوارى صامتًا .. وكان الظلام يتساقط رويدًا رويدًا ..
وتعشينا ، وفرشوا لى لأنام . كان الشيخ عمران يود أن أنام داخل " الخص " ولكننى رأيت أن أنام فى العراء لأرى هذا الرجل الرهيب فى الليل ..
إنه لا يدخن ، وهو رجل قليل الكلام ، كثير الصمت ، وصوته ليس جهوريا ، ولكنه قوى آمر .. ولعل ذلك راجع إلى أنه تعود صيغة الأمر دائمًا فى حديثه مع الناس .. وهو فى الليل لا يغير ثوبه كما يفعل كثير من القتلة ، وإنما يظل كما هو لا يتغير فيه شىء .. تتركز حواسه كلها فى باصرتيه ويغدو خفيف الحركة ، سريع اللفتة ، يقظ السمع ، يرنو ببصره إلى بعيد ، لقد أدركت قوة بصره فى الليل وهو يرى من وراء الأبعاد ، ويخترق به حجب الظلام ، ويسمع أدنى حس ..
 كانت تمر تحتنا قوارب الصيادين ، وكان يسمع حركة المجاديف وهى مقبلة من بعيد ، فإذا اقتربت من رأس الحجر فى طرف الجزيرة صاح بصوته المرعب :
ـ من هناك .. ؟
ـ نحن يا عم الشيخ عمران ..
ـ ابتعد عن الحجر وخليك إلى الشرق ..
ـ حاضر ..
إنه لا يريد أن يقترب أحد من عرينه .. إنه قاتل ، والقاتل فى الصعيد دائما مطارد ، ولو عاش ألف عام .. وعندما يخور الشيخ عمران ويستضعف سيتمزق إربا .. ولقد خلف وراءه فتيانا أشداء ، وله أسرة مرهوبة الجانب ، وقد يعيش فى هذه الشيخوخة فى ظلها وعلى حسها .. وإن كان لا يزال شامخ الأنف ، لم يسقط فى حياته سقطة واحدة ..
شمل الظلام كل شىء ولفنا فى ردائه .. ونام من معنا من الفلاحين ، وبقيت ساهرًا مع الشيخ عمران .. لقد شعرت بطراوة الهواء ولينه ، وعمق السكون .. وكنت أود لو أتمرغ على الرمل وأنزل لأسبح فى النيل .. كان كل شىء ساكنا .. والطبيعة سافرة طليقة من كل قيد ، تشعر الإنسان بالحرية الصحيحة . كنت أشعر أننى قد تحررت من قيود المدنية الزائفة وأخذت أنظر إلى النجوم البراقة فى السماء ، وإلى الغياهب .. غياهب الليل .. وإلى النيل الجارى تحتنا ، وإلى مزارع النيل من حولنا .. وأتأمل وأفكر ..
إن الشيخ عمران يجلس على هذه الربوة وحيدا فى الليل ، وأولاده فى كل مكان . " معاذ " فى الماكينة ، و" سلمان " فى النجع ، و" عبد الكريم " فى الجبل ، ولكن أنفاسهم جميعا معه ..
وفى الهزيع الثانى من الليل ، رأيته يدخل العريشة ويعود وفى يده شىء ، إنها بندقيته .. وهى من طراز هندى ككل البنادق التى تراها فى الريف .. ولكنها فى يده شىء آخر .. وضعها بجانبه واستلقى وعينه إلى الغرب .. وضعت رأسى على الفراش وحاولت أن أنام ، فالشيخ عمران ساهر علينا جميعا ، ولكننى لم أنم ، وظللت أراقبه .. تحرك ، ومد البندقية .. وأطلق .. أطلق فى الهواء .. وسمعت صوت الطلقة وطاف بذهنى شىء .. لقد تذكرت ، سمعت صوت هذه الطلقة فى الليل من قبل ، كانت طلقة واحدة تنطلق فى ساعة معينة بعد نصف الليل .. وكنا نسمعها ونحنُ فى أجران العزبة ، ونصيح فى صوت واحد :
" الشيخ عمران !.. "
إنه ظل على عادته يرسل هذه الطلقة كل ليلة .. طلقة واحدة ليس إلا ، ثم يضع البندقية تحته وينام ..
اعتمدت بمرفقى على تل من الرمل ، وأقبلت أتحدث معه . أخذ يحدثنى عن مغامراته فى الليالى السود ، والمعارك الدامية التى تحدث فى القرى على لا شىء .. وحوادث السرقة فى وضح النهار ، والزمن الذى تطور ، وطوى معه كثيرا من القتلة فى الريف .. كان حديثه طليا ساحرا يستغرق الحواس كلها ..
طلبت منه أن يحدثنى عن أول حادثة قتل فى حياته ، فتجهم وأطرق طويلا .. لقد نبشت دخيلة نفسه .. إنه يتذكر ..
رفع رأسه وقال فى صوت متغير :
ـ سأحدثك يا بنى ...
وأطرق مرة أخرى ، ثم رفع رأسه وقال :
ـ كان ذلك منذ سنين طوال .. كنت فى صباى ..
وكان والدى يحب أن يزوجنا صغارًا ، فزوجنى من ابنة عم لى ، على عادة العرب فى قصر زواجهم على الأقارب .. وكانت صغيرة .. وكنا قد شببنا معا ، ورعينا الغنم معا ، فكان حبى لها قويا .. وكان كل شىء فى الحياة يمضى رتيبا ثقيلا .. لم تكن الحال كما تراها الآن آلات للرى ، وزراعة ، وعمران ، بل كان جدبا شديدًا وفقرًا شاملا ، كنا نعيش من بيع الملح .. نجىء به من الجبال ونبيعه فى القرى النائية .. وكنت أطلب الرزق أينما وجد .. فلم يكن من السهل على رجل فى مثل شبابى ورجولتى أن يتبطل ..
وكان هذا الفقر يدفع العرب إلى السلب والنهب ، وقطع الطريق على الناس ..  فكانت الحوادث تترى ، والرصاص يدمدم فى كل ساعة ..
وحدث أن أغار جماعة من العرب على مزرعة واستاقوا مواشيها ، وقتلوا خفيرا من خفرائها .. وجاء الجند ، وعلى رأسهم ضابط طوقوا النجع .. وبدأوا يفتشون فى بيوتنا لأنها فى اعتقادهم وكر الجريمة ..! وكنت غائبا ، ودخلوا بيتى وفتشوه ..
 وسأل الضابط « جميلة » زوجتى :
ـ أين زوجك ؟ .. 
ـ مسافر يا سيدى منذ شهور يجرى وراء معاشه ..
ـ ومن الذى وضع هذا فى بطنك إذن .. ؟
ووضع أصبعه على بطنها ، وكانت حبلى « بمعاذ » ..
فعل هذا وخرج .. وصعقت المسكينة .. وطار الخبر فى كل مكان .. وعدت من سفرى وسمعت بما حدث وأنا فى الطريق .. ودخلت البيت ولكننى لم أحادث جميلة ولم أر وجهها .. وتناولت بندقيتى وخرجت .. وذهبت عند صديق لى فى الجبل ، ومكثت عنده أياما .. وحاولت خلال ذلك أن أتناسى ما حدث ، ولكننى كلما تمثلت الأصابع وهى موضوعة على بطن زوجتى أستطير خبلا ، وأكاد أمزق نفسى ..
وتركت البندقية عند صاحبى ، وخرجت متنكرا أطوف حول « النقطة » .. ورأيت خير ما أفعله أن آخذه ، وهو خارج للدورية ، بعيدًا عن النجع والقرى المجاورة لنا ..
وخرجت فى ليله سوداء لا أنساها ما عشت ، ففى هذه الليلة تقرر مصيرى يابنى ، ورسم القدر خط الحياة لى .. وكانت ليلة من ليالى الشتاء ، ضريرة النجم شديدة البرد ، وكانت معى بندقيتى وخمسون طلقة ، وكنت على استعداد لأن أقاتل جيشا بأسره ، وأفتك بكل من يعترض سبيلى حتى ولو كان أبى ..
كانت ثورتى جامحة ، وغضبى لا يصور ..
وكمنت فى زراعة قصب ، وانتظرته وهو مار على ظهر جواده فى الطريق.. وجاء .. وصوبت وسقط ..
وأطلق العساكر النار ، ولكن طوانى الليل ..
وبت هذه الليلة فى بيتى ، واستطعت أن أقابل « جميلة » .
وصمت الشيخ عمران قليلا ثم أضاف :
ـ بعد هذه الليلة يا بنى تغير فى كل شىء ، وجدت شيئا جديدا يعتمل فى داخل نفسى ، واستطعمت رائحة البارود ، وأصبحت حياتى كما تعرف وترى .. وأنت لا تستطيع أن تغير الدم .. الدم الجارى فى عروقك ، أو تمحو أثر البيئة ، وأنت تتعلم وتتهذب وترقى ، ولكن دمك سيظل عربيا لأنك ولدت فى النجع ونشأت فى النجع ، وفى هذا الجو الطليق عشت ، وتنفست أول نسيم للحياة .. 
وصمت الشيخ عمران وتركنى لأنام ..
مضى وحده فى الظلام ، فقد سمع نباح كلاب شديد ..
***
بعد قليل عاد إلى مكانه ، وكانت الكلاب قد كفت عن النباح ، وعاد السكون . وكانت النجوم تهوى فوقنا متعاقبة ، والظلمة شديدة ، والماء يجرى تحتنا ويهدر .. ومن ساعة إلى أخرى كنا نسمع صوت رصاصة تنطلق فى الجو. لابد من هذا فى الريف ، كان صوت الرصاص مألوفا عند الفلاحين ..
بل لعلهم يأتنسون به أكثر من صوت الكلب ، وصوت الإنسان ، ويشعرون بالوحشة عندما يشتد السكون ..
غلبتى النعاس ، وصحوت والشمس تغمر وجهى ، ولم أجد الشيخ عمران..
وسألت عنه فقيل لى : إنه ذهب إلى النجع ..
ورأيته بعد ساعة مقبلا من بعيد يمشى تحت وهج الشمس .. ووراءه ابنه معاذ .. معاذ الذى يحرس « الماكينة » بذراع واحدة .. فقد ذهبت ذراعه الأخرى فى حادث .. كان وهو غلام فى « الماكينة » ومعه أخوه الأكبر .. وذهب أخوه إلى القرية ليجىء بشىء ، وتركه وحده .. فهجم عليه اللصوص فى الغروب .. وظل يقاتل .. واخترق الرصاص ذراعه ، ومع هذا لم يستسلم ، ولم يستطع أحد أن يقترب منه ، أو يمس حديدة فى « الماكينة » .. هذا هو معاذ ، إنه من دم عمران ومن صلبه ، كان يجىء إلى قريتنا كثيرا يحمل الإيجار، ويحاسب على الأرض ، وكنا نعرفه جميعا .. وكان إذا تأخر واحد من إخوتى فى الليل ، أو بات فى الأجران ، سأل والدى عن الذى معه .. فإذا عرف أنه معاذ اطمأن وكف عن السؤال .. كنا نسميه « أبو ذراع » وكان واسع الحلم طيب المشعر .. فإذا غضب انقلب أسدًا ..
حيانى معاذ وجلس .. وبعد قليل تحركت ذراعه .. ودفع يده فى جيبه وأخرج صرة ناولها لى وهو يقول وعلى شفتيه ابتسامة :
ـ هذا إيجار زراعات الماكينة جميعا ..
ـ جمعته كله يا معاذ ..
ـ أجل ..
ـ ولم يبق أحد .. ؟
ـ ولم يبق أحد ..
ونظرت إليه ، وكان يبتسم وعيناه تلمعان .. إنه صورة من والده . نفس النظرة القوية .. ونفس الملامح الصارمة . ونفس الشخصية الجبارة التى تفرض نفسها على من حولها ..
جمع الشيخ عمران باقى المستأجرين ، وشغلت طول النهار بتحصيل الإيجار، وفى المساء وضعنا الأوراق المالية والفضة فى كيس كبير أعطيته للشيخ عمران فوضعه فى العريشة أمام الجميع .. !
وهبط الليل ، وكنت قد تعبت طول النهار ، فنمت فى أول الليل وصحوت على صوت طلقة .. لم تكن الطلقة التى تعودت سماعها من الشيخ عمران .. طلقة تذهب فى الهواء تدمدم .. لا .. إنها طلقة مكتومة .. رصاصة أصابت جسما واستقرت فيه .. فتحت عينى وتلفت حوالى .. لا أحد بجوارى غير عمران .. كان على قيد خطوات منى ، نائما على بطنه ويده تعمل فى البندقية .. لقد أخرج الظرف وألقى به بعيدًا ، ولما أحس بى ، وعرف أنى صحوت ، قال وهو يبتسم :
ـ لا شىء .. إنه ثعبان ! .. 
ـ أقتلته ؟ ..
وصمت ولم يقل شيئا ، وظل وجهه مبتسما ، ويداه تعملان فى البندقية .. ثعبان .. ؟
 تلفت مرة أخرى .. أرسلت بصرى إلى رأس الحجر كان هناك شىء أسود وفتحت عينى جيدًا ، وتفرست فى الظلام ، وتملكنى الرعب .. إنه رجل نصفه فى الماء ، ونصفه على الأرض .. وقد منعته الحجارة من أن ينجرف مع التيار ..
ولقد جاء بعد أن عبر النيل فى زورق أوسواه ليقتلنى أو ليقتل الشيخ عمران ، ولكنه انتهى فى لحظة واحدة وما أحس به إنسان ..
ونظرت إلى الشيخ عمران .. نظرت إلى هذا الرجل ، وحاولت أن أقرأ على وجهه شيئا ينم عن فعلته ، شيئًا يدل على أنه قتل نفسا بشرية ..
ولكنه على حاله .. لم يتغير فيه شىء .. إنه هادىء ساكن ، وما نبض فى جبهته عرق ، ولا إختلجت شفة ، ولا اهتزت يد .. أى قلب .. !  وأى أعصاب ! ومن أى طينة هذا الرجل .. إننى إذا ضربت خادما بعصا فى ثورة غضب ، أظل طول الليل أتململ فى فراشى ، والندم يأكل قلبى ، ولا أعود لنفسى إلا إذا طلبت من الخادم أن يصفح عنى .. أما هذا الرجل فهو يقتل إنسانًا .. ولا تتحرك فيه جارحة ، ولا يظهر على وجهه شىء .. أى قلب ..! وأى أعصاب .. ! .
بعد قليل تحرك ، ومشى إلى رأس الحجر .. مشى متمهلا ، ورأيته يدفع الرجل العالق بالحجر برجله .. وذهب الرجل مع التيار ..
وعاد عمران إلى مكانه كما كان أول الليل .. كأن لم يحدث شىء ..
***
فى أصيل اليوم التالى ، غادرنا الجزيرة إلى النجع ، وبعد أن استرحنا ، وشربنا القهوة فى مضيفة الشيخ عمران ، أمر بإعداد الركائب ، وكان هو وابنه « معاذ » سيرافقاننى إلى قريتى ..
ولما خرجت إلى الساحة ، وجدت فيها ما أدهشنى .. وجدت فرسنا التى سرقت مسرجة ومعدة لركوبى ..! ونظرت إلى ذلك الرجل الجبار نظرة امتنان وشكر .. سأعود الآن إلى قريتى مرفوع الرأس وكل ذلك بفضله . ولقد علمت أن معاذًا جاء بالفرس منذ يومين وكتموا عنى الخبر لأفاجأ هكذا ..
وركبنا نحن الثلاثة وخرجنا من النجع .. وكان الشيخ عمران يركب حمارًا وكذلك ابنه ، ولهذا سرنا متمهلين نقطع الطريق بالحديث والتندر مع معاذ .. وكان دائم المرح حلو الدعابة ، لا يكف عن الضحك ولا يعير باله لشىء فى الوجود وهو الرجل المقطوع الذراع . وكانت وجوهنا إلى الشمس ؛ فلما غربت تنفسنا الصعداء ، وأسرعنا فى السير ، وكان الطريق على عادته مقفرا وكل شىء فى سكون .. وأخذ الظلام يشتد ويلف كل شىء فى ردائه الأسود ..
وكنا كلما أوغلنا فى السير زاد السكون ، واشتدت الوحشة فى الطريق .. وقطع هذا السكون دوى رصاص شديد انهمر فى غير انقطاع مرة واحدة ، واستمر عدة دقائق .. فتمهلنا فى السير ، وأمسكنا بالبنادق وقلت للشيخ عمران وأنا أتسمع :
ـ عرس فى القرية ..
فقال وهو ينظر إلى ومض البارود :
ـ إنه ليس بالرصاص الذى يطلق فى الأفراح ، إنه شىء آخر  ..
انقطع صوت الرصاص ، وخيم السكون من جديد .. وظللنا نرقب .. ورأينا من بعيد خطا أسود يزحف إلى الغرب ..
 ومددنا أبصارنا وتبين الخط الأسود .. وضح ما فيه .. إنها ماشية تساق سراعًا فى طريق غير مألوف .. وخلفها وأمامها رجال مسلحون .. لقد سرقوا هذه المواشى من القرية ، واشتبكوا مع الحراس فى المعركة التى سمعنا دويها .. ثم تغلبوا عليهم وهاهم قد أفلتوا بالماشية يسوقونها سراعا ..
وترجل الشيخ عمران ، وأشار علينا بالنزول .. ترجلنا وبحثنا عن مكان نربط فيه الركائب ، ووجدنا ساقية خربة .. فربطناها فى ترسها وأخذنا نرقب.. تحول الرجال بالماشية إلى طريق آخر ، ومضوا فى الظلام وابتدأ عمران يعمل بسرعة .. تناول بندقيته ومضى فى أثرهم .. ولما هممنا بالذهاب معه ، رفض .. وحلف على معاذ بالطلاق أن يبقى معى فى الساقية ولا يتركنى حتى لو قتل .. وبعد أن تنتهى المعركة بخير أو بشر نستأنف السير إلى القرية ..
وخرج الرجل وحده ، رأيناه يمضى سريعا كما يمضى الليث فى الظلام ..
وبعد قليل سمعنا الرصاص يدمدم .. ابتدأ عمران يقاتل وحده .. أخذت بندقيته تزأر .. إن له طريقة فريدة فى القتال ، كما أنه رجل فذ فى كل شىء ..
واستمرت المعركة حامية مدة .. ثم انقطع صوت النار .. وخيم السكون ولاحت لنا أشباح تتحرك .. تتحرك فى اتجاهنا .. إنها المواشى .. وها هو عمران وراءها يسوقها .. لقد خلصها من اللصوص وحده ..
ودخلنا بالمواشى المسروقه القرية ، واستقبلنا أهلها استقبال الفاتحين .. وكان عمران يسير فى المؤخرة وحده .. مطرق الرأس ، متواضعا كأنه ما فعل شيئًا ..
==============================  
نشرت القصة فى ص . أخبار اليوم ـ العدد 109 فى 7/12/1946 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " العربة الأخيرة " سنة 1948 وفى كتاب " قصص من الصعيد " من اعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2002
============================== 





















زهور ذابلة

     غادرنا الجيزة تلك المدينة الفقيرة الكئيبة ، وانحرفت بنا السيارة فى طريق طويل على جانبيه الشجر ..
      وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب وبدت المزارع والجداول ومن ورائها الأهرامات .. أشد شىء أخذًا فى تلك الساعة من النهار ..
     وكانت السيارة من سيارات نقل الموتى .. كانت طويلة وأنيقة ومن أحسن طراز .. وكانت مقسمة إلى ثلاثة أقسام .. القسم الأمامى منها للسائق، والخلفى للميت ، والوسط لأهل الميت ، وفى هذا المكان جلست وحيدًا مكروبا ، وعيناى سابحة فى الأفق ..
      وكانت الجلسة فى السيارة مريحة ، ولكن أعصابى كانت متوترة ، وكنت أشعر بضعف جسمانى شديد ، فلقد مرت علىّ أيام ثلاثة لم أذق فيها النوم إلا قليلا ..
      كنت أحمل العبء وحدى .. ولقد بذلت كل ما فى وسعى ، وبذل معى الأطباء لننقذ أحمد ، ولكن نفذ القضاء ، وذهبت جهودنا كلها هباء ..
     انتهى فى الساعة الرابعة من الصباح ، ولم ينبس بكلمة ، وكنت بعيدًا عنه .. وجئت لزيارته فى الصباح ، ومعى باقة من الورد وزجاجة من العطر ، وكان يحب الورود والرياحين .. ودخلت غرفته على أطراف أصابعى كعادتى .. ولكننى وجدت سريره خاليًا .. فأدركت أن كل شىء قد انتهى ..
     وسمعت من يقول :
     ـ حدث له نزيف داخلى ..
     وهكذا انتهى وهو أشد ما يكون شبابًا وفتوة ، انتهى فى الساعة التى بدأت فيها الحياة تبسم له بعد طول عبوس ، وتتطلع عيناه إلى الحياة السعيدة بعد طول جهاد وعناء وكد .
     ولقد أخذ فى أيامه الأخيرة يكثر من الكلام ، على الرغم من طبيعة الصمت التى لازمته وكان يقول لى :
     « إن المرء لا يعرف قيمة الحياة إلا إذا رقد على هذا السرير .. إن هذه الرقدة تكرهك على التفكير .. والتفكير فى الأشياء التى لم تكن تخطر لك على بال .. والمرء بعد المرض يزداد صلابة وقوة وعزما ، وتعمق نظرته للحياة ، ويصل به التأمل إلى أعمق أعماقها ، لقد كنت أفزع من وخزة دبوس .. وأنتفض فرقًا من لا شىء .. فلما رأيت هؤلاء المرضى الأبطال الذين يتعذبون فى صبر وصمت ، أدركت نعمة الصبر التى تنزل على الإنسان فى محنته .. وأخذت أخجل من نفسى عندما كنت أتألم من لا شىء كطفل صغير .. والألم يصهر النفس ويخلصها من الأدران ، وأنت لا تعرف نعمة النفس المطمئنة إلا إذا رقدت هذه الرقدة .. هنا تصفو نفسك من الشهوات وتدرك أن كل شىء باطل .. كل شىء زائل .. نفس يخرج ولا يرتد ثم ينتهى كل شىء .. إنه حقًّا شىء مروع ، ولكن لا بد أن ينتهى بنا المصير إلى هذا ...... » .
     وتحولت بعد هذه الخواطر إلى المروج المحيطة بنا ، وكانت السيارة تخطف خطفًا .. والغسق يزحف والنهار يولى ..
     ما أعجب الحياة .. وما أعجب الموت .. نفس واحد يخرج ولا يرتد ثم ينتهى كل شىء ... هكذا ... أخذت أدير كلام صاحبى فى رأسى وأذكر الصور التى مرت علىَّ فى المستشفى ..
      كان هناك رجل فى الغرفة المجاورة لغرفته .. وكنت أرى هذا الرجل كلما ذهبت لزيارة أحمد ، وفى أصيل يوم كان باب غرفته مفتوحًا ، وكان الرجل راقدًا فى سريره ، وعلى رأسه ابنته .. وكان يتحدث إليها بصوت عال ، وهو مفتر الثغر طروب .. وبعد دقائق قليلة سمعت حركة فى غرفته ، ودخل الطبيب وبعده الممرضة ، وخرجت الممرضة وفى يدها حقنة فارغة .. ! وبعد لحظات عاد السكون إلى الغرفة .. وانتهى ميعاد الزيارة .. وفى طريقى إلى الخارج سمعت الفتاة تبكى .. وتلفت .. وتقدمت نحو غرفة الرجل .. فوجدته على حاله كما رأيته من قبل ولكنه لم يكن يتنفس..!
     وكانت السيارة تتمهل قليلا ، وهى تجتاز بعض القرى .. وكان القرويون يتطلعون إلى السيارة ، فإذا أدركوا أنها من سيارات نقل الموتى ، ذكروا الله وترحموا على الميت .. ولقد رأيت فى هذه الوجوه من العواطف الإنسانية ما جعلنى أنسى كل ما لقيته فى المستشفى من عناء ونصب .
     إن العاملين فى هذه المستشفيات قد تجردوا ، كما خيل إلىَّ ، من كل عاطفة بشرية .. يستوى فى ذلك الطبيب المتعلم والممرض الجاهل .. والسرير عندهم أغلى من الراقد عليه ، وهم ينقلون الميت من سريره إلى غرفة الموتى ، ويتنفسون الصعداء ، وكأنهم يرمون بكلب أجرب إلى الطريق ..
     إنها الحياة فى تلك المستشفيات ، الحياة التى لا تعرف الرحمة ، الحياة التى تسحق الضعيف والفقير سحقا ..
***  
     وقفنا عند مقهى صغير فى الطريق ، ونزل السائق ليشرب الشاى .. فهو وإن كان فى شرخ شبابه وريعان صباه ؛ ولكنه سيسهر طول الليل .. وسيقود السيارة فى تلك الظلمة الشديدة اثنتى عشرة ساعة وقد تزيد ..
     وعاد إلى السيارة وقد عصب رأسه واستعد لليل .. وكان هادئًا قوى الأعصاب قليل الكلام .. ولعله تعود ذلك بحكم عمله .. وكان ينهب الأرض نهبا وكأنما يسير بالسيارة على بساط معلوم .. وقد استرحت إلى صوت السيارة وحسها فى الطريق ..
      وأرسلت عينى إلى الليل الساكن ، وإلى الريف الحزين ، وكنت شبه نائم ، واسترحت إلى هذا السكون ، وإلى نسيم الليل ، وإلى الوحشة الشديدة .. فما اعترضتنا سيارة ، ولا رأينا ظل شبح فى الطريق..
      كان الطريق مقفرًا ، والليل رهيبًا موحشا ، وكل شىء يبعث على السكون ، إنها سيارة الموتى وكل شىء ميت فى الطريق ..
     وكنت أستفيق من ذهولى على صوت جندى المرور فى النقط ، وما أكثر هذه النقط فى الطريق .. كان يعترض السيارة وبيده فانوسه الأحمر :
     ـ كل شىء تمام يا أسطى .. ؟
     ـ كل شىء تمام يا أفندم ..!
     وتحركت السيارة ..
***
     وأغمضت عينى .. وكنت أود لو أنام كما ينام قريبى فى الجزء الخلفى من العربة ..
     ولعلى غفوت .. فقد تنبهت على حركة السيارة وهى تقف عند نقطة من نقط المرور .. وكان هذا الجندى فارعا ، أسود كالليل .. ودار حول العربة ، ورفع مصباحه فى وجه السائق ، وطلب التصريح .. ثم قرأه .. وطواه ورده إليه .. ودار حول العربة مرة أخرى .. ! وفتح الطريق فى تثاقل ..
      وتحركت السيارة ، وسمع السائق من يهتف به فلم يتوقف ، فأشرت عليه بالوقوف .. فوقف .. وسمعنا من يقول :
     ـ من فضلك خذ هذه الست معك إلى سمالوط ..
     وكان رجلا من الفلاحين .. وخلفه امرأة على رأسها متاعها .. ولم يرد عليه السائق وظل صامتا .. ولما اقترب الرجل من العربة ، وأدرك أنها من عربات الموتى .. أظهر أسفه وهم بالانصراف ..
     فقلت للسائق :
     ـ خذها بجوارك ..
     وركبت المرأة .. وانطلقت بنا السيارة ..
***
     وكانت المرأة جالسة فى الركن الأيمن من المقعد .. أمامى .. وكانت صامتة ، ولم أستطع أن أتبين من جلستها سوى أنها طويلة القامة .. وكانت طرحتها السوداء تغطى رأسها وعنقها ومنكبيها .. وكان النور فى المقعد كابيا.. وجلستها معتدلة ، فلم أستطع أن أقرأ صفحة وجهها ..
     وكان السائق قبل أن تجى المرأة قليل التدخين .. فلما ركبت بجواره أشعل سجائر كثيرة .. وبدت على يديه دلائل التوتر .. وابتدأ يتكلم ..! ورأيته ينظر إليها نظرة جانبية سريعة ثم عاد إلى الطريق .. واجتزنا قنطرة ، ثم مررنا على جسر من الجسور فسار عليه مسرعًا ، وأدركنا بعد مسير أكثر من عشرة أميال أننا ضللنا الطريق ، فارتد وعلى وجهه دلائل الغضب .. ولما بلغنا قرية من القرى توقف ، وأمر المرأة بالنزول ..
     فسألته :
     ـ لماذا .. ؟ 
     ـ أنا سائق لعربة الموتى يا سيدى ولا أحب أن تجلس نساء بجوارى .. ! 
     ـ ولكن أين تذهب هذه المسكينة فى هذا الليل .. ؟ .
     ـ وراءنا سيارات كثيرة .. . وهذه ليست عربة للركاب ..
     قلت له أخيرًا :
     ـ دعها تركب بجوارى ..
     ففتح لها باب المقعد من الناحية اليسرى .. وصعدت المرأة وهى صامتة وتحركت السيارة ..
***
     وجلست المسكينة منزوية فى العربة ، وقد غطت وجهها كله ، واتجهت إلى النافذة المفتوحة .. وبدا لى أن أرفه عن نفسها لما نالها من كلام السائق ..
      فسألتها :
     ـ أنت من سمالوط .. ؟
     ـ لا .. يا سيدى .. أنا رايحة لأختى عند نخلة أفندى ..
     قالت هذا فى صوت ناعم ، وفى سذاجة أزاحت الهم عن صدرى .. وجعلتنى آنس بها ، وأكثر من الحديث معها ..
     وأدركت وأنا أتحدث مع هذه المرأة ، لماذا يجتمع الناس فى الجنازة ويعزون أهل الميت .. ؟ فقد تحملت ثقل الحزن وحدى ، ولم أجد فى المستشفى صديقا ولا رفيقا بل حانوتية فى كل مكان .. يساوموننى على نقل قريبى كأننى سأشحن بضاعة إلى السوق ..
     ولما سألتنى عن أحمد وعرفت أننى أحمله إلى أبيه وأخته ، وهى فى مثل سنها اخضلت عيناها بالدمع .. فأغرورقت عيناى .. ووددت لو أمسح بيدى على ذراع هذه المرأة وألمس خديها .. ثم أدفن صدرى فى صدرها وأبكى ..
     وتراجعت إلى الخلف ، ورأيت وجهها لأول مرة ، وهى تنظر إلىَّ فى سكون وحزن .. كانت جميلة وصغيرة .. وقد بدا يعصرها الفقر .. حزن بارز على الشفة ، وجوع واضح على الخدين ، ووجه لوحته الشمس فى الحقل أو فى الطريق .. لم أكن أدرى ..
     كانت تنظر إلىّ بعينين ذابلتين .. وتحاول أن تصل بهما إلى أطواء نفسى ، ولكننى وجدت نفسى مرة أخرى أغيب عنها ، وأرسل البصر إلى الليل ..
     وأخذت أرقب النجوم وأفكر .. إننى الآن فى عربة .. وبجوارى فتاة ريفية فى مثل جمال الفجر .. وهى تنظر إلىّ ، وقد يكون فى نظرتها اشتهاء .. ولكننى بعيد عنها ، وإن كنت أقرب شىء إليها .. بعيد عنها بجسمى ونفسى أفكر فى الموت .. وما بعد الموت .. والزهور الذابلة فى الحديقة .. والأوراق التى تتساقط من الشجر .. وأحمد الذى بينى وبينه نافذة زجاجية صغيرة .. فإذا فتحتها ، ربما طالعتنى رائحة كريهة ، عفن الموتى .. ما أعجب الحياة .. الشاب الذى كنت أحادثه بالأمس ، قد غدا اليوم جيفة .. !
     ونظرت إلى متاعه الذى وضعناه بجواره .. ووددت لو أقهقه ، وأجلجل بصوتى ، وأقطع هذا السكون العميق ، وفى هذا التيه من الخواطر المحزنة تنبهت على حركة شديدة فى محرك العربة .. وخفت سرعة العربة .. ثم وقف المحرك ..
***
     ونزل السائق ، ودار حول مقدمة العربة .. ثم انحنى ورفع الغطاء .. وأخذ يعالج تلك الآلة الدقيقة .. وبعد دقائق قليلة كان عرقه يسيل ، وظهر على وجهه اليأس ..
     وأخذت الهواجس تدور فى رأسى .. ماذا يحدث .. لو تقطعت بنا السبل ، وبقينا فى هذا المكان إلى الصباح .. وكان السائق ينظر إلى الطريق يمينا وشمالا وهو حائر ..
      ورأينا نور سيارة من بعيد .. واقتربت وكانت من السيارات الكبيرة المتجهة إلى القاهرة .. ولوح لها السائق بيده فتوقفت ونزل سائقها .. ونظر فى محرك العربة ، وأدرك العلة .. وركب معه سائقنا إلى مغاغة ليجىء بمن يصلح السيارة .. وبقيت وحيدًا مع المرأة فى هذا الليل ..
***
     بقينا صامتين مدة طويلة .. وكنت مضجعنا ، ومرسلا بصرى إلى سقف العربة .. وكانت هى مائلة إلى النافذة ، ومطلة برأسها على الطريق .. لم تكن تتحرك .. حتى يخيل للناظر إليها أنها نائمة .. ما أشد سكون هؤلاء القرويات وما أحلى وداعتهن .. أى سر فى الحياة ..
     بعد أن بارحنا السائق بلحظات ، ووجدت نفسى وحيدًا مع هذه المرأة .. سرت فى جسمى رعشة .. ووجدت الدم يتدفق فى عروقى من جديد .. ونسيت المرض والحزن .. والموت .. هل كنت أتمنى هذه اللحظة ، وأنا فى غمرة هذه التعاسة المرة ، وهذا التعب الجسمانى البالغ .. ؟ ربما .. فقد شعرت بعد أن تركنا السائق أن حملا قد انزاح عن صدرى . وأن الفاصل الذى كان يحجب عنى هذه المرأة قد أزيل .. ونسيت الموت .. وصاحبى الراقد خلفنا فى العربة .. نسيت كل شىء يتصل بهذا ، واتجهت بكليتى إلى هذه المرأة ، وكانت قد رفعت رأسها وواجهتنى ..
      ونظرت إلىّ .. وعاودتنى الرعشة من جديد .. وابتدأ العرق ينضح على جبينى .. واقتربت منى وقالت فى صوت خافت ..
     ـ أخائف .. أنت .. ؟ 
     فقلت لها بصوت يرتعش :
     ـ أبدا ..
     ومددت يدى دون وعى ، كانت يدى تزحف فى الظلام كالعنكبوت ..
      ـ يدك ساخنة .. !
     ولم أقل لها شيئًا .. وتركت يدى فى يدها .. وأغمضت عينى ..
      ـ مالك انت محموم ..؟
     أنا محموم ..! كان العرق يسيل من جسمى كله .. وكنت أرتعش .
     ومرت يدها على يدى وذراعى .. ووجدت يدى تمسح على ذراعها .. وشعرت بنعومة بشرتها تحت ملمس أصابعى .. وأحسست بجسمى يتخدر .. وسكنت الرعشة وجف العرق .. وانحدرت يدى عن ذراعها .. وكأنى كنت فى غيبوبة ورجعت إلى نفسى ، وبحركة لا شعورية .. مددت رأسى ونظرت من النافذة .. إلى صاحبى .. وكان فى نعشه وعليه الغطاء الحريرى .. هل تصورته تحرك ، ونظر إلينا ..
     ووضعت يدى على جبينى ، وملت إلى النافذة ، وابتعدت عن هذه المرأة ..
     وبعد قليل عدت أفكر فيها من جديد وكانت قد وضعت رأسها على كفها ، ومالت إلى الوراء ، وأغمضت عينيها .. إنها تحاول النوم ، أو تحاول الإغراء ..
     هل تحاول هذه القروية معرفة ما يدور فى رأسى .. إننى محطم الأعصاب من طول ما لا قيته من عناء فى الأيام الماضية ، وكنت أود رفيقا أو أنيسا فى الطريق ، وقد وجدت هذه المرأة .. وجدتها رفيقى وأنيسى عندما كانت السيارة تسير ونورها يخطف البصر فى الطريق .. ولكن بعد أن توقفت السيارة، وأطفئت الأنوار .. انقلبت عنصر شر لى .. وزادتنى عذابا وألما .. فجلست بجوارها قلقا مهتاج الأعصاب ، لا أستقر على حال وأخذت أهز ساقى وأحاول أن أصرف ذهنى عنها ، ولكن هيهات ..
      كانت روحى قد تخدرت وتقمصنى الشيطان .. وبدا لى أن خير ما أفعله هو أن أتحرك ، ففتحت باب السيارة .. فأحست بى ..
     وسألتنى فى جزع :
     ـ إلى أين ..؟
     ـ سأتمشى قليلا ..
     ـ لا تبتعد ..
     ـ أتخافين .. ؟
     ـ أنا .. أبدًا .. وإنما أخاف عليك من الذئاب ..؟
     ونزلت وكانت تنظر إلىَّ بجانب عينها وتبتسم فى خبث ظاهر ..!
     ـ الذئاب ..!
     وضحكت ..
     لقد أفلت من يدها .. وشعرت بعد خطوات قليلة بالراحة التامة وفعل نسيم الليل فى الصيف ، والهواء الطلق فعل السحر فى جسمى ونفسى ..
***
     وعاد السائق وأصلحت السيارة ونزلت المرأة فى سمالوط .. وتنفسنا الصعداء وانطلقت بعدها السيارة بأقصى سرعتها ليعوض السائق ما فاته .. وبلغنا منفلوط قبل أن يتنفس الصبح ..
***
     ووقفت بنا السيارة أمام منزل الميت .. وصعدت ومعى الحقيبة التى فيها متاعه ، واستقبلتنى أخته فى نهاية الدرج ، وكانت فى لباس أسود ، ولكنها لم تكن تولول أو تصيح ..
      كان حزنها دفينا صادقا .. شددت على يدها وتهالكت على أريكة قريبة ، وأدرت عينى فى المكان باحثا عن أبيها ..
      وعرفت نظرتى وقالت بصوت مفجوع :
     ـ إنه نائم .. جاءته برقيتك وهو فى فراشه ومن وقتها لم يتحرك .. وقد أخبرت الشيخ عبد الحفيظ .. وأعد كل شىء ..
     ولم أعجب لذلك فقد كنت أعرف عنه الكثير .. ورفعت عينى إلى أمينة التى عاش من أجلها أحمد ، ولأجلها ضحى بكل شىء ، لأنه كان يعرف أن والده ميت حى .. لقد غدت امرأة .. الفتاة التى كانت تصنع لنا القهوة فى ليالى الامتحان قد اكتملت أنوثتها . وجمعت كل مفاتنها ولقد زادها الثوب الأسود جمالا ..
     ونظرت إليها وقلت بصوت حزين :
     ـ أيقظيه فالوقت متأخر ، والسائق يجب أن يعود بالسيارة قبل ..
     ولما سمعت كلمة السيارة أجهشت بالبكاء .. وكان فى ناحية من البيت بعض النسوة فتركتها لهن ، ودخلت على أبيها فى فراشه ، وكان نائما على سرير من الحديد .. وتحته لحاف قذر كله حروق حمراء مستديرة .. وكان بجواره منضدة صغيرة عليها بقايا تبغ محترق .. وآثار قهوة فى فنجان .. ثم زجاجة فارغة من الخمر .. وكأس مقلوبة .. وآثار خمر على الأرض .. وفى الفراش .. وكان منظر الحجرة كريهًا ..
     هذه هى حجرة مصطفى أفندى وهو فى فراشه .. كل شىء يبعث على الاشمئزاز .. حجرة سكير .. غارق فى الخمر إلى الأذقان .. ووقع نظرى على الدوائر الحمراء فى اللحاف .. وهو نائم عليه دون حس أو حركة .. إنه يدخن وهو مضطجع .. ويغلبه النعاس فتسقط يده بالسيجارة على الفراش ..
     ووضعت يدى على عاتقه وهززته بقوة فتحرك بعد لأى .. وقام كأنه يجر إلى المشنقة .. متثاقلا متخاذلا.. واعتمد على ذراعى ، ونزلنا إلى الشارع ولما رأى السيارة انتفض .. ودب فى جسمه نشاط عجيب ، وأخذ يولول وينوح..! وجمع علينا القرية بكل من فيها من رجال ونساء ..!
***
     وعدت من المقبرة إلى المنزل وقد بلغ منى الجهد .. ونمت نوما متقطعا وحلمت أحلاما مزعجة .. وكنت كمن أصيب بالحمى .. فذهل عن كل شىء وأخذ يهذى .. ويطلب الماء فى كل دقيقة ، وفى جوفه أتون مستعر .. وأتت إلىّ أمينة بمنديل سقته بالخل وعصبت به رأسى .. فقد أصبت بضربة شمس ..
     وفتحت عينى فإذا الليل قد أرخى سدوله على القرية .. وكان العرق قد تفصد من جسمى كثيرًا فشعرت بعده بالارتياح والانتعاش والعافية ..
      ورحت أسترجع كل ما مر علىّ فى الأيام القليلة الماضية .. ثم تحركت من فراشى ، ونظرت من النافذة إلى الحقول وكان السكون يخيم ، والقرية ساكنة ، وسمعت حسا وحركة .. فأصغيت ..
      سمعت صوت أمينة كانت تتحدث فى صوت خافت يشبه الهمس ، ثم ارتفع صوتها ، ووضح صوت أبيها واشتد بينهما الكلام والعراك ، وسمعتها تنتحب ، فجريت نحوهما فوجدت والدها واقفا على سلم البيت وبيده شىء ، والفتاة تشده منه بقوة وهو يجاذبها فيه بعنف ، ويصيح مهددًا ..
      وكان أحمر العينين أغبر السحنة ، ولما بصر بى صمت فجأة وترك ما فى يده ، ووقع بصرى على ما كان فى يده ، إنها بذلة أحمد التى حملتها معى من المستشفى .. !!
     وضمتها أمينة إلى صدرها وأخذت تنشج .. ووقف هو مشدودًا إلى الأرض فاغرًا فاه ، وهو لا تكاد عينه تطرف ، ونظرت إليه فى قوة ، إنها بذلة أحمد وهو ذاهب بها إلى السوق ليبيعها ، ويشترى بثمنها زجاجة من الخمر ..
      نظرت إلى هذا الرجل الذى يقف الآن ذليلا أمام شاب فى سن ابنه ، لأنه يدرك شناعة فعلته ، ولكنه لا يستطيع أن يملك من أمر نفسه شيئًا .. لم تعد له إرادة على الإطلاق ، إنه الضعف البشرى ، إنها الإنسانية المعذبة .. نظرت إليه فى وقفته الذليلة هذه .. وتذكرت فى الحال أبطال دستويفسكى العظيم ..
     وكنت أود لو أمسك بيد أمينة وأقول لها .. اركعى معى أمام والدك المسكين .. السكير .. كما فعل رازكو لينكوف أمام امرأة سقطت .. وقبلى الإنسانية المعذبة فى شخصه .. إن والدك ليس فظا ولا حقيرًا ولا جشعًا كما تتصورين ولكنه لا يملك من أمر نفسه شيئًا ..
***
     انسحب مصطفى أفندى من أمامنا ، وأخذت أحادث أمينة حتى كفت عن البكاء ..
     واستيقظت فى الصبح على صوت أمينة وهى تبكى .. وعلمت أنه غافلها وأخذ البذلة .. وعاد ومعه زجاجتان من الخمر .!
     ودخلت عليه حجرته فإذا به مستغرق فى نوم عميق كما شاهدته أول مرة ، وفى اللحاف آثار حروق جديدة .. ! ورائحة الخمر تنبعث من كل مكان فى الغرفة .. !
***
     وبعد ساعة كنت أركب سيارة صغيرة إلى المحطة ، لنأخذ القطار السريع إلى القاهرة .. وكانت بجوارى أمينة .. كانت صامتة ، ولا تزال فى ثوبها الأسود .. وفى عينيها بقية من دمع ، ولكن وجهها كان يشرق ويغمر نفسى نورًا ..
================================= 
نشرت القصة فى مجلة كليوباترا 16/9/1946 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص " العربة الأخيرة " لمحمود البدوى عام 1948 وبمجموعة " قصص من الصعيد " فى سنة 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالفجالة
================================ 















البواب الأعرج

     عندما ضرب الألمان مدينة الإسكندرية بالقنابل ليغرقوا الأسطول الإنجليزى .. ضربوا منطقة البحر ضربا شديداً ..
      وأصابت القنابل عمارة ضخمة فى شارع الكورنيش ، فهوى طابقان منها ، وطارت بعض شرفاتها ، وتناثر زجاج نوافذها..
      ومع هذا فقد خرج سكان العمارة من المعركة سالمين .. فقط أصيب بوابها .. أصابته شظية فى قدمه اليمنى خرج بعدها من المستشفى يعرج .. ورضى الرجل بحكم القدر ، واستسلم للمصير المحتوم ..
      وعاد يجلس على الدكة فى مدخل العمارة كما كان يرقب الداخلين والخارجين بعينى الذئب الجائع ..
     وكان معظم سكان العمارة فى أيام الحرب من الجنود الإنجليز ، وكان منظرهم فى ملابسهم الرسمية ، وما يحدثونه دائماً من ضوضاء وجلبة فى غدوهم ورواحهم ، يثير السخط فى نفس البواب ..
     كما أنه كان ينظر إليهم دائما بعين الكراهية .. لأنهم كانوا السبب فى بلواه .. فلولا وجودهم فى هذه المنطقة ما ضربت العمارة ، ولا أصابته الشظية ..
      فلما أنتهت الحرب وغادر الجنود العمارة تنفس « عثمان » البواب الصعداء وشعر بأنه عاد يتنفس فى جو من الحرية كما كان منذ ست سنوات .. على أن عرجه زاده انطواء على نفسه ، وبعداً عن الناس ..
     كان سكان العمارة جميعاً يعرفون أنه يكره النساء .. فلا يحب أن تجلس الخادمات على دكته .. كما أن واحدة منهن لن تجرؤ على دخول غرفته ..
      وكان يتضايق أشد الضيق حتى من سيدات الأسر ، وهن جالسات على الدكة فى انتظار المصعد ..
      وكان أشد الأشياء على نفسه أن تكلفه امرأة بعمل .. قبل العرج وبعده ، كان ينطوى لهن على بغض شديد ، لم يكن يعرف مأتاه ولا مصدره .. مجرد وجودهن فى ممشى العمارة ، أو على بابها ، أو بالقرب من غرفته .. كان يجعله ينفعل ، ويتغير ويكاد يثور .. وهو لا يدرى لذلك سبباً ..
***
     وفى صباح يوم علم أن الشقة رقم 4 فى الدور الأرضى بالعمارة ، قد أجرت إلى أسرة من القاهرة مدة الصيف ، فحمل المكنسة ونظفها ، وأغلق نوافذها ..
      وجاءت الأسرة فى قطار الظهر ، وكانت مكونة من سيدة وسيد ولا ثالث لهما .. وفتح لهما البواب الشقة وحمل الحقائب من السيارة .. وأشفقت السيدة على الرجل ، ففتحت حقيبتها الجلدية الأنيقة وأعطته ريالا فحنى رأسه وخرج .. ولأول مرة رأته السيدة يعرج .. !
     وفى أصيل اليوم نفسه رآهما البواب يخرجان ويتمشيان فى طريق البحر .. وكانت السيدة أنيقة وجميلة وصغيرة .. والسيد رجلا فى الأربعين حسن الملبس مليح القسمات .. ولما عادا من نزهتهما ، كان البواب جالسا فى غرفته ..
      وسمع صوت السيدة وهى تصيح :
     ـ يا بواب .. يا بواب ..
     فلم يتحرك .. وبعد قليل رآها واقفة على بابه تنظر إليه بعينيها الناعستين ..
      وتسأله :
     ـ أنت اسمك إيه .. ؟
     فرد عليها بصوت منفعل :
     ـ عثمان ..
     ـ تسمح تفتح لنا الباب .. ؟  مش راضى ينفتح ..
     ونهض فى تثاقل ، وهو يرميها بالنظر الشزر .. وفتح الباب .. وعاد إلى مكانه ، ورأى السيدة تقابل نظراته الشزراء بنظرات ناعمة متكسرة .. فازداد غيظا وحنقا ..
***
     فى الصباح حمل للسيدة حاجتها من السوق ..
     وكان يروح ويجىء فى الطريق مرات ومرات ولا يشعر بتعب .. !
     وفى كل يوم كان يفعل ذلك ..
     وفى الضحى كان يحمل المظلة والكراسى إلى البلاج ، ويسير وراء السيدة كالكلب الأمين .. ! وينصب لها المظلة ثم ينصرف ..
     وقد شعر على توالى الأيام بأنه تغير ، ولم يعد يثور لأتفه سبب ، ويحتد على الخصوص وهو يحادث النساء ..
     لقد تغير وتغير .. ! وأصبح ينام نوما عميقا فى الليل ، ويستيقظ مبكراً فى الصباح ، ولا يحس بضربات قلبه ، وثورة دمه .. كلما سمع صوت امرأة .. لقد عاد إلى سكينة نفسه ..
      وذات يوم نزل إلى البحر ليرجع المظلة كعادته ، فلم يجد السيدة جالسة تحتها تقرأ فى كتاب كما اعتاد أن يراها .. ودار ببصره ورآها مقبلة من بعيد فى لباس البحر ..
     ولأول مرة يراها هكذا شبه عارية ..!
     وأحس بمثل النار تسرى فى ألياف لحمه .. وأدار رأسه ..
     ولما ارتدت ملابسها حمل المظلة ومشى وراءها ، ولأول مرة يجد نفسه ينظر إلى جسمها من الخلف ويعجب بمفاتنه .. وأخذه مثل السعار ودخل معها الشقة وهو يرتجف ، ووضع المظلة ، ومشى إلى غرفته .. وأغلق بابها ..
***
     كان ينام فى غرفته ، فأخرج فراشه ونام به على الدكة ليقترب من بابها ويرى النور وهو يطفأ فى غرفتها ..
      كان يتقلب طول الليل فى فراشه ويتسمع وقع أقدامها .. ويصغى إلى صوتها وهى تحادث زوجها .. زوجها الذى يعود من سهراته متأخراً دائماً وغالباً ثملا ... وغالباً مقامراً ..
     وفى كل أصيل كان يراها جالسة فى غرفتها المطلة على البحر ، وكان يقف عند الحاجز الحديدى على الكورنيش ، ووجهه إليها وعيناه لا تتحولان عنها .. وكانت تدخن وترمى بأعقاب السجاير من النافذة ..
     فإذا غربت الشمس اقترب من النافذة ، وجمع هذه الأعقاب ومضغها بشراهة ونهم ..
      وكان يحس بلذة عنيفة تهز كيانه كله ، وبمثل الإعصار يحمله ويدور به .. ويود لو ينحدر من النافذة ، ويحملها بين ذراعيه ويمضى بها فى الظلام ..
     وكان يحلم بها فى الليل ويستيقظ من الحلم وهو يتفصد عرقا .. ويزحف على رجليه حتى يقترب من باب شقتها ، وهناك يمرغ وجهه بمواضع أقدامها ويظل ملتصقاً بالباب إلى الصباح .. !
     لاحظت سعاد هانم أن زوجها أصبح يتأخر كثيراً فى سهراته .. وهى تخاف فى الليل وحدها .. ولما حدثته عن ذلك ..
      قال لها وهو يضحك :
     ـ كيف تخافين .. وغرفة البواب بالقرب من باب الشقة .. ؟ !
     ـ ولكننى أخاف ..
     ـ إنك ما زلت طفلة .. !
     وتألمت وصمتت ..
     ونامت سعاد هانم فى ليلة من الليالى بعد العشاء مباشرة .. واستيقظت فى هدأة الليل ، ونظرت إلى ساعتها ، فوجدتها الأولى بعد منتصف الليل .. وكان زوجها لم يعد من سهرته بعد ، فأدركت أنه يقامر فى هذه الليلة إلى الصباح ، كعادته فى الليالى التى يتأخر فيها ..
     وظلت ساهرة تستمع إلى هدير الأمواج على الشاطئ .. وكانت الشقة ساكنة لا حس فيها .. لا صوت كلب ، ولا نفس إنسان يشاركانها هذه الحجرات الأربع ..
      وأحست بالخوف يسرى فى كيانها فازداد خفقان قلبها .. وثبتت بصرها على الباب .. وخيل إليها أنها تسمع حركة فى الردهة فاعتدلت فى جلستها ، وأطلت من فوق السرير لترقب زوجها ، فلم يدخل عليها أحد ..
     فنزلت وأخذت تتمشى فى الغرفة .. وأشعلت سيجارة وجلست على كرسى طويل ، وعيناها إلى النافذة المطلة على الطريق ..
      كانت تود أن تفتح هذه النافذة لتستأنس بحركة السيارات التى تمر من حين إلى حين .. ولكن النافذة تعلو قليلا عن رصيف الشارع فكيف تفتحها فى الليل ..
      ظلت جالسة والخوف يشل حركتها ، وسمعها متيقظ ، وعيناها مفتوحتان .. وسمعت نقراً على الباب .. أنسى زوجها المفتاح .. ؟ أم أضاعه فى الطريق ..؟ يحتمل هذا وذاك ..
      مشت إلى الباب وهى ترتجف هلعا .. وفتحت الشراعة الزجاجية ، ونظرت منها فلم تر أحداً فأغلقتها ، وعادت إلى غرفتها ..
     وبعد قليل سمعت النقر على الباب مرة أخرى .. فنهضت واتجهت إلى الباب ، وفتحته وقلبها يكاد ينخلع من بين ضلوعها .. وحدقت فى الظلام فلم تر أحداً ..
      ووجدت البواب نائما فى الممشى ، قريباً من الباب ، فنادته وهى تنتفض :
     ـ عم عثمان ..
     وتحرك البواب ، وفتح عينيه ، ونظر إليها فى ذهول ..
     وقال بصوت خافت :
     ـ نعم .. 
     ـ إننى خائفة وحدى .. تعال نم فى الصالة ..
     ونهض البواب .. ورآها وهى تهتز كالقصبة فى مهب الريح .. ودخل وراءها ، وأغلق الباب ..
***
     عندما حمل عثمان المظلة لسعاد هانم فى ضحى اليوم التالى ، ومشى معها إلى البحر ، نظرت إليه من قمة رأسه إلى أخمص قدمية ، وكأنها تراه لأول مرة..! واشمأزت من هذه القذارة .. أهذا هو الرجل الذى قضت الليل معه .. ! اشمأزت من نفسها .. إنه لا يغير ثوبه القذر .. وما استحم قط والبحر على قيد خطوات منه .. !
أى نتن هذا .. ! ولعنت زوجها ، واحتقرت نفسها .. !
     ولكن عندما ينتصف الليل ، ويشتد السكون ، ويعلو موج البحر ، كانت تجد موجة طاغية عاتية .. آتية من بعيد تحملها إلى هذا الرجل .. ولم تكن تستطيع مقاومتها ولا دفعها .. كانت الموجة العاتية تحملها فى الظلام وهى غائبة عن رشدها .. فإذا عادت لنفسها فى الصباح ، نظرت إلى هذا الرجل ، فوجدته قبيح الوجه ، قذر الثوب ، أعرج .. فيزداد احتقارها لنفسها ويشتد .. وتكاد تجن مما وصلت إليه حالها ..
     فى كل ليلة كانت تحاول أن تقاوم وأن تبقى فى مكانها .. ولكن يداً سحرية كانت تجذبها إليه .. وفى غمرة المد كانت تتمرغ فى الوحل .. وفى الصباح كانت تتحسر ، وتنفض ما علق بثوبها من قذارة ..
***
     ولما انقضت أشهر الصيف ، حزم الزوجان حقائبهما ، واستعدا للسفر وركب معهما البواب السيارة إلى المحطة ..
     ولما تحرك القطار ، دفع الزوج يده فى جيبه ، وأعطى بعض النقود للبواب فاحنى هذا رأسه ، وانصرف يعرج على الرصيف ..
     وقال الزوج لزوجته :
     ـ إنه مسكين .. !
     فصمتت الزوجة ، ونظرت إلى زوجها ، وعلى وجهه أمارات الطيبة ، وعقد لسانها ، وشرد ذهنها طول الطريق ، وتصورت نفسها أكثر من مرة تحت العجلات ، والقطار يمزق جسمها تمزيقا ..
================================= 
نشرت القصة فى مجموعة " العربة الأخيرة " سنة 1948 وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من الإسكندية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
=================================


نساء فى الطريق

أنا رجل مريض .. مريض مرضًا لا شفاء منه وميت فى الحقيقة ، وإن كان نفسى لا يزال يتردد ، وقلبى ما زال ينبض ولقد يئست من كل شئ ، وضقت ذرعًا بكل أمر ، وبلغت أقصى درجات القنوط .. وبدا لى أن أضرب فى الأرض ..
اتجه إلى أى مكان .. أهجر القاهرة بكل ما فيها من خير وشر ، أهجر هذا الجو الراكد الذى يقطع الانفاس إلى أن يحين حينى ..
ولما ركبت قطار الظهر إلى الإسكندرية .. كانت محطة القاهرة تختنق من دخان القطارات ، وشمس الظهيرة المتسلطة على المكان ، كان كل شئ يحترق ، كان الحر يلفح الوجوه ، ويسيل العرق على الجباه وكان الزحام بالغا أشده ، فى القطار وتحت ذلك السقف الزجاجى المتوهج ، كان الناس يتدافعون بالمناكب ، كأنه آخر يوم فى السفر ، وآخر قطار ذاهب إلى الإسكندرية ..
جلست فى ركن من العربة أتطلع إلى الوجوه .. وجوه الجالسين معى فى داخل العربة ، والواقفين فى الممشى لم أر فى هذه الوجوه وجها واحدا تستريح العين إليه ، كانوا جميعا من السماسرة ، ورجال الأعمال ، وموظفى المصلحة ، وهؤلاء أشبه بعمال السكة الحديد فى المحطات الصغيرة فى روسيا .. الشخصيات التافهة فى روايات تشيكوف ، تعاسة مرة .. وبلادة وخور .. واستسلام للمصير ، ورضوخ لحكم الأقدار .. حديث تافه عن عمال البلوك ونظار المحطات .. وكادر المصلحة ، ولا شيء غير هذه التفاهة ، كان هذا كله يزيدنى غما وهما ..
وتحرك القطار .. خرج من نطاق المحطة الحديدى ، واستقبل مزارع شبرا ، وهنا تغير الجو ، وهب النسيم العليل مخففا من شدة الحرارة فى داخل العربة ، وشعرت بالارتياح .. وملت إلى النافذة ومر الهواء الرخى على وجهى .. وأغلقت عينى ، وحاولت أن أصرف ذهنى عن التفكير ، وأن أملأ رئتى بالهواء النقى ، وأتنفس تنفسا عميقا ، إلى أن يأخذنى النعاس ..
وفعل الهواء فعل السحر فى جسمى ونفسى .. ولم أعد أحفل بمن حولى من الركاب حتى بلغنا الإسكندرية ..
حملت حقيبتى ، واجتزت باب المحطة الخارجى ، واعترضنى نطاق من الحمالين ، وسماسرة الفنادق والغرف المفروشة ، وما أكثرهم فى هذا الفصل من السنة ..
فى المرات السابقة كنت أجتاز هذا النطاق ، دون أن أتبادل مع أحد من هؤلاء كلمة واحدة ، لأننى كنت أعرف وجهتى ، ولكن فى هذه المرة لم تكن لى وجهة معينة ، وكنت أشعر بشعور الغريب النازل فى مدينة كبيرة لأول مرة فى حياته ، كنت حائرا ولا أدرى فى أى طريق أمضى .. ولهذا استعنت بواحد من هؤلاء الصبية وأفهمته رغبتى ، غرفة صغيرة على البحر فى أى مكان فى المدينة ..
كنت أود أن أعيش الأيام الباقية لى من حياتى على أى وجه ، وبكل ما أملك من قوة ..
نزلت فى فندق صغير على البحر ، ونمت فيه أول ليلة مستريحًا كأحسن ما ينام مسافر ، وفى الصباح تجولت قليلاً فى المدينة ، كانت عامرة بالناس تدب الحركة فى شرايينها ، لقد تغيرت عما كانت منذ سنين ، وخرجت فيها المرأة إلى الطريق لتعمل ، رأيت وجوها أكثرها من الفرنجة ، ولكن من بينها وجوها مصرية تطفح بالبشر والسعادة ، وجوها ضاحكة لا تراها إلا فى هذا الثغر الجميل ، فى هذه المدينة أصفى بشرة وأحلى عينين ..
***
       عدت إلى الفندق لأتغدى ، وبعد الغداء استرحت قليلاً ، ثم خرجت فى ساعة الأصيل ، لأتمشى على ساحل البحر فى منطقة الرمل ، بين محطة الرمل والشاطبى .. ولقد سرت فى هذا الطريق من قبل ، وأنا ممتلئ شبابا وقوة ، وما كنت أفكر فى شيء ولا أحفل بأمر ، وما خطر على بالى الموت ، ولا فكرت فى المرض ، ولا شعرت بألم فى أى ساعة من ساعات نهارى وليلى ، أما الآن بعد أن دخلت جوفى العقاقير ، وتشرب جسمى من هذه السموم ، فقد تغير كل شيء فى نظرى ..
       لقد كنت سكيرًا و مخمورًا أبدًا ، وفعلت الخمر أفاعيلها فى جسمى ، ولكن هناك من لا عداد لهم يشربون الخمر مثلى ، ولم يسقط واحد منهم سقطتى فى أول شوط ..! وبإرادة مارد جبار طلقت الخمر ، وبإرادة أقوى منها سأطلق العقاقير ، إنها أشد فتكا فى الجسم من الخمر وأعظم أثرا ، وما من شيء يرجى منها على الإطلاق ..! سأدع كل شيء للطبيعة وهى التى تمسح كل علة ..
       لقد تغير كل شيء فى نظرى ، ومشيت فى الطريق متثاقلا أشعر بتعاسة مرة وبأحزان قاتلة ، وبعد كل خطوتين أو ثلاث كانت أقف لأسمع ضربات قلبى ..!
       أخذت أروح وأجئ فى الطريق ، وأنا أودع الشمس الغاربة وأرى شعاعها الأصفر يتراقص مع الموج .. ورأيت مركبًا صغيرًا يمضى مع الشمس إلى حيث لا تراه العين ، ولا تأخذه الأبصار ، وتخيلته يسير بى إلى حيث لا يستقر على شط ، واستغرقت بكليتى فى هذا الخاطر .. ولما رجعت لنفسى كان النور يغمر المدينة ..
       بعدت عن الحاجز الحديدى ، وأخذت أتمشى فى الطريق إلى محطة الرمل ، وكنت أنقل الخطى متثاقلا ، وأتأمل وأفكر .. وكان الظلام قد خيم على البحر فاختلط لونه بلون السماء ، وأصبح كل شيء قاتمًا لا تنفذ فيه العين ، وكان يبدد هذه الغياهب من حين إلى حين .. " فنار " الإسكندرية وهو يرمى بنوره إلى البحر ..
       كان السكون مخيما ، والطريق خاليًا تقريبًا إلا من نفر قليل كان يمشى الهوينى مثلى ، ولكن ما أحسبه كان يفكر تفكيرى ، ولا يرزح تحت ثقل المرض كما كنت .. وسمعت من يحدثنى فتلفت .. فألفيت رجلا قميئا .. فى جلباب أبيض .. وجاكتة سوداء .. وكان أسمر وفى عينيه حول .. وكان زرى الهيئة حتى تصورته شحاذاً .. فدفعت يدى فى جيبى ، ورأى هذه الحركة فقال بسرعة :
       - لا أريد شيئًا يا سيدى .. أنا خادمك ..
       واقترب منى ، وهمس فى أذنى كلاما ..
       فقلت له مبتسما :
       - أين ..؟
       - فى محطة الرمل .. فى الشاطى .. فى الإبراهيمية .. فى اسبورتنج فى محرم بك .. كما تحب .. كما تحب ..!
       وانطلق فى حديثه .. وكنت أريد أن أتلهى فاستمعت له طويلا .. كان يعرف أكثر من لغة ، ويتميز بفراسة قوية ، ولعله لمحنى وأنا أتسكع وحدى فى الطريق ، وعرفَ أننى مهموم غريب فتبعنى ..
       وظللت أحادثه حتى بلغنا محطة الرمل ، فأعطيته شيئًا وصرفته ، ودخلت فى أحد المطاعم لأتعشى ..
***
       رجعت مرة أخرى إلى طريق الكورنيش .. ولكنى اتجهت فى هذه المرة إلى بحرى .. وجدت نفسى أكثر تعاسة من ذى قبل ، واشتدت علىّ وطأة الوحدة ، وأخذت ألوم نفسى على عدم ذهابى مع ذلك الرجل .. لماذا لم أذهب معه ..؟ وادفن أحزانى فى صدر أية امرأة ..؟ لماذا لم أذهب معه ..؟ النساء .. زينة الحياة .. كل شيء ينسى معهن .. كان شعورى شعور الرجل الذى صدر عليه حكم الإعدام ، وبقيت أمامه أيام قليلة للتنفيذ وفى هذه الأيام تركت له كل حرية فكيف لا يمتع نفسه بالحياة ..؟ لماذا صرفت الرجل وأمامى ساعات معدودات ، يجب أن أتمتع فيها إلى أقصى حد ..؟
       لماذا تركت الرجل ..؟ وفى غمرة هذه الخواطر المؤسفة .. لمحت شبحًا من بعيد ، ظل امرأة ينسحب عن نور المصباح القائم فى الطريق ، مددت بصرى وأسرعت .. كانت تمشى الهوينى محاذية سور الكورنيش ، ولكنها لم تكن تنظر إلى البحر ، كانت تنظر إلى الأمام ولا تلتفت قط ..! كانت فى ملاءة سوداء ، واقتربت منها ومشيت وراءها ، وعيناى لا تتحولان عنها .. لمحت جزءًا من الساق ، وكان فى بياض المرمر ، وأشد منه لمعانا وفتنة ، وارتفع بصرى إلى الجسم كله من خلف ، وأخذنى مثل الدوار ، من الذى صنع هذا الجسم ..! وكيف يكون إذا تجرد .. وبرزت هذه المفاتن كلها ..؟ واقتربت منها جدًا حتى كاد كتفى أن يلتصق بكتفها ..! ونظرت إلى وجهها ، وكانت تحجبه بخمار خفيف أسود .. كما يحجب الغمام وجه القمر .. نظرت إلى ذلك الوجه الأبيض ذى الخمار .. وتذكرت لوحات محمود سعيد لحسان بحرى .. الجسم نفسه .. الفتنة عينها .. ولكنها هنا تتحرك ..
       هل نظرت إلىّ عندما حاذيتها ..؟ أبدا .. مضت فى طريقها لا تعبأ بشيء ، ومشيت وراءها أكثر من ثلث ساعة ، ثم تركت ساحل البحر واتجهت إلى قلب المدينة .
 ولما ركبت الترام الدائرى وراءها .. وسار الترام فى شارع التتويج .. ما أجمل أسماء الشوارع فى الإسكندرية .. شارع التتويج .. شارع أبى حاتم .. شارع أبى السعادات ..! ونزلت من الترام ودخلت منزلا صغيرا من طابقين يطل على البحر ..
       وفى صباح اليوم التالى كنت أدور حول منزلها ، وقفت من بعيد أرقب النوافذ ، وأنا أروح وأجئ فى الطريق ، وأخيرًا رأيتها كانت مطلة برأسها من النافذة تحادث جارة لها ووجدت بصرى يتعلق بها ، وروحى تكاد تقفز إليها .. هل بصرت بى ، وأنا واقف هكذا ، أنظر إليها من بعيد دون حراك أبلة كالتمثال ، وجامدًا كالصنم ..؟ أجل لقد نظرت إلىّ وابتسمت ابتسامة خاطفة .. ثم علا وجهها الوجوم ، وارتدت عن النافذة ، وأغلقت مصراعا منها ، وتركت المصراع الأخر على حاله ، ودفعتنى هذه إلى الحركة .. فتراجعت إلى الوراء .. إلى نهاية الشارع .. ووقفت ساهماً شارد اللب موزع الخاطر هل هذه الحركة من ألاعيب النساء ، هل يأتى هذا الصدود من امرأة كانت تسير وحدها فى الليل ، فى شارع البحر ..؟
       رجعت إلى بيتها مرة أخرى ، كانت واقفة فى النافذة تنظر إلى جهة البحر .. واقتربت منها ، ورفعت وجهى إليها فابتسمت ، وألقيت رأسها إلى الوراء كما يفعل العصفور الصغير .. ثم ضحكت وتوارت ..
***
       فى المساء كنت أسير وحدى فى شارع البحر وفى المكان الذى رأيتها فيه أمس ، وكنت مستريحا ناعم البال ، لم أكن أفكر تفكير الأمس ولا كانت تدور فى رأسى الخواطر السوداء عن المرض والموت ..
       كنت أشعر بانتعاش وحيوية ، وعاد الأمل ينبعث فى من جديد ، وتمنيت أن أعيش ، لقد وجدت لى هدفًا ، كانت روحى ضالة فوجدت فى هذه المرأة إلفها ..
       سرت وحيدًا ، وتصورتها أمامى بملاءتها السوداء ، وخمارها الأسود الذى يغطى نصف أنفها ، ونصف وجهها ، ويبرز عينيها الدعجاوين ، وهالة النور التى على جبينها .. يالله .. بين يوم وليلة تغير فى كل شيء .. وأحسست فى هذه الليلة بقوة دافقة تسرى فى عروقى ، وعلى الرغم من أنها لم تأت ، فإننى لم أقلق ولم أبتئس .
    لقد كنت موقنا بأننى سألتقى بها مرة أخرى يومًا ما .. إن القدر لم يضعها فى طريقى عبثا .. إنها حدث الأحداث فى تاريخ حياتى ، إنها نقطة التحول ، لقد التقيت بها عرضًا فى ساعة مظلمة من حياتى لتفعل أفاعيلها فى نفسى .. تغيرنى وتبدلنى تبديلاً ..
       ولأول مرة أرى البحر يضحك ، وجوه الناس باسمة .. والإسكندرية كلها تتلألأ بالأنوار البراقة .. لقد أكلت فى هذه الليلة كالثور ، ونمت نومًا عميقًا ..
       وفى الصباح كنت هناك فى منطقة بحرى .. ورأيتها ، ولوحت لها بيدى فابتسمت .. وأشرت عليها بالنزول فهزت رأسها وهى تضحك .. ووجدت بائع لبن صغير بالقرب من منزلها ، فجلست عنده أكثر من ساعتين ، وأنا أرقب نافذتها من بعيد ..
***
       والتقيت بها أصيل يوم فى " سوق الخيط " وكانت معها صاحبة لها ، ولما وقع بصرها علىّ مالت على أذن صاحبتها ، فنظرت إلىّ هذه وابتسمت لقد حدثتها عنى .. شعرت بزهو لا حد له ، واقتربت منهما .. ووقفت على الحوانيت التى وقفتا عليها .. وقلبت فى البضاعة التى اشترتها صاحبتى .. ولما خرجنا من السوق أشارت إلىّ بأن لا أتبعها ، فحييتها من بعيد وانصرفت ..
       وبعد الغروب كنت فى شارع البحر ، ولمحتها قادمة من بعيد ، كانت تتجه نحوى ، وأمسكت بيدها وضغطت عليها لقد جاءت أخيرا ..!
       وقالت وهى باسمة :
       - من مصر ..؟
       - آه ..
       - وحدك ..؟
       - وحدى ..!
       - مفيش حد فى الإسكندرية وحده غيرك ..
       - قسمتى كده ..
       وضحكت ..
       ثم سألتنى ونحن نتمشى :
       - ما الذى كنت تقوله لى فى سوق الخيط ..؟
       - كنت أقول إنك أجمل من رأيت من النساء ..
       - وهل رأيت كثيرا من النساء ..؟
       - من كل جنس ولون ..!
       - لقد خاب نظرى فيك ..
       - لماذا ..؟
       - أتصورك ملاكًا .. لوداعتك وهدوء نفسك .. ولهذا أحببتك ولهذا جئت .. أما الآن بعد أن عرفت أنك شيطان .. فدعنى أذهب ..!
       وابتسمت فى إغراء وفتنة .. أحبتنى .. إننى لم أسمع هذه الكلمة من امرأة قط .. ونظرت إلى عينيها وسبحت فى أعماقها ولم أقل شيئا ، وأخذنا نتمشى .. نروح ونجئ فى الطريق متمهلين حالمين ..
       وأخيرا قالت :
       - لا أستطيع أن أمكث معك الليلة أكثر من ذلك .. وسأنتظرك غدا فى الصباح الباكر فى منزلى .. سأقف فى النافذة من مطلع الشمس ..! 
       - ألا تجلسين معى قليلاً على هذا المقعد ..!
       - آسفة .. لا أستطيع .. لقد جئت الليلة لأراك فقط ..
       وشددت على يدها ، وشيعتها ببصرى حتى توارت ..
***
       وفى الصباح اتخذت الطريق إليها .. وصعدت درجات منزلها الصغير الحقير .. وكأننى أصعد إلى السماوات .. لم أفكر فى شيء ، وكنت كالمأخوذ .. وكانت هناك قوة جبارة تدفعنى إلى ذلك دفعًا .. وكان السلم قذراً ، وتنبعث منه رائحة خانقة ، ومع ذلك صعدته فى بطء وكنت أمعن البصر فيما حولى وأتمهل .. ورأيت أول ما رأيت فتاة صغيرة فى الرابعة عشرة من عمرها جالسة القرفصاء تحت دكة خشبية ، ولما بصرت بى ابتسمت فى خفر شديد .. وكانت عيناها تحدقان فىّ بقوة ، وكان وجهها صبوحا وملامحها مشرقة ، وابتسمت لها وحييتها .. وسمعت صوتًا ناعمًا يقول :
       - تفضل ..
       كان صوت نعمات ، وكانت واقفة فى الصالة عارية القدمين محلولة الشعر فى ثوب أبيض نضير .. وقفت ضاحكة ونظرت إليها فى دهشة ، فأشارت إلى باب غرفتها ، وقالت وهى تبتسم :
       - تفضل .. لماذا تنظر إلىّ هكذا ..؟
       - لقد تغيرت .. وكدت أنكرك ..! إنك فى الملاءة فى الشارع .. غيرك فى هذا الثوب فى المنزل ..
       وضحكت ، وأجلستنى بجوارها على كنبه فى الغرفة ..
       لقد أحببتها فى هذا الثوب ، وهى عارية القدمين محلولة الشعر .. كانت أشبه بفتاة صغيرة تستقبل الحياة بفتنة طبيعية وأمسكت بيدها .. فقالت هامسة :
- كيف جئت إلى هنا ..؟
       - لا أدرى ..
       وكان هذا حقًا .. وأخذنا نتحدث فى سرور وبهجة ..
       ودخلت علينا سيدة أكبر منها قليلاً تحمل القهوة .. وكانت قريبة الشبه بنعمات ولكنها سمراء دعجاء العينين ..
       وقالت نعمات :
       - أختى ..
       وسلمت بحرارة وقلت :
       ت إنها شبيهة بك .. ولكنها تستحم .. وأنت لا تستحمين ..
       - أنا .. مستحمية بالليل ..
       وضحكت .. فنظرت إلى أختها وقالت :
       - فوزية .. مش مصدرق ..!
       وصدقت وأمنت ، فإن بشرتها لم تقع عليها الشمس ..!
***
وخرجت من البيت وانتظرتها فى الطريق على مدى بعيد من المنزل .. وجاءت بعد نصف ساعة ، ومعها فتاة فى الخامسة من عمرها .. وكانت فى لباس أبيض ومرسلة شعرها وتاركة ساقيها بلا جوارب .. من ملاءة فى الليل إلى فتاة اسبور فى النهار ..
كانت الأنظار متجهة إليها على جانبى الطريق ، وكنت أسير أمامها متباطئا .. ولما مرت بى قالت لى فى صوت خافت ولكنه آمر ..!
- لا تسر أمامى ولا خلفى ..
ووقفت ساهما أقلب بصرى فى الطريق .. لا أمامها ولا خلفها ..
كيف أمضى إذن ..؟ .. ومضت عنى ، وأنا مسمر فى مكانى كالمشدوه ولأول مرة فى حياتى أتلقى الأمر من امرأة .. وكنت أود أن أتمرد ، وأتركها لأخلص من هذا العذاب ..
ظللت فى مكانى واجما .. وكانت قد مضت فى الطريق الطويل فى دائرة الظل ، وثوبها يهتز على جسمها ، ورأيت هذا الجسم يولى أمامى .. هذه الفتنة المنطلقة ، هذا الجمال الذى لا شبيه له ، فكيف أتركه ، وتحملت العذاب ورضيت بالذلة ، وسرت وراءها فى خطوط حلزونية كالكلب الذليل .. بعد ساعة سيكون هذا الجسم لى ، ساعة واحدة ليس إلا ، وسأحظى بأجمل امرأة فى الوجود .. وسأنعم بأقصى ما يتمتع به إنسان ..
 وخرجنا من الحى ، وعادت الفتاة الصغيرة من حيث أتت ، وتنفست الصعداء ، لقد اجتزنا منطقة الخطر ..!
وركبنا عربة وانطلق بنا السائق إلى الفندق ، وأخذ الجواد ينهب الأرض .. وكانت جالسة فى سكون وصمت .. ولكنها كانت تبتسم فى وداعة ، وفى عينيها طهر كطهر العذارى ..
       وفتحت لها باب غرفتى .. وجلست إلى المنضدة تقلب فى أوراقى .. وكانت عطشى فحملت لها كوبا من الماء .. ووقفت أنظر إليها وهى ترشف الماء رشفا ، وكانت شفتاها القرمزيتان منطبقتين على حافة الكوب .. ولما تناولت الكوب من يدها انحنيت عليها ، وأطبقت شفتى على هاتين الشفتين وجذبتنى إليها ، وضغطت بذراعيها على عنقى .. وذقت لأول مرة الشهد الخالص ، والرحيق المختوم ..!
***
       كانت تجئ كل يوم ، وتجلس معى طول النهار ومعظم الليل .. ومع هذا كله لم أشعر قط بأننى ارتويت .. وكانت الساعات القليلة التى تغيبها عنى من أشد الأوقات على نفسى .. كانت تمر بطيئة ثقيلة .. فإذا سمعت نقرها الخفيف على الباب استقبلتها باسطا ذراعى ، دافنا وجهها فى صدرى ، ومع هذا كله ومع كل ما كان بيننا من اتصال دائم ، وامتزاج متصل .. فإننى كنت أشعر فى كثير من الليالى بأن شيئا غامضا يحيط بى .. وأنى أجهل الكثير من أجزاء جسمها .. جسمها الذى ضممته إلى أكثر من مائة مرة .. كان فيه شيء لا أعرفه ..
       وكثيرًا ما أغمضت عينى لأتصورها بعين الخيال ، وهى نائمة شبه حالمة فى الفراش ، فكانت هذه الصورة لا تجئ كاملة أبدًا كان دائما ينقصها شيء ، كان ستار أسود يسدل على الساقين ، ونصف الصدر ، والجانب الأيسر من وجهها .. وكانت إذا تململت فى الفراش ، ونظرت إلىّ بعينين ذابلتين وقالت :
       - ما أشبهك بطفل ..
       كنت أضحك ، وأود أن أمزق هذا الستار الذى يحجب عنى جسمها وأراه فى دائرة الضوء .. وأطعنها بعد ذلك بخنجر فقد كان فى نظرتها ما يروع .. وإن كانت نظرة آسرة حالمة ..
       ولما وضعت يدى على خدها ، وقلت لها فى صوت يرتعش :
       - أنا أحبك ..
       قالت على الفور :
       - وأنا أحبك ..!
       وأدمت النظر فى سكون إلى سواد عينيها وابتسمت .. فسألت وعيناها فى أعماق عينى :
       - ألا تصدق ..؟
       فقبلتها ولم أقل شيئا .. وكانت لا تزال تديم النظر إلىّ ولاتطرف .. كان وجهها أشبه بوجه طفل متسائل ، وعيناها لا تتحولان عن شفتى .. ومع هذا لم أتحدث إليها ، ولم أقل لها شيئا ، فمدت يدها وجذبتنى نحوها وكانت فى هالة من الفتنة فوضعت شفتى على شفتيها .. وضممت صدرها إلى صدرى .. وأطلت النظر فى عينيها ، وكانتا تبرقان وسوادهما على أشده .. كانت تبتسم فى اشتهاء ، وكان كل شيء يزيدنى ولها بها وتفانيا فيها .. وقد نسيت معها المرض والهم وآلم الوحدة ..
       نسيت كل هذه الأشياء ، واستغرقت فيها مشاعرى وحواسى ..
***
       كنت أعرف سيدة أجنبية فى محطة الرمل .. فانتقلت ومعى نعمات إليها .. وكانت نعمات سعيدة مرحة فى هذا المكان الجديد .. ثم بدأت تضجر ..!
       وكنت لا أسمح لها بالخروج إلا معى .. فى الصباح كنت أخرج وحدى ، وأصحبها معى فى الأصيل .. نتمشى قليلا فى شارع البحر .. ثم نعود إلى البيت .
 وكان يعترى وجهها ونفسها تغير سحرى كلما خرجت إلى الشارع .. فإذا كنا فى نهاية الطريق ، وشعرت بتعب ، وأشرت عليها بالعودة .. كانت تقول فى غضب :
       - لماذا هذه العجلة .. إننى أحب المشى ..
       إنها تحب السير فى الطريق ، ولا سعادة لها فى غير هذا ..
       كانت المرأة الفرنجية التى نقيم عندها فى فقر شديد .. ولم أكن أعرف من أين تأكل وتعيش .. كانت تعاستها مرة وبؤسها أسود .. وكان منظرها وهى تفتح لى الباب ، فى الليالى التى أتأخر فيها يثير الرعب فى نفسى ..
       كانت تفتح الباب فى بطء وحذر ، دون أن تشعل النور .. وتنظر إلىّ بعين مستفسرة ، وشعرها مشوش ، ووجهها عليه كل أمارات الفزع .. ويدها تنتفض على مصراع الباب .. ثم تتذكر بعد لأى .. وتعرفنى وتطمئن ، فتفسح لى الطريق .. فأدخل فى سكون ، دون أن أبادلها كلمة واحدة ..!
       من وقت أن نزلت عندها ، لم أدفع لها شيئا يعينها على حياتها الشقية .. وكيف أدفع لها وأنا فى حاجة إلى كل قرش لأطيل مدة إقامتى مع نعمات غارقا فى الملذات ، ضاربا صفحا عن كل عاطفة إنسانية ..! لم تطلب منى هذه المرأة الكريمة شيئا .. ولم تشك لى من تصرفات نعمات .. التى كانت تظل طول النهار فى البيت ، ولا تقوم بعمل .. كانت دائما نائمة على جنبها قرب النافذة سابحة فى الأفق .. فإذا حدثتها عن مساعدة المرأة فى شئون البيت .. قالت فى حدة أفزعتنى :
       - أنا لست خادمة لك أو لها ..
       وكنت أتراجع وأسكت ..
ولما صورت لها بؤس المرأة وفقرها وشيخوختها ، قالت وهى تهز كتفيها :
       - ولماذا تعيش إلى هذه السن ..؟ إن منظرها مرعب .. كلما نظرت إلى وجهها ، وتصورت أننى سأكون مثلها أكاد أجن من الفزع ..!
       - ألا تحبين الحياة ..؟
       - الحياة .. أجل أحبها .. ولكن ماذا تكون الحياة لمثلى من غير جمال وشباب .. إنك لا تعرف هذا الجحيم ولا تدركه لأنك رجل ، عندما يبدأ أول خط من التجاعيد فى وجهى سأفعل هذا ..
       وأشارت إلى عنقها ..!
       فقلت لها ضاحكا :
       - دعينى أقوم لك بهذه المهمة من الآن ..!
       - أنت ..! وتقدر ..؟
       ونهضت وأمسكت بعنقها ، وكانت تضحك .. وضغطت .. فألقت برأسها إلى الوراء ، وأسبلت عينيها .. ورأيت ظل أهدابها على وجهها .. ولم أكن قد رأيته من قبل قط .. ورأيت الدم الذى حبسته بيدى يطفح من وجنتيها ويكتنز فى شفتيها وكانت ترتعشان وعليهما ظل ابتسامة فاتنة .. ولف شعرها الأسود وجهها المتألق ، وأسدلت منه خصلات على جبينها ..
       وطوقتها بذراعى ، وكتمت أنفاسها اللاهثة ..
***
       ومرت الأيام ، وابتدأت نعمات تسأم هذه الحياة .. حياة الحبس فى المنزل وعدت ذات يوم للبيت فلم أجدها ، فسألت عنها صاحبة البيت فقالت لى : إنها خرجت ولم تقل لها شيئا .. فجلست صامتا ، والغضب يتطاير شرره من عينى .. وجاءت بعد ساعة فسألتها ، وأنا أكتم انفعالى :
       - أين كنت ..؟
       - عند أختى ..
       قالت ذلك بكل سذاجة وبساطة ، وبصوت هادئ زادنى غيظا وحنقا ..
       فقلت لها وأنا أحاول أن يكون صوتى أكثر هدوءا :
       - ولماذا لم تستأذنى ..؟
       - لم أعتد ذلك ..
       ألقت هذه الكلمات بصوت أكثر هدوءا ، فنهضت نحوها وأنا أفور غضبا ، فتراجعت إلى الوراء وصاحت :
       - إذا كنت تود أن تضربنى إضرب .. إضرب لأنك تحب أن تضرب .. لا لأنى فعلت شيئا استحق عليه الضرب .. إذهب إلى فوزية واسألها أين كنت ..
       - لا داعى للسؤال فأنا أعرف أنك كاذبة ..
       - كاذبة ..! إنك لا تصدق أحدا ، والشك ينغص عليك حياتك .. إنك تتصور أننى قد استسلمت لك فسأ ..... 
       ووضعت يدى على فمها ، وضغطت بقوة .. لا أود سماع هذه الكلمة البشعة .. إن مجرد تصورى أنها تفكر فى أن تعطى هذا الجسم لغيرى كان يطير لبى .. ودفعتها إلى الوراء بعنف وشراسة .. فارتمت على الأرض باكية ..
       وأخذت أروح وأجئ فى الغرفة كالنمر المحبوس فى قفصه ..
***
       أخذت نعمات تغيب فى المساء .. وتتأخر أحيانا إلى نصف الليل .. وكانت النقود التى معى قد نفدت .. وصاحبة البيت على حالها من الفقر والتعاسة .. وكان عراكى مع نعمات يوميا .. ولم أكن أدرى أين ذهبت وكنت واثقا من أنها لا تذهب عند أختها كما كانت تقول ..
       وكنت إذا عدت ولم أجدها فى المنزل ، أنزل وأبحث عنها فى الطريق كالمجنون .. أتطلع إلى الوجوه ، وجوه النساء التى تسير فى شارع البحر بعد الغروب .. فى هذه المنطقة وجدتها وفى هذه المنطقة تعود .. لتقع على صيد جديد ..
       ولقد انقلبت الكلمات الحلوة التى كنت أسمعها منها إلى فحيح الثعابين .. وغدا جسمها فى نظرى جيفة عفنة .. ولقد كنت أود أن أمزق هذا الجسم بالسياط بعد أن غمرته بالقبل .. ولكن يدى كانت مشدودة إلى عنقى .. لم يكن معى ما أشترى به السوط ..
       لقد ألهبت الخواطر كيانى ، وسرت فى الطريق وعيناى محمرتان .. ولمحت من بعيد هذا القزم .. هذا القزم الذى قابلنى أول ليلة فى شارع البحر وعرض علىّ نساء من كل لون وجنس ، لابد أنه يعرفها ويعرضها على الرجال ، وفى ثورة جنون ناديته بصوت حاد .. فجاء مسرعا .. أخذت أحادثه .. وأعاد علىّ المناطق التى يعرفها ، وذكر لى أوصاف النساء فيها .. إنها ليست منهن .. ولكننى لم أقتنع ، وسألته فى لهفة وقلبى يتوثب :
       - أتعرف نساء من بحرى ..؟
       - أيوه ..
       وحدقت فى وجهه بقوة وسألته ، وقد شعرت برأسى يدور وقلبى يتوقف عن الخفقان :
       - أين .. فى أى شارع .. ؟ تكلم ..
       فذكر الشارع .. إنه ليس شارعها وشعرت بالارتياح .. ونقدته شيئا وصرفته ..
       وانطلقت أصفر فى الطريق ..
***
       وتغيرت نعمات مرة أخرى ، وعادت إلى حالها الأول ، اشتد تعلقها بى .. وكفت عن الخروج .. عادت إلى سكونها وتطلعها من النافذة .. ومضت أيام ورجعنا إلى سعادتنا الأولى .. ونسينا الماضى ..
       وذات ليلة لم أجدها .. وانتظرت ساهرا إلى الصباح فلم تأت .. وذهبت إلى منزلها فلم أجدها .. وبحثت عنها فى كل مكان فلم أعثر لها على أثر ..
       كنت فى حالة يأس قاتل .. كنت أصر بأسنانى ، وأضرب يدى فى الهواء .. كنت شريدا طريدا ، واجتمعت علىّ محن الزمان كلها فى ساعة مظلمة من حياتى ..
       وذات ليلة بصرت بها من بعيد تمشى فى شارع البحر .. كانت تسير الهوينى كما شاهدتها أول مرة ، ولكنها لم تكن وحدها ، كان معها رجل آخر ..
_______________________________
نشرت القصة فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
ـــــــــــــــــــــــــ


هاجــر
   
       هجرتني " هاجر " بعـــد عشرة طويلة دامـــت ثمانيـة أعوام ، خرجت في الصباح الباكر ولم تعد ، ولقد بحثت عنها فى كل مكان اعتادت الذهاب إليه فلم أعثر لها على أثر !
     لقد تربت " هاجر " في بيتى ، جئت بها من الريف وهى طفلة فى السابعة من عمرهـــا ، لتخــــدم عـــندى ، ولكنى لم أعاملــها قـط كخــادم ، لأنهـا كانت يتيــمة وفقـــيرة ، وكانت جميلة ضاحكة كالشمس .
     وكـانت " هاجر " في طفولتــها الأولى لا تكـذب قــط .. كانت مثال الصدق والإخلاص .. كانت تروى لى الأخبار فى صراحـة وبراءة ، وكنت إذا سألتها عن شىء ، وظهر أنها لا تعرفه كانت تجيب مسرعة :
    ـ لا أعرف ..   .
لم تكن تكذب قط .
وكانت أبدا ضاحكة طروبا .. تملأ البيت سرورا وبهجة .
                                  ***
     ثم مضت الأعوام وكبرت " هاجر " .. تغيّر جسـمها ، وبرز نهـداها ، واكتنـز صدرهــا ، ولمعت عينــاها ببريق الأنوثة وسحرها ، ورق صوتها ، وزاد عذوبة وفتـنة .
     وطال مع هذا صمتها وتغيرت طباعها ، فكنت كثيرا ما أراها مطرقة واجمة لسبب ولغير ما سبب .
     وابتدأت تكذب ، وتدور بالكلام ! وتنظر كثيرا فى المرآة ، وتطيل النظر ! .
     ودخــلت مرة البيت ، فوجدتها واقفــة تتشـاجر مع بائع الخبز ، وكان غلاما وسيما فى السابعة عشرة من عمره .. ثم طردته وامتنعت عن أخذ الخبز منه شهرين كاملين .. ثم عادت وأخذته منه !
     ولما سألتها :
     ـ لماذا رجعت إلى بائع الخبز ؟  
     قالت بهدوء :
     ـ حسن .. ؟  .
     ـ  آه .. حسن .. !  .
     ـ إنه مسكين ..!  .
     وعادت إلى سهومها وصمتها . ولقد عجبت لهذا التغير المفاجئ الذى طرأ على " هاجر " .
                                      ***
     وسمعتها مرة ، وأنا صاعد على سلم البيت تبكي وتعول .. ثم رأيتـها تضرب الخـــادم الصغير الذي معـها في البيت ، لأنه أخذ الخبز من " حسن " . ولما سألتها عن ذلك ، قالت وهي تنشنج :
     ـ إنه ابن كلب .. ولقد طردته .. ولا يمكن أن نأخذ منه الخبز مرة أخرى .. إنه غشاش لص ..!  .
     فصمت ، ولم أقل شيئا .
                               ***
     وذات يوم خرجت " هاجر " ولم تعـد .. لقـد هربت مع " حسن " بائع الخبز ..!
=================================
نشرت القصة بمجموعة العربة الأخيرة  لمحمود البدوى عام 1948
=================================





الجواد الجريح


     كان الأسطى عبد الصبور يسير بعربته الأنيقة فى شارع الكورنيش ، وفى منطقة الشاطبى يفكر فى راكب جديد ساعة الغروب .. عندما أوقفه الطبيب البيطرى وأخذ يفحص جواده .. فك وثاقه من العربة وأقبل به وأدبر .. ثم سلمه لتابعه فأخذه هذا ومضى ..
     ووقف " العربجى " مذهولا وتجمع الناس من حواليه , وأخذوا يهزأون به ، ويضحكون منه ، وزاده هذا عذابا وألما فأخذ يصيح : 
     " أخذوا منى الحصان وأنا مسكين مثلكم ..! لماذا تضحكون وتسخرون دائما من التعساء أيها المساكين ..؟ "
     وبكى وأخذ يسترحم الناس ، ولكن ما من راحم .. فقد سار الجواد فى طريقه إلى الشفخانة ..
     واشتد صياحه ، والناس يتضاحكون من حوله ، وقد وجد الفقراء فى مأساته ملهاة لهم ..
     واستعار عبد الصبور جوادا من أحد زملائه ، وركب عربته إلى البيت .. وأخذ يفكر طول الطريق فى المصيبة الجديدة التى ستنزل على زوجته وبناته عندما يعرفن ما حدث للجواد ، وأخذ يسائل نفسه ويعجب ..
     لقد مرض هو من قبل ومرضت زوجته فلم يجد من ينقله إلى المستشفى ، أو من يقوم بتمريضه .. ولقد مرض أحد أولاده منذ سنوات ومات ، ولم يجد وهو الفقير المعدم مستشفى يأويه .. فكيف نزلت الرحمة على الحيوان وأغفلت الإنسان ..!
     وظل يفكر فى هذا ومثله حتى بلغ البيت واستقبلته زوجته وبناته الثلاث على الباب كعادتهن ، ولما رأين الجواد الغريب نظرن إلى عبد الصبور مستغربات ..
     فقال وهو يضرب كفاَ بكف :
     " أخذوا منى الحصان يا ستى "
    وبكت المرأة وسالت دموع الفتيات .. ودفعوا جميعا العربة إلى حظيرتها ، ودخلوا البيت وأغلقوا الباب ..
     ولم يتعش عبد الصبور وكذلك أسرته .. وخيم على البيت جو من الحزن الكئيب .. ولما كان وجود عبد الصبور فى البيت سيزيده حزنا على حزنه ، فقد خرج إلى المقهى الذى اعتاد الجلوس فيه كل ليلة ..
     وجلس يشرب الشاى الأسود ويدخن " الجوزة " ورأى الجالسين فى المقهى يلعبون النرد والورق .. وكان يود أن يتحدث معهم ويقص عليهم قصته ..
     ولكن أحدا منهم لم يعره سمعه .. فجلس وحيدا على رصيف المقهى ، وكانت العربات تمر أمامه فى الطريق .. وحوافر الجياد تضرب فى الأرض وكان ينظر إليها متحسرا ، وتذكر جواده المسكين ..! ولم يكن يدرى ماذا يفعل .. وأخيرا نصحه أحد الأفندية بأن يكتب إلى مدير " الشفخانة " فغادر المقهى وهو يفكر فى هذا ..
     ولما رجع إلى البيت ، علم من زوجه أن فى المنزل الحديث المواجه لبيتهم طالبا فى كلية الطب .. وقد يساعدهم فى محنتهم .. وذهب إليه عبد الصبور فى الصباح فلم يجده .. وعاود الكرة مرة أخرى فى المساء هو وزوجته ودرية كبرى بناته ..
     ودخلوا على الطالب فى غرفته ، وكان جالسا على مكتب صغير عليه أكداس من الكتب والأوراق ، ونهض من مقعده ، وصافحهم ورحب بهم ، وأجلسهم أمامه فى نصف دائرة على كراسى من القش ..
     ونظرت إليه درية ، وكان نحيلا شاحب اللون .. حتى ظنت أنه لايجد كفايته من الطعام ..
     وهمست فى أذن والدها بما يدور فى خاطرها ، فقال لها أن ذلك من كثرة الاستذكار ..! فعجبت لهذا وصمتت ..
     واستغرب الطالب لزيارتهم له ، ولم يكن يختلط بسكان الحى ، وظنهم من أقرباء خادمته العجوز ، ولهذا احتفى بهم وقدم لهم القهوة ..!
     ولما حدثه عبد الصبور عن الجواد ، نظر الطالب إلى درية .. وقال وهو يبتسم :
     ـ اننى طالب طب يا عم عبد الصبور .. طب بشرى لا بيطرى ، ومع هذا سأرى المسألة ، فإنى أعرف الدكتور عصمت وهو طبيب بيطرى فى المدينة ومن أصدقاء والدى وسأذهب إليه غدا ..
     فشكره الأسطى وانصرف هو وأسرته ..
***  
     وفى اليوم التالى أرسل عبد الصبور إلى الطالب زوجه ومعها درية لتسألا عن الجواد .. فاستقبلهما بترحاب أكثر ، وقال لهما :
     ـ إن الجواد مجروح حقا .. ولا يمكن لأحد أن يخرجه من الشفخانة إلا بعد أن يشفى تماما ..
     وخرجتا من عنده حزينتين ..
     وكانت درية تفكر وهى راجعة إلى بيتها فى هذا الطالب المسكين وتعجب لشحوب لونه واصفرار وجهه ..
     ولما هبط المساء ظلت طول الليل تفكر فيه .. إنه صموت قليل الكلام ، ولكنه عندما يتحدث .. يتحدث فى هدوء ، وكان يطيل النظر فى وجهها ، وكانت هى تضطرب لهذا ولا تعرف السبب ..!
     وبعد يومين من المقابلة الأولى والثانية ، كان طالب الطب يشغل كل وقتها وكل تفكيرها ..!
     كانت تفكر فيه نهارها وليلها ، تراقبه من نافذتها فى النهار .. وتراه وهو خارج إلى الكلية .. وتبصره وهو عائد منها .. وترى نور غرفته فى الليل ، وهو ساهر يستذكر دروسه .. وكانت تسهر حتى يغلق النافذة .. ويطفىء النور .. وتظل تتقلب فى فراشها وصورته لاتبرح ذهنها إلى الصباح .. ولم يكن هو يحس بشىء من شعور درية نحوه ، لأن اعجابها به كان صامتا ..
      وتطور الاعجاب على مر الأيام إلى حب أكيد تغلغل فى الأعماق ، ونفد إلى سويداء القلب .. وكانت سلوتها الوحيدة أن تراه عن قرب ، وتروح وحدها لتسأله عن الجواد ..
     وكانت تتمنى من كل قلبها أن يظل الجواد فى " الشفخانة " لتجد السبيل إلى الذهاب إلى بيت الطالب ..!
     كان الحب قد استبد بها وأخذ منها كل مأخذ .. وكانت تتحدث إلى الطالب ، وهى لاتقوى على رفع عينيها إلى وجهه ، كانت تنظر إليه فى استكانة وذلة .. كانت تحبه إلى درجة العبادة ، وكانت تتمنى أن تقبل قدميه ، وتمرغ وجهها فى رجليه ..
     وبعد أيام عاد الجواد إلى البيت وسروا به جميعا ورقصوا طربا لمقدمه إلا درية .. فإنها حزنت لذلك حزنا شديدا .. لأنها لن تجد بعد ذلك سببا يدعوها إلى زيارة الطالب فى بيته .. حزنت غاية الحزن ، وكانت تنظر إلى الجواد فى غضب ومقت شديدين ..
     وساءت بها الحال حتى هزلت ومرضت .. وامتنعت عن تقديم الطعام والشراب للجواد .. وتركت هذا لأمها وأختها حسنية ..
      وكانت كلما مرت على الجواد تحدثه بصوت خافت :
     " لماذا عدت أيها الأحمق .. ألا تعرف حبى ..؟ لماذا لم تتمارض من أجل درية المسكينة ..! ألست عزيزة عليك ..؟! "
وذات ليلة كانت ساهرة فى فراشها ، وقد بلغ منها الغضب مبلغه ، وسمعت صهيل الجواد ، وخطر لها خاطر سريع .. فتناولت سكينا ونزلت إلى فناء البيت حيث الجواد ..
     هبطت السلم على أطراف أصابعها ، حابسة أنفاسها حتى اقتربت من الجواد .. ووقفت بجواره خائفة ترتعش أكثر من دقيقة كاملة .. وكانت تفكر .. لو أنها جرحته فى رجله فقد يرفسها رفسة قاتلة .. ووقفت تفكر وتتخير المكان الملائم ..
     وبصر بها الأسطى عبد الصبور ، وهو عائد من الخارج .. رآها واقفة بجوار الجواد وفى يدها السكين ، فنظر إليها فى عجب ودهشة ، ولم يستطع أن يفهم شيئا ..!
===============================  
نشرت القصة فى صحيفة " السوادى" بتاريخ 2/2/1948 وأعيد نشرها فى كتاب " العربة الأخيرة " ل محمود البدوى سنة 1948  
================================

     



ليلة لن أنساها

       كان ذلك فى أوائل الصيف .. والحرب على أشدها وكانت القاهرة تعج بالجيوش الإنجليزية  منها يذهبون إلى الميدان وإليها يعودون  حيث يمرحون ويعيثون فسادا فى هذا البلد الطيب .. وانتشر التيفوس فى القاهرة وسقط أخى صريع المرض .. ورأى الطبيب نقله إلى مستشفى الحميات فى الحال .. وأستدعى عربة المستشفى وجاءت بعد أربع ساعات .. فقد كانت الحمى منتشرة فى ذلك الوقت كالطاعون وكانت عربات المستشفى تعمل طول النهار وطول الليل فى نقل المرضى ..
وأنزلنا أخى إلى العربة وأضجعناه على السرير فى داخلها وجلست أمامه وجلس بجوارى عمال المستشفى .. وكانت العربة قذرة من الداخل والخارج .. والفراش الذى تمدد عليه المريض أشد قذارة من ملابس الممرضين وكان منظرها كئيبا يبعث الانقباض إلى النفس ..
وجلست صامتا طول الطريق فلم أتبادل كلمة واحدة مع إنسان وكان أخى يدور ببصره فى سقف العربة يهذى .. ولم يكن يحس بشئ مما حوله .. وكانت العربة ترض أجسامنا .. والغبار يتطاير منها فى الطريق .. والجو خانق الحرارة ..
وعندما بلغنا العباسية صعدنا فى طريق المستشفى الطويل المترب رأيت نعوشا تنحدر إلى المدينة .. كانت خارجة من المستشفى إلى المقابر وليس آلم للنفس من هذا المنظر .. إنه يغرقك فى طوفان من الأحزان ..
ولما دخلت المستشفى ووجدت هذه الوجوه الشاحبة وهذه الأجسام الهزيلة ممددة على الأسرة وحولها الذباب تملكنى رعب قاتل .. وحاولت أن أنسى صورة هؤلاء التعساء الفقراء الذين رأيتهم فى خيام المستشفى .. حاولت أن أنسى كل هذه الصور البشعة وأنا راجع وحدى فى الطريق .. بعد أن ولى النهار وخيم الظلام .. واختفت النعوش من الطريق المنحدر .. حاولت أن أنسى كل هذا ولكنى كنت أحاول عبثا ..
كانت هذه أول مرة أدخل فيها المستشفى وكان ما شاهدته أكثر مما تتحمله أعصابي فأخذت وأنا راجع وحدى فى ذلك الشارع الطويل المقفر أتمثل هذه الأشباح الآدمية وقلبى يذوب حسرات ..
ركبت الترام ولا أدرى كيف بلغت منزلى .. فقد كنت كمن فقد عقلة جملة واحدة ..
بحثت عن مفتاح الباب فى جيبى فلم أجده وتذكرت أنى  تركته داخل البيت وأنا ذاهب إلى المستشفى ووقفت ساهما .. فقد ضاعف هذا الحادث من أحزانى .. فما الذى أفعله فى هذه الساعة من الليل وليس لى قريب فى القاهرة ..؟ وليس معى من النقود ما يكفينى لركوب سيارة إلى قلب القاهرة والنزول فى فندق ..
ضربت الباب بقبضتى فى عنف وقوة .. وسمعت صوتا نسائيا آتيا من أعلى :
-      مين ..؟
سمعت هذا الصوت لأول مرة وتذكرت أنه يسكن فى أعلى البيت بقال صغير متزوج  يشغل غرفتين على السطح ..
فقلت بصوت خافت :
-      أنا صلاح ..
وسمعت حركة ثم رأيت نور مصباح يلقى بضوئه على السلم وسقط النور على وجههى وأنا أرفع رأسى ثم تحرك الضوء إلى الحائط  وهبطت حاملة المصباح السلم .. ورأيتها وهى تنزل الدرج فى تؤدة ولين وأحسست بجو عطرى يملأ خياشيمى .. على الرغم من رائحة البترول المتصاعدة من المصباح المحترق ..
وقفت على درجتين فوقى .. فرفعت وجهى إليها وقلت :
-      نسيت المفتاح .. تسمحى بأى مفتاح أجربه ..؟
فقالت مسرعة :
-      حاضر .. وازى أخوك ..؟
-      بخير ..
فصعدت السلم مرة أخرى وعادت وهى تلهث وناولتنى المفتاح ..
وجربته فى الباب فلم ينفتح .. وحاولت معالجته بالقوة فاستعصى علىّ .. فوقفت يائسا مطرقا .. وسمعتها تقول :
-      اتفضل بات فوق ..
فاعتذرت .. وألحت .. ولم أر أمامى سوى هذا السبيل .. وكان التعب قد بلغ منى منتهاه فصعدت وراءها ..
وبلغنا السطح .. ودخلت أمامى إلى غرفتها .. وكنت أتوقع أن أرى زوجها نائما .. فلما لم أجده .. سألتها عنه .. فقالت :
-      انت مش عارف ..؟ ما هو محبوس ..
-      ليه ..؟
-      باع علبة كبريت أزيد من التسعيرة ..
ضحكت ..؟ بقال صغير يقع فى يـد القانون وكبار اللصوص يمرحون فى الأرض ..!
-      وبتنامى هنا وحدك ..؟
-      أيوه ..
وجلست على كرسى خشبى أنظر إلى أثاث الغرفة وقد كان يدل على فقر شامل .. كنبه باهتة اللون فى مدخل الباب .. وسرير حديدى فى زاوية من الغرفة .. ومرآة مهشمة فى الحائط .. وبعض الملابس معلقة على مشجب وعلى شباك السرير وكل شيء يدل على الكآبة .. أما الغرفة الأخرى فقد جعلتها كمطبخ ومخزن ..
وجلست صامتا أحدق فى ذبالة المصباح وهى تتمايل مع الهواء ..
وأخذت صاحبتى تتحرك أمامى فى نشاط وحيوية .. وهيأت الغرفة وسوت السرير .. وملأت القلة ..
وشعرت بأنفاسها العبقة .. وهى تروح وتجئ أمامى .. وأحسست بالراحة وانزاح الهم عن صدرى .. وتجدد نشاطى كله .. ونسيت ما كابدته طول النهار من شقاء وتعب ..
وأخذت أحادثها حتى مضى جزء من الليل وعلمت من حديثها أنها تعرف كل شيء عنى على الرغم من أننى لم أرها سوى هذه المرة وتلك هى طبيعة المرأة .. حدثتنى أنها شاهدت العربة وهى تحمل أخى وشيعتها بالدموع .. وكانت تود فى الصباح أن تحدثنى عندما أبصرت الطبيب ورأت ما على وجهى من مظاهر الاضطراب الشديد ولكن الحياء عقد لسانها .. فشكرتها على هذا كله ..
ولما أشارت إلى السرير لأنام رفضت وطلبت منها أن تفرش لى فى خارج الغرفة على السطح .. فأبت .. ثم رضخت لما رأت إلحاحى الشديد ..
وتمددت على الأرض .. وعيناى إلى النجوم فى السماء الصافية الأديم .. لقد نمت فى العراء من قبل على سطوح المنازل فى الريف .. وفى قلب الحقول .. ولكننى لم أشعر فى أيامى الخوالى بما شعرت به فى تلك الليلة من توتر وقلق واضطراب ..
إن على قيد خطوات منى امرأة غريبة فى ربيع عمرها .. وتعد فتنة فى بنات جنسها .. قد أطفأت المصباح .. وتركت باب غرفتها مفتوحا تكرما منها وتأدبا .. وأنا أسمع بين كل لحظة وأخرى حركة جسمها على السرير .. فكيف أنام ..؟
أخذت أعد النجوم فى السماء حتى غفوت .. واستيقظت مع الفجر .. وأنا شاعر بالعطش الشديد .. وبحثت عن القلة حولى فلم أجدها .. ثم رأيتها وقد وضعتها على منضدة رخامية قرب الباب .. فاتجهت إليها .. ودخلت الغرفة على أطراف أصابعى .. مخافة أن تصحو صاحبتى .. ووقع نظرى عليها وهى نائمة على السرير .. وقد تهدل شعرها وانحسر ثوبها عن ساقيها .. وقفت عند مدخل الباب أنظر إليها وإلى القلة وأسائل نفسى :
- من أين أرتوى ..؟
وشعرت بخفقان شديد فى قلبى .. وباضطراب سرى فى جسمى .. وبالعرق قد أخذ يسح على جبينى .. ووقفت فى مكانى ساهما .. وبصرى معلق لا يتحول عنها .. ولو فتحت عينيها فى تلك اللحظة وشاهدتنى لأنكرتنى ..
شربت ورجعت إلى السطح .. ووقفت على حاجزه أرقب المدينة الشامخة وهى تتنفس مع الصبح .. وظللت فى مكانى مستغرقا فى خواطرى حتى لاحت خيوط الشمس .. فانثنيت عن الحاجز .. فوجدت صاحبتى قد استيقظت .. وأخذت تنشر فراشها ..
فقالت وهى تبتسم فى رقة :
-      ازى ما أصبحت ..؟
-      الحمد لله أشكرك ..
-      نمت كويس ..؟
-      أيوه ..
-      ما فيش برد ..؟
-      أبدا ..
-      ولا تخافشى وحدك ..؟
فضحكت ..
-      أنا فلاح .. حرست وحدى الأجران فى الغيطان .. وفى قلب الليل ..
-      على كده كنت الليلة حارسى ..؟
-      وحافضل حارسك لغاية ما يرجع زوجك ..
ونظرت إلىّ نظرة طويلة وصمتت ..
وجئت بنجار فتح الباب .. ودخلت معى الشقة .. ولما رأت ما فيها من غبار وسوء نظام طلبت منى أن أعطيها المفتاح .. فأعطيته لها بعد أن شكرتها .. وانصرفت إلى عملى ..
وكنت أعود من قبل إلى البيت متثاقلا وبعض الأحيان لا أعود إلا فى الليل لأنام .. فقد كان البيت ثقيلا على نفسى .. لم يكن لى فيه ما يؤنسنى .. أما الآن .. فقد رجعت سريعا .. ووجدتها قد قلبت كيان البيت كله ..
نظمت كل شيء .. وغسلت لى ملابسى .. وطبخت أيضا .. وأكلنا معا .. وذهبت إلى المستشفى لأعود أخى ..
عدت بعد الغروب .. ولما سمعت حركة أقدامى على السلم هبطت إلىّ مسرعة وطمأنتها على الحالة فسرت .. وتعشينا وجلسنا نتحدث على السطح .. ولم يكن فى المنزل أحد سوانا ..
فقد كان فى الطابق الأرضى أحد الأجانب وكنت لا أراه إلا لماما .. فقد كان تاجرا كثير السفر بين القاهرة والإسكندرية .. أما زوجته فقد كانت دائما مغلقة عليها الباب .. ولا تختلط بأحد من السكان ..
وبقينا على هذا أسبوعا كاملا .. وفى كل ليلة كانت تثور غريزتى .. وفى كل ليلة كنت أكبح جماح نفسى وأردها عما تبغى . وفى كل ليلة كان يعاودنى الشيطان فيحدثنى .. أن الظروف جمعتنى مع امرأة حلوة فى بيت واحد وهى الآن فى متناول يدى .. وإذا لم أرو منها شبابى الآن فلن أستطيع ذلك غدا .. وهى فرصة ذهبية أتيحت ولن تعود ..
***
رجعت من المستشفى ذات يوم وأنا فى حالة شديدة من اليأس .. فقد ارتفعت حرارة أخى إلى درجة خطيرة .. وغاب عن وعيه مرة واحدة .. وتركته بعد الساعة الثامنة مساء وأنا أجر نفسى فى طريق المستشفى جرا ..
ركبت الترام ونزلت فى قلب القاهرة .. وقادتنى رجلاى إلى حان من الحانات .. وأخذت أشرب لأغرق فى الكأس أحزانى وأخدر أعصابى وكان فى الحان كثير من الجنود الانجليز .. يملأون الدنيا صياحا .. ويغنون أغانى بشعة .. وكنت أنظر إليهم بغيظ مستعر .. وأود لو أحطم أنوفهم ..
وبلغت البيت قبل منتصف الليل .. وأحست بى سعدية ولعلها كانت تنتظرنى .. فهبطت مسرعة وابتدرتنى بقولها :
-      شغلتنى .. ازى الحال ..؟
فصمت ولم أقل شيئا .. ورفعت إليها عينين حمراوين تجول فيهما الدموع .. واقتربت منى .. ووجهها على فمى .. فقلت بصوت خافت :
-      فى أسوأ حال ..
فوضعت يدها على عاتقى وقالت :
-      فكر فى رحمة الله ..
ولم أكن فى ذلك الوقت أتوقع رحمة من الأرض أو من السماء ..
ودخلت إلى غرفتى .. وجلست على الفراش وأنا مطرق برأسى .. وشعرت كأنى أحمل وحدى شقاء الناس جميعا .. اقتربت منى سعدية وجلست بجانبى .. ومدت وجهها إلىّ وقالت :
-      صلاح .. انت سكران ..؟
فأمسكت بيدها .. ونظرت إلى عينيها ..  وسبحت عيناى فى الضوء والبريق والظلام ..
سبحت عيناى .. وجردتها بخيالى من كل ملابسها .. وتمثلت لى الفتنة التى تطل من كل شيء فيها .. 
وطوقتها بذراعى وهى تتمنع .. ثم لانت أخيرا .. واستسلمت ..
***
وفى صباح اليوم التالى ركبت الترام إلى المستشفى .. وكنت أشعر بقلق وخوف ورهبة ..
كانت مئات الخواطر السوداء قد طافت برأسى .. كنت أقدر أن نقمة السماء نزلت بى ..! لهذا تشاءمت جدا ودخلت المستشفى وجريت مسرعا إلى غرفة أخى ..
كان سريره خاليا .. فتسمرت فى مكانى ..
رأيت الممرض داخلا .. وفهمت من نظرته كل شيء .. لقد انتهى أخى فى الليل .. وهو الآن فى ثلاجة المستشفى ..
***
ومع الشمس الغاربة .. كنت أسير وحدى منكس الرأس حزينا واجما .. إلى المحطة .. وتركت القاهرة إلى الأبد ..
ــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
ــــــــــــــــــــ













الدرس الأول


     كنت قد تبطلت نصف عام كامل وضاقت بى سبل العيش فلم أوفق لعمل فى طول هذه المدينة وعرضها ..
     كان هناك قدر عات يسد فى وجهى السبل وحظ عاثر يأخذ علىَّ كل طريق وأخيرا بدا لى أن أفعل شيئا ..
     فقد درست الموسيقى فى أيام الحداثة دراسة لا بأس بها ، فلماذا لا أعطى دروسا لعشاق هذا الفن الجميل ..؟
     وعلقت لافتة كبيرة على شقتى الصغيرة فى شارع حسن الأكبر وانتظرت الفرج ..
     ومضى شهر كامل ولم يحضر أحد ..
     وكنت أتضور جوعا وأعانى عذاب حرمان لايصور ، وكان الوقت شتاء ، فاجتمع علىَّ البرد والجوع والعذاب الأسود ، وكنت كلما نزلت إلى الشارع ولمحت اللافتة الكبيرة المعلقة على شرفتى أزداد غيظا وحنقا ..
     وكان هناك سيرك شعبى بالقرب من ميدان باب الخلق وعلى مسافة قصيرة من المنزل ، وكان دائما صخابا عامرا بالناس ، وكنت أسمع منه كل مساء موسيقى رخيصة مبتذلة ، فيأخذنى الدوار ، ويشتد سخطى على الناس أجمعين ..
***  
     وفى مساء يوم سمعت الجرس يدق ، فأسرعت إلى الباب وقلبى يضطرب بين ضلوعى ، ورأيت على الباب فتى نحيلا فى مقتبل العمر ، يحرك يديه فى اضطراب وعلى وجهه دلائل الارتباك الشديد ..
     وقال فى صوت خافت :
     ـ أهذه شقة أستاذ الموسيقى ..؟
     ـ أجل ..
     ـ أريد أن آخذ دروسا ..
     ـ تفضل ..
     وأدخلته فى غرفة صغيرة مطلة على الطريق ، كان بها بعض الآلات الموسيقية ، زصور كثيرة على الجدران .. لـ سيد درويش .. وبيتهوفن .. وفاجنر .. وموزارت .. وشوبير ..  
     وجلست إلى مكتبى ، وجلس الشاب أمامى منكمشا على نفسه ، ولاحظت بعد قليل أن يده اليمنى ترتعش قليلا ، كما أنه يهز ساقيه ولا يستطيع الثبات على كرسيه إلا بجهد عظيم ، وأدركت من النظرة الأولى إلى عينيه ويديه أنه يعانى اضطرابا عصبيا شديدا ، فتلطفت معه فى الحديث حتى زال ارتباكه وهدأت أعصابه نوعا ..
     ثم سألته :
     ـ أى آلة تحب أن تتعلم ..؟
     ـ الكمان ..
     ـ هذا حسن .. ومن الذى أرسلك إلىَّ ..؟
     ـ الدكتور هلال ..
     ـ الدكتور هلال حدثك عنى ..
     ـ لا أقصد هذا .. وإنما أقصد أن الدكتور أشار علىَّ بدراسة الموسيقى لأننى مريض بالأعصاب ..
     ـ إنك لست مريضا .. بل أنت فى أتم صحة ..!
     ونظر إلىَّ بعينين فيهما لواعج الأسى ، وصمت . وفى تلك اللحظة كنت قد تناولت العود وعزفت له قطعة تركية شجية ، ووجدته فى خلال ذلك قد أرسل بصره من النافذة المفتوحة إلى السماء الصافية الأديم ، واستغرق فى عالم الأحلام ..
     واتفقت معه على أن يحضر ثلاثة أيام فى الأسبوع ، وحيانى وانصرف ..
*** 
     وجاء لأخذ الدروس ، وكان فى الأسابيع الأولى يحضر فى الميعاد ، ثم أخذ يتأخر ولاحظت عليه الملل ، فسألته :
     ـ ألا تحب الموسيقى ..؟
     ـ أكثر من أى شىء فى الحياة ..
     ـ لماذا لا تحضر فى ميعادك إذن ..؟
     ـ إننى أجاهد فى كل مرة ، ولكننى لا أستطيع .. مرة يأخذنى النعاس ومرة أخرى أجد نفسى جالسا فى غرفتى وأحس بشىء ثقيل يحط على صدرى ويمنعنى من الحركة .. فأظل فى مكانى ساعة وأنا أفكر .. ويلذ لى التفكير وأسائل نفسى : ما جدوى كل هذا ..؟ باطل الأباطيل .. موسيقى ..! ولمن أتعلم الموسيقى ..؟ ولماذا ذهبت إلى كل هؤلاء الأطباء ..؟! ولماذا لا أموت وأستريح ..؟
     ـ يجب أن يكون لك هدف فى الحياة ..
     ـ هدف ..
     قال هذا فى استخفاف وقهقهة ، ثم نظر إلىَّ بعينين منطفئتين وقال :
     ـ إننى هالك يا سيدى إن لم يكن اليوم فغدا .. وأنا أغالط نفسى وأطاوع زوجتى وأذهب إلى الأطباء ، ولكنى أعرف فى دخيلة نفسى أن لا فائدة ترجى من هذا كله ..
     ولأول مرة أعرف أنه متزوج ، ولم يكن يدور فى خلدى ذلك قط ، فهو أشبه بطالب صغير فى مدرسة ثانوية ، فى كل حركاته وسكناته دلائل الطفولة ..
     ـ وسألته :
     ـ أين تسكن ..؟
     ـ فى مصر الجديدة ..
     ـ ولهذا تتأخر ..
     ـ ليس للمسألة دخل فى هذا ، وإنما أنا مريض .. مريض ..!
     فابتسمت فى وجهه وناولته الكمان لأول مرة ، فقد رأيت أن أعفيه من دراسة النوتة قبل أن يسأم وينصرف عن الدرس كلية ..
     ومرت شهور ولم يتقدم فى خلالها شيئا ، وكانت أصابعه تسيل عرقا ، مع أننا كنا فى صميم الشتاء ، ويده التى تمسك بالقوس تنتفض دائما ، وكان يلاحظ هذا أكثر منى ، ويظهر على وجهه الألم ..
     وكنت أتجاهل ذلك ، وأبذل معه كل جهد مستطاع لأجعله يتقدم ، ويحس فى أعماق نفسه بالراحة ، وبأنه أصبح شيئا وبذلك تعود إليه سكينة نفسه ، ولكن جهدى كله كان يذهب هباء ، فقد كانت يده دائما ترتعش وأصابعه لا تثبت فى موضعها ، وكان يعانى من ذلك غما شديدا . واشتد عليه الألم مرة فوضع الكمان والقوس جانبا ، وجلس يبكى كالأطفال ، فتركته حتى هدأ ، ثم عرضت عليه أن يتعلم العود لأنه أسهل كثيرا ، وبعد شهور قليلة سيجد نفسه عازفا للمقطوعات التى يحبها . ولما الفيته قد استراح إلى كلامى هذا وعاد إليه الأمل من جديد ، قلت له :
     ـ وسأوفر عليك مشقة الحضور بإعطائك الدروس فى بيتك ..
     وسر لهذا كثيرا ..
*** 
     وذهبت إليه فى بيته ، وفتحت لى الباب سيدة شابة رائعة الجمال ، وكأنها كانت تتوقع قدومى ، فما رأتنى حتى دعتنى إلى الدخول وهى تبتسم فى رقة بالغة ، ووجدت تلميذى جالسا فى الصالة ، فنهض واستقبلنى مرحبا وقدمنى للسيدة التى فتحت لى الباب ، وهى زوجته ، ومدت لى يدها الرخصة ..
     وجلسنا نحن الثلاثة حول مائدة صغيرة نتحدث ، واسترسلت معها فى الحديث حتى نسيت الدرس ، ونسيت أنها أول زيارة لى فى بيتها ، والحق أن الهدوء الذى وجدته فى البيت جذبنى إليه ، فلا ضوضاء ، ولا صياح أطفال ، ولا صوت خدم ، وإنما سكون مطلق ، وجمال وبساطة فى الأثاث ، وكانت السيدة " اسبور " صبوحة المحيا ، رقيقة المشاعر ، وكان وجهها ساكنا ، وعليه مسحة حزن ظاهر ، وعيناها نديتين براقتين فى سواد أخاذ ..
     وابتدأت الدرس مع زوجها ، وتركتنا فى أثناء الدرس لتعد العشاء ..
     وبعد الدرس عزفت لهما أكثر من ساعة على العود ..
     وحملتنا الموسيقى على أجنحتها الذهبية إلى رياض البسفور ، وسرت السيدة كثيرا عندما علمت بأننى تعلمت الموسيقى فى استامبول ، وتمنت أن تذهب مع زوجها إلى هناك ، ولعل سحر البسفور يحدث فى نفسه أثرا ..
***  
     وتقدم رمزى فى دروسه ، وتكررت زياراتى لمنزله حتى أصبحنا صديقين ، ولاحظت أن الرابطة بينه وبين زوجته مقطوعة ، فهو يبغضها بغضا شديدا ، ويحتقرها فى أعماق نفسه ، ويشعر بالراحة والسكون كلما ابتعدت عنه ، وكنت أجاهد لأقرب ما بينهما من مسافة ، ولكن جهودى كلها ذهبت دون جدوى ، فقد كان منطويا على نفسه ، زاهدا فى المرأة ، أو عاجزا عنها ، ولعل ذلك هو علة أعصابه . وكان كلما شعر بعجزه أمامها اشتد كرهه لها ونفوره منها ، وكان شعوره بالنقص وإحساسه المرهف بحاله قد أتلف أعصابه . والواقع أن وجود المرأة معه تحت سقف واحد قد زاده عذابا وألما ، على خلاف ما كان يقدر الطبيب ..
     وقد سألت زوجته عن أسرته ، فعلمت أن أمه كانت أجنبية وقد تزوجها أبوه وهو يدرس فى الخارج ثم عاد بها إلى مصر ، وكان هناك نزاع دائم مع أسرته بسببها ، وكانت دائما حزينة عليلة ثائرة ، وفى هذا الجو العاصف وضعت رمزى ، وفى العاشرة من عمره ماتت وتركته لأبيه ، وكان يحبه كثيرا ، فنشأ مدللا ، ثم مات أبوه وخلف له إرثا يغنيه عن الناس ، ولكن رمزى كان يقف على عتبة الحياة وحيدا عليلا لايعرف الكفاح ، فسقط صريع المرض .. وأشار عليه الأطباء بالزواج ، فتزوج من هذه المسكينة التى كانت تعانى كثيرا فى عشرتها معه ، فقد كان يثور لأتفه سبب ويبكى كالأطفال ، ويلعنها ويسبها أمامى ، وهى صامتة صابرة ، وفى عينيها الدمع ..
***  
     وكنت مرة فى بيته ساعة الغروب ، وسمع جرس الباب يدق ، فلاحظت أن وجهه أصفر ، ومشى إلى الباب وهو يرجف ، ثم رجع دون أن يفتحه ويرى من الطارق ، وأخذ يصيح فى وجه زوجته :
     ـ شوفى من .. قلت لك ألف مرة لا أريد لبانا ولا خبازا يجىء إلى هنا .. لا أريد أحدا يعكر علىَّ سكونى ..
     ثم مضى إلى غرفته ، وهو يمشى فى حذر ووجل ، وأغلق عليه الباب حتى لا يحس بشىء مما يجرى فى البيت ..
*** 
     وفى الدرس التالى وجدته مريضا ، وعلمت من زوجته أنه تعارك معها البارحة ، وترك البيت ثائرا محتدا ، ثم رجع ونام فى الفراش ، ومن وقتها لم يتحرك .. وكانت صفرة وجهه وبروز عظام خديه قد أثارت الشك فى نفسى ، فحدثت زوجته عن ضرورة استدعاء الطبيب ، وجاء الطبيب ووجد عنده التهابا فى الرئة ، ونقلناه بعد يومين إلى المستشفى ..
     وكان له بعض الأقرباء يزورونه ، ولاحظ الطبيب أن وجودهم يثير أعصابه ، فمنع الزيارات عنه ، وبقيت أنا وزوجته نساعد على تمريضه ..
     واشتد عليه المرض ، فحجزنا سريرا لزوجته بجواره ، وكان يستنشق الأكسجين فى الليل ، وكنت أعاون الممرضه فى مسك الجهاز المملوء بالأكسجين ، وأظل ساهرا فى المستشفى إلى ما يقرب من منتصف الليل ، واشتد عطفى على زوجته فى خلال ذلك ، فقد كانت تسهر فى كثير من الليالى إلى الصباح وهى واقفة بجوار سريره ، ومع ذلك لاتشكو ولا تتبرم ..
     وكنت أرى هذه المسكينة تروح وتجىء أمامى  وشبابها يذبل .. وعودها آخذ فى الجفاف .. فيعصر قلبى الأسى .. لقد عاشت السنين التى قضتها معه فى برودة شديدة ، فما أحست بالدفء .. ولا شعرت بإعصار الرجولة يلفها .. ولا قوة الشباب الدافق تسرى فى كيانها ، فقد عاشت هذه السنين وكأنها ما عاشت ، ولقد أدركها اليأس وبرح بها الحزن القاتل ، وظهر على وجهها الذبول ، وروحها الانكسار ..
     وكثيرا ما التقت عيناى بعينيها الصافيتين الذابلتين .. ولمست يدى يدها .. ولمس جسمى الفوار بالدماء جسمها الذى يود لو يشتعل .. وكثيرا ماقرأت فى عينيها النداء .. ولكن إذا نظرت إلى زوجها الذى أصبح صديقى .. أحول وجهى وأغمض عينى ..
***  
     كانت ليلة من ليالى الصيف الحارة ، وكنت جالسا قرب النافذة المطلة على حديقة المستشفى ، وبصرى يسبح فى الظلام ، ثم يرتد إلى الحديقة التى لفها الظلام فى برودته ، فبدت جهمة موحشة .. كان السكون يشمل كل شىء ، وكانت الممرضة واقفة على سرير رمزى ، وبجواره زوجته ، وقرب أنفه جهاز الأكسجين ، وعلى رأسه الثلج ..
     وكان وجهه محتنقا ، وعيناه حمراوين ، وكان يهذى ولا يعرف من حوله ، ويغلق عينيه ويذهب فى غيبوبة بعيدة ، ثم يفتحهما ويحرك ذراعه المعروقة حتى يمسك بكيس الثلج الموضوع على رأسه ويرمى به بعيدا ، وتنحنى الممرضة وتعيد الكيس إلى مكانه ، وهو يرقب هذا ببصر زائغ ..
     فى الساعة العاشرة سلمت على زوجة صاحبى ومشيت إلى الخارج .. وقابلتنى الممرضة فى الممشى .. ولما علمت بأنى ذاهب اقتربت منى وهمست :
     ـ ابق هذه الليلة .. فالسيدة وحدها .. وقد يحدث شىء ..
     وسرت فى جسمى رعدة عندما سمعت هذه الكلمات وبقيت لحظة مسمرا فى مكانى ، ومرت فى ذهنى صور سريعة عن النعش والحانوتى والمقبرة ، ثم اتجهت بخطى بطيئة إلى غرفة المريض ، ولما رأتنى زوجته راجعا نظرت إلىَّ بوجه ملتاع ، وأدركت كل شىء ..
     وجلست على الكرسى ، وجلست أمامى على السرير ، وفى ركن من الغرفة ينام صاحبى هناك ، لقد جمعتنى به الأقدار فى ساعة مظلمة من حياتى ، ولقد عشت من ماله ، وأكلت من طعامه ، وتطورت العشرة إلى صداقة قوية ، وأصبحنا لا نفترق نحن الثلاثة إلا قليلا .. وها نحن هنا كما كنا .. وكما نحب جالسين فى غرفة واحدة تحت سقف واحد ، وقد مضى جزء كبير من الليل وخيم السكون ..
     رفعت بصرى إلى زوجته وقلت لها وصوتى يرتجف :
     ـ لماذا لا تنامى .. لقد نام رمزى ..؟
     فنظرت إلىَّ طويلا ثم قالت فى عذوبة حبيبة :
     ـ وأنت .. كيف أنام وأتركك ساهرا ..؟
     ـ سأنام بعد قليل فى مكانى ..
     ـ أبدا .. سأظل ساهرة إلى أن تنام ..
     هززت رأسى أسفا وصمت ..
     ومضى جزء كبير من الليل ، وانقطع كل حس فى المستشفى ، وخف وقع أقدام الممرضات فى الطرقات ، وغلبنى النعاس أكثر من مرة ، وأنا جالس فى مكانى ، وغلب زوجة صاحبى كذلك ، ولاحظت هذا فابتسمت وقالت فى همس :
     ـ النوم غلاب ..
     تحرك المريض ودفع غطاءه ، وأزاح الكيس الثلجى عن رأسه ، فنهضت أنا وزوجته معا ، وأعدنا الكيس والغطاء إلى مكانهما ، وعلى فراش المريض لمست يدى يدها ، وأحسست بها تلتهب ، وضغطت عليها دون وعى منى ..
     لقد لمست يدها من قبل مرارا ، ولكننى لم أشعر بها حارة ملتهبة كما أحسست بها فى هذه الليلة ..
     تراجعنا عن السرير ، وعاد كل منا إلى مكانه ..
     ولكننى وجدت نفسى أرتعش ، فأطرقت برأسى وأغمضت عينى .. ولما رفعت وجهى ، وجدتها تنظر إلىّ وعيناها ناطقة بأبلغ الكلام ..
     إنها تنادينى فلماذا لا ألبى النداء ..؟
     تحركت دون وعى منى ولمست يدها مرة أخرى ..
     وفى مثل الإعصار كانت بين ذراعى ..
     واستفقنا على صوت ..
     كان المريض يهذى ، وكان فاتحا عينيه ، ولكن هل بصر بنا ، وهل عرف ما حدث ، أم لايزال فى غيبوبة ..؟
***   
     انسحبت من الغرفة ، وخرجت مسرعا فى الظلام ..
     وشفى رمزى ، ولما اشتعلت الثورة العربية فى فلسطين ، كان أول من عبر الحدود إلى هناك ، وأول من قتل من الثوار ..
     وقد تعلمت من هذا الدرس الأول أشياء كثيرة عن المرأة والحياة ..

===========================================
نشرت القصة فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
=======================================




















جسد وفنان

       حدث هذا منذ أربع سنوات .. وكنت قادما من العباسية ونزلت من الترام فى ميدان السيدة زينب لآخذ عربة الأتوبيس رقم 12 إلى منزلى فى الروضة .
   وكان الميدان غاصا بالناس .. فقد كان الوقت وقت انصراف الدواوين .. وخرج الطلبة والطالبات من المدارس ..
       وكان اليوم هو اليوم الأول فى الشهر الجديد ولهذا كثر الشحاذون حول المسجد وفى طول الطريق وعرضه .. وانطلق الباعة الجائلون ينادون على بضاعتهم بصوت مزعج .. والتف حولهم بعض السابلة .. وتطاير الغبار .. وأخذ الذباب يضرب الوجوه .. وكان الترام يدور فى الميدان بطيئا مكدسا بأكداس بشرية لا حصر لها .. وحرارة الشمس القوية تشوى الأبدان ويتصبب لها العرق على الوجوه ..
       وقفت تحت الشمس .. فى قلب الميدان .. عند موقف الأتوبيس .. لأركب عربة إلى بيتى .. وكانت العربات فى ذلك الوقت قليلة .. وثلاثة أرباعها معطلا .. فإذا أقبلت إحداها وهى تتهادى فى الميدان .. تدفق الناس عليها كالسيل .. وغمروا مقاعدها ومماشيها فى ثوان معدودات .. وظلوا فى عراك وشجار مع السائق والكمسارى إلى أن يؤذن العصر فى المسجد الزينبى ..!
       وكنت تجد عربة وعربتين وثلاثا واقفات فى هذا الميدان الكبير ساعة وأكثر من ساعة وهى محملة بالركاب .. ولا تتحرك منها واحدة ..! فاذا سألت عن السبب قيل لك إنها الحرب التى أفسدت كل شيء ..
       وقد ظللت واقفا فى مكانى مدة طويلة دون أن أستطيع الركوب فى هذا الزحام الشديد وبعد لأى ومشقة استطعت أن أضع رجلى فى عربة من هذه العربات ..
       ووقفت مع الواقفين فى وسط العربة فى تلك الدائرة الضيقة وكنا نتدافع بالمناكب ونلتقط أنفاسنا بصعوبة فى هذا الجو الخانق .. وكان يقف أمامى رجل يرتدى جلبابا أزرق .. وكان أقصر منى قامة وأكثر نحولا .. ولم يكفه ما كنا فيه من ضيق وكرب .. بل أخرج من جيبه سيجارة وأشعلها فى هذا الجو المحترق من حر الشمس ..
       وأنا لا أدخن ولا أحب رائحة الدخان .. ولا شيء يثير أعصابى كرائحته فى الجو الشديد الحرارة ولهذا شعرت بغيظ شديد .. وكنت أود لو أطبق بيدى على عنق هذا الرجل .. وأكتم أنفاسه قبل أن يكتم أنفاسي ..
       وتحركت العربة وهى تتمايل بنا فنترنح معها والدخان الأزرق يملأ الخياشيم .. ورائحة العرق تدير الرؤوس حتى اقتربت العربة من مستشفى قصر العينى وهنا نزل بعض الركاب .. فتحركت إلى الأمام بعيدا عن ذلك الرجل البغيض ..
       وأخذت أنظر من النافذة الصغيرة إلى الطريق حتى اقتربنا من أول محطة فى المنيل وتحرك رجل كان يجلس أمامى لينزل فى هذه المحطة واستدرت لأفسح له الطريق .. وفى أثناء ذلك لمحت امرأة تجلس على مقعد قريب منى .. ولا أدرى كيف لم تقع عليها عيناى من قبل .. فهى ولا شك راكبة معى من الميدان .. ولكنه الغضب الذى يعمى البصر فى مثل هذه الحالة ..
       شعرت بنسمة معطرة تهب علىّ من النافذة الصغيرة التى بجوارها .. ورأيت نفسى أنظر إليها ولا أتحول عنها .. وكنت كمن كان يساق إلى الموت ثم صدر الحكم ببراءته فى آخر لحظة فأخذ يرقص من الفرح .. فقد نسيت الدخان .. والزحام والحرارة .. وأحسست بفرحة كبرى وبنشوة لا حد لها .. ونظرت إليها .. وأنا عندما أنظر إلى امرأة جميلة تتركز حواسى كلها فى باصرتى ويطل قلبى من إنسان عينى .. ولاشك أنها لاحظت ذلك فقد رفعت وجهها ونظرت إلىّ .. والتقت عيناى بعينيها .. وكانتا بسامتين .. ساجيتين .. ثم عادت تنظر من النافذة بعد أن ضمت ملاءتها السوداء على نحرها العاجى ..
       كانت جالسة .. وجسمها كله ملفوف فى ملاءتها السوداء .. ولكن الفتنة الطاغية كانت تطل من هذا الجسم المتدثر بالسواد .. أكثر مما تطل من العينين الدعجاوين .. والوجه المليح القسمات ..
       وعندما اقتربت السيارة من منزلى .. شعرت بقلبى يغوص بين ضلوعى وانتابنى غم شديد وأخذت أنظر إليها متحسرا وأسأل نفسى .. أأترك هذا الجمال النادر .. وأنزل من العربة أم أمضى إلى نهاية الطريق .. وأخيرا أبديت حركة من يهم بالنزول .. ورأيتها للمرة الثانية ترفع وجهها .. وتنظر إلىّ فى تكسر ولين ..
       وهبطت من العربة وكأنى أهبط من السماء إلى الأرض ..!
       وبلغت منزلى وخلعت ملابسى وجلست إلى مائدة الطعام لأتغدى ولكنى لم أستطع أن آكل شيئا .. كان ذهنى لا يكف عن التفكير فى هذه المرأة .. وكانت صورتها لا تبارح خيالى .. وكنت أقول لنفسى لماذا لم أتبعها وأعرف منزلها لاتزود منها بنظرة كلما برح بى الشوق ..
       وعافت نفسى الطعام واشتد بى الضيق .. ففتحت كتابا وأخذت أطالع لتلهينى القراءة عن التفكير فيها .. ولكننى كنت أحاول عبثا .. فقد كنت أجد صورتها فى كل صفحة من صفحات الكتاب ..
       وزاد بى القلق فأخذت أروح وأجئ فى أرض الغرفة ثم ارتديت ملابسى وخرجت إلى الطريق .. وفى النفس أمل بأن ألتقى بها ..
       وركبت العربة الذاهبة إلى الجيزة .. ونزلت بعد كوبرى عباس وأخذت أتصفح وجوه المارين فى الطريق .. وتصورتها ذاهبة إلى حدائق الحيوان .. فدخلت الحديقة وبقيت فيها إلى الغروب ولكنى لم أرها ..
***
       ومر أسبوع .. وذات يوم كنت أتنزه على النيل فى رياض الجيزة وكانت الشمس تجنح إلى الغروب .. وشعاعها الأصفر يلاعب أديم الماء .. وكل شيء جميل ساكن .. وسرت على العشب متمهلا أمتع بصرى بمنظر الطبيعة الخلاب .. وأملأ رئتى بالنسيم العليل .. وأشاهد الوجوه الحلوة التى خرجت لتتريض فى تلك الساعة الممتعة من النهار ..
       وكان هناك بعض من أدركهم التعب فجلسوا على الأعشاب يمتعون البصر بمنظر الغروب .. فجلست مثلهم .. واتجهت إلى النيل .. ورأيت عن بعد امرأة ترتدى ملاءة سوداء جالسة وحدها على العشب .. وشعرت بقلبى يضطرب فنهضت من مكانى واتجهت إلى ناحيتها ونظرت إلى وجهها .. يا إلهى ..! .. إنها هى .. صاحبتى بعينها ..
     وأحسست بموجة من الفرح تغمر نفسى .. واقتربت منها حتى أحست بى .. ونظرت إلىّ بعينين باسمتين ..!
       ثم نهضت من مكانها .. هل أتركها إلى حيث لا أدرى هذه المرة أيضًا ..؟
       وتبعتها فعلا .. عرجت على شارع نافع .. وهو شارع مهجور مظلم ولعلها تعمدت ذلك لألحق بها هناك وأجد فرصة لمحادثتها .. واقتربت منها .. وتحدثت إليها .. كان صوتها عذبا أخاذا .. وافترقنا على لقاء فى الغد ..
***
       وفى مساء اليوم التالى كانت فى منزلى وقد لاحظت عليها عندما اجتازت عتبة البيت لأول مرة أنه لم يظهر عليها خجل الفتاة وهى تدخل منزل رجل غريب .. كانت كأنها داخلة فى بيتها .. وأبعدت هذه الملاحظة عن ذهنى .. فكل شيء فيها ملائكى طاهر ..
       وقد سرنى منها عندما احتوانا المخدع أن تسارع إلى النور فتطفئه .. إنها لا تحب أن تقع على جسمها عين رجل ..
       وفى صباح اليوم التالى جاءت بجميع ملابسها واستقرت معى فى البيت .. ولم أكن أعرف أين كانت تودع هذه الملابس وكيف كانت تعيش من قبل ولم اسألها عن ذلك وإن كنت قد عرفت أنها لا أهل لها فى هذه المدينة .. وأنها بوهيمية تذهب إلى كل مكان ..
       وأشهد أنها ربة بيت من الطراز الأول .. وقد شعرت معها بالراحة والسعادة .. وكانت تحسن تصريف الأمور .. وحلت لى كثيرا من المشكلات المنزلية التى كنت أعانيها .. على أنها مع هذا كانت مسرفة متلافة .. وليس للمال عندها وزن ..
       وكنت إذا عدت من عملى وأخذت أخلع ملابسى لأستريح أجد بدلة من بدلاتى القديمة قد اختفت فأسألها عنها ..
       فتقول وهى تبتسم :
       " لقد أعطيتها لأم محمد .. ابنها مسكين وسيلبس البنطلون فى الصيف والجاكتة فى الشتاء ..! ستنفعه فى فصلين .. أما أنت فما نفعها لك الآن ..؟ ستأكلها الصراصير ..!! ولا ينتفع بها أحد " ..
       وكنت أجد التعليل معقولا فأسكت ..
       وبعد ذلك اختفت بدلة ثانية .. وجلباب أيضًا .. وحذاء قديم .. وأشياء أخرى . وكنت أسير فى الحى فأجد سترتى على صبى الخباز وصديرى الصوف مع صبى المكوجى .. وحذائى القديم فى رجل خادم الجيران .. وكان هؤلاء الصبية عندما شاهدونى مارا فى الطريق يحيونى فى سرور .. وما كانوا من قبل يحفلون بى ..
       وكنت أمتعض فى أول الأمر لعملها هذا وأعده إسرافا فى الجود .. ولكن ما لبثت أن أدركت خطئى .. وتبينت أنها محقة .. وأنها خيرة بطبعها وأنه كان يجب علىّ أن أفعل هذا من قبل .. وأن الفرحة التى أشاهدها على وجوه هؤلاء الصبية الفقراء لا تقدر بمال ..
       ولم تكن تكتفى بهذه الملابس بل كانت تعطيهم الطعام والحلوى وكل ما فى جيبها من قروش ..
       وكنت ألاحظ أنه على الرغم من فقرها وجهلها للقراءة والكتابة .. فقد كانت نيرة العقل نبيلة العاطفة .. ذات فلسفة فطرية ..
       وكانت تعجب بمنظر الغروب من الشرفة .. وتبتهج لكل منظر طبيعى ساحر ..
       وتقول فى سرور ظاهر :
       - ما أبدع هذا المنظر .. وما أحوجه لرسام ماهر ..
       وكنت أعجب وأسأل نفسى كيف تعرف هذه الأمية الجاهلة الرسم والرسامين ..!
       وكانت تنظر إلى الماء الجارى عن قرب منا .. وتهتز كما يهتز العصفور إذا بلله القطر وتنادينى وهى تشير بيدها إلى حيث هناك القمر الفضى يسبح شعاعه على الماء :
       ـ  منير ..
       ـ نعم ..
       ـ أود أن أستحم فى النيل ..
       ـ هيا ..
       ـ وترضى .. ؟
       وهذا سؤال فى الصميم .. فإننى كنت أغار على جسمها من الثوب الذى يضمه .. فكيف أتركه لأعين الخلق ..
       وسألتها لفكرة فى نفسى :
       ـ بلقيس .. أذهبت إلى الإسكندرية ..؟
       ـ أبدا .. عمرى ما ركبت القطار ..
       ولاشك أنها كانت تكذب فإن الذى يرى أعمالها .. ويسمع حديثها .. يعرف أنها دارت حول هذا الكوكب ..
       وكانت تظل النهار بطوله ضاحكة مرحة تغنى وهى تطهو الطعام فى المطبخ .. وهى تنشر الغسيل فى الشرفة .. فإذا ولى النهار وانتشر الظلام .. اعتراها وجوم طبيعى يلازمها الهزيع الأول من الليل كله .. فتظل تفكر فى الموت والجوع والحرمان والعذاب الأسود .. وكان المستقبل يخيفها أكثر من الحاضر وعجلة الزمن دوارة والأيام لا ترحم ..
       وكانت ككل بنات جنسها .. تحب أن تعرف دائما منزلتها عند الرجل فأنزل معها إلى السوق .. وتدور تبحث ساعتين عن حقيبة يد أو جورب أو منديل رأس ..! فإذا اشترت هذه الأشياء أو بعضها .. تركتها فى زاوية من الغرفة ملفوفة فى ورقتها ولا تستعملها قط ..
       وكنت أعمل فى مكتبة الجامعة .. وكان عملى من الصباح إلى الظهر ومن العصر إلى ما بعد الغروب .. وكانت تستاء جدا لأن أتركها فى البيت وحدها بعد الظهر ..
       وفى كل يوم كانت تتعلق بى وأنا ذاهب لعملى .. وتقول بصوت رقيق وفى عينيها الدموع :
       ـ أرجوك .. لا تذهب .. إننى أخاف وحدى ..
       ـ ومن أين أعيش .. وهذا هو مورد رزقى ..؟
       ـ ليس من الضرورى أن تعمل .. أنا لا أحب أن تتركنى وحدى .. أرجوك ..
       وكانت تطوقنى بذراعيها .. وأحس بحرارة جسمها تسرى فى عروقى فأتخاذل وأذعن لأمرها .. وأتخلف عن الذهاب للمكتبة ..
       وكانت تسر لهذا جدا .. فهى بوهيمية بالفطرة .. ولا تحب أن يخضع إنسان لنظام معين فى الحياة ..
       وكانت تستيقظ مرة مع الفجر .. ومرة أخرى كانت تنام إلى الضحى .. وكنت أغلق النوافذ فى الصباح .. حتى لا يقع على بشرتها نور ولا شعاع من شمس ..!
***
       ومرت الأيام والشهور .. ونحن فى أشد شعور بالسعادة .. وكنت أعطيها كل ثقتى وكل حبى .. وكانت تحبنى أكثر مما تحب نفسها .. وكانت على مر الأيام قد عرفت الكثير من طباعى واشتد تعلقها بى .. وكانت تبكى كلما تصورت أنها ستعود إلى الشارع مرة أخرى .. وكنت أطمئنها وأبعد هذا الخاطر عن رأسها ..
       وسمعتها ذات يوم .. وأنا راقد فى فراشى تتحدث مع شخص بالباب .. وكان صوتها خافتا .. فشعرت بسحابة من الغم تغشانى ..
ولما دخلت الغرفة .. ونظرت إلى وجهها رأيته متغيرا .. ولم يكن من السهل عليها أن تخفى انفعالها ..
وسألتها :
ـ مع من تتحدثين ..؟
فقالت على الفور .. وكأنها رتبت الجواب من قبل :
ـ حسن ابن الجيران .. عاوز الوابور ..
       ولم يكن هذا صوت حسن .. وكنت أعرف أنها كاذبة .. وصمت ولم أقل شيئا ..
       وتكرر هذا الحادث مرتين بعد ذلك فى فترات متقاربة .. وفى بكرة الصباح سمعتها تحادث الشخص نفسه بالباب بالصوت عينه ..
       وكنت أسائل نفسى .. من هو ..؟
       وشعرت بعدها بالشك ينهش قلبى .. وبهوة سحيقة تقوم بينى وبينها .. وكدت أجن وأنا أتصورها تخوننى ..
       وكنت أظل طول الليل أتقلب على مثل الجمر .. وأود لو أعمل بيدى فى عنقها وأتخلص من هذا العذاب .. وألف هذا الجسم فى أكفانه إلى الأبد ..
       وكنت أقول لنفسى .. من يرى هذا الجسم ولا يرتكب جريمة قتل فى سبيل أن ينعم به ساعة من الزمان ..
       ولقد غفرت وأنا أنظر إليها وهى فى سكرة النوم لجميع المحبين حماقاتهم ..
       وظللت أعيش معها .. وأنا فى جحيم من العذاب والشك .. ومرت أيام وأيام ..
***
       ورجعت مرة إلى البيت قبل ميعادى بساعة .. ورأيت وأنا صاعد إلى شقتى .. وكانت فى الدور العلوى من المنزل .. شابا يرتدى جلبابا وسترة .. هابطا من السلم .. ونازلا من درجات شقتى .. فلا أحد فوقى ولا سطوح للمنزل .. ودخلت البيت .. وأنا أتميز من الغيظ .. وكنت فى حالة هياج مرعب ..
       وظللت ساعة كاملة وأنا لا أحادثها .. وكان وجهها مصفرا يحكى وجوه الموتى ..
       وأخيرا سألتها بصوت جاف :
       ـ من الذى كان هنا ..؟
       فنظرت إلى طويلا وبكت .. ثم قالت :
       ـ من تظنه .. عشيقى .. ؟
       ـ ولم لا ..؟
       ـ فى بيتك ..؟
       ورجعت تبكى وتنشج نشيجا مؤثرا ..
       وكنت أعرف أنها دموع التماسيح ..
       ثم رفعت وجهها وقالت :
       ـ سأحدثك عن أمر كتمته عنك .. وكنت أود أن أحدثك به من قبل .. ولكننى كنت أخافك .. كنت أنظر إلى عينيك فى ساعة غضبك وأرتعش من الخوف .. وأقول لنفسى محال أن أحدثه عما سلف .. ولو حدثته سيطردنى .. ويركلنى بالنعال .. أما الآن فقد أصبحت لا يهمنى أى شيء .. فقد عشت ما فيه الكفاية ..
       وأردفت بعد قليل :
       ـ إن هذا الشخص الذى رأيته وأنت طالع .. فراش مدرسة ..
       ـ أى مدرسة ..؟
       ـ مدرسة الفنون ..
       ومسحت دموعها بمنديلها .. واستأنفت كلامها :
       ـ وهذا الفراش يعرفنى من مدة .. وأنا كنت أذهب إلى هناك قبل أن التقى بك .. اعمل كأنموذج .. وقد قابلت هذا الفراش من مدة فى الطريق وعرف بيتك .. وكان يجئ مبكرا إلى هنا ويعرض على العودة إلى المدرسة ولكنى دائما أرفض .. وأطرده ..
       ودارت بى الأرض .. إنها كانت تعمل كأنموذج وتعرض جسمها عاريا للطلاب .. وأنا أخاف عليها هنا من ضوء الشمس ونور الصباح ..!
       وأطرقت برأسى .. وكنت أود لو أغوص فى أعماق الأرض .. وسمعتها تقول :
       ـ كيف تعيش صبية فقيرة مثلى لا أهل لها .. لو لم أعمل هذا ..!
       كنت أعطى فى كل مرة خمسين قرشا .. ثم أعطونى أخيرا جنيها .. وبهذا المبلغ كنت آكل وأعيش .. إنك لا تعرف الفقر .. ولا تعرف الجوع وهو يعض بنابه فى الأحشاء .. ولا تعرف العذاب الأسود .. لأنك لم تجرب شيئا من هذا .. فاعذرنى .. واغفر لى ..
       ومع هذا فقد ظللت فى مكانى مدة طويلة لا أتحرك .. ولا أرفع وجهى عن الأرض .. كنت كمن ضرب ضربة قاتلة .. كنت أغفر لها كل عمل إلا هذا .. إن مجرد التفكير فى أنها كانت تعرض هذا الجسم للناس كان يذهب بعقلى .. وكنت أعتقد أن حقى عليها أكثر من حق الزوج .. وحق الأب .. وحق الأخ .. وحق كل إنسان فى الحياة .. وقد يكون هذا هو الجنون المطبق ..
       ولكن هكذا كنت معها ..
***
جمعت ملابسها وقالت لى بصوت خافت :
       ـ اننى ذاهبة ..
       فقلت لها وأنا مطرق برأسى :
    ـ ابقى إلى المساء .. وكنت لا أحب أن تخرج فى وضح النهار ..
       وفى المساء فتحت الباب فى هدوء ونزلت ..
       وكنت استمع لخطواتها على السلم .. وكأنها مطارق الحديد تعمل فى رأسى ..
ـــــــــــــــــــــــ  
نشرت القصة فى صحيفة السوادى بالعدد 73 بتاريخ 16/2/1948 وأعيد نشرها فى كتاب " العربة الأخيرة " سنة 1948
ـــــــــــــــــــــــــ   



الملهمـة

     كان إبراهيم عبد المجيد يكتب القصة القصيرة فى المجلات والصحف منذ سنوات .
     وكان يصور حياة الفقراء والبؤساء ، والذين قست عليهم الحياة وشردهم المجتمع ، أبلغ تصوير .
     كان يكتب بكثرة ويعمل ليل نهار ، ومع ذلك لم يجد لما يكتبه صدى ، ولا أثرا فى نفس أحد من القراء ، كانت كتاباته تذهب مع الريح . لم يتحدث عنه ناقد ، ولم تكتب عنه صحيفة ، ولم تصله رسالة من انسان تشجعه على مواصلة جهوده . . ! !
     ومع هذا ، فإن إبراهيم لم ينقطع عن الكتابة والنشر ، ذلك أنه كان يجد سلوته الوحيدة وناصره ومشجعه على المضى فى طريقه .. من جارته الحسناء ! وكانت أرمل فى الثلاثين من عمرها ، غضة الأهاب ، ريانة العود ذات عينين سوداوين ناعستين وأنف دقيق وخد مورد وبشرة ناصعة البياض .
     كان يراها من شرفته تقلب بيدها الرخصة المجلات المصورة التى كان يكتب فيها ، وكان يراها وهى تقلب المجلة ، وتبتسم تلك الابتسامة الفاتنة ويتصور أنها تقرأ قصته ، وتبتسم لفكاهاته ، ثم يراها مرة أخرى حزينة واجمة ، فيتصور أنها تأثرت من إحـدى قصصه المحزنة ! كان يرى كلامه مطبوعا على جبينها ، وكان يفسر كل حركة تصدر منها بأنها إيحاء من قصصه !
     وكان يتصور أنها تتبع حركاته وسكناته ، فترقبه وهو خارج من المنـزل ، وتستقبله وهو عائد إلى بيته من وراء سجف النافذة . ولهذا كان يميد من الزهو ويشعر بارتياح شديد ونشاط لاحد له وكان يكتب .. ويكتب .. غير عابىء بما يحيط به من انكار وجحود ، كان يكفيه أن هذه السيدة الجميلة تقرأ له وتعجب به .
     كان يكفيه هذا ، وكان يكتب لها وحدها ، وكان يشعر بها تغمر جوانب نفسه بنور قوى ، كانت تدفعه إلى العمل والجهاد وإن لم يتحدث إليها قط ، كان يكتفى منها بهذه الابتسامة المشرقة من بعيد .
     ومضت الأيام وهو يواصل عمله بنشاط ، وصورة جارته الحسناء لاتبرح مخيلته أبدا .
     وفى ليلة من الليالى كان جالسا إلى مكتبه يكتب كعادته ، فسمع جرس الباب الخارجى يدق ، فنهض وتوجه إلى الباب ، فألفى خادم جارته الحسناء فسر لهذا جدا ، واستقبل الخادم مرحبا !
     وقال له الخادم :
     ـ تسمح بقلم حبر ...
     وطار من الفرح ، فقد حسب أن السيدة تطلب القلم لتكتب له رسالة تشجيع !
     وأسرع إلى مكتبه ، وعاد بالقلم ، وقبل أن يعطيه للخادم ، سأله فى لهفة :
     ـ لمن .. لسيدتك ؟
     ـ لا .. لسيدى الصغير .. ستى لاتعرف القراءة ! !
     وسقط القلم من يد القصصى النابغ ، من هول الصدمة ولم يكتب بعدها حرفا .. !
=================================    
نشرت القصة بالمجموعة القصصية " العربة الأخيرة " سنة 1948  لمحمود البدوى
=================================






روح الفنان


ـ لمن أجرت الشقة ..؟
ـ لشاب من القاهرة ..
ـ شاب ..؟
ـ أجل .. وشاب أعزب ..
ـ ومعه أسرته .. ؟
ـ لا .. إنه قادم وحده .. ليس معه أحد إطلاقا ..
ـ وحده .. ؟ وفى هذه الشقة الكبيرة ..؟
ـ هذا ما عرفته من زوجى ..
ولم تسترسل آمال طويلا مع صاحبة البيت .. بل تركتها ، واندفعت إلى شقتها تبحث عن أختها الكبرى هدى ، لتقص عليها ما سمعت من فاطمة هانم ، وعرفت هدى ما دار بين أختها وصاحبة البيت من حديث عن الساكن الجديد ، الذى أجر الشقة التى تحتهم مدة الصيف ، وأخذت تكون فى رأسها صورة عنه . إنه لا شك يملك سيارة فاخرة أحسن من سيارتهم ، ولابد أن يكون حسن الملبس ، رائع المظهر ، قوياً وسيما ، ولابد أنه يدخن السيجار ..! وسيجىء ومعه الطباخ والسفرجى والخادم الخاص ... وربما خادمة ... ولا بد أن تكون الخادمة جميلة للغاية ، ولا بد أن ..
 واغتاظت هدى من هذه الخادمة ..! ومن هذا الشاب الوسيم أيضاً ..
وسألت أختها :
ـ أعرفت متى سيأتى ..؟
ـ غداً فى قطار الظهر..
ـ ليس فى السيارة ..؟ 
ـ قد تجىء السيارة بعد ذلك ..
وكفت هدى عن السؤال ، وتصورت فتى أحلامها خارجا من القطار الفاخر ، فى إحدى عربات الدرجة الأولى . والشيالون يتزاحمون على حمل حقائبة ، والفتيات فى المحطة ينظرن إليه فى إعجاب حتى يركب السيارة إلى البيت ..
وظلت هدى وأختها تحلمان بهذا الشاب ، وتكثران من التحدث عنه مدة طويلة من الليل .. ونامتا غراراً . ولما أصبح الصباح .. وقفتا فى الشرفة تنتظرانه..
 وكلما وقفت سيارة تحت البيت أخذتا ترقبان من ينزل من السيارة ومعه حقائب السفر .. وجاء الظهر ، ومر ميعاد القطار ، ولم يأت أحد بالصورة التى فى خيالهما .. وأخيراً أبصرتا بشاب يحمل حقيبته فى يده ، ويمشى فى الطريق على مهل ، وهو يقرأ أرقام البيوت كأنه محصل فى شركة النور ..!
ووقف تحت البيت ورمقه بنظرة فاحصة ثم دخل ، ونظرت الفتاتان إليه فى ذهول .. أيكون هو ..!! ذلك الرجل النحيل المشعث الشعر ، الذى يرتدى حلة قديمة باهتة ، ويجىء ماشياً على رجليه ، حاملا حقيبته فى هذا الجو الشديد الحرارة .. لا سيارة ولا خدم .. ولا شىء من آثار النعمة .. اذلك الأفاق هو الذى ظلتا تحلمان به الليل بطوله وانسحبتا من الشرفة ، بعد أن تبادلتا نظرات لها معناها ، وجلستا فى الصالة فى انتظار ساعة الغداء ..
***
وفى الأصيل أبصرتا به خارجا من البيت ، وكان يرتدى نفس البذلة .. وشعره لا يزال مشعثاً ، وهو ينحنى فى مشيته إلى الأمام .. ويمشى على مهل .. كأنه يعرج ووجهه طويل ضامر .. وخط أنفه مستقيم ، وكتفاه ضيقتان .. وظهره مقوس .. ومشى أمامهما فى طريق البحر وعيناه إلى السماء..! إنه لا ينظر إلى الناس أبداً ، لم يرفع بصره إليهما قط كما يفعل غيره من الشبان .. وغاب عنهما فى زحمة الناس ..
ولما نزلت الفتاتان مع أسرتهما للنزهة فى ساعة الغروب ، رأتاه جالسا على مقهى صغير فى الإبراهيمية وأمامه كومة من الأوراق .. هو شاخص ببصره إلى البحر .. ونظرتا إليه وكان غافلا عنهما سابحا بعينيه فى البحر ..
 وغاظهما ذلك جداً ..
ومع أنهما كانتا تنظران إليه فى استخفاف وازدراء . والصورة الخيالية الرائعة التى كونتاها عنه ، انمحت بعد أن وقع نظرهما عليه ، وظهرت هذه الحقيقة البشعة ، ولكن حب الاستطلاع حملها على معرفة كل شىء عنه ..!
ولما سألت آمال صاحبة البيت عن هذا الشاب ، وقالت لها : إنها لا تعرف عنه أكثر من أنه من القاهرة وأجر الشقة بواسطة صديق لزوجها .. ازدادت رغبة فى أن تعرف أكثر من ذلك .. أما أختها الكبرى فقد هزت كتفيها إستخفافا ، وابعدته عن دائرة خيالها ..
وكانت آمال تراه كل صباح ومساء يخرج وحيداً .. ويعود وحيداً ، ولا أحد يقوم على خدمته ... وكانت تسأل نفسها كيف يعيش ..؟ ومن ينظف له الشقة ، إنها لم تر البواب أو أى خادم فى البيت يدخل شقته قط .. فكيف يعيش هذا الرجل ..؟ كانت تراه ينزل إلى البحر قبل الغروب ، ويجلس بعيداً عن المصيفين فى ركن قصى ، وبيده كتاب . وكانت عيناه بين البحر والكتاب .. لم يكن ينظر إلى النساء العاريات كما يفعل الشبان .. إنه مستغرق فى عالم آخر .. عالم كونه بنفسه لنفسه ..
كانت آمال تنظر إليه فى عجب .. ولفت نظرها إليه شذوذه وبروده العجيبان ، وبعده المطلق عن الناس ، وكانت تود أن تعرف ما يقرأ .. كانت تود أن تعرف ما يشغله عن الناس .. وكانت تروح وتجىء أمامه .. وتنظر إلى الكتاب .. إنه ديوان من الشعر ، وجلست على قيد خطوات منه ، وهى ترمق الكتاب ، إنها تود أن تعرف هذا الشاعر الذى يشغله عن الناس ، وقرأت العنوان وكان مكتوبا بخط كبير .. إنه ديوان ابن الرومى وفى المساء كانت مع أختها فى مكاتب الإسكندرية .. سألت عن الديوان فى مكتبة المعارف ، ومكتبة الآداب ، فلم تجده وغاظها ذلك .. وكانت أختها هدى تعجب ، لماذا تسأل أْختها عن هذا الديوان ، وهى لا تقرأ الشعر ، ولا تفهم الشعر .. وأخيراً وجدت آمال الديوان فى مكتبة صغيرة .. وفتحته عرضاً وقرأت :
أعانقها والنفس بعد مشوقة إليها وألثم فاها ...
من التى يعانقها ويلثم فاها .. ! ووضعت الديوان جانباً .. ومضت إلى الشرفة ، وكان البحر يهدر ، والناس يقلون فى الطريق .. وأسرتها تعد مائدة العشاء .. ولكنها لم تكن تحس بجوع ، ولم تكن تود أن تجلس معهم . كما كانت تفعل كل يوم .. إنها تحب أن تجلس هنا وحيدة ..
ما الذى جرى لها ..؟
ولما جلسوا للعشاء .. اعتذرت بألم فى رأسها .. وبقيت فى الشرفة وسمعت النافذة التى تحتها تفتح .. وظهر النور فى عرض الطريق . إنه هو .. لقد عاد من الخارج .. وسمعت حركة فى الشرفة التى تحتها .. ولوت عنقها ونظرت .. إنه جالس على كرسى طويل ، وعيناه إلى البحر ، إنه لا ينظر إلى فوق أبداً .. إنه لا يقرأ الآن .. ولكنه يسبح فى عالم الشعر ويتأمل ؛ إنه شاعر.. ولهذا يعيش وحيداً ، ولهذا يعيش فريداً ، وبعد العشاء جاءت أختها وجلست معها ، ولأول مرة تشعر بأن أختها ضايقتها ، ولم تعرف لذلك سببا ً..
***
واستمر عبد المجيد على حاله لا يعير باله لأحد من سكان المنزل ، ولا يلتفت إلى الفتاتين اللتين كانتا تراقبانه فى غدوه ورواحه ، وفى حركاته وسكناته فى البيت ، وكانت هدى على الرغم من انصرافها عنه تعجب لشذوذه وغرابة أطواره .. أما آمال فكان يغيظها منه أنه لا يحس بوجودها معه فى منزل واحد ، وهى لم تشعر نحوه بأى عاطفة ما ، فليس فيه ما يحب .. وكل الشبان الذين تراهم حولها ، وفى البيت ، أحلى منه شكلا ، وآنق ثوبا ، وأكثر قوة ..
ولكن صورته مع هذا ... كانت لا تبارح خيالها أبداً .. وفى مرة من المرات كانت نازلة من البيت ومعها أختها ، وكان هو واقفاً على بابه يتهيأ للخروج . فلما رآهما دخل وأغلق الباب .. وقد غاظهما ذلك جداً ..
 وجعلت آمال تلعنه فى سرها ، هذا الصعلوك الأفاق .. يفعل هذا ‍..!
وضحكت هدى حتى احمر أنفها ..
وقالت وهى تميل على أختها :
ـ إنه خجول كالعذراء .. يا آمال خجول .. هذا الأفاق خجول ..
ـ إنك مخطئة .. إنه يحتقرنا .. إن أنفه دائماً فى السماء ..
ونزلتا إلى البحر ، وأختلطتا بالمستحمين من فتيان وفتيات ، وكان النهار رائعاً ، والبحر هادئاً كالحصير ..
***
بعد ايام قليلة من هذه الجفوة التى بدرت منه على السلم ، لاحظت آمال أنه لم يبرح المنزل .. لم ينزل إلى البحر ولم يتريض ، حتى غرفته المطلة على الطريق لم يفتح نافذتها .. ولم تره جالساً يطالع كما أعتادت أن تراه كل ليلة ، وهى عائدة مع أسرتها من الخارج .. أسافر .. ؟ أبداً ..! إن النور مضاء كالعادة فى الصالة ، وفى بعض حجرات البيت .. كيف يعيش هذه الأيام كلها من غير طعام .. ؟ إنها لم تر البواب ، أو أحد الخدم يحمل له شئياً من الخارج .. قد يكون مريضاً هذا المسكين .. ولا أحد يعوله ، ولا أحد يمرضه .. وتصورته وقد زاد نحولا ..!
وفى صباح يوم رأته يخرج من البيت ، وكان شاحب الوجه تبدو عليه آثار المرض الشديد .. ومشى متمهلا حتى رأته يجلس على مقهى قريب فى دائرة الشمس .. وكان قد اعتمد برأسه على كفه وأطرق ، وظلت تتأمله من بعيد ، وفى نفسها شتى الانفعالات ..
أحست نحوه بالعطف على حاله .. إنسان وحيد يمرض فى بلد غريب ، ولا يجد أخا ولا أختا ولا أما تسهر عليه ، إنه مسكين .. لابد أن تفعل له شيئاً ..
بعد ساعة رأته ينهض ، ويتحامل على نفسه حتى دخل البيت .. إنه مريض .. ومريض جداً ..
وأخذت تروح وتجىء فى الشرفة .. أترسل إليه الخادمة ..؟ ما الذى تفعله لهذا المسكين .. ووجدت نفسها تهبط الدرج ، وتنقر بيد مرتعشة على بابه ، وفتح الباب ، ونظر إليها بعينين منطفئتين ..
وكانت تنظر إليه فى إستحياء ..
وقالت أخيراً بصوت خافت :
ـ جئت أسألك إن كنت تحتاج لشىء ، فقد لاحظنا أنك مريض ... ولم تبرح منزلك منذ أيام . .
ورفع وجهه إليها فى سكون ، وقد عاد إلى عينيه بعض البريق :
ـ أشكرك .. إن هذا كرم منك ..
ـ إننى لم أفعل شيئاً حتى الآن ..
ثم حملت إليه كوباً من الليمون عصرته بيدها .. وهبطت به السلم ، وقد شعرت لأول مرة فى حياتها بشىء لذيذ هز كيانها ، وجعلها أكثر حيويةوأكثر نشاطاً ، شعرت بأنها تفعل شيئاً عظيماً ..
وتناول منها الكوب ، وقال لها ، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة وعيناه الصافيتان تنظران إليها فى سكون ودعة :
ـ أنا لا أستطيع أن أرفض هذا من يدك ..
وتمتمت بشىء ، وصعدت الدرج بسرعة وقلبها ينتفض ..
وفى الغداء أرسلت إليه حساء ساخناً وخبزاً ناشفاً ، فقبلهما ، وبعد أن تناول الطعام نام قليلاً ، ووجد أن روحه القوية وإرادته الجبارة تعملان فى داخل نفسه ، واستكثر أن يظل هكذا طريح الفراش ، وفتاة من أسرة أرستقراطية تمرضه وترسل إليه طعامها . وطرح فكرة المرض عن نفسه .. وخرج يتمشى قليلا ، ثم ركب الترام إلى المدينة وابتاع لها كتاباً لأديبة مصرية ، وأرسله إليها مع خادمتها رداً على صنيعها عنده .. وأحس بعد هذا بالارتياح الشديد ، وأزاح صورتها عن ذهنه ..
وفى اليوم التالى لم يعد يفكر فيها إطلاقاً ..
***
وجلس فى مساء يوم فى الشرفة يطالع ، وكان يرفع بصره من حين إلى حين إلى البحر ، ويرتد به إلى المارين تحته فى الطريق ، ورفع بصره مرة فرأى آمال مطلة عليه من النافذة ، وظلت تنظر إليه مبتسمة ، ووجهها يفيض إيناساً وبشراً ..
وأخيراً حركت شفتيها :
ـ كيف حالك اليوم ..؟
ـ أحمد اللّه وأشكرك ..
ـ إننى لم أفعل شيئاً ..
ـ بل فعلت كل شىء ..
ـ أبداً .. أشكرك على هديتك ..
ـ أقرأت الكتاب ..؟
ـ أجل .. ساعة ما أرسلته ‍..
ـ وأعجبك ..؟
ـ للغاية ..
وسمعت آمال من يناديها .. فحيته بإيماءة من رأسها وأنصرفت .. وعاد يقرأ ويسائل نفسه .. أيحب هذه الفتاة .. أبداً .. إنها من أسرة أرستقراطية ناعمة تتكلم الفرنسية .. وتعيش فى جو خانق من التكلف وهو رجل فقير وفنان طليق .. شتان ما بين تفكيره وتفكيرهم ‍..!
أما آمال فقد كانت على توالى الأيام تزداد وجداً به وتعلقاً . وقد وجدته رجلا يغاير غيره من الرجال .. فهى لم تره عند ما ينزل إلى البحر ، يحاول التحدث مع الفتيات كما يفعل غيره من الشبان الذين هم فى سنه .. كما أنها لم تره جالساً فى المقهى مع غيره يصخب أو يلعب النرد أو يحتسى الخمر .. إنه يعيش فى عالم خلقه لنفسه ..
وقد أعجبتها طريقته الهادئة فى الحياة ، وهو وإن لم يكن جميل الشكل ولا أخاذ المظهر ، لكن روحه هى أجمل شىء فيه ، وهى التى تأسرها ، وتأخذ بمجامع فؤادها ، وصوته دائما ينفذ إلى أعماقها ، وتحس وقعة الحلو فى نفسها .. وحديثه ليس معاداً ولا مبتذلا .. إنه لا يردد كلمات الآخرين كالببغاء الحمقاء .. وحتى عندما يصمت يكون أشد أسراً ، وأعظم فتنة ..!
تعبث يداه الناصعتا البياض بالكتاب ، وتتركز عيناه السوداوان فى عينيها .. فتحس برجفة .. وتحس بهما تقرآن سرها .. فتغض من طرفها .. وتحول وجهها عنه .. ولكنه يظل مع ذلك ينظر إليها ، وكأنه يسر لأنها ترتجف .. وكأنه يسر لأنها تحس بقوة روحه الجارفة تطغى عليها ..
وتأخر ذات ليلة فى الخارج ، ولما عاد للبيت وفتح حجرة نومه وخرج إلى الشرفة ، وجد آمال تطل عليه من النافذة .. ولعلها كانت تنتظر عودته .. وإنها الوحيدة الساهرة فى بيتها .. ونظر إليها فى عجب :
 لماذا تهتم به هذه الفتاة لماذا ..؟
وقال لها بصوت خافت :
ـ لماذا أنت ساهرة ..؟
ـ إن منظر البحر الليلة جميل .. وأنا ألقى عليه النظرات الأخيرة لأننا راحلون بعد غد ..
ـ حقا .. ؟
ـ ولماذا تسأل .. ولماذا تهتم ..؟
ـ أريد أن أتأكد لأستريح من هذه الجلبة التى فوقى ..!
ـ أنضايقك ..؟
ـ طبعاً .. فما أكثر خدمكم .. وما أكثر أطفالكم .. إننى لا أنام إلا فى الساعات الأخيرة من الصباح ..!
ـ آسفة لك ..
ـ ماذا يجدى الأسف ..؟
ـ أتود أن تعرف الحقيقة ..؟
ـ أجل ..
ـ إنهم راحلون جميعاً .. وسأبقى وحدى .. سأبقى وحدى لأجرب حياة العزلة مثلك ..!
ـ إنك لا تستطيعين أن تمكثى فى البيت وحدك ساعة واحدة ..
ـ ولماذا تستطيع أنت ..؟
ـ لقد تعودت ذلك .. ثم أنا لا أعيش وحدى بل تؤنسنى دائما أطياف أحبها ..
ـ خيالات الشعراء .. ؟
ـ سميها ما شئت ..
ـ ومتى تزورك هذه الأطياف ..؟
ـ كلما كنت وحدى ! ..
ـ سأتركك إذن لترى هذه الأطياف التى تحبها ..
ودخلت آمال ، وسمع النافذة تغلق ، وظل هو فى مكانه مرسلا بصره إلى البحر ، وفى رأسه تطوف أحلام لذيذة ، وكان السكون العميق ، والظلام المحيط به ، ومنظر البحر فى الليل وهو يصفق بأمواجه ويرقص .. قد جعله ينسى نفسه ، ويبقى فى مكانه طويلا .. ثم أحس بالبرد فنهض ، وأغلق باب الشرفة ، وذهب إلى فراشه ..
***
وفى مساء اليوم التالى سمع جرس الباب يدق ، ولما فتح الباب وجد آمال واقفة أمامه ولابسة ثوباً أزرق آية فى الذوق والأناقة .. وبيدها كتاب .. وأبتدرته بقولها :
ـ لقد جئت لك بهذا كتذ كار ..
ـ ما هو ..؟
ـ ديوان من الشعر .. !
فانتفض سروراً ومد يده نحوها ، وتناول منها الكتاب وهو يبتسم .. ونظر إليها فى سكون وقوة ... وظلت واقفة أمامه ساهمة .. فتناول يدها ، وكانت لينة حارة فى يده الخشنة .. ونظر فى أعماق عينيها وهمس :
ـ لا أدرى كيف أشكرك ..
ووجدها تتقدم نحوه وتكاد تلتصق به ، فشدها إليه ، وأغلق الباب برجله ، وضمها إلى صدره ضمة قوية ..
***
وفى صباح يوم السفر .. أدعت آمال المرض .. وبعد نزاع طويل بين الرجال والسيدات فى الأسرة ..! تغلبت السيدات أخيراً وأجلت الأسرة سفرها إلى الشهر التالى ..!
=========================================
نشرت القصة فى مجلة دنيا الفن بتاريخ 20/1/1948 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " العربة الأخيرة " سنة 1948
==========================================

حـارس القـرية


     عرفت الشيخ عبد المطلب وأنا صبى العب فى الأجران .. فقد كان حارس أجران القرية .. وأحب الناس إلى قلوب أبنائها .. وإلى قلوب الصغار منا على الأخص .
     ولم يكن الشيخ عبد المطلب حارس أجران القرية وحدها بل كان حارس القرية كلها فى الواقع .
     كانت الأجران تقع فى شرق القرية وتكون دائرة واسعة فى " العرصة " وكان بجوارها جسر القرية الوحيد .. ومنه يدخل الناس إلى القرية ويخرجون منها .. وكان " خص " الشيخ عبد المطلب فى قلب الأجران .. وكان يشرف على الأجران والجسر معا .
     وقد كان الرجل واسع الحلم طيب القلب .. فقد كان يتركنا على هوانا نمرح ونلعب فى " العرصة " ونصعد الأجران العالية وننحدر منها .. ونجرى كقطار الصعيد ونصيح ونعوى كالذئاب ..! وهو منصرف إلى عبادته .. لايرفع رأسه عن كتاب الله ، ولايسمعنا كلمة نابية .. بل كان ينظر إلينا ويبتسم فى عطف ورقة بالغين .
     ثم شببت عن الطوق ، وتركت القرية لأتعلم فى المدينة .. وفى عطلة الدراسة الصيفية كنت أعود إلى القرية ، لأعمل مع إخوتى فى الحقول .
     انقطعت عن اللعب فى الأجران ، ولكننى كنت أرى " خص " الشيخ عبد المطلب كل صباح ومساء قائما وسط البرية كأنه منارة تهدى السفن فى ظلام الليل .
     ولما كنت أحب القراءة .. وكان الشيخ عبد المطلب هو القروى الوحيد الذى أجد عنده مجموعة نادرة من كتب التاريخ والسيرة فقد كنت أذهب إليه لآخذ منه بعض الكتب .. وكنت أنتقى منها كتب السيرة على الأخص فقد كانت تأخذ بلبى .
     وكنت أنتهز فرصة الصيف عندما ننتهى من حصد القمح فأجد متسعا من الوقت للقراءة فى هذا الفراغ الكبير من السنة فلم نكن نزرع القطن فى تلك المنطقة من الصعيد ، ولهذا كنا نمضى الكثير من أيام الصيف فى فراغ ممل ..
     ثم زحفت آلات الرى الحديثة إلى هذه المنطقة وتغير الحال ، وأصبح الفلاحون يزرعون القطن والأذرة ويعملون طول السنة .
     وقد كانت أحب الساعات إلى نفسى هى التى أفرغ فيها من العمل ، وأجلس فى " خص " الشيخ عبد المطلب لأطالع وأتحدث معه ..
     كان قليل الكلام ، كثير التعبد ، نقيا ، تقيا .. وكان يحرس الأجران كلها وحده ويلعب حوله الأطفال من اصفرار الشمس إلى ما بعد الغروب .. ثم يتركونه إلى بيوتهم ..     
     ويظل الرجل فى مكانه من الخص ساهرا إلى الصباح .
     ولم يكن مسلحا ، ولا يخيف أحدا بهراوة أو عصا .. بل كان كل ما يملكه قلبه الكبير ، وروحانيته الجارفة التى يواجه بها الليل وحده فى تلك المنطقة المرعبة من الصعيد .
     وكنت أراه وحده وأنا سائر على الجسر ، وعينه إلى الشرق .. لايعبأ مما يجرى حوله ولا يخاف ولايرهب أحدا .. فأدرك عظمة الإيمان فى النفوس وأدرك سر قوته .
     وكنت إذا شعرت بالعطش وأنا عائد من الحقل أنزل عن الجسر ، وأتجه إلى " العرصة " لأشرب من " زير " الشيخ عبد المطلب . . وكان قائما بجوار الخص .
      فإذا شربت وأحس بى .. أشار إلىّ بسبابته يدعونى إليه فأعرف أنه يتعبد ، وأقترب منه فى سكون ، وأجلس بجواره على القـش .. وأرقـب شفتيـه وهمـا تتمتمان فى صوت خافت ..
      وأرى وجهه المشرق فى الظلام وهالة النور على غرته .. وخطوط الزمن على جبينه .. والبريق الساطع فى عينيه .. ولحيته الكثة تدور على عارضيه ، وتقى وجهه وهج الشمس ، ولفح الرمضاء .
     فإذا فرغ من عبادته سألنى عما عملته فى الحقل .. ثم عاد إلى صمته وتأمله .
     وكانت الكلاب تنبح فى الحقول وفى القرية .. والرصاص يدوى فى أذن الليل .. وكنت وأنا جالس معه أرى أشباحا سوداء تتحرك بعيدا .. بعيدا على شط النيل .. فأرقبها بعين ساهرة . أما الشيخ عبد المطلب فما كان يحفل بشىء من هذا كله .. كان يرسل بصره إلى أقصى الأجران ثم يرتد به .. ويعود إلى سكونه وصمته .
     وكنت أنظر إلى عينيه الساكنتين .. وجبينه الوضاء ، ونظرته الشاردة إلى السماء .. وأتأمل وأفكر .. ان هذا الرجل قد نفض يده من نعيم الحياة وملذاتها .. وعاش فى عالم كونه بنفسه لنفسه .. ولقد فهم سر الحياة وعرف معنى السعادة ، ولقد استخلص من الحياة زبدتها .. ووصل إلى أعمق أسرارها ولقد مرت عليه وهو جالس فى مكانه من الخص ألوان مختلفة من الحياة والناس .. وهو باق على حاله لم يتغير ..
     لقد ذهب من هذه القرية أناس إلى المدينة ، وعاشوا فيها يقامرون ، يشربون ويصخبون فى المواخير وسقط منهم من سقط فى الأوحال .. وذهب منهم من ذهب إلى غير رجعه وعاد منهم من عاد يرتدى القبعة ويدخن فى الغليون بعد أن عبر البحار !
     ولكن الشيخ عبد المطلب باق على حاله لم يغير جبته ، ولم يغير مكانه من الخص .. ولم يتغير له طعام ولاشراب منذ نصف قرن من الزمان .. إنه الصورة الخالدة للفلاح المصرى الجبار الذى صارع القرون ، وكافح الاستبداد والظلم والجبروت مدى قرون وقرون من الزمان .. ذاق مرارة الحرمان فى كل عصور التاريخ حتى فى عصر النور .. ومع هذا فإن جبهة الشيخ عبد المطلب لم تتعفر بالتراب قط وما حنى رأسه لمخلوق !!
     وكان على مدى البصر منه تتلألأ مدينة أسيوط بأنوارها الساطعة .. ويسطع نور " الخزان " من بعيد .. كانت المدنية تزحف هناك حيث العلم والثراء العريض .. وحيث الكهرباء والسيارات الفخمة والقصور الشامخة وتقف هنا حيث الظلام والفقر والجهالة المطبقة والأكواخ الحقيرة .
     كان الظلام الكثيف يخيم .. وكانت أشجار النخيل تحتضن بيوت القرية وتطوقها من الشرق والغرب بسياج طويل من جذوعها .. وكانت الترعة تشق القرية نصفين .. وكان هذا الخط الأبيض من الماء يزحف بين البساتين كما يزحف الثعبان فى الظلام .. وكان الجسر يجاور الترعة ويكون حاجزا منيعا وقت الفيضان وعلى هذا الجسر قام خط المدنية الأول الزاحف إلى هذه القرية الصغيرة .. عمود التليفون الخارج من المركز إلى بيت العمدة .. وهو البيت الأبيض الوحيد فى القرية .
     وكانت القرية جمعاء تغط فى سبات عميق .. ويظل الشيخ عبد المطلب وحده ساهرا فى الخص يحرس الأجران ، ويحرس القرية جمعاء .. فما من أحد يستطيع أن يسير على الجسر ، وهو منفذ القرية الوحيد ، دون أن يبصره الشيخ عبد المطلب .. وعندما يشعشع النور ، ويفرغ من صلاته ويفرش زكيبة .. ينام إلى الضحى .. غافلا عن كل ما حوله وتاركا كل شىء لله .
     وكنت أجلس فى ظل الخص ساعة الأصيل .. وأرى عن قرب هؤلاء الفلاحين المساكين ، وهم شبه عراة حفاة يعزقون الأرض ويسقون الزرع وقد التصقوا بالأرض ومالهم عنها من فكاك ..
      كانوا يعملون من مطلع الشمس إلى الغروب وأجسامهم تنضح عرقا ، وأرجلهم تغوص فى الوحل .. وما يطمع الواحد منهم بعد هذا الجهد كله فى أكثر من رغيف من الخبز الأسود وقطعة من الجبن .
      ولقد خالطت هؤلاء الناس وعاشرتهم ، وحملت معهم الفأس فى قلب الحقول .. وما وجدت فيهم شاكيا ولا متبرما .. إنهم يعملون فى صبر عجيب ، وقد نفضوا أيديهم من كل رحمة تأتيهم من الأرض ، أو من السماء .. وهم يعيشون فى حذر وتوجس وريبة ، ولا يثقون بإنسان .. ويتصورون أن الكل يعمل على تحطيمهم ..
     ويظل الفلاح ناصبا قامته للشمس حتى يسقط من الاعياء والجوع .. وهنا يطلب الرحمة من الموتى بعد أن يئس من الأحياء .. فيفزع إلى الأضرحة وقباب أولياء الله الصالحين .
     وكانت مرساة القرية على مسافة قليلة من " العرصة " وفيها رست بعض المراكب .. وكنت وأنا جالس فى الخص ساعة الظهيرة أستمع إلى طرقات العمال الرتيبة فى هذه المراكب .. كانوا يصلحونها قبل الفيضان .. وكانوا يعملون فى جهد متواصل .. كان كل من حولى يعمل ويدور كالطاحون .. وكنت الوحيد بالقياس إلى الآخرين الذى يجد عنده وقتا للتنفس والتأمل .
     وكنت أتمنى لو أعطانى الله بعض هذه القوة الجبارة ، لأحمل هذه الكتل العريضة من الخشب من اليابسة إلى الماء ، كما يفعل هؤلاء الملاحون .
     كنت أجد أنا والشيخ عبد المطلب أنيسا فى عملهم المتواصل ومطارقهم التى لاتنتهى من الصباح إلى المساء .. كانوا يغنون طول النهار فإذا هبط المساء انحدروا إلى النيل وغسلوا ما علق بهم من زيت ونفط .. ثم لبسوا ثيابا زاهية ، وصعدوا فى الطريق إلى القرية .. فإذا اقتربوا منا حيونا فى بشر ومرح .. لاشك أنهم سعداء .
     كان السكون الثقيل الشامل يخيم بعد ذلك .. وكنا نرى قلوع هذه المراكب تلمع من حين إلى حين فى جوف الليل الحالك .
***  
     وفى ليلة من الليالى خرجت من القرية قاصدا المزرعة .. فقد كنا نسقى حقل ذرة لنا ، وكان علىّ أن أسهر مع الفلاحين إلى الصباح حتى نفرغ من الحقل كله .. ومررت فى الطريق على الشيخ عبد المطلب لأشرب معه القهوة وأصلى العشاء .. إلى أن يطلع القمر .. فلم يكن من السهل على شاب مثلى أن يسير وحده فى الظلام ساعة زمانية حتى يبلغ المزرعة .
     جلست بجوار الشيخ أمام الخص .. وكان الظلام دامسا .. والكلاب تنبح ، وفروع النخيل تتمايل .. والضفادع تنقنق هناك على شط النيل .
     ولمحت شبحا يسير على الجسر ، وكان يمشى على مهل ، ولم يكن أكثر من سواد يتحرك فى جوف سواد .. ولما أصبح فى محاذاتنا انحدر عن الجسر ، ومضى فى طريق الأجران حتى اقترب من موضع الماء ، فوقف هناك هنيهة وهو يلهث كالمتوجس من شىء .. ثم دفع " الكوز " فى جوف " الزير " وسمع له صوت مصلصل فى هذا السكون الثقيل الشامل ، ورفع الإناء إلى شفتيه وشرب .. وتنفس .. ودار على عقبيه وتقدم من حيث أتى فى الطريق صعدا ..
     وهنا صحت :
     ـ من هناك ..؟
     فتوقف عن السير ، وحول وجهه إلينا وظل صامتا برهة
     ـ نعمان ..
     قال هذا واتجه نحونا .. وكان الشيخ يفرك بعض حبات القمح بين يديه ، فلما اقترب منه نعمان ، أشار إليه ليجلس فجلس أمامه .
      وكان نعمان يرتدى جلبابا أسمر ، وعلى رأسه لبدة من الصوف الأسمر كذلك ، وفى يده بندقية من أحسن طراز .. وكان شابا قوى الجسم فارع الطول حديد البصر قوى القلب ، وكان من رجال الليل فى هذه المنطقة ومن فتاكها ، وكان اسمه يتردد بعد كل حادث قتل أو سطو يقع فى هذا الإقليم ، ومع كل ما كان عليه هذا الرجل من شر وجبروت فإنه جلس أمام الشيخ عبد المطلب ، خاشعا منكس الرأس .
     ونظر إليه الشيخ وسأله :
     ـ إلى أين يا نعمان ..؟
     ـ إلى حيث تسوقنى الأقدار .. يا عمى الشيخ ..
     وخيم صمت ثقيل علينا ثلاثتنا .. وكان الشيخ يحدق فى وجه نعمان وينظر إلىّ .. ويقرأ أفكارنا ، ولكنه لايقول شيئا ، ونظرت إلى نعمان ، وعدت أتذكر أيام صباى فى القرية .. أيام كنت أصطاد السمك ، وأتسلق النخيل ، وأركب الجمال فى البرارى ، وكان رفيقى فى ذلك كله نعمان هذا بلحمه ودمه ، ولقد كان فى صباه رقيقا وادعا كالحمل ، ولكنه الآن أصبح رجلا آخر .
     كان فى صباه يصطاد العصافير ، أما اليوم فهو يصطاد الرجال ، ومن الذى فعل به هذا ؟ أطرقت وفكرت ..
      إن نعمان سرق فى صباه ليأكل .. وهو الآن يسرق للسرقة فى ذاتها ، انها لذته الكبرى ، وهو يغشى المدينة ويذهب إلى مراقصها ويرمى بكل ما معه من نقود تحت أقدام الراقصات .. ويشرب .. ويلعن شياطين الأرض .. وإذا مرت عليه ليلة ولم يطلق فيها رصاصة ، ولم يملأ خياشيمه برائحة البارود جن وطار صوابه !
     هذا هو نعمان الجالس معنا الآن ..
     قال لى الشيخ :
     ـ اعمل لنا قهوة يا بنى ..
     فتناولت عود ثقاب من نعمان ، وأشعلت النار فى الدريس .. وأخذت أحدق فى وجهه من خلال النار .. كان صارم النظرة قاسى الملامح .. وكان يخط بكعب بندقيته فى الأرض .
     وشربنا القهوة ، وأخذ الشيخ عبد المطلب يحدثنا حتى أذن العشاء فنهض وهو يقول :
     ـ قم يا نعمان إلى الماء فتوضأ وتعال لتصل معنا ..
     فأطرق نعمان وبقى فى مكانه .
     فأعاد الشيخ :
     ـ قم يا نعمان ..
     وكأنما كان صوته نذيرا من السماء ..
     وصليت وراء الشيخ .. وبقى نعمان فى مجلسه .. تتساقط حبات العرق البارد على وجهه .. وما رأيته مصفرا أغبر السحنة كما كان فى هذه الساعة .
     وتناول نعمان بندقيته ونهض ..
     فقلت له :
     ـ سأمشى معك حتى المزرعة ..
     فنظر إلىّ الشيخ وقال بصوت هادىء :
     ـ خليك أنت .. إلى أن يطلع القمر ..
     وأذعنت لأمره ، ومضى نعمان .. وابتلعه الظلام .. وبعد قليل سمعنا الرصاص يدمدم ..
     فقلت للشيخ :
     ـ إنه نعمان ..
     ـ أجل إنه هو ..
     ومضت فترة صمت ..
     وسألته :
     ـ أتظنه قتل ..؟
     ـ لن تراه مرة أخرى ..
     وأخذ الشيخ يتعبد .. فصمت .. وأخذت أفكر فى هذا الحادث ، وأتعجب من قوله :
" خليك أنت إلى أن يطلع القمر "
     ترى هل كان الشيخ يقرأ الغيب ..؟  
     وسهرت ذات ليلة مع الشيخ عبد المطلب إلى الهزيع الثانى من الليل .. وكان الفيضان قد بكر والنيل شديدا .. وكان أهالى البلدة يخشون على زراعة الأذرة التى فى الأراضى الواطئة من الغرق ، فأقاموا حولها جسرا قويا ..
     وكان النيل يجرى على قرب منا جياشا قويا .. والخزان يهدر فى جوف الليل .. والسكون عميقا شاملا .. حتى الكلاب فى القرية هجعت ، وكفت عن النباح ..
     وسمع الشيخ وهو جالس صوتا أشبه بصوت الماء فى السد .. فنهض ومد بصره .. ولم يستطع أن يبصر شيئا .
     ولكنه سمع خرير الماء أكثر وضوحا ..
     فجرينا مسرعين نحو السد .. ولما بلغناه رأينا الماء قد فتح فجوة فيه وانحدر منه إلى المزارع متدفقا قويا ، وذعر الشيخ .. فلو انهار السد ستغرق مزارع برمتها وهى لصغار الفلاحين المساكين .. وقد يتطور الحال وتغرق بعض منازل القرية .. 
     أسرع الشيخ وحمل حزمة من " البوص " وألقى بها فى الفجوة وفعلت مثله .. وجرفنا إليها التراب ، واحتبس الماء بعض الوقت ولكنه عاد بعد قليل إلى ما كان عليه واشتد .. ووضعنا حزما أخرى بين عروق الخشب القائمة فى السد ، وحملنا إليها أكواما من الطين ، ولكن جهودنا كلها كانت عبثا فقد كان الماء قويا ، يجرف كل شىء فى طريقه ، وكانت الفجوة تتسع بعد كل لحظة وأخرى ..
     وعرف الرجل مقدار الخطر الذى سيحل بالقرية .
     فقال لى :
     ـ أسرع إلى القرية .. وهات النجدة ..
     وجريت مسرعا .. وكنت أسمع وأنا أعدو صراخ الشيخ عبد المطلب فى جوف الليل الساكن .
***  
     ولما عدت بالرجال .. كان الماء يتدفق كالسيل .. وكان جزء من السد قد انهار ..
     ووجدت الشيخ عبد المطلب راقدا هناك دون حراك تحت عروق الخشب عند الجزء المنهار ..
     فأدركنا أنه رقد بجسمه فى الفجوة ليحبس الماء إلى أن يحضر الفلاحون .. ولكن الماء كان قويا فانهار به السد وسقط فوقه ..
     كان وجهه ساكنا .. وعلى شفتيه ابتسامة من فرغ من عمل عظيم ..
================================  
نشرت فى مجموعة العربة الأخيرة لمحمود البدوى عام 1948
================================   


السراج


       كانت ريح الشتاء تحرك أشجار النخيل الكثيفة الملاصقة للترعة .. وتصفر عاوية وهى تجتاز مزارع القصب .. وكانت أوراق الأشجار الجافة تتطاير فى الجو محملة بالغبار وكان الجو كله ينذر بالعواصف .. والأشجار الضخمة القائمة بجوار الجسر تبدو فى ظلام الليل المعتم كالأشباح المتحركة فى أرض الشياطين ..
       وكان المقهى الصغير على مفترق الطريق بين دغل من النخيل .. وحقول القصب السامقة تحت الجسر .. وبين أشجار السنط والنبق والجميز التى غاصت جذوعها فى أعماق الأرض وهزت تربتها منذ عشرات السنين ..
       وكان المقهى عبارة عن بناية من الطوب الأسود .. وسقفه من الجريد وجذوع النخيل وأرضه نصف عارية ونصف مفروشة بالحصر ولم يكن فيه كرسى واحد أو منضدة وكان الفلاحون والعابرون يجدون فيه حاجتهم من الشاي والسجاير والتمباك .. ويجتمعون بين جدرانه من الشتاء ..
       وكان سراجه يلمع فى الظلمة .. ويجد فيه العابرون فى الليل ملجأ يحميهم من أرض الشياطين .. فقد كان المقهى وسط دغل من أشجار النخيل الصغيرة الملتفة .. ووراءه مزارع القصب .. فيشعر السائر فى الليل بما يفزعه ويروعه فإذا ولج باب المقهى وسمع صوت حليمة أو رأى سراجها فى يدها ارتد إليه قلبه ..
       وكان عابرو السيارات فى الخط الشرقى إلى البدارى .. يجدون فيه قلة الماء وكوب الشاى الأسود .. وعلبة السجاير ..
       وكان صاحب المقهى شعبان قد ذهب من الصباح الباكر إلى أبو تيج وربما عاد فى الليل ..
       وجلست حليمة تصلح ذبالة السراج .. والغلام الذى معها ينفخ النار فى قطع السنط وإذا برجل يدخل من الباب وكان يرتدى بدلة رمادية .. ويضع على رأسه طربوشا وعليه سيما التعب الشديد ..
       وخفت إليه حليمة .. ترحب به .. وتشفق على شيخوخته من هذا المشوار ..
       وسألها :
-      الحلزونة .. مرت يا حليمة ..؟
-      لم تمر بعد .. يا عمى صالح .. استرح إنه ميعادها ..
- إعملى لى كوبًا من الشاى .. تعبت فى هذا النهار .. أتعبنى الفلاحون .. أصبح من طباعهم المماطلة ..
- تعال لهم .. مرة أخرى فى الأحد المقبل ..
- رايح " الغرب " .. يا حليمة ..
والتمعت عيناه فى الغبش الذى زحف على المقهى .. وأحست حليمة بالظلمة فأشعلت السراج .. وأضاء النور وجهها .. وبدت أمامها خطوط الزمن على وجه الرجل الذى جلس على الحصير ونشر أوراقه .. اخرج الفواتير وأخذ يطرح فيها ويجمع .. ويقوم بعملية حسابية شغل بها واستغرق فيها .. ومنذ أكثر من عشر سنوات وصالح أفندى يأتى إلى هذا المكان فى كل شهر مرة وينشر أمامها مثل هذه الوراق وفى كل مرة  كان يشكو من الفلاحين ويقول لها إنه لن يبيع لهم بالأجل .. وهذه هى جولته الأخيرة .. ولكنه كان لا يستطيع أن يغير طريقته بمثل السهولة التى يتصورها .. وقد يكون المشوار مع المشقة التى يلاقيها فيه .. والجهد والعرق ومماطلة الفلاحين .. هذه الأشياء كلها هى جزء من عمله ومن تجارته ..
وما الذى يمكن أن يعمله مع الفلاحين وهذه هى طريقتهم فى الحياة .. وهى نفسها لا تستطيع أن تتعامل معهم إلا بالأجل .. ولو فكرت أن تبيع لهم التمباك وعلب السجائر بالنقد .. ما باعت لهم شيئًا ..
وطوى دفاتره .. وعادت عينه .. تنظر من خلال الباب .. إلى الضوء الذى يلمع هناك على الجسر .. والذى جلس فى انتظاره ..
وسألته المرأة وقد بدا لها أن الرجل يحمل نفسه أكثر مما يطيق من الجهد ..
-      وحصلت على كثير .. يا عمى صالح ..
-      أبدًا .. يا بنتى .. ثمانين جنيها .. من مائتين .. بعد تعب طويل ..
-  إحمد ربك .. إننا لسنا فى الموسم .. وأنا نفسى لن أعطيك إلا خمسة جنيهات .. وترسل لى السجائر والتمباك .. يوم الخميس .. كالمعتاد ..
-      حاضر .. وإن كنت فى حاجة إلى هذه الجنيهات إبقيها ..
-      لا .. كتر خيرك .. سآتيك بها ..
ودخلت من باب صغير جانبى وصعدت إلى مسكنها وكان فوق بناية المقهى ..
وجلس صالح فى مكانه يشرب الشاي بتؤدة وعيناه إلى الظلمة التى أخذت تشتد فى الخارج .. وكانت الريح تئن .. وفروع النخيل تهتز مع الريح .. وبدا له أن كل شيء يسبح فى ظلمة رهيبة ليس لها بداية ولا نهاية .. وشعر بالخوف يزحف على قلبه لأول مرة ويعصره ..
       ورأى الغلام جالسًا فى زاوية من المقهى وكان لم يعره باله ..
       فقال له :
-      إجرى .. إنتظر السيارة .. على الجسر يا مرزوق .. ربما مرت ولا نشعر بها ..
-      حاضر ..
وخرج الغلام
وعاد الرجل ينتظر ويحس بثقل الانتظار على نفسه .. وكانت حليمة قد هبطت من أعلى .. وقدمت له الورقة المالية وهى تبتسم فأخرج محفظته ووضعها فيها .. ثم أعاد كل شيء إلى جيب سترته ..
وقال للمرأة :
-      يبقى كم ..؟
-      عشرة ..
- بالضبط .. أنت تعرفين الحساب أحسن من شعبان .. والآن هاتى لى كوبا آخر من الشاى .. لأن السيارة كما يبدو ستتأخر ..
-      أنا أعرف أنك شريب ..
- أنا أشرب منه الكثير .. وهو لا يؤذينى .. كما يؤذينى الطعام .. إنه غذائى الوحيد فى الصباح .. والمساء ..
- يبدو لى أنك طعنت فى السن .. لأن الشاى طعام العجائز ..
- وأنت ..؟
- فى عز صباى ..!
- الشيء الواضح لى يا حليمة .. أنك كنت فتنة بين النساء .. فى صباك .. وتقاتل عليك الرجال .. وأخيرًا فاز شعبان ..
- هذا صحيح .. وهذه قسمتى .. ولم يكن لى الخيار ..
واكتسى وجهها بأسى لا يعرف سببه ..
ولم يكن فى شعبان عيب يراه .. ولكنه أدرك أن المرأة أصدق منه فى فهم الرجال والحكم عليهم فصمت ولم يعقب ..
وكان مرزوق .. قد عاد وهو يردد ..
-      السيارة متأخرة الليلة .. حصل لها عطل ..
فصفعته المرأة وهى تقول له :
-      عد وانتظرها .. ولماذا رجعت .. ربما مرت فى هذه الساعة ..
وجرى الغلام سريعًا .. يجتاز عرائش النخيل .. ونظر صالح أفندى .. إلى المرأة وهى تسوى طرحتها على رأسها .. بعد رنين الكف على خد الغلام .. وتعجب من خشونتها التى بدت فجأة .. وقال لنفسه ربما هى هكذا لأنها لم تنجب ذرية ولم تشعر بالأمومة أو لأنها فقدت أبناءها وهم صغار .. فلم ير بجوارها .. لطول تردده عليها .. أطفالاً عندها وكان يعرف أن مرزوق هو صبى يساعد زوجها فى المقهى ..
وطال انتظار صالح أفندى للسيارة .. وأخذ يدخن ويطرد عنه شعور القلق بالتحدث مع حليمة .. وأخذ يحدثها عن زوجته وأولاده .. وابنه الكبير محمد الذى أدخله الجامعة فى هذه السنة وسافر إلى القاهرة منذ شهرين ..
وكانت السعادة تغمر قلبه .. وأفاض فى الحديث .. وكان يغلق عينه فى أحيان كثيرة ويعبر بصوت واضح رغم خفوته .. عن أمانيه الباقية فى الحياة بأن يعيش حتى يزوج ابنته فتحية ..
وتأثرت المرأة من عاطفة الأبوة التى تسيطر على مشاعره .. وابتهجت لابتهاجه .. وتطلعت من فتحة الباب .. فرأت الجهامة المطبقة .. وأصوات الأشباح التى تعوى كل ليلة فى بساتين النخيل ..
وقال صالح أفندى وهو ينظر إلى ساعته وقد رآها تتجاوز الثامنة ..
- سآخذ السيارة .. الأخرى .. التى تمر من " المشابك " .. ربما تعطلت هذه السيارة حقًا .. أو لم تجد ركابها .. فبقيت فى المركز ..
-      إن الطريق طويل إلى هناك ..
-      لابد أن أذهب .. لألحق آخر سيارة .. بقى عليها نصف ساعة فقط ..
-      ولماذا .. لا تبقى معنا .. إلى الصباح .. سيرجع شعبان بعد قليل ..؟
- لا أستطيع أن أبقى مهما كانت الظروف .. ستشغل زوجتى والأولاد وسأجدها ساهرة فى انتظارى مهما تأخرت ..
-      لماذا ..؟
- إن الحوادث فى الريف تروعهم .. ولقد تأخرت فى درنكة .. الأحد الماضى فظلت واقفة تنتظرنى على الباب .. إلى الساعة الواحدة صباحًا ..
       - إذن اذهب ..
       قالت هذا بهدوء ..
       وكانت تعرف شعور المرأة .. وهى تنتظر رجلها .. لكم جزعت على شعبان وهو يتأخر فى الليل .. وكم من الليالى تفطر قلبها .. وهى تسمع الرصاص يدوى ..
       وقالت بعد أن رأت الرجل ينهض على قدميه ..
-      ألا تنتظر عودة مرزوق .. ليصاحبك .. إلى المشابك ..؟
-      لا .. سأمشى وحدى ..
-      ألا تخاف ..؟
-      معى مسدسى ...
وأراها المسدس الصغير فى جيب سترته ..
وابتسمت المرأة .. وخرجت تودعه وتناول يدها ومضى وحده .. ولكن بعد عشرين خطوة وهو يقترب من عرائش النخيل الصغير على الجانبين شعر بالفزع يشل حركته .. فتوقف ورأته حليمة .. وكانت لا تزال فى مكانها .. فتناولت بندقية زوجها من وراء الباب وجرت إليه ..
وأحس بها بجانبه وفى يدها البندقية .. وكان لم يرها تمسك بها من قبل أبدًا فابتسم وقال لها ..
-      جئت ..
-      أجل وسأمضى معك إلى المشابك ..
-      لا .. لا .. هذا كثير .. يكفى .. أن نخرج من هذه الأشجار .. إنها ترعبنى حقاً ..
وضحكت من خوفه .. ولكنها التمست له العذر .. وكان حذاؤه قد أخذ يغوص فى التراب .. والريح الباردة تلسع وجهه .. وعيناه .. تضل فى هذا التيه .. وأسلم مقوده للمرأة ..
 وعجب إذ كانت فى مثل طوله وأكثر .. منتصبة القامة سريعة الخطوة .. جسورة كأن الليل خلق لها ..
وكانت قد تركت الطرحة فى البيت واكتفت بأن عصبت رأسها بمنديل .. وانتعلت خفًا خفيفًا كأنها تستعد للنضال ..
وشعر بالاطمئنان وهى بجواره وبالخوف كله يذهب من قلبه ..
وبدآ يخرجان من وسط الأعراش .. ويستويان على الطريق الصاعد .. المؤدى إلى الجسر ..
ورأى مزارع القصب والبرسيم على الجانبين .. والأنوار تلمع فى وسط الحقول ثم تخبو .. وسمع نباح الكلاب .. وفزعها كأنها تقاتل أشباحًا فى الظلام ..
ثم سكت النباح وخيم السكون ..
وقال للمرأة وهما يقتربان من موقف السيارات :
-      يكفى إلى هنا ..
-      ألا أنتظر معك حتى تجئ السيارة ..؟
-      لا .. لا .. هذا يكفى ..
وأحست بأنها أدخلته فى منطقة الأمان فعلاً ..
فقالت له :
-      مع السلامة ..
وأخذت تستقبل من طريقها ما استدبر .. وقبل أن تجتاز عتبة المقهى سمعت دوى رصاصة فجفلت .. وأرسلت بصرها إلى الخارج .. لحظات .. ثم عادت وردته بعد أن أبعدت عن رأسها الخاطر الرهيب الذى ساورها .. وأدركت أن الرصاص مألوف فى الحقول فى مثل هذه الساعة من الليل ..
***
       وعاد مرزوق وجلس معها ساعة ثم صرفته ليعود إلى أمه فى القرية ..
       وجلست تتوقع عودة زوجها .. ولما يئست من عودته .. أخذت تجمع الأشياء التى على الرف .. وتصعد بها إلى القاعة العليا ..
       ثم خففت من ضوء السراج .. ودارت حول بيت الدجاج .. والغنم المربوطة فى ناحية من المكان لتقدم لها شيئًا من الطعام .. ولمحت وهى تستدير شبحًا يخرج من بين النخيل ويصعد إليها فوقفت ترقبه .. حتى اقترب الرجل .. وقال بصوت خشن نوعًا ..
-      عندك ماء .. يا ست .. عطشان ..
فناولته الكوز .. وهى صامتة .. وعيناها تستكشفان كنهه .. وأدركت من أول وهلة أنه غريب وليس من فلاحى قريتهم .. أو القرى المجاورة لها .. وأنه يعبر المكان لأول مرة ..
       وكان ينظر بعينه إلى الداخل .. ويده ممسكة ببندقية قصيرة .. ويحاول أن يأخذ ببصره كل شيء فى لحظة ..
-      وعندك سجائر ..؟
-      نعم ..
-      أعطنى علبة .. " معدن " ..
ودخلت المرأة .. ودخل الرجل وراءها .. وهو لا يزال يدير بصره فى المكان .. ولمح إبريق الشاى .. والنار .. لا تزال مشتعلة فى الموقد ..
وجلس على الحصير .. وعينه على الباب .. ووضع البندقية جانبًا .. ومد رجله .. ولاحظت أن ساقه مجروحة .. وينز منها الدم ..
فسألته وهى تعد له الشاى ..
-      هل جرحت ..؟
-      أجل .. دخل جذر من جذور القصب فى رجلى ..
- فنظرت إلى حذائه المضفر .. وأدركت أن كذبته بلقاء .. ولكنها لم يظهر عليها ما ينكر كلامه ..
وقالت برقة :
-      الأحسن أن تغسل الجرح .. إنه يدمى ..
-      لقد حشوته بالتراب ..
-      إغسله واحشه بالبن .. سأجئ لك بحفنة منه ..
-      كتر خيرك ..
وظهر عرجه .. وهو يعبر المجاز .. إلى الداخل .. وناولته قدر الماء .. ثم رفعت له السراج ولكن لما عرى فخذه .. حولت وجهها عنه .. ووضعت السراج فى الطاقة .. وناولته البن .. فحشا الجرح .. وربطه بقطعة من القماش قدمتها له .. وعاد إلى مكانه ينظر إليها فى ثبات ..
وأخذ قلبها يحدثها .. وهى تستشف نظراته .. وسألته .. وهى تقدم له الشاى ..
-      هل أنت من الأطاولة ..؟
-      لا .. من العوامر ..
-      وأين كنت فى الليل ..؟
-      كنت فى سوق الإثنين .. لأشترى جاموسة ..
-      ولم تجد ..
- وجدت .. ولكن الجاموس .. غال .. هناك .. الجاموسة .. بتسعين ومائة .. وليس معى هذا القدر من المال .. فقلت أعود مرة أخرى فى السوق المقبل .. وربما وجدت الرخيص ..
-      وماذا تزرعون عندكم ..؟
-      نزرع الشعير والقمح .. والبرسيم .. ولكننا لا نزرع قصبًا ..
-      أرضكم ضعيفة ..؟
- بالطبع .. ليست مثل أرضكم .. هنا .. الخير كتير .. ولا يوجد عندنا قهاوى مثل هذه ..
- إنها لازمة على طريق السيارات ..
- وهل تمر سيارة فى هذه الساعة من الليل ..؟
- لا .. إذهب هناك .. إلى المشابك .. عند القنطرة .. إن كنت ترغب فى ركوبها ..
- لقد تعبت من السير .. إن الجرح يدمى ..
- إبق هنا إلى الصباح .. إذا شئت ..
- كتر خيرك .. لابد أن أمضى ..
وكان فى صوته جرس أيقظ حواسها .. ونبهها إلى شيء لم تكن تتوقعه أبدًا .. وزاد توجسها منه .. وكان قد ألقى سلاحه بجانبه .. فى استخفاء وتحد ..
وسألها :
-      هل تعيشين هنا .. وحدك ..؟
-      أجل .. وعندى غلام .. ذهب إلى أمه فى القرية ..
-      وأين زوجك ..؟
-      ليس لى زوج ..
-      ألا تخافين ..؟
-      من ماذا ..؟
       ان يسرق الفلاحون .. هذه الأشياء كلها .. الشاى والسكر .. والبن .. والنعجات وحتى الدجاج ..!
-      فعرفت نظراته .. وأدركت أنه أحصى كل شيء فى لحظة ..
-      ان الفلاحين .. لا يسرقون مثل هذه الأشياء ..
-      لماذا ..؟
-      لأنها تنفعهم .. وانا لا أمنعها عنهم ..
       ودار بوجهه .. وأشعل لنفسه سيجارة ورأته لا يتجاوز السابعة والعشرين من عمره وسيما مفتول العضلات .. وإلا لما تحمل هذا التمزيق وسار به ..
       وقرنت جرحه بشيء دار فى خاطرها وارتجفت له .. ولكنها كانت تتمنى ألا يكون قد وقع .. وارتعشت لهذا الخاطر .. وخافت أن تظهر أمامه بالخوف فيطمع فيها ..
       وأبعدت كل خواطر القلق عن رأسها .. وجلست تحادثه .. ولكنه عندما وضع يده فى جيبه ليدفع حساب الشاى والسجاير سقطت محفظة على الأرض .. فأعادها إلى جيبه فى هدوء .. وعرفتها إنها محفظة الرجل الذى كان عندها منذ ساعات ..
       ولقد سرقها منه بعد أن مزقه بالرصاص ..
       وكتمت انفعالات نفسها .. وأخذت منه حسابها فى هدوء .. وذهنها يعمل بسرعة .. تملكها غيظ مستعر ..
       وسمعت من ينادى اسمها فى الخارج ..
       فألقت سمعها .. وتطلعت ..
       ورأت شيخ الخفر .. على الباب ومعه خفيران .. وكانوا يسألون عن عربة المأمور القادمة من المركز .. لأن أفنديا قتل عند المشابك ..
       وسألتهم ملتاعة :
-      من الذى قتل ..؟
-      صالح أفندى بائع الدخان ..
وارتجف قلبها ..
ونظرت إلى الرجل الذى فى الداخل بالمقهى ..
       ودخل شيخ الخفراء ومعه الخفيران يشربون الشاى قبل أن تمر سيارة المأمور ولاحظت حليمة .. أن الرجل لم يغير مجلسه .. ولم يتناول حتى بندقيته التى وضعها جانبا وجلسوا بجواره وأخذ يحدثهم فى ثبات أرعبها .. وهم ثلاثة وهو واحد وجريح ..!
       ولاحظت بعد قليل .. أنهم كانوا يخشونه .. وربما ارتعبوا ..
       كان قد طوى رجليه وتربع ينظر إليهم بعينين تبرقان تحت الضوء الشاحب الراقص فى الطاقة ..
       وبعد أن شربوا الشاى خرجوا إلى الجسر فى انتظار عربة المأمور وبقى الرجل فى مكانه مع المرأة ..
       ورأته يتجمع بعد أن ذهب الرجال وقد أمسك البندقية فى يده .. وكانت الدنيا مازالت ملفوفة فى شملة .. من الظلام .. وأشباح تبدو غائمة باهتة كأنها منظورة من خلال نقاب كثيف ..
       وكانت هى نفسها كأنها تنظر إلى الرجل من خلال نقاب ثم انقشع عنها النقاب فى لحظة .. ورأته على حقيقته .. ونسيت وسامته وشبابه .. ورأته شريرا وقاطع طريق .. ولا ينطق إلا الأكاذيب التى تجمعت فى أفواه البشر ..
-      وقالت وهى تنظر إليه من جانب وكأنها تحدث نفسها :
       هل تعرف أن الرجل الذى قتل منذ ساعة .. كان يسرع فى العودة إلى زوجته وأولاده لأنهم كانوا فى انتظاره .. وسيعود إليهم الآن محمولا على محفة .. فما أفظع الحياة ..
-      وهل تعرفينه ..؟
-      لقد كان هنا .. قبل أن تدخل .. وشرب الشاى .. من نفس الكوب ..
       وكانت عيناها تبرقان ببريق غريب أزعجه وأشاع الخوف فى نفسه .. وراقب تحركاتها .. تحت ضوء السراج .. وسألها ..
-      وكان ينتظر السيارة ..؟
-      أجل .. ثم تعجل الأمور .. وذهب إلى الجانب الأخر .. ليلاقى حتفه .. مقادير ..
ونظرت من خلال الباب ثم عادت إليه وهى تقول :
       إن الذى قتله كان يجهله تماما .. فمن الذى يقتل رجلا يسعى بيننا على معاشه منذ عشرين سنة ولا يفكر حتى فى أن يؤذى بعوضة .. وخيره على جميع صغار التجار من الفلاحين ..
-      مقادير ..!
-      أجل مقادير .. وهى فى انتظارك ..
وضحك ضحكة خشنة مجلجلة ..
-      فى انتظارى أنا ..؟
-      بالطبع ..
-      لماذا ..؟
- لأنك شرير ..
قالت هذا بدلال .. وهى تكسر رموش عينيها ..
فقال :
-      كلنا أشرار .. ومارقون ..
-      ولكنك أكثرهم شرا ..
وضحك .. وهو يرقب عينيها الذابلتين .. ولم ير أنضر من وجهها فى هذه الساعة ..
وسألها :
-      هل صحيح .. أنك تعشين هنا .. وحدك .. من غير رجل ..
-      وماذا أصنع به ..
-      يحميك .. على الأقل من الرجال ..؟
       قال هذا بصوت خافت وهو يرقبها بخبث .. وعجبت للرجل الذى بدأ يغازل .. ولا تزال بندقيته تفوح منها رائحة البارود .. والخطر يكمن له فى كل خطوة ..
وردت عليه بدلال أكثر ..
-      لست فى حاجة إلى حماية أحد ..
       وكان فى قولها رنين لم يفهمه .. وتحركت ورأى ثوبها الأسمر السابغ على جسم طويل ملفوف .. والمنديل تتدلى منه خيوط وكرات صغيرة زرقاء على جبينها ..
ولمح الرجل ضوءا يبرق فى الظلام ..
فقال :
-      سيارة .. وقد تكون سيارة المركز ..
-      وهل أنت مطارد ..؟
-      أبدا ..
-      ما الذى تخشاه منهم .. إذن ..؟
-      أخشى على البندقية .. وهى من طراز .. لا يباع ولا يشترى الآن ..
وكانت تعرف ذلك دون أن يحدثها ..
وقالت له :
-      هاتها .. لأخفيها عن العيون ..
-      أنا لا أعطى سلاحى .. لإنسان ..
-      إصعد بها إلى القاعة ..
       - لا .. لن أكون فى المصيدة .. إن قوات المركز كلها تتجمع علىّ .. وموقفى هناك وقد حـددته منذ وطـئت قدماى هذا .. المكان .. وقد أطلقت رصاصة واحدة وبقى معى الكثير ..
       وضحك ..
       لقد خذلها هذا الثعلب وشعرت بالغيظ ..
       وأخذت الأضواء الكشافة تلحس الظلام ..
       ومضى عنها فى خفة الثعـلب .. ورأته يكمن هنـاك .. بين دغل النخيل فى أعلى التل ..
       وشعروا به ..
       وبدأوا هم فى إطلاق النار .. ورد عليهم .. وسقط منهم اثنان .. وكانت تعرف أنه سيحصدهم .. لأنهم لا يعرفون مكانه بالدقة ولأن سلاحه غير السلاح الذى فى أيديهم ..
       وتناولت بندقية زوجها وأطفأت السراج ..
***
       ودفعت الباب .. وخرجت وعندما أطلقت أول طلقة كان الرجل يتصور أنها تطلق معه على الخفراء .. فتركها .. وفى الطلقة الثانية أسكتته ..
وكان كل واحد من العساكر والخفراء يتصور أنه هو الذى صرعه ..
       ولكن المرأة التى فعلت هذا رجعت إلى بيتها فى سكون وردت الباب .. وأعادت البندقية إلى مكانها ثم تقدمت فى هدوء لتشعل السراج كما كان ..
=======================================
نشرت القصة فى كتاب العربة الأخيرة سنة 1948
======================================


فهرس

اسم القصـــــة                         رقم الصفحة

العربة الأخيرة       ............................   2
رجل على الطريق        ......................    10
الشيخ عمران      .........      .   ..... ....... 20
زهور ذابلة             ..........  .............   33
البواب الأعرج     ...................  ...... .    45
نساء فى الطريق        ........................    51
هاجر        ....................................   67
الجواد الجريح   ....................          ...    69
ليلة لن أنساها   .............  ..............  ....  73
الدرس الأول    .................................    81
جسد وفنان      ...............     .............    90
الملهمة             ...........................       100
روح الفنان        ..............................     102
حارس القرية     ...............................     113
السراج       ..........................  ....        122













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق