الاثنين، 13 أبريل 2015

محمود البدوى ـ قصص قصيرة قصص من الإسكندرية






مختارات
قصص من الإسكندرية


بقلم
محمود البدوى


تقديم واختيار
على عبد اللطيف    و     ليلى محمود البدوى

الناشر
مكتبة مصــر
3 شارع كامل صدقى ــ الفجالة
ت : 5908920
























قصة الإهداء

يقول البدوى بذكرياته المنشورة بمجلة الثقافة "لما توقفت مجلة الرسالة بسبب الحرب .. أخذت أنشر فى بعض الصحف اليومية .. وعرفت عاشور عليش وبعده سليمان مظهر وعبد العزيز الدسوقى .. وكان الثلاثة فى جريدة الزمان يشرفون على الصحيفة الأدبية ..
وقد قضيت معهم صحبة طيبة عامرة بالنشاط .. فالثلاثة أدباء قبل أن يكونوا صحفيين ، وخلت نفوسهم من العقد .
ومع أنى كنت أنشر فى الزمان من غير أجر إطلاقا . ولكن وجود هؤلاء فى الصحيفة جعلنى فى أتم حالات الرضى النفسى ، وكنت أحس بوجودى كأديب وكاتب قصة .
وعبد العزيز الدسوقى إنسان نبيل الصفات .. وما شاهدته إلا باسما .. حتى فى أشد ساعاته إنشغالا بالعمل .. باسما ومرحبا .. وهما خصلتان لا نجدهما إلا لمن تربى فى حضن الريف .. ونبع من عراقه وأصاله . وظل مع نهجه وطبعه منذ عرفته .. يسعده أن يعطى أصدقاءه من كرمه وخيره ولا يأخذ ..
ولما رأيت بعد ذلك بسنين أن أهديه مجموعة قصصية كان السبب فى نشرها ، لأنى بطبعى لا أتحرك لناشر .. وجدته قد رفع الإهداء دون أن أعلم.. وحال بينى وبين التعبير بالشكر عن كل ما غمرنى به من معروف ".
*   *   *
وحينما كنا نبحث فى الأوراق والمستندات التى تركها البدوى لكتابة "سيرة حياته " ، عثرنا على إهداء مكتوب للدكتور عبد العزيز الدسوقى.
وها نحن نشعر بالسعادة بوضع الإهداء بخط يد البدوى على هذه المجموعة، تعبيرا عن شكرنا العميق لهذا الرجل .. الإنسان .

على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى



مقدمـــة

محمود البدوى (1908 ــ 1986) رائد من رواد القصة القصيرة فى مصر ، بدأ ينشر قصصه منذ عام 1933 فى بعض الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات الأدبية المتخصصة كالرسالة والأديب والهلال واستمر يكتب حتى وفاته فى 12/2/1986 .
وفى خلال تلك الفترة تناول فى كتاباته الشخصية المهضومة الحق .. المعذبة .. القدرية .. العاجزة عن التحرك ومواجهة صعاب الحياة سواء فى مصر أو فى البلاد الأوربية التى طاف وجال بها .
والقارئ لقصص البدوى يحس بأنه يتغلغل داخل النفس البشرية وينفذ إلى أعماقها ويحرص على إضاءة الشخصية الإنسانية من داخلها عن طريق الاهتمام بالانفعالات النفسية وتأثير الظواهر الخارجية على الأعماق ورد كل ما يجيش فى صدر الإنسان وعقله إلى أسبابه وبواعثه الحقيقية .
وكثير من قصصه يسردها بضمير المتكلم ، وقد اتخذ هذا الطريق منذ نشر قصته "الحب الأول" فى 2/2/1938 ، وهو يكتب عن شخصياته بعد أن يعاشرها طويلا ، يفكر بطريقتها ، وينظر إلى واقع الحياة بنفس منظورها .
ولذلك فإن القارئ لقصص البدوى يلاحظ أن الحوار يتراوح بين اللهجة العامية والعربية الفصحى ، لأنه يكتب من الواقع ويصوره .
ويقول البدوى "لقد كان الحوار فيما مضى يورد باللهجة العامية .. ولكن بعد أن وجدت أن نصف المطبوع من كتبى يوزع فى البلاد العربية ، رأيت أنه من الجحود أو الإنكار أن يقرأ نصف القراء حوارًا لا يفهمونه .
ويمكن أن يعتبر هذا الموقف من اللغة تحويرا عن الواقعية البحتة ، أو الواقعية المطلقة .
على أنى توقفت عن استعمال العامية توقفا تاما حين وجدت أيضا عددًا من المترجمين لقصصى إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية يسألوننى عن معنى كلمات فى الحوار بالعامية .
إلا أن العرب يمثلون بالطبع هدفا أهم من هدف الترجمة ».
*   *   *
منذ عودة البدوى من رحلته التى زار فيها أوروبا الشرقية عام 1934 وهو يعشق الرحلات فى الداخل والخارج ، فسافر إلى جميع المدن المصرية من أسوان وحتى الإسكندرية وطاف وجال فى أوروبا وآسيا وبعض البلاد العربية فى رحلات ثقافية وغير ثقافية .
وكثر تردده على الإسكندرية فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين ، وأحبها كثيرا لجمالها ونظافتها وقلة سكانها وفتن بها كثيرا ، وعشق النزول فى مياهها ، كما كان يتردد على خطيبته ابنة عمه ضابط البوليس فى المدينة .
*   *   *
وعن ذكرياته فى مدينة الإسكندرية يقول :
"كان الأستاذ غراب يتردد كثيرا على الإسكندرية لقربها من دمنهور والمسافة قصيرة بكل سبل المواصلات السهلة .. فكان يحضر فى الضحى ويعود إلى دمنهور آخر الليل .
وذات ليلة التقيت به مصادفة فى محطة الرمل بالإسكندرية وكان معه الأستاذ صلاح ذهنى .. وكان الاثنان ينتظران أديبا من الإسكندرية فى مقهى إمبريال وقبل مجىء هذا الأديب عرفانى بأنه يتوق إلى معرفة المستشرقين ويعتز بصداقتهم كالأستاذ تيمور ليخرج أدبه من الدائرة المحلية إلى ما هو أوسع آفاقا وأرحب .
وقال أمين ضاحكا ..
وستلقاه أنت الليلة على أنك مستشرق .. لأنه ما رآك من قبل ولا يعرفك.. وشعرك الأبيض الطويل سيجعله لا يشك قط .. ولا تعترض فنحن نريد أن نقضى ليلة ضاحكة .. وعلى فكرة إنه يكتب القصة أحسن منك .. وسترى..
وكان شعرى طويلا منفوشا .. وبدلتى من قطعتين وكل قطعة بلون .. ومن طراز إنجليزى خالص .. ولا كواء ، ولا تنسيق ولا منديل يطل من الجيب . ولا أناقة فى المظهر جميعه .. وبيدى حقيبة مليئة بالمذكرات والأقلام.. وسأتكم لمدة ساعة أو ساعتين بالعربية الفصحى .
وكنا قد ضحكنا كثيرا قبل المشهد ، فلما تقابلنا مع الأستاذ "سعيد" كان الموقف كله جادًا ، ولا يمكن لمخلوق أن يكتشف فيه مظهرا لتمثيل .
رحب بنا الأستاذ "سعيد" وكان الترحيب بى مضاعفا ، ولاحظت أنه هادئ ، وديع ، وكريم الخلق إلى حد بعيد ، فكدت أندم ، وأكشف أوراقى لولا نظرة صارمة من صلاح ذهنى أرجعتنى إلى ما إتفقنا عليه .
وأخذت أحادثه ، وأثنى على قصصه ، وشكر الأستاذ تيمور الذى كان أول من دلنى عليه بأن بعث إلى بمجموعته القصصية .. وكم عرفنى تيمور بأدباء وقصاصين ، وأرسل إلىّ كتبهم بالبريد دون أن يعرضوهم .. وبذلك استطعت أن أكون فكرة شاملة عن الأدب المصرى .
وإبتهج الأستاذ "سعيد" عندما سمع هذا وطار من الفرح .. وعشانا فى نفس المكان .
ولكن أمين قال له بالعامية التى لا أعرفها .
ــ الأكلة دى ما تنفعش .. ولازم تعزمه فى بيتك .. لأنه عاوز يشوف بيت مصرى .. وإحنا ما لناش بيوت هنا فى الإسكندرية ..
فرد سريعا .
ــ طيب فى البيت يا أخى .. بكره الغدا فى البيت .
وترجموا لى الحديث بالعربية الفصحى .. فاعتذرت وقلت .
ــ إن ميعادى مع تيمور بك غدا فى القاهرة .. وقد عرفته فى رسالتى بيوم وساعة الوصول ..
فقال غراب سريعا .
ــ سنرسل له برقية ونعرفه بأنك ستصل القاهرة بعد غد فى نفس الميعاد .
واسترحنا إلى هذا المخرج .
وفى اليوم التالى كنا فى بيته .. وكان بيته من الفخامة إلى درجة أذهلتنى وجعلتنى أعجب وأتساءل كيف يخرج من هذا العز أديب ؟ وما هى المشاكل التى يمكن أن تحرك وجدانه ..؟
وكان يتحدث بالفرنسية مع أهل بيته .. وقد شعرت بالخجل لأنه إندفع فى حماس إلى وليمة فاخرة ..
وبعد أن فرغنا من الطعام .. وضعت أمامنا صحون ملونة صغيرة ممتلئة بالماء وفى كل صحن وردة .. فتعجل أمين ووضع يده فى الصحن حتى لا نتصور أنه خشاف ونرفعه إلى فمنا .. وكان بارعا وسريع الخاطر فى هذه الحركة .
وفى اليوم الذى حددته لسفرى إلى القاهرة لمقابلة الأستاذ تيمور ، جاء الأستاذ سعيد ، يودعنى فى محطة "مصر" وكان يرافقه غراب وصلاح .
وسألنى "سعيد" بأدب قبل تحرك القطار .
ــ هل ستقابل جميع الأدباء فى القاهرة ..
ــ بالطبع .. ولهذا جئت من بلادى ..
ــ سلامى إذن إلى أستاذنا .. الزيات وأرجو أن تحرص على مقابلة .. توفيق الحكيم .. وإبراهيم المصرى .. وعبد الرحمن الشرقاوى .. وثروت أباظة .. ويحيى حقى .. ونجيب محفوظ .. وعبد الحليم عبد الله .. ويوسف جوهر .. وسعد مكاوى .. ومحمود البدوى إذا وجدته ..
فقال صلاح ذهنى وهو ينفجر من الضحك ؟
ــ محمود البدوى ــ ما هو واقف قدامك فى القطر با مغفل .. وضحكنا .. وضحكنا .. وأصبح هذا الأديب الإسكندرى من أعز أصدقائى » .
*   *   *
رغم أننا قرأنا مجموعاته القصصية التى بلغت 24 كتابا وكتاب آخر لم ينشر حتى الآن بعنوان "المأخوذ" إلا أننا حينما نعاود قراءة قصصه التى بلغت أكثر من 375 قصة ، نجد فيها شيئا جديدا غفلنا عن رؤيته فى المرة السابقة .
ولما كان إنتاجه فى القصة القصيرة يدور حول الإنسان فى جميع أنحاء مصر وفى البلدان الأجنبية التى زارها منذ رحلته الأولى إلى أوربا الشرقية ويعتقد أنه صاحب رسالة يجب أن يؤديها ، وأن وظيفة الأدب هى التغيير إلى الأفضل وتغيير الوجه القبيح فى الحياة إلى الوجه الجميل .
فقد قمنا بتصنيف أعماله ، وحصر قصصه التى استوحاها أثناء تجواله وإقامته فى البنسيونات واللوكاندات والغرف المفروشة بالإسكندرية(1) . واخترنا البعض منها ، ليس لأنها خير ما كتب ، بل لأنها نموذجا تنوب عن باقى القصص فى إعطاء صورة صادقة لأفكاره ونظرته للأمور وفلسفته فى الحياة .
على عبد اللطيف ، ليلى محمود البدوى
                                مصر الجديدة 5/10/2002



الغــــــزال
قصة محمود البدوى

أخذت ريح الخريف تهب خفيفة ندية ، تداعب غصون الاشجار الصغيرة التى تحيط بالمحطة ، وترفع أطراف الفساتين الحريرية لكواعب من الحسان تناثرن كالورود الجميلة على رصيف محطة «سيدى جابر» فى انتظار القطار.
وتأخر القطار عن ميعاده مدة طويلة ، فظهر القلق على وجوه الركاب ، وكانت « سميرة » أشدهم قلقا لأنها تتعجل السفر إلى القاهرة .. فقد افزعتها البرقية التى أنبأتها بمرض والدتها ، ومزقت أعصابها ، حتى وإن لم تشر إلى خطورة المرض ، ولكن مجرد ورودها فيه الكفاية لاضطرابها ..
وكان « خليل » يود أن يرافق زوجته لولا أنه يقوم فى هذه الليلة بنوبة عمل ليس فى أمكانه التخلف عنها . ولم يجد أمامه الوقت الكافى لأن يعتذر أو يأتى بالبديل .
وقبل وصول القطار لمحت « سميرة » صديقتها « ثريا » واقفة مع سيدة أكبر منها سنا على نفس الرصيف . فأسرعت كل منهما تسلم على الاخرى فى حرارة وشوق . وكانت  « ثريا » تودع خالتها المسافرة إلى القاهرة أيضا. فانشرحت « سميرة » لأنها وجدت رفيقة لها فى السفر . والتقت بصديقتها القديمة « ثريا » مصادفة على المحطة بعد انقطاع طويل الأمد ..
ووقفن يتبادلن التحية ويتحدثن عن تعب السفر وتأخر القطارات حتى وهى قادمة من « المخزن » مع أن موسم الصيف قد انتهى وحركة السفر أصبحت خفيفة ..
وأخيرا دخل القطار الكئيب المحطة وصعد إليه المسافرون . وبعد أن تحرك وصفر .. شعر خليل أنه هو وثريا وحدهما على الرصيف الطويل . وقد خلت المحطة من المودعين جميعا ..
وابتسما بعد أن أحسا بالموقف . ولكنهما مع ذلك ظلا فى مكانهما على الرصيف صامتين دون أدنى حركة ..
وأخيرا فتح خليل فمه وقال بصوت خافت وهو يشير بيده :
ـ تفضلى ...
وخرجا من المحطة ..
وكانت الشمس مصفرة ، وضوؤها الغارب ينعكس فى نعومة على زجاج النوافذ .. والهواء الرقيق يداعب وجه « ثريا » الوردى فيفتح ثغرها قليلا ويحرك خصلات شعرها بمثل الرقة التى فيها ..
وسألها خليل بعد أن جاوزا الميدان ، وعيناه إلى أهداب عينيها وقد بدأت تطرف من شعاع الشمس ..
ــ إلى اين يا ثريا هانم .. ؟ بيتكم فى « جليم » ... ؟
ــ أبدا ... فى مصطفى باشا ...
ــ اتسمحين لى بأن أوصلك ... ؟
ــ أين ركنت العربة .. ؟
ــ سنركب تاكسى ...
ــ لا .. شكرا .. أنا ذاهبة إلى محطة « الرمل » اشترى شيئا لماما ..
ــ وأنا أيضا ذاهب إلى هناك ..
ــ أذن هيا ....
وأشار إلى تاكسى .
فاعترضت بسرعة :
ــ لا موجب له .. سنركب الترام .. كما اعتدنا ..
وركبا ترام « النصر » ووجد مكانا خاليا فى الدرجة الأولى فأجلسها فيه، ووقف بجانبها يتأملها فى صمت .
كانت ترتدى فستانا بنيا من قطعة واحدة ، يحتضن قوامها الرشيق ، ويبرز فى جلستها المستقيمة جمال ساقيها ، وأمتلاء فخذيها ورقة خصرها واستدارة كتفيها ...
وكان وجهها الطويل أبيض خالص البياض ، فى نعومة كأنه ما وقعت عليه الشمس ولا غطس فى ماء البحر ..
وكان ظل ابتسامة يزحف على وجهها بين لحظة وأخرى ، ويكسر فى فتحة عينيها المتألقتين فى سواد ممزوج بالاخضرار الخفيف ، الذى يذهب ويجىء ، كلما تفتحت النفس ، وجاشت العاطفة ..
كان ظل هذه الابتسامة يغطى وجهها كله ، وهى تراه لا يتحمس للجلوس كلما خلا مقعد فى طرف العربة بعيدا عن مكانها ..
وظل يتباطأ وهو جامد فى موقفه ، فيتيح الفرصة لغيره ليشغل المقعد فى لهفة جعلته يضحك ..
لقد أصبح الناس يتصارعون على أتفه الأشياء طرا فى الحياة .. وبرزت عيونهم وأنانيتهم من اللهفة على هذه الصغائر .. فلا أحد يبدى حركة فيها تأدب ، ولا يقوم رجل لسيدة .. ولا شاب لشيخ ..
لقد طحنتهم الحياة فى دوامتها .. فبرزت أنانيتهم ، وظهر جشعهم .. وكل ما فى نفوسهم من صغار ..
وظل « خليل » فى مكانه واقفا ، وهذه الخواطر تدور فى رأسه .. وتكاد يده اليمنى تلمس كتف « ثريا » وتشعر بنعومة بشرتها تحت الثوب المخملى.
وأخذ يتأملها فى سكون ويملأ عينيه من كل ما فيها من حسن .. وكأنه يلامس بيده جبينها وعينيها وخديها وشفتيها .. ولم تكن فى تقديره .. أكبر من زوجته الا بسنتين على الأكثر ، ما دامتا كانتا زميلتين فى نفس الكلية ، وتخرجتا فى عام واحد .
وسمع صوتها وهو يسبح فى أحلامه :
ــ أجلس هناك مقعد .. قبل أن يأخذوه ..
وضحكت ..
ــ لقد وصلنا الشاطبى ..
ــ أمامنا .. محطات كثيرة .. أجلس ..
فطاوعها وجلس .
وكانت اشعة الشمس قد سقطت من النافذة القريبة على عينيها ، فأغمضتهما . وأبعدت وجهها بحركة خفيفة ، وأزاحت خصلة شعرها وامتلأ وجهها بالسكون ..
ومن خلال هزة للترام تحركت فيها اكتاف الركاب ، أشرق وجهها فى ابتسامة عذبة . وظلت الابتسامة ترف حتى دخل الترام محطة الرمل ..
*   *   *
وعلى الرغم من أنه قرأ فى عينيها الائتناس بصحبته ، ولكنه سلم عليها فى شارع « سعد زغلول » وافترقا ليتركها على حريتها . ولأنه لم يكن يستريح أبدا إلى مرافقة النساء فى جولة تسويق . فقد كان يعانى الكرب من ترددهن أمام الأشياء المعروضة .
ومع أن صحبته « لثريا » كانت لمدة وجيزة فأنه أحس بالراحة لها .. وبالانتعاش والحيوية . فمن خلال فترة لم تتعد رحلة الترام من محطة « سيدى جابر » ، إلى محطة الرمل . أحس بدم جديد يتدفق فى شرايينه كما أحس بالبهجة.
فقد كانت حياته مع زوجته فى السنتين الأخيرتين يشوبها النكد والملل .. وكان كل منهما قد أخذ يحس بالفراغ وبموات العواطف .. وكلما حاول خليل أن يحرك هذا الجمود ، ويبعث الحياة والحرارة فى الجو المحيط بهما .. أخفق فى عذاب .. فقد كانت زوجته مشغولة دائما بزيارة أقاربها العديدين ومجاملتهم فى الجنائز والافراح .. واهمال شئونه .. وحاجات بيتها .. فلم يأسف كثيرا على سفرها وأن أسف على مرض والدتها ..
ولذلك أحس فى رفقته القصيرة « لثريا » بهزة فى نفسه .. تفتحت لها مشاعره .. وجال جولة فى المدينة ثم رجع واتخذ طريق البحر وجلس من وراء الزجاج فى « كافيه دى لابيه » على الكورنيش .
وكان الجو صحوا ممتعا .. والبحر يرقص موجه ، والمصابيح الكابية الضوء ، قد أخذت تتلألأ فى المنازل والشوارع ..
وعادت صورة « ثريا » إلى ذهنه .. عادت وهو معها فى الترام وفى الشارع .. فى جلستها الناعمة .. وفى وقفته المتأنية .. وفى السلام عليها سريعا ثم فراقها ..
وأخذ يلوم نفسه لأنه تركها هكذا ولم يرافقها فى جولاتها إلى النهاية ، ولم يعرف عنوانها ولا محل عملها .. ولا اشتم من حديثها مدى علاقتها بزوجته.
ثم خفف من حدة اللوم . لما استقر رأيه أخيرا على أن ما فعله فى أول لقاء هو عين الصواب ..
ومع كل التبريرات التى استراح إليها ، وهو جالس فى المقهى ، فإنه عندما ذهب إلى بيته وأحس بالوحدة ، رجع يلوم نفسه أشد اللوم على خجله وسوء تصرفه .
*   *   *
وكانت « سميرة » قد حدثت خليل وهى مسافرة ، بأنها سترجع فى مدة لا تتجاوز الأسبوع . وتتصل به فى الصباح فى مقر عمله فى الشركة أو فى المساء عند بعض أقاربه الذين فى بيتهم تليفون أن تعذر الاتصال فى مقر العمل ..
فلما لم تفعل ذلك حادثها تليفونيا فعلم أن والدتها فى حالة خطرة .. وكانت تتحدث وهى تشرق بعبراتها .. فسافر فى الصباح التالى ليعود المريضة .. ورجع وحده إلى الإسكندرية بعد أن لمس الحالة عن قرب ..
*   *   *
وللمرة الأولى فى حياته الزوجية التى بلغت خمس سنوات .. بدأ يعيش وحيدا فى البيت ينظفه بيده ويأكل فى الخارج لأنه لم يكن فى بيتهم خادم .. وكان يضيق ذرعا بأعداد أبسط أنواع الطعام ..
فأخذ يقضى الفراغ فى الجلوس على المقاهى وارتياد الملاهى .. وأكثر من التردد على السينما .. حتى لم تكن تفوته رواية واحدة .
وفى أمسية من أمسيات الخميس شاهد « ثريا » جالسة أمامه فى الشرفة بسينما « راديو » ومعها رفيقة فى مثل سنها ..
ولم يحادثها أو يجعلها تشعر بوجوده إلى أن انتهى عرض الفيلم .. وظل بعيدا عنها وهى تهبط السلم إلى ردهة السينما وهو يغالب عواطفه ..
وكما يحدث فى مثل هذه المواقف ، بسبب لا يدرك تعليله أحد على الأطلاق استدارت « ثريا » وبصرت به عن قرب وفاض وجهها بالسرور ، وانتحت جانبا تنتظر لتفسح المجال لطابور الخارجين .. ولما رأى ذلك منها أسرع إليها مرحبا .. وقدمت له صديقتها فى عبارة فيها ذكاء ولباقة ، وخرجوا ثلاثتهم إلى الشارع ..

*   *   *
وكان الجو جميلا ويغرى بالتنزه .. والمدينة تسبح فى الأنوار الزرقاء الخفيفة .
وساروا على اقدامهم متمهلين مختارين الشوارع الجانبية التى تقل فيها الحركة فى مثل هذه الساعة ..
ثم اتجهوا إلى محطة الرمل .. وهناك أكلوا أكلة خفيفة وتحدثوا فى مرح .. وكانت « ثريا » منطلقة ، ووجنتاها تتوردان ، كلما سمعت نكته لا تستطيع أن تطلق الضحكة المدوية لها فى مكان عام .. أما صاحبتها فكانت تكتفى بالبسمة العريضة دون أن تعلق بحرف ..
وركبوا جميعا ترام الرمل إلى بيوتهم ..
وكان يتحتم على « خليل » فى هذا الليل وفى جو الحرب والغارات أن يرافق « ثريا » إلى منزلها بعد أن نزلت صديقتها فى محطة الابراهيمية .
وعرف أنها تقيم فى الجانب الشرقى من حى مصطفى باشا .. فسارا الهوينى بعد أن نزلا من الترام وتخطيا طريق الحرية ..
وكان يشعر بالنشوة ، ويود أن يمتد الطريق الضيق الذى أخذ يلتوى فى صعود ، إلى ما لا نهاية ويصبح كبيت جحا يدوران فيه ولا يخرجان منه أبدا..
ولم يشعر من فرط انتعاشه بلسعة البرد الخفيفة التى أخذت تسرى فى الجو  ..
وكانت هى لا تزال ترتدى ملابس الصيف .. فأشفق عليها من البرودة .. ولكنها كانت منتعشة مثله ودافئة ..
وأحس بكل مشاعره وجوارح قلبه بأنها مستريحة إلى صحبته . وأبدت
أسفها على غياب « سميرة » ومرض والدتها فى نغمة حزينة صادقة .
وبلغا البيت ، وكان من طابقين فى صف من الفيلات المبنية على طراز متقابل فى الشكل والارتفاع . وفى حى هادىء يبعد جدا عن حركة الترام والاتوبيس ..
وصعد معها حتى الطابق الثانى الذى تسكنه ..
وكانت تود أن تجعله يدخل ويسلم على والدتها .. ولكنه اعتذر ..
وعندما خرج إلى الطريق مرة أخرى ، أحس ببهجة جعلته يسرع فى سيره وهو يواجه رياح الليل القوية المحملة بهواء البحر ..
*   *   *
وفى صباح السبت جاءته برقية بوفاة المريضة . وعزاه زملاؤه فى الشركة وسهلوا له الحصول على الأجازة سريعا ليحضر الدفن .. فهى أم زوجته ولابد من أن يسير فى الجنازة ..
واستقبلته زوجته بالثوب الأسود والعينين المتورمتين من البكاء ..
ومكث فى القاهرة ثلاث ليال .. نام فيها وحيدا فى غرفة خصصت له .. ولم تجرؤ زوجته أمام اخواتها وقريباتها على النوم فى فراشه .. وأمهن ميته .. وغاظه ذلك وفجر كراهيته لكل هذه التقاليد البالية ..
وكانت تقرأ فى عينيه الاشتياق والرغبة .. ولكنها جبنت وبعدت وتركته فى عذاب ..

*   *   *
ورجع إلى الإسكندرية وحده وترك زوجته تسوى أمور الميراث مع أخواتها وتحضر الخميس مع أهلها تزور فيه المقبرة .. ثم الخميس الذى بعده.. وقبل ذلك لا تستطيع ترك الأسرة ..
ووافقها خليل على رغبتها ووعدها بأن يحضر أول « خميس » .. ويعود بها فى الخميس التالى إلى الإسكندرية ..
*   *   *
ورجع إلى الإسكندرية فى قطار الليل .. وفى الصباح اتصلت به « ثريا » وهو فى مكتبه تعزيه .. ولم يدر كيف عرفت تليفونه .. ثم خمن أنها عرفته من زوجته .. وكان بينهما الحديث .. وحدثته أنها اتصلت بزوجته تليفونيا لتعتذر لها عن سبب عدم سفرها للقاهرة لتعزى لأنها لا تستطيع ترك أمها وحدها .. وأنها اتفقت مع سميرة أن ترسل له الخادمة .. لتنظف له البيت من حين إلى حين .. لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك . وسميرة لا تحب أن تدخل الارجل الغريبة الشقة .. فى مدة غيابها عن البيت . وسترسل له الشغالة اليوم فى الساعة الخامسة ..
وحاول أن يثنيها عن عزمها فلم يستطع ..
وجاءت الشغالة فعلا ونظفت الشقة .. ورفضت أن تتناول منه أى هبة..
وأصبحت تجىء كل يومين وأعطاها المفتاح لتجىء فى الوقت الذى تختاره ويكون موافقا لها .. وسهلت له الكثير من أمور الطعام التى كان يشكو ويتضايق منها .. وكان يود أن يسألها عن « ثريا » ليعرف القليل عنها .. ولكن لسانه لم يطاوعه أن يستقصى ذلك من خادم ..
وعندما كانت خادمة « ثريا » تروح وتجىء فى بيته وتدخل من غرفة إلى غرفة ...
كان يتصور أن سيدتها معها .. وأنه يسمع صوتها ، وهى تناديها وتطلب منها فعل هذا الشىء وترك ذاك .. وأنه يسمع وقع اقدامها الخفيفة فى الصالة..
وعجب لكل هذه التخيلات ولم يجد فى نفسه التعليل لها .. فأنه لم يفكر مطلقا فى أن يوجد أية علاقة بينه وبين « ثريا » أكثر من التعارف الذى حدث فى المحطة .. وأكثر من اللقاء العابر الذى حدث بعد ذلك فى السينما..
وظلت « ثريا » فى كل هذه الحالات بالنسبة له صديقة لزوجته أو زميلة لها فى الدراسة على الأكثر ..
ولكن لماذا كل هذا التفكير فيها ؟ ألأنها وحيدة فى الإسكندرية مثله .. ؟ وغير متزوجة كما تصور . ؟
*   *   *
وحدث ذات مرة وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء .. أن ترك نفسه مع سير الترام ونزل فى محطة مصطفى باشا .. وسار فى طريق الحرية مقبلا ومدبرا أكثر من ثلث الساعة .. ثم اتجه وهو مسلوب الإرادة إلى الحى الذى فيه بيتها .. ومضى إلى الشارع متماسكا أولا متحكما فى أعصابه ، ثم بدأ يشعر بالاضطراب .. وبتغير ضربات قلبه .. ودارت فى رأسه الخواطر وأحلام أشبه بأحلام المراهقين .. ثم أحس بالعرق يتفصد على جبينه .. وألفى
من الحماقة وهو يقترب من البيت أن يطرق بابها ..
ما الذى ستقوله هى أو تقوله أمها لو واجهها فى مثل هذه الساعة .. ؟ وبأى علة سيتعلل .. ؟
وارتد فى الشارع الملتوى الصامت القليل الضوء ، وهو يشعر بجلجلة فى رأسه .. وان رءوسًا قبيحة اطلت من النوافذ ، وأصبحت تضحك عليه بصوت مدو ..
وعندما رجع إلى بيته ونام فى فراشه ، أحس بأتعس ليلة قضاها فى حياته..
*   *   *
وفى عصر يوم جاءت خادمة « ثريا » لتنظف البيت .. وجدته جالسا فى الصالة فحدثته قبل أن تأخذ أنفاسها من صعود السلم أن ستها « ثريا » كانت راكبة الترام معها . ونزلت فى الإبراهيمية لتذهب إلى مكتب التلغراف القريب من هناك ولما سألها « خليل » عن السبب .. عرف أنها ذاهبة لترسل برقية لاخيها الدكتور فى السويس الذى لم يتصل بهم منذ الغارة على السويس .. ولم يكن « خليل » يعرف قط أن لها اخا طبيبا وهو الآن فى مستشفى السويس .. كما حدثته الخادمة ، وأنه كان دائم الاتصال بأمه وأخته ويجىء فى الشهر مرة ومرتين ، ولكنه منذ الغارة العنيفة التى حدثت منذ أربعة أيام على مدينتى السويس وحى الأربعين لم يتصل بهما ولذلك اضطربتا وقضيا الليل فى بكاء ..
وتأثر « خليل » لما سمعه من الخادمة ووجد من واجبه كرجل أن يرتدى
ملابسه على التو ويخرج ليتصل بهما تليفونيا ويطمئنهما ..
ولما تناول السماعة كان صوت « ثريا » .. غير طبيعى رغم أنها حاولت أن تكتم حزنها لما سمعت صوته .. وبعد حديث قصير عن اخيها .. ومحاولة اطمئنانها .. استأذنها فى زيارتهما فى البيت ليطمئن والدتها . فرحبت بالزيارة ..
ووضع السماعة وهو يشعر براحة كبرى ..
*   *    *
ولما دخل البيت استقبلته « ثريا » مرحبة .. ولكن البكاء كان لا يزال أثره فى عينيها ..
وجاءت الأم وهى سيدة نحيلة فوق الخمسين وكانت ترتدى ثوبا أسود وعلى وجهها الاكتئاب وسلمت عليه بيد ناعمة .. وعيناها الخضراوان تحدقان فيه جيدا ، كأنها تقارن بين الصورة التى كونتها عنه من حديثها مع ثريا ، وبين الحقيقة التى أمامها ..
وبدت فى فستانها الأسود عصرية مع وقار سنها ، فقد كانت مقصوصة الشعر متأنقة الزى فى انسجام رائع والحذاء فى لون الفستان .. والزينة خفيفة ولكنها بادية على الشفتين الحمراوين والخدين الاسيلين ...
وكانت عيناها لازالتا تتألقان بالبريق والسواد المائل إلى الاخضرار .. والعدسة الفاحصة فى استرخاء ، يطل منها الحنان كله ..
وقد رأى أنها كانت جميلة فى شبابها بل فتنة بين النساء ..
وكان البيت منسقا نظيفا .. وأثاثه يدل على ذوق عصرى .. ولم يكن
يصل إلى حد الفخامة . ولكنه كان من طراز عصرى جميل بالغ حد الروعة فى التنسيق ..
سر جدًا لأنه دخل بيتا مصريا هادئا لم يسمع فيه جلبة الأطفال وصياحهم.. ولا الفوضى التى تطالعه كلما زار بيت حماته فى القاهرة .
وشرب القهوة وأخذ بكل الوسائل يطمئن الأم .. ولكنها لم تطمئن ..
قال لها « خليل » بلهجة قاطعة :
ــ إذن سأسافر إلى السويس .. غدا صباحا .. واجعلك تطمئنين ..
وقالت ثريا ...
ــ وسأسافر معك ...
وقالت الأم ...
ــ سنسافر نحن الثلاثة ..
وقالت ثريا ...
ــ لا داعى لتعبك يا ماما ..
ــ أبدأ .. لابد أن أراه .. هناك ...
وسألت ثريا فى رقة . وكان قد فاتها شىء لم تلاحظه أولا ...
ــ وكيف تترك عملك ؟ .. ربما لا يسمحون لك بأجازة .. ؟
ــ سأسافر مهما كانت الظروف ..
فردت الأم :
ــ وتتعب نفسك معنا .. با ابنى .. ربنا يخليك ..
ــ هذا .. أقل واجب ...
واتفقوا على اللقاء فى الصباح فى محطة سيدى جابر .. ليأخذوا أول قطار .. ديزل الساعة السادسة صباحا ..
وفى الصباح رأى « ثريا » واقفة وحدها خارج المحطة تنتظره باسمة .. وسر جدا وأدرك أن أمها عدلت عن السفر .. ولما اقترب منها وضغط على يدها انفجرت ضاحكة ..
ــ ما الذى جرى ... ؟
ــ إبراهيم جاء بالليل .. ونائم فى البيت الآن ...
تقصد أخاها الطبيب ...
فقال خليل بمرح :
ــ الحمد للّه ...
ــ واستطردت ثريا :
ــ وجئت مبكرة قبلك حتى لا تقطع التذاكر ..
ــ هكذا قبل الشمس ...
ــ لم أذق للنوم طعما ...
ــ طبعا .. من  الفرح ...
ــ الواقع أنا فرحانة .. ومتضايقة .. فرحانة لقدومه ولنطمئن .. ومتضايقة لأنى كنت أود أن أسافر معك ...
ونظرت إليه بعينيها المتالقتين فى ضوء الصباح الرمادى ...
فأمسك بيدها ودار فى الميدان الفسيح وهو شاعر بقلبه يخفق لأول مرة فى وجيب متصل وبأن جسمه قد خف حتى يكاد يطير ..
وبدأت الشمس تغمر المكان فى هذه اللحظة ..
*   *   *
وعند محطة الترام سألها :
ــ أراجعة إلى البيت .. ؟
ــ طبعا .. فأمامى ساعتان على البنك ..
ــ البنك فى محطة الرمل .. ؟
ــ فى شارع شريف ...
ــ جميل .. وأنا قريب للبنك فى شارع سيزوستريس ...
ــ حقا ... ما أجمل هذا ...
ولما جاء الترام .. ركب معها ...
فقالت بدلال .. وعيناها تتطلعان إليه :
ــ لماذا التعب ... اذهب إلى عملك ...
ــ أمامى ساعتان ...
ــ روح .. واكمل نومك ...
ــ أشعر براحة أكثر .. وأنا معك ..
واحمر وجهها قليلا ، وبدت فى عينيها رقة ساحرة .. وحنان دافق .. ونكست رأسها .. لتخفى كل الانفعالات التى تبدو على وجه العذراء وهى تسمع كلمات الاطراء الخفيفة ..
ولما نزل من الترام فى محطة مصطفى باشا .. رافقها حتى اقتربا من باب بيتها ..
وكان الصباح جميلا مشرقا ، وخيوط الشمس الذهبية اخذت اشعتها تسطع على زجاج النوافذ .. والشوارع بدت خالية من المارة ، ومن حركة السيارات الثقيلة .. فتجعل المرء يحس بالراحة ، وهو يتنفس ، ويشعر بكيانه ووجوده كإنسان يميل بالفطرة إلى السكون ..
ولما أمسك يدها مسلما وعاد وحيدا فى الشارع الاسفلت الضيق المائل إلى الالتواء والممعن فى السكون .. لم يكن فى الطريق الخالى أحد سواه ..
وكان لا يزال فى كيانه الإحساس بوجودها إلى جانبه .. وقع خطواتها الخفيفة .. ونغمة صوتها الناعمة .. وضحكاتها التى لها رنين الفضة .. واللفتة الجانبية وهى تتطلع إلى وجهه كلما اسمعها كلاما تود أن تملأ به جوانح قلبها . وترى حركة الشفتين وهما تنطقان به .. وكانت تلك هى عادتها المحببة إلى نفسه ..
*   *   *
وفى صباح اليوم التالى بعد وصوله إلى المكتب مباشرة سمع صوتها فى التليفون . وحملت إليه شكر والدتها على ما كان قد اعتزمه من السفر واهتمامه بأمر أخيها .. وسألها عنه فقالت له بأنه خرج مع والدتها لتسوق بعض الحاجات قبل سفره ..
وسأل « خليل » عن موعد خروجها من البنك ..
وتقابلا فى الساعة الثانية والربع عند حلوانى منعزل فى شارع شريف .. ومكثا عدة دقائق لم يشعرا فيها بالزمن ولا بالوجوه التى حولهما ..
وقال لها :
ــ أننى لم أشعر قط بالوحشة لسفر سميرة بسببك ..
ــ ولكنها وحشتنى .. لقد طال غيابها .. متى ستسافر لتعود بها ..
ــ ربما جاءت وحدها .. يوم الخميس .. لقد تعبت من السفر .. ومن المجاملات فى الجنائز ..
ــ ولكنها والدتها ..
ــ اعرف هذا .. ولكن ما الذى يفعله الندب والبكاء واللطم .. والخميس.. والأربعين . هل يرد ميتا ؟ أن حياتها كلها جنائز وقد ضقت ذرعا بهذا ..
ــ أن أخى إبراهيم مثلك تماما .. يكره هذه التقاليد .. ولكنها زوجتك .. والأحسن أن تذهب إليها .. وتمسح دموعها .. وتعود معك ..
ــ أهذه رغبتك .. ؟
ــ طبعا ..
ــ سأنفذها أذن ارضاء لك ..
وضحكت ..
وافترقا على لقاء فى مساء الاثنين .. بعد سفر أخيها إلى السويس ، لأنها تلازمه فى أجازته القصيرة وتنافس والدتها فى خدمته وتطويقه بالحنان ..
*   *   *
وقد التقيا فى كازينو « ماى فير » وجاءت مع غروب الشمس فى جوف البحر .. وكأنها شمس أخرى تطل على الكون .. أو كأنها القمر الذى يطلع بعد غروب الشمس .. ولم تكن الليلة مقمرة . ولكن قمرها كان يشع على
البحر الهائج والجمال المحيط ..
وجلسا وراء النافذة الزجاجية العريضة متقابلين ، وعيونهما تحدق واللسانان اخرسان .. وشعر فى هذه اللحظة بأنه أحبها .. وأنها تبادله الحب دون أن تنطق بكلمة .. كانت عيونهما تتحدث ، وشفاههما وكل جوارحهما تنطق .. وكأنهما كانا فى عناق متصل ثم انفصلا وراحا فى دوامة الخدر الذى يبلد الحواس بعد هذه القبلة .. ثم استفاقا وأحسا بكل ما حولهما بالبحر.. والليل .. والعشاق القليلين الجالسين مثلهما فى سكون يتهامسون.
وأخذا يتحدثان الأحاديث المألوفة عن الجو .. والحرب والعمل .. ثم أخذت « ثريا » تحدثه عن خصوصيات حياتها بلسان منطلق .. أحس معه بثقتها المطلقة فيه .. حدثته بأنها تزوجت منذ أربع سنوات ، وهى لا تزال تدرس فى الجامعة .. من قريب لها .. رحل إلى الخارج ليكمل دراسته ، ولم تستطع هى السفر معه فى وقتها لأنها كانت فى مرحلة البكالوريوس .
وبعد سفره بعام واحد ، فى اللحظة التى انهت هى فيها دراستها الجامعية.. واستعدت للسفر .. جاءها نعيه .. وعاد إليها فى صندوق ..
وانتابها حزن قاتل .. فهى تزوجته فى نظر الناس ولكنها لم تتزوجه فى الحقيقة .. ولم تحس بالسعادة الزوجية ساعة واحدة .
وكانت ملامح وجهها جامدة ، وهى تقص عليه هذا ، وأدرك أنها بكت كثيرا حتى جفت دموعها ..
وأمسك بيدها فصمتت ..
وجاشت ذكرياتها الحزينة دفعة واحدة .. فرأى « خليل » أن يغير مجرى
الحديث . وأن يخرجا من المحل ويتمشا على البحر .. فقد أحس بحاجته إلى الحركة وحاجتها بعد هذه الذكرى الحزينة ..
وعلى البحر اختار الطريق الهابط .. وسارا متشابكين بالأيدى على ضوء المصابيح الخافتة ، وعن يسارهما السور العالى يقيهما من العيون وعن يمينهما البحر الذى تحولت زرقته إلى اللون الأحمر القانى كلما علا موجه وصمت ..
وكانت الريح الباردة المحملة بأنفاس البحر ورائحة الطحلب .. تمر على وجهيهما وتحرك شعرها .. وتسد له على عينيها .. فمد خليل يده فى رقة وأزاحه عن جبينها .. فتهلل وجهها .. وكانت هذه اللمسة الناعمة ، وهذه اللفتة الضاحكة من عينيها تحتم عليه أن يختمها بقبلة .. ولكنه لم يفعل .. ولا يدرى أكان ذلك جبنا منه أم زيادة أحترام لها وهما فى طريق عام .. مهما كان هذا الطريق خاليا وشاحب الضوء ..
ولما بلغ التقاطع .. كان يرغب فى أن ينحرف إلى اليسار ويسير فى الشارع الواسع المؤدى إلى سيدى جابر . ولكن « ثريا » رأت أن يواصلا السير على الكورنيش حتى كليوباترا ..
وكان الليل الحالم يلفهما .. والبحر كأن موجاته تغنى لهما وحدهما أعذب الألحان ..
واخترقا حى كليوباترا إلى شريط الترام .. الحى الذى كان صخابا فى الصيف ويعج بالمصيفين وبالحركة الدافقة يموت الآن فى الخريف .. وفى الساعة التاسعة ليلا ..
وعلى الباب وهى تدق الجرس على والدتها تركها .. لم يشأ أن يتركها
وحدها فى الليل شبرا واحدا .. أحس بأنه مكلف بحمايتها وابعادها من كل شر ..
*   *   *
وفى الساعة الثالثة من اليوم التالى دخلا السينما .. وقالت لوالدتها انها ستواصل العمل فى البنك لتنجز أوراقا متأخرة ..
وكانت عواطفها لا تزال مشتعلة اشتعال أبطال الفيلم ..
وجلسا متلاصقين يحسان بحرارة جسميهما ، وحرارة انفاسهما وضربات قلبيهما ..
وكان يود أن يميل عليها بقبلة .. ولكن منعه الجوار وازدحام البلكون ، والعيون التى وراءهما وبجانبهما .. وقد كره الجمهور .. لأول مرة .. وكرهه بعنف ..
وبعد السينما شربا الشاى فى « باستوريدس » ثم ركبا الترام إلى البيت..
*   *   *
وفى عصر يوم من أيام الاثنين وكان قد تغدى خارج البيت .. أحس وهو داخل بحركة فى المطبخ ، فأدرك أن خادمة ثريا تقوم ببعض أعمالها .. كالعادة.. فتركها فى عملها .. ودخل غرفته ليستريح .. وبعد أن خلع بدلته.. وارتدى بيجامته .. مشى إلى دورة المياه ليغسل وجهه .. وفى الردهة الضيقة بصر "بثريا" بلحمها ودمها خارجة من المطبخ .. ففتح فمه دهشا .. وتبادرت إلى ذهنه بأنها جاءت ترافق الخادمة .. عناية به وببيته ..
ولكنها نحت عنه هذا الخاطر بقولها :
ــ سنية سافرت تزور والدتها فى كوم حمادة منذ يومين .. ولازم البيت يتنظف .. فجئت أنا ..
وكان يود أن يقبل فمها الذى نطق بهذه الألفاظ .
ــ شكرا .. هذا كثير .. اشعر بخجل لا حد له ..
ــ لا داعى لهذا كله .. هل تغديت .. ؟
ــ أجل .. وأنت .. ؟
ــ نعم تغديت .. وسأصنع لك قهوة .
وعادت إلى المطبخ .. وأدرك أنه يلبس البيجامة أمامها وهذا لا يليق .. وفكر أن يخلعها .. ويعود إلى لبس البدلة .
وجاءت بصينية القهوة .. ووضعتها فى الصالة فى اللحظة التى رأته يخلع سترة البيجامة .
ــ لماذا .. ؟
ــ سألبس البدلة ..
ــ ولماذا التعب .. ؟ خذ راحتك ..
ــ لا .. هذا .. لا يليق ..
ورأته مصرا .. ومشت إليه وأمسكت سترة البيجامة قبل أن يخلعها .. ولامست يده ذراعها .. فأمسك بها ليمنعها من منعه .. ووجدها ملاصقة به بكل جمالها وكل ما فى جسمها اللدن من فتنة .. فشدها إليه .. وأخذ يقبلها فى شفتيها وعينيها ونحرها بعنف .. ونسيت نفسها لحظات .. وأخذت تبادله القبلات بحرارة .. واستراحت مغلقة عينيها .. فأخذ فى رقة يفك أزرار ثوبها، وهى واقفة ، فأمسكت بيده ، وفتحت عينيها فى توسل .
وحاول أن يعانقها بعنف وأن يجرها إلى الفراش .. فوجدها تقاومه بشدة.. وسألها والعرق يتفصد على جبينه :
ــ هل تفكرين فى سميرة .. يا ثريا .. كصديقة لك .. ؟
ــ أبدا .. ما فكرت فى هذا .. وأنما أفكر فى شىء آخر .. رهيب ..
ــ ماذا ... ؟
ــ أفكر فى أخى .. إبراهيم ..
وأستغرب وسألها :
ــ وما علاقته بالمسألة .. ؟
ــ لو فعلت ما ترغب فيه .. سيموت .. أن حياته مقرونة بطهرى ..
ــ وكيف تشغلين رأسك بهذه الأفكار .. ؟
ــ أنها مسيطرة على تماما .. وهى أحاسيس صادقة .. وقد جربتها ..
ــ جربتها .. ؟ !
ــ أجل .. عندما كان توفيق فى الخارج .. وقد عاد بعدها فى صندوق ..
وغشيهما الضباب .. فتركها وأخذ يروح ويجىء فى الصالة . وهو فى أشد حالات العذاب ، وهى جالسة منكسة الرأس صامتة .. وفى عينيها دموع لم تحبسها هذه المرة ..

صوت البحر(1)
اشتغلت منذ سنوات فى مكتب للسياحة بشارع شريف بمدينة الإسكندرية . وكان صاحبه رجلا ايطاليا يدعى « لوسيانى » كثير الأعمال ، واسع النشاط ، إذ كان يقوم بأعمال أخرى تجارية غير السياحة ، وكان لمكتبة فروع فى معظم الدول الأوربية . كما كان له شركاء لا أعرفهم ، ولم أشاهد أحدا منهم فى مدينة الإسكندرية .
وكان هو قليل الإقامة فى هذه المدينة أيضا. وترك إدارة عمل المكتب لشاب متجنس بالجنسية المصرية يدعى « ميشيل » وكان مثقفًا خبيرًا بشئون السياحة إلى أقصى مدى . ويجيد أربع لغات حية ويعرف كل شبر فى مصر وفى كل بلد له أتصال بعمل المكتب .. وكان يعتمد علىّ اعتمادا كليا إذا سافر إلى الخارج .. وكان فى المكتب ثلاث موظفات أخريات من خريجات المعاهد الأجنبية منهن مصريتان .. وكنا مع اختلاف ثقافتنا وسننا نكون مجموعة صالحة تجيد الإنجليزية والفرنسية والايطالية والألمانية .. ولم نكن فى حاجة إلى لغة أخرى بالنسبة لعمل السياحة..
وكان العمل فى المكتب متصلا طوال أيام الأسبوع فلا أغلاق فى يوم جمعة ولا أحد .. وكنا نتناوب بيننا يوم الراحة ونترك لكل منا اختياره حسب ظروف الأحوال .. وكثيرا ما كنا تحت ضغط العمل لا نستريح أبدا .. فقد كانت سمعة المكتب حسنة فى كل البقاع . وكان شعارنا الأمانة والصدق وحسن اللقاء ... وهى صفات لم نكن نتكلفها بل كانت من طباعنا ..
وكنت أتوجه إلى عملى فى الساعة التاسعة تماما من كل صباح لا أتأخر دقيقة ..
وفى صباح يوم من أيام الأثنين ... وكانت الساعة التاسعة إلا ثلثا .. شاهدت وأنا أمضى على الرصيف الأيسر من شارع « النبى دانيال » سيدة تعلق بعض المجلات الأجنبية على واجهة محل .. ولم أكن قد لاحظت من قبل وجود مكتبة فى هذا الشارع على الأطلاق .. لأنه كان يختنق بدكاكين صغيرة على الصفين لا علاقة لها بالكتب .. دكاكين الأحذية ، والملابس الجاهزة ، والسجائر والحلوى ، وحقائب السيدات ..
ووقفت أسأل عن جريدة « نيوزاوف ذاوارلد » فاجابت السيدة دون أن تتحول إلى ناحيتى ، ويدها مشغولة بترتيب مجلاتها :
ــ انها تأتى فى صباح الثلاثاء ...
وسألتها وأنا أتطلع إلى الواجهة .
ــ المكتبة جديدة ... ؟
ــ إننا هنا من تسع سنوات ...
وواجهتنى وهى تقول هذا .. بصوت فيه لذعة السخرية من غفلتى .. ورأيتها سمينة قليلا وتقترب من طولى وهى واقفة على الرصيف .. وأنا تحته .. حتى لا يحتك جسمى بجسمها .. وكانت قد شغلت الرصيف كله وفتحت « فترينة » المكتبة الخارجية لتضع فيها بعض الكتب الجديدة .. وانحنت ثم انتصبت فى رشاقة وسددت إلى عينين فيهما من الشحوب مثل الذى رأيته على وجهها ..
وقلت وبصرى مركز على شفتيها المنفرجتين .
ــ سأمر غدا ...
ــ مرحبا ...
وهبطت الدرجات وتركتنى أتطلع .. ولمحت المكتبة كلها فى عمق «البدرون وهى فى طول مع أتساع ، وممتلئة إلى السقف بالكتب ، فى تنسيق جميل ..
وعجبت لغفلتى ، وكيف لم الاحظ وجود هذه المكتبة من قبل ، مع أنى أمر كثيرًا من هذا الشارع .. وهى قريبة من مركز عملى ، وكثيرا ما احتاج للصحف والكتب الأجنبية .. فكيف كنت أبعد وأذهب إلى غيرها ...
*   *   *
وفى صباح الثلاثاء وجدتها فى الداخل ، وكانت فى رداء غير الذى شاهدته عليها بالأمس .. جونلة رمادية على بلوزة من « الجرسيه » والشعر مقصوص متموج .. والوجه أكثر شحوبا مما كان بالأمس .. والعينان العسليتان فيهما بريق مطفى ..
وثبتت بصرها على وجهى برهة .. وأدركت أنها نسيتنى تماما ، ونسيت أننى طلبت نسخة من « النيوز » ..
وجاءت بالصحيفة .. ونقدتها اثنى عشر قرشا ثمنها ..
وقلت أنا أقلب البصر فى رفوف الكتب :
ــ كنت أود أن يكون لدى وقت .. لأرى هذا كله .. ولكن الساعة تقترب من التاسعة .. أمفتوحة المكتبة بعد الظهر ... ؟
ــ المكتبة مفتوحة طول اليوم ..
ــ طول اليوم .. ؟
ــ لى شريكة تأتى بعد الساعة الثالثة .. وأنا فى الصباح ...
ــ والكتب رائجة ... ؟
ــ الحمد للّه ... اعتمادنا كله على مجلات الأزياء الآن ..
وكانت لهجتها مصرية خالصة وسرنى ذلك وحييتها وخرجت .
*   *   *
وبعد يومين الفيتها وحدها فى الداخل كالعادة . والساعة تقترب من الثانية والنصف بعد الظهر . وحييتها بهزة من رأسى ، وأخذت استعرض الكتب الإنجليزية والفرنسية .. ولم أكن أبغى كتابا بعينه ..
وسألتنى بعد أن رأتنى أطلع فوق السلم المعدنى وأنزل منه .. دون أن أقع على شىء ...
ــ هل وجدت ما تطلبه ... ؟
ــ أبدا .. ومازلت أبحث ...
ــ رواية .. ؟
ــ نعم ..
ــ ما اسمها ... ؟
ــ الثعلب ... هل شاهدت الفيلم .. كان فى سينما « أمير » ..
ــ أبدا .. عن إذنك ..
وهبطت وطلعت هى .. وترددت قليلا قبل أن تضع قدمها على أول درجات السلم ، لأنى كنت أقف تحته مباشرة .. وأصبح وجهها فى لون الكريز عدة ثوان ..
ثم صعدت فى خفة رغم أنها سمينة نوعا .. ولكننى أدركت موقفها وما اعتراها من خجل فلم أرفع وجهى وهى صاعدة ورفعته ، وهى هابطة وبيدها الكتاب ، فتناولته من يدها ، وأمسكت بذراعها الناعمة حتى استوت على أرض المكتبة ..
وكان الكتاب من طبعة « بنجوين » وأعرف ثمن هذه الطبعة فاخرجت الأربعين قرشا .. وسألتنى وأنا أناولها النقود ..
ــ أترغب فى لفه .. ؟
ــ لا .. شكرا .. سأقرأه فى الترام ...
ولم يكن هناك سبب لبقائى .. ولكننى بقيت وأخذت أدير عينى فى عناوين الكتب فى الناحية التى وضعت فيها الكتب الفرنسية فسألتنى :
ــ أتقرأ بالفرنسية أيضا ..
ــ أجل ..
ــ هذا جميل .. فالكتاب الفرنسى فقد سوقه عندنا منذ رحيل الأجانب..
ــ ستخرج المدارس الفرنسية غيرهم ...
ــ أبدًا .. إن هؤلاء مع الأسف لا يقرأون إلا الكتب المدرسية ..
والفيت المجال انفتح أمامى للمحادثة .. ولما كنت أعرف أن شريكتها تأتى فى الساعة الثالثة ، فقد شعبت الحديث ، وأطلته إلى أن تجىء الأخرى ويقع عليها بصرى ..
وفكرت فى الأشياء التى تجعلها تستريح إلى بعد أن لاحظت حالة المكتبة وما هى عليه من قلة الرواد .. فقلت لها .
ــ أعرف أصدقاء كثيرين .. يشترون الروايات الأجنبية من "هاشيت" وغيرها .. وسأعرفهم طريق مكتبتك .. سيكونون زبائن جدد ..
ــ شكرًا .. شكرًا ..
وظهر على وجهها الفرح .. بدت ابتسامة خفيفة فى العينين الساكنتين .. وتكسر الجفن قليلا ، وعلت الوجنتين حمرة ورعشة .. وبدا الوجه أقل طولا مما هو فى الواقع ..
وظل جانب منها .. من عينيها ، وشفتيها ، يلاحظنى فى إصرار لأقول كلامًا أكثر .. كلاما كانت متعطشة إليه وفى أشد حالات اللهفة على سماعة.. ولكننى صمت ..
وقلت وأنا أنظر إلى الساعة :
ــ الساعة الثالثة وخمس دقائق .. لقد أخرتك ..
ــ أبدا .. لابد أن أنتظر شريكتى ...
ــ أمعتادة هى على التأخير ... ؟
ــ قليلا ... انها موظفة ...
وقلت وأنا أهم بالذهاب ...
ــ أشكرك .. سأذهب لأن مشوارى طويل ..
ــ أين تسكن .. ؟
ــ فى أسبورتنج .. وسأعود للمكتب فى الساعة الخامسة ..
ــ أنا أقرب منك ...
ــ أين .... ؟
ــ فى الأبراهيمية ...
ولم اسألها ان كانت تسكن بالإيجار مثلى أم هو بيت الأسرة .. فقد صعدت درجات المكتبة ، وأستقبلنى جو الشارع البارد ..
*   *   *
وانقضى الخريف ، ودخلنا فى الشتاء ، وأخذت أفواج السياح الأجانب تتوافد على الإسكندرية من البحر ..
وكانت شركتنا تمتلك سيارة واحدة كبيرة تتسع لـ40 راكبا ويسافر فيها السياح فى جولات قصيرة إلى القاهرة .. ولزيادة العدد اضطررنا إلى أستئجار سيارة أخرى وركبت مع السياح فيها كدليل .. وعدت بعد أسبوع مع الفوج ونحن نغلق المكتب فى التاسعة مساء ..
ولما مررت على المكتبة وجدتها مضاءة ، ولم أجد صاحبتى ، وجدت شريكتها التى حدثتنى عنها من قبل .. وكانت أصغر منها سنا وأطول قامة ، وأكثر خفة حركة ورشاقة ..
وسألتها عن « النيوز » ، وهى مشغولة بالحديث مع بعض الزبائن ..
فقالت فى برود وهى تحدق فى وجهى بشدة ..
ــ خلصت ...
ولم تزد حرفا وأستدارت إلى الزبائن . وكان وجهها الجامد الخالى من كل تعبير لا يغرينى على محادثتها .. فتركتها وأنا أحاول أن أتذكر أين وقع بصرى على هذا الوجه من قبل .. ثم تذكرت أنها تركب ترام الرمل من محطة الأبراهيمية فى ساعة معينة لا تغيرها . وتدخل فى نفس العربة التى أجلس فيها ، وتحاول بقامتها الطويلة ، وشعرها الأسمر المتدلى وبعينيها الواسعتين أن تتلمس مقعدا فى زحمة الصباح .. فإن لم تجد لم تيأس وتظل واقفة .. فى مكانها من وسط العربة وعيناها تدوران فى كل اتجاه وحقيبتها ذات الحمالات على كتفها .. وما كان وجهها فى خلال المسيرة من الأبراهيمية إلى محطة الرمل تتحرك فيه جارحة أو تحس معه بالحياة . وانتقلت الصورة كما هى بكل صفاتها إلى المكتبة .
كانت عاملة الصباح بوجهها الشاحب ورقتها أكثر إيناسا لى .. وهناك أناس تراهم فى الحوانيت ، وتنفر من سحنتهم الكئيبة ، ومن خمود ملامحهم ويجعلونك لا تفكر قط فى شراء أية بضاعة منهم . وان كانوا يبيعون أجود الأصناف على الأطلاق ..
ولهذا نفرت من عاملة المساء ..
وقل ترددى على المكتبة فى أثناء نوبتها ..

*   *   *
ولما هبطت درجات المكتبة فى الصباح وجدت صاحبتى فى ركن تتعامل مع سيدة مسنة وشابة .. واستقبلتنى وأنا داخل بابتسامة خفيفة .. وتركتها حتى تفرغ منهما ..
واشترت واحدة ولم تشتر الأخرى .. وخرجتا ..
فرفعت إلىَّ وجهها كأنها تسأل :
ــ أى خدمة .. ؟
وكانت فى فستان برتقالى من التيل ، محكم التفصيل على جسمها المكتنز .. فأبرز مفاتن الجسد .. وأحمر وجهها قليلا لما لاحظت نظراتى التى ليس فيها أدب ..
وقلت وأنا أرفع « دافيد كوبر فيلد » من الصف ..
ــ لقد انقطعت لسفرى ..
ــ أين كنت ... ؟
ــ فى القاهرة .. رحلة للمكتب ...
ــ وجبتلنا أية معاك ...؟
قالت هذا بدلال وعامية حلوة وصوت أحلى ..
فأخرجت سريعا علبة صغيرة من جيبى وقدمتها لها .
فتناولت العلبة وفتحتها وقالت فى دهشة :
ــ هل أخذت المسألة جد ..؟ هذا لى .. ؟ !
ــ بالطبع ...
ــ سلسلة .. وكمان دهب .. ؟!
ــ هذا قليل ..
ــ وهل كنت تفكر فى أنا .. وأنت فى القاهرة ومعك نساء جميلات .. سائحات من كل جنس ...
ــ أن هؤلاء لا يحركن مشاعرى أبدا ..
ــ صحيح ... ؟
ــ صحيح ...
وضحكت .. ورف وجهها مثل الأرجوان .. وسددت نظراتها .. وفى تلك اللحظة شعرت بأنى أميل إليها .. ولا أدرى إلى أى حد ...
*   *   *
وفى صباح الخميس ، وكنت أتقدم فى الشارع فى تؤدة .. لمحتها من بعيد ترتدى مريلة زرقاء وبيدها المكنسة .. وكانت تكنس الرصيف الواقع أمام المكتبة وحتى ما يجاوز ذلك بمقدار أذرع .. وأشفقت عليها وأكبرتها فى الوقت عينه .. فإنها تقوم بكل عمل بنفسها .. دون أن تستعين بخادم وكثيرا ما تحمل مجلات الأزياء إلى زبوناتها فى بيوتهن لتسهل عليهن عملية الشراء والتردد بانتظام على المكتبة ...
ولم يظهر عليها الخجل أو تتوقف عن الكنس لما اقتربت منها .. وإن كانت يدها قد تباطأت قليلا .. وأزاحت خصلة من شعرها عن جبينها .. وانتصبت ترد على تحيتى ..
فقلت بابتسامة :
ــ خلى عنك ..
ــ العفو ..
وظلت الابتسامة الناعمة ترف على ثغرها ، وتركتها فى عملها وهبطت إلى قاع المكتبة .. وجاءت بعد قليل من الوقت فخلعت مريلتها وبدت تحت المريلة فى بلوزة بيضاء وجونلة زرقاء كأنها تستقبل بهما أسعد أيام الصباح .. وان كان الشحوب لا يزال يرى بعض آثاره على الخدين .. ولكن العينين أخذتا فى الالتماع ..
وبدافع من الشفقة البحتة اشتريت كتابين لم أكن أبغى شراءهما .
وسألتها وهى تلفهما :
ــ هل أنت مستريحة إلى هذا العمل .. ؟
ــ وماذا أفعل غيره ..؟
ــ توظفى مثلا ..
ــ انى لا أحمل شهادات مجرد تعليم ثانوى فى المدارس .. الأجنبية ..
ــ انهم لا يطلبون الشهادات بالنسبة للمرأة .. وتستطيع من تجيد اللغات الأجنبية أن تقوم بأعمال كثيرة .. لا تتطلب الشهادة .. كالسكرتارية .. والآلة الكاتبة مثلا ..
ــ لقد قمت بعمل المكتبة وأنا صغيرة لأعول شقيقاتى بعد وفاة والدى وأمى .. كنت الكبيرة ولم يكن لهن عائل سواى .. وكنت أشترى لهن الكتب والكراسات من مكتبة بجانب بيتنا فى محرم بك .. فقلت لنفسى ولماذا لا أفتح أنا مكتبة .. وفتحتها وحدى فى شارع تانيس .. وبعد هذا جئت إلى هنا .. وأشعر بالاستقلال والحرية .. وقد خفت أعبائى الآن وتزوجت شقيقاتى الثلاث جميعا ...
ــ وهل هن معك فى الإسكندرية .. ؟
ــ أبدا .. انهن بعيدات عنى .. وأقربهن إلى متزوجة فى طنطا ..
ــ لقد قمت برسالة عظيمة .. وأنت لماذا لم .. هل ..
ــ لم أتزوج .. لقد شغلت بهن ونسيت نفسى .. حتى فاتنى القطار .
ــ أبدا .. لا تفكرى هكذا .. انك الآن فى سن الجمال الآسر ، فى أجمل ساعات العمر بالنسبة للمرأة .. فكيف تفكرين هكذا ..
وتضرجت وجنتاها .. وأنفرجت شفتاها .. والتمعت عيناها . . وشعرت بأن كلماتى ردت النضارة إلى وجهها . وأجرت الدم فى شرايينها ..
وقالت هامسة :
ــ بصراحة .. لم أفكر فى الزواج أبدا وشغلت بالعمل .. كما ترى ...
ــ العمل .. جميل وطيب بالطبع .. ولكن لا تفكرى أن القطار قد فاتك أبدا .. فبعد عشرين سنة من الآن يمكن أن تقولى هذا ...
فقالت برنة فرح ...
ــ ما هذا .. ؟ !
وضحكت جذلانة طروب ..
وخرجت وأنا أشعر بالرضا .. لأنى حركت الرماد الذى كان خامدًا فى أعماقها ..
*   *   *
وبعد هذا الحديث لاحظت أن أحوالها تغيرت تمامًا .. وأصبحت تعنى باختيار فساتينها ، وتتزين ، وتستقبلنى وهى متعطرة . فى بشاشة تطل من العينين والشفتين ..
وأصبح شراء الكتب لا يهمها .. بقدر ما يهمها حديثى .. وبمجرد دخولى إلى المكتبة .. أراها تفرغ مما فى يدها بسرعة .. لتقف بقربى وأنا جالس على الكرسى الذى أعدته لى بجانب الطاولة .. وأصبحت لا أشاهد من يجلس عليه سواى ..
وكانت تستبقينى ويطول بيننا الحديث ، إلى أن تحضر صاحبتها التى تأتى غالبا بعد الساعة الثالثة ..
ويحدث أحيانا أن أتأخر فى المكتب إذا أشتد ضغط العمل .. فإذا اتجهت إلى المكتبة الفيتها واقفة على الباب ونظرها معلق بالناحية التى أجىء منها .. فإذا أقتربت أرى كل جوارحها تتفتح لمقدمى كما يتفتح الورد للظل ..
ولاحظت أنها تشعر بالغيرة الشديدة إذا تبسطت مع زميلتها فى الحديث.. أو جاوزت الحد إلى المداعبة الخفيفة .. مع أنى لم أكن أشعر بالميل نحو شريكتها أبدًا .. وكنت أحاول فقط بالمداعبة الخفيفة أن أذيب بعض جمودها وأن أجعلها تتيقن أن علاقتى « بصفية » لا تتعد ما هو يجرى عادة بين صاحب المتجر والزبون ..
وعلمت أنهما تسكنان معا فى شقة واحدة فهما شريكتان فى البيت كما هما فى المكتبة .. « فصفية » لما أصبحت وحيدة فى الإسكندرية بعد زواج شقيقاتها .. أسكنت « عفاف » معها فى نفس الشقة .. والشقة ايجارها رخيص وتقع فى شارع تانيس ذلك الشارع الطويل الضيق ، الهابط الصاعد ، الذى يبدأ وينتهى إلى حدود الأبد ..
*   *   *
وعرض فيلم جميل فى سينما « رويال » .. والسينما قريبة من المكتبة ومن مكتب السياحة .. ففكرت فى أن تراه فى يوم الأحد وهو اليوم الوحيد الذى تغلق فيه المكتبة ..
ولما عرضت الرغبة على « صفية » قالت برقة :
ــ آسفة .. لا أستطيع أن أرافقك إلى حفلة فى السينما .. فأنا معروفة فى هذا الحى .. وزبونات المكتبة كثيرات .. وأنت تعرف السنة النساء ...
ــ الفيلم جميل .. وخسارة أن يفوتك .. وما دام وجودى معك يحرجك.. سأجىء بتذكرتين واحدة لك والأخرى لعفاف فى حفلة الساعة الثالثة ...
ــ لا تكلف نفسك .. ولا تعود عفاف على السينما ...
وابتسمت وأضافت :
ــ وكفاية وجودنا مع بعض فى المكتبة ..
تضايقت من رفضها رغم هذا الأعتذار الرقيق .. وبإحساس شاب فى مثل سنى لا يجد فى نفسه قبولا لمثل هذا الأعتذار ، وفى فورة غضب انقطعت عن زيارة المكتبة فى الصباح وأصبحت أمر عليها فى المساء .. أثناء وجود شريكتها عفاف ..
والفيت هذه رغم برودتها وما فى وجهها من قبح .. تتفتح عواطفها إذا كنت معها وحدى فى المكتبة . ولا يوجد زبون آخر .. وتتطلب فى هذه اللحظات المداعبة الصريحة والغزل المفتوح ...
وتطورت العلاقة ولكنى وقفت بها عند حد النزهات الخلوية .. والقبلات والضحكات والسينما كلما غفلت عنا العيون ..
وكنت أمنيها برحلة إلى باريس فى الصيف المقبل ..
وكادت أن تستسلم لى بكليتها لمجرد الأحلام التى تدور فى ذهن الفتاة عن هذه الرحلة .. ولكننى لم أكن أحبها .. وعاملتها بلطف .. كما كنت أعامل رفيقاتى فى العمل فى مكتب السياحة اللواتى لم أكن أشعر نحوهن بأية عاطفة ، مع أن فيهن من تعد جميلة بين النساء .. ولكن هناك أحساس فطرى لا يمكن فهمه ولا تفسيره بعين العقل فى هذه الحياة . أحساس يقرب المرء من هذه المرأة وينفره من تلك ..
وبهذا الأحساس عشت حياتى ..
*   *   *

وفى الساعة الثامنة والنصف من صباح السبت ، وكنت أعبر إشارة المرور عند مقهى « التريانون » فى محطة الرمل ، تحت رذاذ المطر ، وجدت «صفية» تسير خلفى ..
وقالت وهى تقترب بلهجة عتاب !
ــ أكنت مسافرا ... ؟
ــ أبدا ...
ــ ولماذا لا أراك ... ؟
ــ شغلنى عمل كثير فى المكتب ..
ــ لا .. ليس هذا هو السبب ..
ــ ما هو إذن ... ؟
ــ إعتذارى عن السينما أغضبك .. ولماذا السينما ... نستطيع أن نكون مع بعض فى مكان آخر ...
ــ ولكنى أصر على السينما ..
وكان هذا حماقة منى .. وربما تكون السبب فى القطيعة .. وراعنى أنها أجابت فى رقة :
ــ سنذهب إلى السينما ..
وذهبنا إلى السينما فى حفلة الساعة الثالثة من اليوم التالى ... وكانت وادعة طيعة ، ومتعطشة لكل كلماتى فى الظلام ..
وعرفت أننى أقيم فى شقة على البحر فى اسبورتنج ، وأنام مع صوت البحر وهدير موجه العالى .. ومازلت أصف لها الشقة وما فيها من جمال حتى تشوقت إلى رؤيتها ..
وفى طريقنا إلى ترام الرمل ، اشتريت لها زجاجة عطر فرنسية من أجمل العطور فسرت بها كثيرا ..
*   *   *
وأخذنا نخرج معا للتنزه .. كلما وجدنا الوقت والفراغ .. وكنا نختار الليل دائما .. ودخل الشتاء علينا ونحن لا نكاد نشعر بامطاره وعواصفه .. فقد كنا فى دفء من العواطف ...
ولم أقل لها كلمة حب ، ولم تقل هى ذلك . ولكن كل ذرة فى جسمينا كانت تنطق به .. ونسيت سمنتها والألتواء الذى فى ساقيها .. وأسرنى صدرها المكتنز .. وعيناها الساجيتان ، وشعرها المتموج ، والرقة التى فى حديثها ..
كانت تفيض بالعواطف الزاخرة ... وعرفت بيتها وعرفت بيتى .. ولكننا لم نتزاور بعد . وقد مضت شهور طوال على أول لقاء ..
*   *   *
وفى ليلة من ليالى مايو .. وكنا راجعين من استانلى .. نزلنا من الترام فى اسبورتنج ونزلت معى صامتة دون أن تفتح فمها بكلمة .. أحسست بأنها مأخوذة بشىء لا تستطيع مقاومته ولارده .. شىء أقوى من كل إرادة للأنثى...
ودخلنا شقتى ... ولما أصبحنا فى البهو الصغير وأغلقت الباب ورائى تعانقنا فى الظلام قبل أن ندير مفتاح النور ..
وكنت رقيقا وأنا أفك أزرار ثوبها .. وأحسست بها متعطشة للحب الذى جاءها قبل فوات الأوان ..
واخترنا شاطئ أسبورتنج للاستحمام أيضا ... وكنا نهبط فى اتجاه البحر من سلم صغير أمام باب الشقة .. وكان المكان الذى أعتدنا الأستحمام فيه حجريا كثير الصخور .. ولكنه غير عميق لأنها لا تعرف السباحة .. وهو آمن من السيف الرملى الذى يقع بجوار الكازينو .. والذى كثيرا ما يعصف فيه البحر ويعلو موجه .
ولم يكن فى الجوار أحد فى هذا الصباح المبكر قبل الشروق بكثير ..
ودخلت الماء بصدرها ثم انتصبت فتساقط الماء مثل حبات الدر على خطوط جسمها اللدن .. وتقدمت فى حذر حتى بلغ الماء ردفيها المكتنزين .. وسمعتها تنادينى ..
ــ عزت .. تعال .. أنا خائفة ..
فأسرعت وأمسكت بيدها ..
وكنا نشاهد على ضوء الصباح الشاحب ، زوارق الصيادين هناك على خط الأفق ، واقفة فى نصف دائرة . وأنوار قناديلها لازالت تشع ، وقد أخذت تسحب شباكها بعد أن ظلت طوال الليل تغرى السمك بالفوسفور البراق ، وبكل الحيل التى يعرفها الصيادون فى البحار الساكنة ..
ومالت برأسها على صدرى فى الماء فأحتضنتها وغطست بها .. وأحسست بكل ما فيها من نعومة وفتنة تحت ملمس أصابعى .. وطال بقاؤنا فى البحر حتى أحسست بالبرد .. فأخذنا طريقنا إلى الشاطئ فى حذر حتى صعدنا إلى الشارع الخالى من كل إنسان ...
*   *   *
وأصبحت « صفية » تقرع بابى فى ساعة معينة ..
ومرت أيام جميلة ..
*   *   *
وفى ليلة من ليالى الصيف الشديدة الرطوبة .. خلعت « صفية » بلوزتها وجلست على حافة السرير ..
وقالت من غير تمهيد :
ــ إنى حامل ..
وشعرت بسكين حادة تنغرس فى قلبى ، وسألتها وفى صوتى رجفة الخوف :
ــ هل أنت على يقين ..؟ يحدث كثيرا أن تنقطع .. 
وقاطعتنى قائلة :
ــ إنه الشهر الثالث ...
ــ لا داعى لأن تضطربى .. فالمسألة أصبحت سهلة للغاية فى هذا العصر.. والأطباء كثيرون ..
وسألت بجفاء :
ــ أية مسألة .. ؟
ــ التخلص من الجنين ..
ــ ومن الذى قال لك أننى أريد التخلص منه ... ؟
ــ كل سيدة تفعل هذا ما دامت غير متزوجة ..
ــ ومن حدثك بأنى غير متزوجة .. ؟
ــ لم أكن أعرف هذا .. من هو ..؟
ــ أنت .. ومن كل كلامك المعسول عرفت رغبتك الأكيدة فى الزواج منى .. فلماذا تراوغ الآن كالثعلب .. سنتزوج قبل الفضيحة ..
ــ لم أستعد للزواج الآن .. وهو مسئولية واعباء .. وأنا بحكم عملى فى مكتب للسياحة كثير الأسفار إلى الخارج .. وأحيانا يطول غيابى إلى سنة .. ومتى وجدت وظيفة أكثر استقرارا أعدك بالزواج ..
ــ إذا لم تقبل الزواج الآن .. سأحتفظ بالطفل ...
ــ هذا جنون .. وسمعتك .. لقد كنت تخشين السنة الناس من مجرد ذهابك إلى السينما ..
ــ ولكننى الآن لا أعبأ بشىء وسأحتفظ بالطفل ، لأنى فى حاجة إليه .. فى حاجة إلى رجل يقف بجانبى .. فى حياتى وعملى .. سأحتفظ به ...
وتنمرت سحنتها .. وخشيت أن يتطور الحديث معها إلى عراك .. فتركتها وحدها .. وخرجت إلى الشارع ..
ثم رجعت إلى نفسى ، وأدركت أن من الصالح لى أن أجاريها فى رغبتها فى الزواج ، لأمنعها من اثارة فضيحة .. ولذلك عدت إليها وأخذت أطمئنها. ووعدتها بالزواج بمجرد تسلم المكافأة من الشركة التى يوزعها علينا «لوسيانى» عند مقدمه من أوربا .. لنستطيع بهذه المكافأة أن نؤثث بيتا جميلا يليق بنا .. واقتنعت .. وعاد إليها الصفاء ..
وأصبحت تجىء إلى شقتى فى اسبورتنج ، وهى مطمئنة غاية الأطمئنان .. كما كنت أذهب إلى بيتها فى الليلتين اللتين تغيب فيهما زميلتها « عفاف » وتسافر إلى أهلها فى دمنهور .. وكانت تسافر مساء الخميس كل أسبوعين... وتعود فى صباح السبت إلى المصلحة مباشرة .. فكنا نقضى مساء الخميس ومساء الجمعة أنا وصفية معا فى عناق متصل .. وشعور بالراحة النفسية والحرية لأننا وحدنا فى البيت ..
وكنا نتخفف من ملابسنا ونستحم معا فى الحمام .. ونغطس فى البانيو الدافئ ..
وقد ولد عندى الحمام والسخان فكرة رائعة .. وجدت فيها خلاصى .. ولكننى أجلتها إلى حين ..
*   *   *
وسيطرت عليها فكرة الزواج .. سيطرة تامة فكنا نتحدث عنه فى الصباح والمساء وفى كل وقت نلتقى فيه ..
وكانت تقول لى أن صاحبة لها وجدت شقة فى ميامى ... أو فلمنج .. أو كليوباترا .. من البيوت القديمة ويطلب أصحابها خلوا ليس فيه مغالاة ... وتحت رغبتها كنا نذهب أنا وهى ونرى هذه الشقق لأزيد من اطمئنانها إلى وعدى ...
وفى كل شقة يظهر العيب واضحا .. فكنا نعود من الجولة دون نتيجة ..
واخيرا استقر رأينا على شقة جميلة فى الشاطبى .. ووجدناها الأحسن لنا فهى قريبة من مكان عملها وعملى .. كما أنها فى عمارة حديثة البناء وايجارها مقبول .. ونستطيع تأثيثها بسهولة بأثاث جديد لأنها من حجرتين فقط .. وحصرنا تفكير المستقبل فيها ..
وكنت إلى هذه اللحظة أشك فى الحمل وأتصور أنها لعبة جهنمية لعبتها لترتبط بى .. ولكننى تأكدت منه ذات ليلة وأنا فى بيتها .. وكانت تتجرد من ملابسها فى غرفتها ولا تتوقع دخولى عليها .. فلاحظت البروز بوضوح.. وأصفر وجهى فإن هذا الشىء لا أحبه أبدًا .. يكون لى نسل منها .. ؟ لا .. لا .. أبدا .. أبدا .. وساقنى التفكير المرعب إلى حالة جنون ..
*   *    *
وحدث فجأة ما شغل كل وقتى .. فقد كان هناك فوج من السائحين الأجانب عائد إلى جنوا على سفينة تركية بعد عدة أيام . فوجدت الفرصة متاحة أمامى ، وأبديت لمدير المكتب رغبتى فى أن أسافر مع هذا الفوج على نفس الباخرة .. وأشتغل فى "جنوا" أو "مارسيليا" الأشهر المقررة لكل منا فى الخارج .. ووافق وبدأت الاتصالات بمكتبنا فى جنوا .. وبدأت أجهز جواز السفر والاجراءات كلها ..
وأخذ ذهنى يشتغل فى الوقت عينه بما هو أهم عندى ... ووجدت فى السفر الفرصة الذهبية لتنفيذه على الفور ..
وتحدد يوم السفر وتمت جميع الاجراءات وبقى على ميعاده خمسة أيام قضيتها مع « صفية » فى نزهات ليلية متصلة ..
وكتمت عنها خبر السفر طبعا .. وأكثرنا من الحديث عن الزواج وما يدخره لنا المستقبل من هناء ...
وفى صباح الثلاثاء ، علمت منها أن عفاف مسافرة إلى دمنهور فى مساء الخميس كعادتها . فطار قلبى من الفرح ..
وفى مساء الخميس أعطتنى « صفية » المفتاح .. فدخلت الشقة قبلها .. وأغلقت هى المكتبة قبل ميعادها بساعة وجاءت منشرحة تواقه للعناق ..
وفى صباح الجمعة استيقظت قبلها ودخلت الحمام .. وأشعلت السخان وأخذت أعاين الجهاز بدقة وتناولت الخرطوم .. ووجدت أن الثغرة فيه تكفى..
وبعد خروجى من الحمام كانت قد استيقظت فسألتنى :
ــ هل أخذت الحمام ... ؟
ــ أجل ..
ــ سأعد الشاى واستحم مثلك .. لقد تأخرت عن المكتبة ياعزت ..
بسبب حبى لك .. وجنونى بك ...
ــ اليوم جمعة .. والتأخير ساعة لا يهم ...
وفرغنا من الشاى ...
وتناولت هى البرنس وملابسها الداخلية .. وبصرت بى خارجا من الحمام وهى تستعد لدخوله ..
فسألتنى :
ــ هل نسيت شيئا .. ؟
ــ نسيت الساعة .. وأشعلت لك السخان .. لأنه يعاكس ...
ــ شكرا ..
ودخلت الحمام وأغلقت الباب .. وسمعت صوت الدش .. وظللت أسمعه.. واستمر صوته .. ولم ينقطع تدفق المياه ..
وشممت رائحة الغاز يتسرب من فرجة الباب ..
وخيل إلىّ أنه ملأ جو الشقة فارتديت ملابسى على عجل ...
وعدت إلى باب الحمام فلم أسمع صوتها .. وكان من عادتها أن تغنى وهى واقفة فى البانيو ..
واستمر صوت الماء ..
*   *   *

وخرجت سريعا من باب الشقة . واجتهدت ألا ترانى امرأة البواب وأنا أجتاز عتبة العمارة ..
واتجهت مباشرة إلى المكتب وكنت هادئ الأعصاب إلى الحد الذى جعلنى أعجب لحالتى ..
وبعد اغلاق المكتب .. ذهبت إلى السينما ثم دخلت حانة لأشرب وأثقل رأسى وأنام ...
ولما فتحت باب شقتى الصغيرة فى أسبورتنج وتمددت على السرير لم أنم.. وظللت أسمع صوت البحر .. كان يهدر فى غضب .. لم أسمعه فى مثل هذه الحالة من الهياج أبدا ... كان موجه يعلو على رصيف الشارع ويضرب بابى المغلق .. والرياح من ورائه تصفر ...
كان البحر يحكى فعلتى وكل ما فعله ويفعله الإنسان بأخيه الإنسان فى هذا العالم المضطرب المتوحش منذ الأزل من عهد قابيل وهابيل ...
كان يحكى والرياح تصفر ...
*   *   *
وأغلقت أذنى ، وأغلقت عينى ، واسترخيت .. لم أعد أسمع صوت البحر... بعد يومين ستقلع الباخرة .. وسأسافر وربما إلى الأبد ...
*   *   *
وتنفست الصعداء .. وأنا أدخل من باب الميناء .. وكدت من الفرحة أن أصرخ .
وقدمت الجواز ودخلت الصالة الواسعة .. والباخرة أمامى على الرصيف..
وكانت معى حقيبة واحدة ومر كل شىء سريعا ..
وفى مكتب بوليس الميناء .. نظر الضابط إلى الجواز .. وإلى وجهى .. ثم طوى الجواز ..
وقال لى وهو يبتسم :
ــ أسترح لحظة ...
ــ أهناك شىء ... ؟
ــ سيدة تنتظرك فى الخارج ... وتريد وداعك ...
ونظرت من وراء الزجاج فوجدت « صفية » واقفة هناك فى الخارج عند صالة الجمرك وقد ظهر بروز بطنها بوضوح من خلال ثوبها الضيق ...

البرج (1)
عندما استولى الألمان على « الضبعة » فزعت الشركات الكبرى وبيوت المال الموجودة فى القاهرة .. وأخذ الأثرياء والذين ارتموا فى أحضان الإنجليز يعدون العدة للهرب إلى السودان .
وكانت الغارات متصلة فى النهار والليل والحرب قد أصبحت على خطوات منا .
وأسرع الناس يخفون جواهرهم وحليهم ويسحبون ودائعهم من البنوك .
واتخذت طريقى إلى البنك الأهلى كالعادة لأصرف المبلغ المخصص لمرتبات الموظفين فى الشركة .
ووقفت على جانب من الطاولة الطويلة أعد السبعة آلاف جنيه وبجوارى زملائى من الصيارف .. وكانوا يتحدثون فى قلق .. عن مصيرنا جميعا فى الشهر المقبل .. وهل سنجىء إلى هنا ونقف هذه الوقفة ؟ أو سنكون فى عرض الطريق .
ووضعت المبلغ فى حقيبتى وخرجت من صالة البنك إلى شارع قصر النيل ووقفت على الناصية انتظر سيارة أجرة لأركبها إلى الشركة كما كنت أفعل كل مرة .. وفى أثناء ذلك دوت صفارة الانذار .. فملت إلى الباكية .. لما سمعت أزير الطائرات فوقى وقصف المدافع المضادة .. وكان الضرب شديدا حتى خيل إلى أن بعض الجنود قد هبطوا بالمظلات فى مداخل العاصمة وعلى رأس « الكبارى » والطرقات ..
واشتعل رأسى بخواطر لم أفكر فيها قط وأنا واقف وبجوارى أكياس الرمل التى تحيط بالبنك .. جاءت من وحى الساعة .. وطالت الغارة .. وكانت كل لحظة تمر تشد من عزمى إلى تنفيذ ما انتويته .. بأسرع ما فى المستطاع .
وبحماسة الشباب لكل مغامرة .. ودون خوف .. انطلقت بالمبلغ إلى بيتى وأخذت أعد حقيبة السفر بالسرعة التى يتطلبها الموقف ..
وكانت محطة القاهرة تعج بالجنود الإنجليز الهابطين من القطارات والصاعدين إليها بأحمالهم ، وبنادقهم على أكتافهم .. وأثر الهزيمة باد على وجوههم .. والناس يتخاطفون الصحف .. والأنباء فى كل لحظة تأتى بخبر جديد .
وسرنى الزحام الذى وجدته فى المحطة .. والجمهور الغفير بأزيائه المختلفة.. فتهت فى وسط هذه الجموع حتى ركبت قطار الظهر المسافر إلى الإسكندرية .
ولم أكن أعرف حتى بعد أن تحرك القطار أين سأنزل ولكننى كنت أعرف كل شبر فى الإسكندرية .
*   *   *
وكانت الحركة فى الإسكندرية عادية جدا والمدينة كما ألفتها .. ولا يغير من وجهها سوى وجود الجنود الإنجليز والأمريكان بكثرة فى الشوارع .. وكنا فى بداية الصيف .. والجو لطيف .. والمدينة لا تزال ضاحكة .
وجلست فى مدخل قهوة صغيرة فى شارع « النبى دانيال » لأستريح وأختار مكان الإقامة .
ووجدت بعد تأمل أن الموقف يتطلب أن أبتعد عن كل مكان يمكن أن ألاقى فيه شخصا أعرفه .
واخترت بقليل من التفكير « المندرة » .. لأنى أعرفها جيدا ولأنها بعيدة عن العيون ..
وقد تنشر الصحف صورتى فى الصباح التالى وتروى ما حدث بإثارة .. وقد تجبن الشركة عن النشر لأنها يهودية .. وتتوقع دخول رومل .. فى كل لحظة .
وفى كلتا الحالتين أنا آمن فى المندرة .. وهى خير مكان ..
وخلال لحظات كانت تمر فى زحمة المدينة كنت أنسى أننى هارب وأحمل سبعة آلاف جنيه مسروقة .
وبلغت « المندرة » وقرص الشمس يتدلى فى البحر .. وكان البحر لا يزال يهدر وموجه يزحف على الشاطئ الرملى ..
واتجهت إلى المساكن .. وأنا أعرف أن كثيرا من السكان هجروا الإسكندرية بسبب الغارات وزحفوا إلى الريف .. فكانت المساكن الخالية كثيرة جدا .. ولم أكن أود أن أستعين بأى انسان فى البحث عن غرفة .
تركت المنازل القريبة من البحر ، وعبرت شريط سكة حديد « أبى قير » كنت أود أن أجد غرفة هناك فى المنازل المقامة على التلال .. والتى تحيط بها الحدائق الصغيرة .. هناك يمكن التخفى فلا أحد يتعقبنى فى مثل هذا المكان .
كانت المنازل متشابهة وقليلة الارتفاع .. واسترعى انتباهى منزل على شكل برج كان أعلاها جميعا .. وبه لافتة تشير إلى غرفة للإيجار ودرت حوله مرتين .. ثم ضغطت على الجرس .. والحقيبة لا تزال فى يدى وعيناى تتطلعان إلى فوق .. ولم أتلق ردا .. فطرقت الباب خشية أن يكون الجرس معطلا ، طرقته مرتين فلم أسمع غير السكون فتسحبت متمهلا على الرمال .. وأنا أفكر فى الذهاب إلى جهة أخرى وهفا إلى من عل صوت ناعم يقول :
ــ مين .. ؟
فتطلعت إلى فوق .. فرأيت سيدة شابة تطل من نافذة البرج ..
بدت لى أنها خارجة على التو من الحمام .. كانت محلولة الشعر .. والروب الأزرق ينفرج عن صدر كالمرمر ..
وقلت وأنا أحاول أن أجعل صوتى خافتا لا يسمع ..
ــ فيه غرفة مفروشة ؟
ــ أنا نازلة ..
وحدث ما توقعته .. فهبطت وفتحت الباب .. ووقفت أمامى تتفرس فى وجهى وأنا ممسك بالحقيبة .
وسألتها عن الغرفة ..
فسألتنى بنعومة :
ــ عاوزها .. شهر واحد أو شهرين .. ؟
ــ شهرين وربما أكثر .. عندما تستقر الأمور ..
ــ طيب .. لما أسأل ماما .. اتفضل ..
ودخلت من الباب الخارجى .. إلى فسحة صغيرة .. وقدمت لى كرسيا .. وانسابت إلى الداخل وهى تقول :
ــ يا ماما .. فيه واحد أفندى عاوز يسكن ..
وسمعت الجواب آتيا من بعيد دون أن أرى صاحبته .
ــ طيب يا بنتى وماله .. فرجيه على الغرفة اللى فوق ..
وصعدت سلالم البرج .. وراءها إلى غرفة علوية مفروشة بأثاث بسيط .. ولكنها جميلة وتطل على ناحية البحر ..
ويبدو أنها كانت بداية لشقة كاملة .. ولكنها لم تتم فقد ظهر أثر ذلك على السطح ..
وكان لابد أن استعمل دورة المياه الموجودة فى شقتها .. لأن الغرفة لم يكن لها دورة مياه خاصة .
ولذلك أعطتنى السيدة مفتاح الشقة .. ونقدتها أجر الغرفة مقدما عن شهر .
وأخذت تدلنى على كل شىء فى الغرفة .. ثم خرجت بى إلى السطح وأرتنى برج الحمام .. الذى أصبح خاليا تماما .. وشاهدت معها المنظر كله وما يحيط بالبيت من بساتين .. ومنازل صغيرة على غاية من الجمال ..
وسألتنى بدماثة إن كنت فى حاجة إلى مزيد من الأثاث فى الغرفة .. فشكرتها .. وقلت لها أن الموجود فيها فوق الكفاية ..
وحيتنى ونزلت إلى شقتها وجلست ببذلتى متجها إلى ناحية الشمال .. وكانت الشمس تجنح للغروب والهواء يحمل إلى من بعيد نسيم البحر .
وكانت تلال الرمال المحيطة بالبيت تلمع فى الشمس والنخيل الكثير المحيط بالمساكن يوحى إلى بأننى انتقلت فجأة إلى واحة .. هادئة ساكنة ..
كان يخيم على « المندرة » .. هدوء غريب .. كأننا فى صميم الريف هدوء كنت أطلبه بجدع الأنف فوجدته بسهولة .. أنه أحسن مكان لهارب ..
وكانت الحقيبة الملآنة بأوراق البنكنوت موضوعة هناك فى الركن ولم افتحها .. وأخذت أفكر فى المكان الذى أخفى فيه المبلغ .. أأتركه كما هو فى الحقيبة أم أنقله إلى الدولاب .. وأخيرا وضعته فى درج الدولاب .. وغطيته بالملابس الداخلية ..
وخلعت بذلتى واغتسلت من تراب السفر .. ورأيت شقتها وكانت مكونة من غرفتين صغيرتين وفسحة .. ورأيت والدتها العجوز .. ولم أر فى البيت سواهما .. وكان الأثاث يدل على أن الأسرة متوسطة الحال .. ووجدت فى عين الأم صرامة لما وقع بصرى عليها .. وكانت ساكنة الطائر ولكن حسها كان يعلو دائما على صوت ابنتها .. وكانت هذه طيعة لها على طول الخط .
*   *   *
وعضنى الجوع .. فركبت القطار فى الليل إلى المدينة .. وكان الاظلام تاما .. والناس رغم الظلام فى حركة دائبة .. والملاهى ممتلئة بالجنود الإنجليز والسكارى ..
وكانت هناك فصائل من الجنود فى المحطة راحلة إلى الجبهة .. والدبابات تتدحرج بعيون عمياء فى الشوارع الرئيسية ..
وكان سكان المدينة قد خرجوا إلى المقاهى يستمعون فيها إلى أخبار الحرب.. وإلى دور السينما والملاهى المتناثرة على طول الكورنيش .
ودخلت مرقصا .. وجلست إلى مائدة فى الركن وطلبت كأسا من البراندى .. وكان الضوء خافتا ورائحة الدخان تغطى المرقص .. وفى دائرة الضوء راقصة مصرية شابة ترقص رقصا شرقيا مثيرا ..
وكان جسمها لدنا بديع التقاطيع .. ومن عينيها يطل بريق الشهوة .. وحولت نظراتى إليها ولاحظت أنى لا أحول طرفى عنها ولما انتهت الرقصة مرت بجانبى لأدعوها إلى مائدتى ولكنى لم أفعل .. وجلست مترددا .. ومشت نحو زبون آخر وجلست تحادثه .
وشعرت بعد قليل أن التردد فى دعوتها قد ولد عندى أحساسا بالضيق.. فطلبت كأسا ثم كأسا .. وجلست أشرب حتى أحمرت عيناى وأحسست بثقل فى رأسى .. وأخذت أحس أكثر وأكثر بفظاعة ما عملته فى الصباح .. وبأننى لا أستطيع أن أختفى أكثر من شهر .. ثم أقع فى قبضتهم .. وأنه لا شىء ينقذنى إلا دخول رومل وسحق الشركة بكل من فيها من يهود ..
وكان الخوف من دخول السجن قد أرعبنى فجلست حزينا منقبض الصدر ..
*   *   *
وعندما خرجت إلى الشارع كان الجو لطيفا وهواء البحر يرطب الوجوه.. وشاهدت بعض المجندات الإنجليزيات يتبخترن فى شارع صفية زغلول .. فى ملابسهن الرسمية وكن جميلات أنيقات .. وخدودهن وردية .. وكان الحزن والقلق والخمر التى شربتها قد جعلتنى أشتهيهن بجنون ، كانت الرغبة الجنسية هى منقذى الوحيد من عذابى وقلقى ..
ولما ملن إلى شارع « شريف » تبعتهن ودخلن السينما .. فدخلت وراءهن وجلست فى نفس الصف .
وكان الفيلم مثيرا .. ورغم ما فيه من مواقف فقد جلسن ساكنات .
وكان هناك جنود انجليز فى الصالة يشاهدون الفيلم مثلنا فلم أحفل بهم اطلاقا .. وتولد عندى فى هذه اللحظة أحساس رهيب للقتال .. ودوت صفارة الانذار فى الخارج .. فتوقف العرض فى السينما .. وظهر على وجوه المجندات الاضطراب .. والخوف .. ونحن فى هذا المستطيل الضيق والظلام يرج النفس ويمزقها .
وتلقين من بعض الجنود اشارة فنهضن وخرجن متسللات .. كانت هناك عربات مغلقة تجمعهن فى الشوارع ..
وخرجت بعدهن ومشيت فى الظلام إلى المحطة وأنا شارد الذهن تماما ثم ركبت القطار إلى المندرة ..
*   *   *

ومن عادتى أن آخذ حماما بعد كل جولة فى المدينة فخلعت بذلتى ولبست البيجاما ونزلت إلى شقة سعدية وكان السكون مخيما ولم أكن أعرف أتنام مع أمها فى غرفة واحدة أم تنام وحدها .. لم أسمع حسها .. ولكن فى الصباح عرفت أنها كانت ساهرة وأحست بى وأنا فى الحمام .
ومرت عشرة أيام استطعت أن أشعر فى خلالها بالاطمئنان وأن أحدا لا يتعقبنى وأن مصيرى قد أصبح مجهولا للشركة فمن المحتمل جدا أن يتصوروا أننى أصبت فى غارة .. أو قتلت فى حادث سيارة فى الظلام ..
ولكن الشىء الذى أقلقنى أن زحف رومل قد توقف فى العلمين .. مما جعل الشركات تجمع شملها من جديد ..
ولم أكن أود أن أطلق لحيتى أو أغير زيى فألبس الملابس البلدية مثلا بدل البذلة . لم أكن أود أن أفعل هذا أمام « سعدية » .. وأمها حتى لا أثير شكوكهما .. وعلى الأخص أنه لم يكن بينى وبين الأم أية مودة .. وكل ما فعلته اننى غيرت اسمى من إبراهيم عبد الكريم إلى سيد عبد القادر .. ولم أبق فى حوزتى أية أوراق تشير إلى اسمى الحقيقى ..
وكان البيت هادئا .. وليس فيه من السكان .. سوى سعدية وأمها وساكن فى الدور الأرضى .. وكنت لا أراه إلا لماما ..
وكان « سليم » يعيش وحيدا .. ويقولون أن زوجته هجرته .. لما اشتعلت الحرب واشتغلت راقصة فى القاهرة .. وعشقها أحد الضباط الإنجليز وأصبحت محظيته ..
وكان الرجل فى حوالى الثلاثين من عمره قويا طويل العود .. ولكن أثر حادث هرب زوجته على عقله .. فأصابته لوثة .. من كثرة كلام الناس عن زوجته وتقريعهم .. وكان الصبيان يتضاحكون عليه فكان يثور عليهم ويحاول ضربهم ثم يهدأ سريعا ..
وأصبح يبتعد عنهم ويعيش فى عزلة تامة ولا يأتى إلا إذا خيم الظلام .. فكنت لا أراه إلا نادرا .. ويخيل إلى أنه لا يأتى إلى البيت إلا لينام .. ولم أكن أعرف عمله على وجه التحقيق ..
وانقضى أسبوعان آخران .. ووجدت نفسى لطابع الملال أقضى الليالى كلها فى ملاهى الإسكندرية .. وكنت دائما أضع فى محفظتى .. عشرة جنيهات للصرف .. وثلاث ورقات كل ورقة بمائة جنيه فى جانب من المحفظة وأبقيها ولا أمسها على احتمال أن البيت سيدمر فى غارة جوية وهذا المبلغ سأعيش به إلى حين .
ولم يكن الظلام الذى يغلف المدينة يرهبنى ولا وجود الجنود الإنجليز والأمريكيين فى كل مكان ..
وكانت قوافل سياراتهم تتحرك دوما .. فى الشوارع الرئيسية وهى حاجبة أنوارها خشية الغارات التى اشتدت على الإسكندرية .
وكانت قطع من الأسطول البريطانى راسية هناك فى مياه الإسكندرية .. ولكنها كانت لا ترى بالعين المجردة فى عرض الماء .. كانت تختفى عن الأنظار وكان وجود فصائل من الجنود الإنجليز فى « أبى قير » يجعلهم دائما من ركاب القطارات الذاهبة إلى المندرة والراجعة منها .. وفى الليل كنت أرى بعضهم سكارى يترنحون فى شوارع « المندرة » أو فى صحبة من يقودهم إلى حيث النساء الساقطات .
وكان الفراغ والتبطل وظلام الحرب ووجود المال معى بغير حساب يجعلنى أصرف بسخاء وأدور على الملاهى كل ليلة ..
ودفعنى القلق .. إلى طلب النساء .. فكنت ألتقى بهن فى شارع «البير» وأرافقهن إلى مساكنهن ..
وحدث ذات ليلة أن نشبت معركة رهيبة بين الجنود الإنجليز والأهالى فى شارع البير وأطلق فيها النار وكدت أن يقبض على لولا أننى جريت فى الظلام ودخلت فى أول باب مفتوح صادفنى فى الشارع .. وكنت أسمع خلفى ضوضاء المعركة وصوت الرصاص وأحاول بكل جهد أن أبتعد عنها .. حتى لا يقبض على وتقع الكارثة ..
والظاهر أن سكان العمارات المجاورة فى الحى أحسوا بها .. لأنهم أطلوا من النوافذ والشرفات فى الظلمة البادية وسمعت وأنا فى مدخل البيت حركة أقدام تقترب فصعدت إلى الدور الرابع .. ووقفت على البسطة مذعورا وأنا أسمع جلبة رهيبة تقترب فى كل لحظة ..
ووقفت أمام باب مغلق أحاول أن أقرأ اللافتة المكتوبة عليه ورقم الشقة.. وهنا سمعت الباب المقابل ينفرج وأطلت منه سيدة مصرية فى حى معظم سكانه من الأجانب ..
ولما بصرت بحالى .. قالت بعذوبة :
ــ اتفضل ..
فدخلت على التو دون تردد .. وأغلقت الباب ورائى وأخبرتنى أنها أحست بالمعركة منذ بدايتها .. وأننى فى أمان الآن .. ويمكن أن أقضى عندها الليل كله .. أو بعضه .. على حسب رغبتى .. وأنها وحدها ويؤنسها وجودى وأدركت من حركاتها أنها غانية ..
وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث وكانت فرحة وشربنا وأعطتنى شفتيها.. ونمت فى فراشها ..
ولما خرجت فى الصباح .. إلى الطريق عرفت أنها سرقت محفظتى بكل ما فيها من نقود ..
وقضيت أسبوعا كاملا لا أبرح فيه المندرة .
*   *   *
وأصبحت فى الشهر الثانى من هروبى وكان كل شىء مريحا فى البيت .. ولم أكن فيما عدا غسل ملابسى أشعر بأى مضايقة .. وكنت أرسل القمصان للمكوجى ولكن الملابس الداخلية ترددت فى ارسالها لأنى خشيت أن يغسلها مع ملابس أخرى ..
فكنت أغسلها بيدى فى الحمام ..
وحدث أن رأتنى سعدية وأنا أفعل ذلك .. فتناولتها من يدى وقالت بعذوبة لم أسمعها من فمها من قبل ..
ــ ولماذا لم تخبرنى .. اترك غسيلك هنا .
وشكرتها بقلب حار ..
ولقد أخجلتنى بفعلها هذا ، وزادت رقتها على مدى الأيام واهتمامها بى فتحولت إليها بعد أن كانت عندى مجرد صاحبة بيت .. كانت متوسطة الطول سمينة قليلا .. وكان قوامها جميلا متناسقا .. ووجهها أبيض فى استدارة وشعرها أسود غزيرا .. وعيناها جميلتين عذبتين .. وعلى شفتيها رضاب يتحير أبدا .
وكان صوتها خافتا عذب الجرس .. وكانت ترد على زعاق أمها بصوت هادىء حيرنى ... وكنت أسأل نفسى دائما لماذا لم تتزوج فتاة فى مثل جمالها ولها بيت تملكه ..
وكانت قليلة الخروج وست بيت ممتازة ..
وكنت بعد أن أخرج من الحمام أراه قد نظف فى دقائق قليلة وعاد رخامه يلمع .. وكان فراشى وحجرتى فى غاية من النظافة ..
وكانت تقدم لى الشاى .. والماء المثلج .. وتركب الزراير الساقطة من القمصان .. وتكوى لى البيجامة وتعد لى ماكينة الحلاقة فى الحمام .
ولم أكن أبغى بيتا وحنانا أكثر من هذا فى حياتى .. وكان يحزننى أننى وجدت هذا البيت وهذا الحنان وأنا هارب .. مطارد ..
وكان الهدوء الذى خيم على جبهة القتال فى العلمين يمزق أعصابى .. إذ كنت أجد فى استمرار الحرب وتأججها نجاة لحياتى .
وكان يخفف من وقع الأمر على نفسى استمرار الغارات .. والاظلام فى كل مكان .. وهجرة السكان من المدينة إلى الريف .
وقد جعلنى القلق وكثرة المال الذى فى حوزتى أتردد على البغايا .. وأصاحب الراقصات فى الملاهى وكنت أشعر بجفاف حياتى وضحالتها .
ولكن لم يكن من سبيل إلى شىء آخر أعمله .. ونسيت أهلى فى القاهرة.. إذ كانوا قلة وكنت أعيش فى عزلة تامة عنهم حتى قبل بداية الحرب .. ولم أكن أعرف عنهم شيئا اطلاقا وأنا فى الشركة ..
ودارت فى ذهنى مشروعات كثيرة كلما نظرت إلى أوراق البنكنوت فى الدولاب ..
وفكرت فى أشياء أعملها وأدر منها ربحا كبيرا ولكننى كنت أتردد فى التنفيذ وأخيرا استقر رأيى على أن أرحل إلى الخارج بعد أن أعثر على من يهربنى فى سفينة بضائع ..
ولم أكن أدرى هل استرابت السيدة سعدية من حالتى .. فأنا متأنق وأصرف بسخاء ولكننى كنت أخرج فى الصباح كأى شخص يعمل ولا أعود إلا فى ساعة القيلولة ..
وعندما بدأ الخريف تغيرت طباعى وزادت صلتى بها .. حتى كدت أن أعترف لها بما فعلته ..
*   *   *
ولقد طرق بابى ذات ليلة .. بعد أن عدت من الخارج وخلعت بذلتى .. فارتجفت إذ لم أعتد على طارق فى الليل .. ونظرت إلى المبلغ المسروق وكنت أود أن أخفيه فى طيات المرتبة ولكننى وجدت أن أى عمل الآن لا ينفع ..
واضطربت .. ثم سمعت صوتها .. ففتحت الباب فوجدتها على الباب تحمل لى الغسيل كله مكويا ..
ودخلت وهى تقول :
ــ نغير لك أكياس السرير .. والملاية .. لأنك نسيت ولم تترك المفتاح ..
ونظرت بنعومة وقالت :
ــ أمسك معى المخدة ..
وأخذت تدخل فيها الكيس .. وجذبتنى بحركة بارعة فوقعت وضحكت.. وأمسكت بها وهى نشوانة من الضحك .. وضممتها إلى صدرى .. وأخذت أقبلها بعنف وشراسة وفاجأتها الحركة .. فبهتت .. ثم استجابت برغبة منطلقة ..
ولقد لفنى بعد هذه الليلة مثل الاعصار .. وأصبحت لا أستطيع أن أقاوم اشتهائى لها وشغفى بها .. وكانت تأتينى كل ليلة بعد أن تنام أمها ..
وكنت كلما وجدتها وحدها فى الحمام أو فى المطبخ ووالدتها بعيدة عنها.. أعانقها بحرارة .
وأخذت أغمرها بالهدايا .. أشترى لها أفخر الثياب وأنفس الجواهر ..
وكنت أعطيها النقود بغير حساب ..
وتغير الحال فى البيت .. وشعرت الأم بما فعلته لابنتها فكفت عن الجفاء الذى كانت تقابلنى به .
ولم تسألنى سعدية عن مصدر هذا المال .. ولعلها خمنت شيئا .. ولكنها سكتت لم تصرح لى .
وكنت أعتصر قوامها اللدن وكأننى أشرب الرحيق لحياتى .. ولم تكن ترتوى من حبى أبدا .. كانت تطلب المزيد .. وقد جعلنى هذا الاعصار أؤجل رحيلى .. وكنت قد اتفقت مع بعض الصيادين على أن يحملنى إلى سواحل بيروت .. وهناك أهرب إلى أوروبا .. عن طريق تركيا .. وقد قبل هذا نظير خمسمائة جنيه ..
لقد تكشف لى أن هذه المرأة قد استحوذت على ، وفصلتنى عن الحياة .. وعن كل ما يجرى فى المدينة .. ونسينا الحرب .. وعندما كانت تدوى صفارة الإنذار لم نكن نشعر بها .. وكنا نود أن يطول الظلام ليطول عناقنا .
وكنت أتأمل فمها وشفتيها الغليظتين والرضاب الذى ارتوت به روحى وشعرها المتموج وقوامها بكل ما فيه من شهوة .. وأروح فى دوامة الغيرة وأتساءل من الذى تمتع بهذا واعتصره قبلى ولا أعود لنفسى إلا وأنا أشعر بأناملها الخفيفة وهى تمسح على جبينى ..
*   *   *
كنت كل يوم أتحسس النقود فى مكانها وأطمئن على وجودها .. وأراها رغم كل الذى صرفته كأنها لم تمس ..
كانت أوراق البنكنوت مكدسة فى صفوف كما وضعتها فى الدرج .. مغطاة بالقمصان ..
وأخذت أسائل نفسى ما الذى يفعله الأغنياء الذين يملكون الملايين .. ما الذى يفعلونه وهم يحرمون باكتنازها ملايين الأفواه الجائعة من حق الحياة ..
ما الذى يفعلونه ..
وما الذى فعلته بالآلاف التى سرقتها .. لا شىء .. سوى أنها جعلتنى أحس بالضياع .
لقد مزقنى القلق .. وحطم روحى .. كانت تغشانى موجات من
الكآبة .. فكنت أقفل الغرفة علىَّ من الداخل وأزحف إلى الفراش ..
كانت رغبتى شديدة إلى الوحدة .. حتى وإن كنت أتوقع أنها بعد لحظات ستطرق بابى ..
ربما كانت الجنيهات الخمسة عشر التى أتقاضاها بعرقى من الشركة أنفع لى من هذا المبلغ .. ولكننى على أى حال قبل بداية الحرب وبعدها كشاب كنت أحس بالضياع .. وقد يكون سببه الاحتلال .. وقد يكون سببه أن كل القيم قد انهارت أمامى .. ومزقت الصور والمثل وأصبحت أعيش فى ظلام ..

*   *   *
كنت أفكر فى سعدية وأنا راجع وحدى فى الليل .. هل تحبنى .. وهل كانت متزوجة وأين زوجها أنها لم تكن عذراء هل جرفها التيار .. ؟
وتغشانى الضباب .. وكانت الغيوم تخيم على السماء .. وقبل أن أقترب من البيت أحسست بحركة غير مألوفة فى الحى الهادىء .
ولما اقتربت أكثر وجدت شيئا أفزعنى .. وجدت نطاقا من الجند مضروبا حول الشارع وعساكر من البوليس المصرى .. والبوليس الحربى الإنجليزى وعلمت أنهم وجدوا عسكريا إنجليزيا مقتولا وموضوعا فى برج الحمام ودلهم عليه قبعته وقد أسقطتها حدأة فى الشارع .
وكان الهمس يدور بأن « سليم » الساكن فى الدور الأرضى هو الذى قتله وهرب سليم لم يعثروا له على أثر وفتشوا البيت كله ..
فتشوا غرفتى .. وقلبوها ظهرا لبطن .. وكسروا الدولاب وعثروا على المبلغ ..
كنت أسمع هذا الهمس يدور حولى فى الظلام وأنا واقف ..

*    *    *
وهربت فى جنح الظلام دون أن يشعر إنسان بوجودى وكان معى مبلغ ضئيل .. واشتغلت وقادا فى السفن .. وحمالا فى الموانى .. وبائعا جوالا ..
وطفت حول الدنيا فى مدى عشرين عاما .. انتحلت فيها كل الأسماء .. وكل الجنسيات وتعلمت سبع لغات حية وميتة وعاشرت كثيرا من النساء ..
ورغم كل ما لقيته من عذاب .. فإن الحياة ستظل فى نظرى جميلة وضاحكة والإنسان وحده .. هو الذى يسود وجهها ..


صقر الليل(1) 

كنا خمسة متجهين إلى القاهرة فى سيارة أجرة ساعة الغروب . والتقطنا السائق جميعامن محطة ( سيدى جابر ) بعد أن تحرك القطار من المحطة .
وكانت آخر راكبة هى سيدة شابة تحمل حقيبة بنية متوسطة الحجم . ظلت مترددة فى الركوب ترقب السيارة من بعيد برغم الحاح السائق وسمسار العربات . فلما وجدت سيدة من جنسها تفتح باب السيارة بصحبة زوجها .. ذهب عنها التردد وركبت ..
واضطررنا بعد ركوبها مراعاة للذوق أن نغير محلاتنا جميعا .. فجعلنا الوافدة الجديدة تستريح فى المقعد الخلفى بجوار السيدة الاخرى وزوجها ..
وأصبحت أنا وشاب قاهرى نحيل سمين الخدين قد ترك شعره ينمو بغزارة فى المقعد الأمامى بجوار السائق ..
وانطلقت السيارة فى جو مشحون بقيظ النهار ولهيبه ، على خلاف الحالات فى شهر مايو حتى تخففنا من ملابسنا من أول النهار واكتفينا بالقمصان المفتوحة والبنطلونات الصيفية ، وكنا نقدر أن السيارة ستمضى بنا فى الطريق الزراعى وعلى الاخص ونحن نواجه الليل طوال المسافة ، ولكن وجدنا السائق ينحرف بنا إلى الطريق الصحراوى ، وأفهمنا فى أدب وأسف أن جهاز التنبيه عنده معطل ولو سار فى الطريق الزراعى فسيأخذ مائة مخالفة من رجال المرور ، واشفقنا عليه من الغرامة وتركناه يمضى على سننه ..
وكنا فى بداية الشهر القمرى ، والسفر فى الصحراء متعة فمن يمين وشمال ستنقلب الرمال فى ضوء القمر الشاحب إلى تبر منثور . ويصبح الحصى الصغير حبات من الزمرد ..
ويا للجمال الوحشى عندما يتوئب غزال أو يمرق ذئب .. أو تقطع الطريق قافلة من الجمال وهى تتهادى رافعة أعناقها وهادرة فى غضب الحليم إذا حثها راعيها على السير حتى لا تعطل الطريق ..
ولكن كل هذه الأحلام الذهبية طارت من رؤوسنا عندما اقتربنا من البحيرات ، وزكمت انوفنا رائحة الطحلب والحشائش المتعفنة ..
وخرج إلينا الصبية فى أكثر من موضع يعرضون البيض والفاكهة فى سلال صغيرة وكانت السيدة السمينة تريد أن تتوقف السيارة لتشترى منهم . ولكن زوجها زجرها بلطف فدفنت رغبتها فى أسف .
وعندما مالت السيارة إلى اليسار واستوت على طريق القاهرة الرئيسى .. أخذت تسرع فى سيرها لتعوض ما فات من تباطؤ بسبب ما كان يعوقها فى الطريق الملتوية .
وكانت الرؤية لا تزال واضحة والليل لم يجثم بعد .. وكان الشاب النحيل الجالس بجانبى ثرثارا بطبعه .. فلما وجدنى لا أجاوبه على ثرثرته أخذ يحادث السائق .. ثم أخذ يلوى عنقه ليحادث الركاب الثلاثة فى الخلف .. وفى الوقت عينه يرى أثر الحديث فى وجوههم وبدا مرحا وإن كان يتكلف الفكاهة والإضحاك .. ولكن السيدتين انجذبتا إليه وتفتحتا له .. وفى أقل من ربع الساعة منذ ركوبنا عرف أن السيدة الوحيدة ذاهبة رأسا إلى مطار القاهرة لتنتظر قادما من الخارج . وأن السيدة السمينة وزوجها كانا فى زيارة قصيرة فى الإسكندرية لمناسبة فرح ..
وعندما حول رأسه إلى اليمين ليسألنى ألجمته بنظرة قاسية .. وكأنه ما تلقى الصفعة فقد طفق يتحدث ويتحدث .. وظلت عيناه لفترة طويلة مثبتة على المرآة التى أمام السائق حيث بدا فيها وجه السيدة الوحيدة بكل تقاطيعه الجميلة .. وكل ما فيه من سكون وتألق ..
وكانت الحرارة الشديدة التى اكتوينا بها فى النهار .. قد جعلتها ترتدى فستانا قصير الأكمام فوق الركبة وحذاء مكشوفا من غير جورب . كما أن وجهها الوردى كان يبدو متأثرا بالحرارة إلى أقصى مدى .
وكان التعبير الوحيد من جانبها عن احساسها بالجو الخانق أن فتحت شفتيها تستجير من الرمضاء ، وتحاول أن ترطبهما بعد أن جف الرضاب .
وقدمت السيدة السمينة التى كانت ترتدى جونلة كحلية وبلوزة بيضاء بيدها البضة جرعة ماء من الترمس للمسافرين جميعا قبل أن تتذوق قطرة ، فشكرناها بقلب حار .
وأخذنا مع جذب السيارة ودفعها للهواء نحس بانكسار موجة الحرارة قليلا .
ودخلنا فى الغسق وأحسسنا بجمال الليل فى الصحراء وسكونه وزاد من روعة المنظر القيود المفروضة على أنوار السيارات الذاهبة والرائحة بسبب الحرب .
*    *    *
وبدأ القمر الصغير يميل ويختفى ومالت رؤوسنا على المقاعد .. وأغفى السيد وزوجته .. وألقت السيدة الوحيدة رأسها إلى الوراء واسترخت .
وهبت موجة باردة خفيفة انعشتنا بعد أن تفسخت نفوسنا من الحرارة .
وأخذت السيارة تسرع مع الريح التى بدأت تحرك الرمال الساكنة كأنها تخوض فى البحر .
وكان جارى قد انطلق يتحدث مع السائق عن غارات اسرائيل الجوية على القاهرة وضواحيها .
ولما بدأ يتحدث عن الغارة على الاطفال فى مدرسة ( بحر البقر ) لكزته فى ركبته ليصمت فصمت .. وتلفت إلى الخلف لأعرف هل سمعته السيدتان أم لا .. وكنت اقدر تأثير هذا الحديث المعذب على السيدات والأمهات على الأخص فحمدت اللّه لما وجدتهما نائمتين .. وكانت السيدة الوحيدة قد مدت ذراعها اليسرى على المسند فلمحت خاتم الزواج فى الاصبع ، وساعة ذهبية رائعة تتألق بسوارها الذهبى فى العتمة الشاحبة .
وظللت لحظات أدير رأسى إلى الوراء دون وعى منى مع ما لفعلى هذا من خفة لا تليق برجل فى الخمسين فقد وجدت جمالا نائما أسرنى وجذب نظراتى فى وضعه الحالم .
وكان الشاب يدخن فى شراهة وقدم لى سيجارة فقبلتها رغم أن نفسها لا استطيبه ، وأعطى مثلها للسائق وأصبحنا نتخبط فى الليل على الطريق المرصوف والرمال من حولنا داكنة . والظلام يطبق برواقه .. وانوار السيارات أخذت تقل .. فمن الذى يسافر فى ليل بدا نهاره كلهب الجحيم .
كانت سيارات الشركة الطويلة تترنح على الطريق .. وفيها ربع ركابها.. ثم انقطع سيلها تماما ..
ودخلنا فى الظلمة الشديدة .. وكانت تلمع عن بعد فى جوف الصحراء بعض البنايات الجديدة المجاورة لزرع الصحراء وتحولها إلى خضرة نامية .
*   *   *
وكانت الرمال الصفراء تبدو نائمة فى العتمة .. لا تسفيها الريح اللينة ولا تحركها .. إن مثل هذه الريح لا تحرك القلاع فى البحر .. ولكن تحرك الزرع فى الصحراء .
بدت المزارع على الجانبين رغم الظلام مرة فى الجانب الشرقى وأخرى فى الجانب الغربى ، مزارع البطيخ والكروم التى أكسبت الأرض الجرداء نضارة وكستها بالبساط الأخضر . والمياه تتحرك فوق الزرع بالرشاشات كأنها تغسل منها أوضارها فى النهار .. منظر جميل يشد لب المسافر ويحرك مشاعره ..
ومن خلال العين الفاحصة للجو والطريق الخالى وسير العربة .. قدرت أن السائق الذى تجاوز الأربعين من عمره وأكسبته السنون خبرة سيبلغ بنا الاستراحة بعد ساعة على الأكثر وبعد ساعتين اخريين سندخل شارع الهرم .
وفجأة حدث شىء لم يكن فى تقديرنا قط .. شىء ارتجف له قلب السائق.. فقد انقطع النور عن العربة .. وأصبحت مصابيحها الخلفية والامامية ميتة ليس فيها حياة ..
*   *   *
وتوقف السائق فى جانب ليفحص الاسلاك على ضوء بطارية ثم عاد يائسا .. ورأى أخيرا أن يتحرك فى الظلمة ببطء ولا يتوقف ..
ولكنا كنا نحس بعد كل حركة فى هذا الظلام الشديد بالخطر .. وشاع فينا اليأس إلى درجة أن أكثرنا تفاؤلا ارتجف .. وأصبح الطريق الاسفلتى الذى كان يضاء فى الليل بالفوسفور مظلما وكئيبا وموحشا كأنه طريق المدافن ..
وأصبحت الصحراء الواسعة اضيق فى نظرنا من سم الخياط .. ولم نشعر فى حياتنا بكآبة وضيق كما شعرنا فى هذه الساعة القاتلة .
*    *    *
وعلى ضوء النجوم سرنا فى الصحراء بحذر شديد وتمهل أكثر كلما التوت أمامنا الطريق .
وكلما تقدمنا خطوات شعرنا بالكآبة أكثر ، وخيمت علينا الظلمة ولفتنا فى دثارها الأسود حتى خرجنا أكثر من مرة عن الطريق المرصوف ، وأصبحنا كالحجر الذى يرمى به من فوق الجبل ولا يدرى فى أى مستقر يهوى .
وجاءت من الطريق المضاد سيارة ضخمة كادت تسحقنا .. وشعرنا بالخطر الداهم .. فلابد من التوقف حتى يطلع النور وشاع فينا رعب الموت وانقلبت السيارة فى نظرنا إلى عربة من عربات الموتى ..
وأخيرا فكر السائق فى حل عندما وجد طريقا مرصوفا إلى الشمال .. وقال لنا إن مديرية التحرير على بعد دقائق .. وهناك يستطيع أن يصلح كهرباء السيارة .. ونمضى كما كنا .. وسار فى هذا الطريق الجديد فعلا ..
وظللنا أكثر من اربعين دقيقة نمضى فى قلب الصحراء طوعا لرأى السائق وأمله .. وكان بعد كل نصف كيلو متر يقدر أننا وصلنا إلى المديرية ..
وتحملناه بصبر وجلد حتى لا نثير أعصابه إذا اعترضنا على خط سيره . فيسوقنا إلى الردى ..
وعلى منعرج فى الطريق لاح شبح رجل وبصر به السائق فتوقف عنده يسأله عن مديرية التحرير ..
وسمعنا الرجل يقول له وقد بدا على وجهه الاسف لحالنا :
ــ المديرية ليست من هنا .. ارجع من حيث اتيت ثم خذ الطريق الآخر..
وأخذ الرجل يوضح للسائق بدقة كيف يسير فى الطريق الصحيح وهو يشير بيده كأنه يرسم على الرمال خريطة للطرق .. وفى الوقت نفسه أخذت عيناه المتقدتان فى الظلمة تحاول أن تتوضح الراكبين فى السيارة .. وكنا جالسين فى صمت وعيوننا متجه إلى زيه العربى وقامته الطويلة وتقاطيع وجهه الجامدة .. وبدأ لنا من وقفته المنتصبة رغم الشيخوخة قويا موفور العافية ..
ورغم الصرامة التى طالعتنا من وجهه فقد كان صوته يوحى بالطيبة المطلقة ..
ووقف السائق بجانب السيارة يدير رأسه ويتأمل الأمر فى حيرة أرعبتنا ..
وقال الرجل الوقور الذى كان لا يزال واقفا على الرمال لما علم بأن السيارة تدلف من غير مصابيح ..
ــ تفضلوا اشربوا القهوة فى بيتى واستريحوا إلى الصباح .. لأن سيركم فى الليل وأنتم على هذه الحالة سيعرضكم للمخاطر ..
ولا أدرى من منا الذى سأله على الفور :
ــ وهل البيت قريب .. ؟
ــ على مدى خطوات قليلة من هنا ..
وقال السائق :
ــ تفضل اركب معنا لترينا السكة ..
ــ شكرا .. أن معى جمالى .. فسيروا وراء الجمال ..
وغاب عنا فى الظلمة .. وصاح فى جوف الليل .. وبرزت ثلاثة جمال ضخمة فى لون الرمال ، ولم تكن أبصارنا قد وقعت عليها من قبل ودفعها الرجل أمامه حذاء الطريق وهو يلوح بقطعة جلدية قصيرة ويقول شيئا كالغناء..
وأسرع وراء الجمال مهرولا ونحن خلفه بالعربة وقد تجمدت مشاعرنا وكنا فى حالة يأس قاتلة فلم نستطع أن نعتذر للرجل أو نرفض ضيافته .. وعلى أسوأ الأحوال فقد لمسنا فيه بعيوننا الفاحصة خلق العربى وشهامته ..

*   *   *
ووقف بنا على باب بيت من طابق واحد مبنى بالآجر الأحمر ليس من البيوت الكبيرة وكانت طاقاته الصغيرة تبدو عالية فى نظرنا أكثر مما رأينا مثلها فى البيوت ..
وأدخلنا الرجل فى المضيفة وتقدمتنا السيدتان فى خجل ظاهر وكانت السيدة الوحيدة أكثر خجلا .. فى ردائها القصير .. حتى رأيت خديها على ضوء السراج الخفيف يلتهبان جدا وتبدو شرايينها الدقيقة وقد فارت دفعة واحدة بالدم القانى ..
وجلسنا على الحشيات الناعمة من جلود الاغنام وضعت فوق الاحرمة والحصر فى شبه دائرة ، وعيوننا تحدق فى بعضنا البعض فلأول مرة نتلاقى مواجهة .. ولاحظ الرجل أن الحشية الواطئة قد كشفت سيقان السيدتين وأفخاذهما بصورة واضحة حتى اضطرتا إلى الجلوس منكمشتين . فجاء لهما بالوسائد واستراحتا فى الجلسة وغطت السيدة الوحيدة سيقانها الناعمة بوشاح وردى أخرجته من حقيبة يدها .. ففعلت الثانية مثلها على التو ..
وتنفسنا الصعداء جميعا فقد بعدت عن عيوننا الفتنة فى الليل الساكن ..
وشعرنا بالهدوء فى الداخل والخارج .. والخوف الذى كان قد ساورنا من طلعة الرجل الجامدة ونحن فى السيارة قد تبدد الآن تماما .. ونحن فى داخل بيته ..
وفى أثناء احتساء القهوة أدركنا أن الرجل الذى أصبح فى نظرنا منذ هذه اللحظة ( صقر الليل ) فى البيت وحده .. ربما كانت اسرته فى مكان آخر فى هذه الساعة .. أو ربما لم تكن له أسرة على الأطلاق .. كما أن بيته لم تكن حوله بيوت ..
وقدم لنا كل ما عنده من طعام .. وجلسنا جميعا حول المائدة .. وكان السائق أكثرنا شراهة فى الأكل .. والسيدة الوحيدة أقلنا .
وشعرنا بعد الطعام برباط قوى يربطنا بالرجل ..
*   *    *
ولما حل ميعاد النوم .. وفى البيت حجرتان فقط .. اقترحنا أن تستريح السيدتان فى حجرة .. وينام صقر الليل فى فراشه فى الحجرة الأخرى كالمعتاد ..
ولكنه رفض هذا العرض وقال إنه يترك الحجرتين لضيوفه .. وسينام فى الفناء .. وبعد حوار طويل استقر أمرنا على أن نترك حجرة للزوج وزوجته.. والحجرة الآخرى تنام فيها السيدة الوحيدة ..
ونضطجع نحن الثلاثة أنا والشاب والسائق مع صقر الليل فى الفناء ..
*   *    *
ونهض الزوج وزوجته ودخلا الحجرة وكان على وجه الزوجة السرور بهذه القسمة العادلة .
وقامت السيدة الوحيدة بعدهما وهى تحيينا فى خفر ..
وفرش لنا ( صقر الليل ) فى رحبة البيت ما بقى عنده من حصر وأحرمة ورد الباب ولمحت فى المدخل عندما رفع ذراعه ليخفف من ضوء السراج ثلاث بنادق معلقة فى الحائط وخنجرين وسيفا بغمدة واستدار الصقر نصف دورة ليطمئن على راحتنا جميعا ثم اضطجع فى مدخل البيت ..
*   *   *
وكان التعب قد نال منا جميعا .. فأخذنى النوم .. بعد أن وضعت رأسى على الوسادة .. وأنا أسمع زفيف الريح فى الخارج .
وكان الشاب على بعد أذرع قليلة منى نائما وبجواره السائق الذى نام كالقتيل من فرط ما قضاه فى نهاره كله من جهد وعذاب .
وتيقظت على صوت فى هدأة الليل أشبه بعواء الذئب .. فتحركت فى فراشى ولما فتحت عينى لمحت على ضوء السراج الخافت .. أن جارى الشاب ليس فى مكانه .. فخطر فى بالى أنه نهض ليقضى حاجة .
وتيقن هذا الخاطر .. عندما أحسست به يرجع بعد وقت قليل إلى فراشه ويتمدد كما كان ..
ثم لفنا الليل .. وأحسسنا بتغير الجو ولفحة من برد الصحراء أخذت تهب فتغطيت ونمت .
وقبيل الفجر سمعت صرخة .. تنبعث من داخل حجرة السيدة الوحيدة .. ثم انقطع صوتها وخيم السكون من جديد ..

*   *   *
وكان ( صقر الليل ) بالخارج فشاهدنى متيقظا وهو يدخل ويرد الباب .. فقال بصوته الهادىء :
ــ لا شىء .. استرح .. كما كنت .. أنه صوت الذئاب .. حرك الجمال فى أعطانها ..
وكان وجهه وصوته رغم جمود ملامحه ينمان عن شىء جرى فى هدأة الليل يقينا ولكنه لا يريد أن يفصح عنه .. ولما لم أعرفه شعرت برعشة .. تسرى فى بدنى كله ..
*   *   *
وقبل الشروق نهضنا على عجل .. وسبقنا السائق إلى سيارته .
وكان ( صقر الليل ) يود أن يستبقينا للإفطار ولكننا اعتذرنا له بشدة .. وركبنا نحن الأربعة ووقفت السيارة تنتظر الخامس .. وقال صقر الليل من عتبة الباب : لما وجدنا لم نتحرك بالسيارة ..
ــ إن الشاب سبقكم منذ ساعة .. ركب سيارة كانت عابرة .. فلا تنتظروه ..
ثم تقدم إلى السيدة الوحيدة وهو ينظر إلى عينيها الحزينتين ووضع فى يدها الساعة الذهبية ..
وقال بصوت خافت :
ــ لقد نسيت هذه داخل الحجرة ..
واسود وجهها وهى تتناول الساعة .
*   *    *
وتحركت بنا السيارة فى صمت .. ولم يجرؤ واحد منا طوال ما بقى من الطريق على أن يفتح فمه ويوجه كلمة إلى سيدة متزوجة ربما كانت ذاهبة إلى لقاء زوجها .. ولا أدرى أكانت تصرخ عندما سمعت صرختها فى الليل لتبكى على الشاب .. أم على الساعة ..

الأصلع (1)
هل قرأت قصة الرجل الذى يلبس شارة الحداد لدستويفسكى .. وكان يلتقى بالبطل كلما حل فى مكان حتى أصبح يكرهه كرها مرا ويبغضه بغضه للموت ..
لقد التقيت بهذا الرجل فى مجرى حياتى ، ولكنه لم يكن يضع شارة الحداد كأحد أبطال دستويفسكى .. بل كان اصلع مسطح الرأس .. منتفخ الوجنتين قصير العنق يتطلع إليك بعينى فار .. عينين ضيقتين رجراجتين تبغضهما من أول نظرة لأنهما تستشفان أغوار نفسك وتعريانك من جلدك .
ولقد حطت على هاتان العينان لأول مرة فى مطعم صغير بحى الحسين فى الوقت بين العشرين والثالث والعشرين من شهر يوليه سنة 1942 .. وكان المولد قد انقضى منذ خمسة أيام .. وكنت الزبون الوحيد فى المطعم لأن الوقت لم يكن وقت غداء .. أو عشاء .. وإذا بهاتين العينين الضيقتين تحدقان فى وجهى بشراسة وأنا امضغ الكبدة .. فتوقف فكاى عن المضغ وشعرت بانسداد الحلقوم .. ووقع فى تقديرى لأول وهلة من الحالة التى رأيت عليها الرجل إنه يبحث عن شخص منذ عشرات السنين لثأر قديم فلما وجده فى هذا المكان الصغير الذى لم يكن يتوقع وجوده فيه شعر بفرحة كبرى .. انتفضت لها جوانحه .. واتسعت عيناه ثم ضاقت من فرط السرور الباطن الذى رقص له قلبه .. وفاضت تعابير وجهه بأشياء عجزت عن وصفها فى هذه اللحظة ..
وعندما لوى وجهه عنى بعد قليل ليدفع الحساب للجرسون استطعت أن أقيس طوله وعرضه .. كان سمينا قصير الساقين يرتدى بدلة رمادية كاملة .. وخيل إلى من فرط تكسرها وتثنى أطرافها أنه ينام بها ..
وكان قميصه متسخا وحذاؤه أكثر اتساخا حتى قدرت أنه لم ينظفه منذ بداية المولد ..
وكنت اتوقع أن ينهض بعد أن دفع الحساب ويذهب لشأنه ولكنه ظل جالسا يتابعنى بنظرات أشد ضراوة ..
وتيقنت بعد أربع دقائق من التحديق المتصل اننى شبهت له وأنه يتبع رجلا له مثل ملامحى تماما ..
وخطر فى بالى لأريحه وأريح نفسى أن اذهب إليه وابين له ما فى تصوره من خطأ . ولكننى تركته على حاله عندما وجدته قد ابتاع جريدة مسائية .. وأخذ بقلب وجهه بين صفحاتها سريعا ثم طواها ونهض على التو ..
وكدت انساه تماما .. فقد مر يوم ويوم مثله .. لم أره فيهما .. ثم وجدته يدخل ورائى من مدخل فندق « رمضان » بالسكة الجديدة .. ويرتكز على البنك أمام موظف الفندق ..
وصعدت إلى غرفتى وتركته لأتجنب النظر إلى طلعته ..
*   *   *
والتقيت به بعد ذلك مصادفة فى شارع الغورية .. مرتين مواجهة .. وفى كل مرة كان وجهى يحتقن من الغضب ..
وأيثارا للسلامة .. وقد تكون هذه المقابلات كلها مجرد مصادفة .. وقد يكون هذا الرجل الأصلع المخبول يتبعنى هكذا للوثة فى عقله .. إيثارا للسلامة .. إنتقلت إلى شارع كلوت بك حيث ظلام الحرب والبواكى والمواخير . والحشد المتدفق من الجمهور .. وعساكر الإنجليز وحلفائهم .. وضعت فعلا فى هذا الزحام ..
ومرت خمسة أيام طيبة .. أحسست فيها براحة نفسى وهدوء أعصابى ..
وفى عصر اليوم السادس .. وجدته أمامى وأنا واقف على دكان سجائر تحت البواكى .. وكانت نظرته صارمة متحدية .. حتى حسبته يسخر من هروبى وانتقالى من حى إلى حى .. وزادتنى نظرته مقتا له .. وسببت لى حالة من الرعب أفزعتنى وجعلت العرق يتفصد من جبينى ..
وكان يتحتم على أن أبقى فى القاهرة إلى منتصف سبتمبر لأعمال تتعلق بنزاع على وقف فى أرض شريف .. وما زلت فى بداية شهر أغسطس .. وأنتقالى إلى فندق ثالث فى حى آخر سيزيد من مرض أعصابى ويجعلنى فى حالة أقرب إلى الجنون ..
*   *   *
وتركت المقادير تجرى ..
وكل ما أستطعت أن أفعله هو أننى تخيرت مقهى بجوار كوبرى

« أبو العلاء » فى حى بولاق لأقضى فيه السهرة بدلا من مقاهى العتبة .. حيث يكثر الإنجليز السكارى ..
وكنت أشعر بالهدوء والراحة فى هذا المقهى لأنه يطل على النيل مباشرة ولأن واجهته بحرية ولأنه رغم جمال موقعة قليل الرواد فى النهار والليل ..
ورغم المشوار الطويل الذى أقطعه كل ليلة فى طريقى إليه فقد أسترحت إليه وأحببته لأنه فى حى شعبى .. بعيد عن أمكنة العساكر الإنجليز الذين أخذوا يتكاثرون فى قلب العاصمة .. بعد هزيمتهم فى الصحراء .. وكانوا منكسرين على طول الجبهة .. ويغطون إنكسارهم بالعراك مع المصريين كلما التقوا فى مكان .. وحاول أحد العساكر ذات ليلة خطف طربوشى .. ولو أننى أحمل نصلا حادا أتوماتيكيا معى دائما منذ بداية الظلام وأشهرته فى وجهه فذعر وتركنى لحدث ما لا تقدر عواقبه .
وكانوا يسمعون المصريين يهتفون تقدم (يا روميل) فيزداد غيظهم وسعارهم ..
وكنت أجلس فى مواجهة الكوبرى وأرى فى كثير من الأحيان قوافل السيارات الضخمة مغشاة أنوارها وذاهبة إلى الصحراء تقودها السائقات الجميلات فى ملابس الحرب .. وكان منظرهن يهز مشاعرى ويجعلنى أفكر فى الأنثى بإحساس شاب فى الخامسة والعشرين ..
واستراحت أعصابى فى المقهى .. واسترحت فيه كلية من شبح الأصلع الذى مزق ألياف لحمى وجعلنى أعيش فى رعب ..
وكانت حجة الوقف التى جئت بسببها إلى القاهرة قد أمكننا العثور عليها مطمورة بين أكداس الأوراق .. وقد جعلنى هذا أكثر سعادة .. فمشيت فى تلك الليلة على كوبرى « أبو العلاء » وكان القمر قد تم والهواء رخيا وحركة السيارات قد خفت .. والكون كله يوحى بالسكون وأن الناس قد ذهبوا إلى مضاجعهم .. وفى وهج الأحلام بما تدره علينا حجة الوقف بعد العثور عليها مما جعلنى أتأنى فى السير لتتضح الصورة وتتشكل المعالم الذهبية.. سمعت وقع أقدام خفيفة خلفى .. أقدام رتيبة تقرع خشب الكوبرى فى وقع واحد لا تغيره .. ثم خفتت جدا وخيل إلى من خفوتها أنها تبتعد عنى.. ولا تسير ورائى .. فلما تلفت لأتحقق من تصورى .. وجدت شبح رجل يتبعنى فى الظلام .. ولا يبتعد عنى كما قدرت .. وتمهلت وأنا أدير رأسى لأتوضح ملامحه ، ولما وقع بصرى على صلعته .. وقف شعرى ، وأنتابنى فزع لا أستطيع وصفه .. إنه الرجل بعينه خرج من أعماق الماء .. أو تسلل من وراء الكوبرى .. أو كان يتبعنى كظلى عند ما خرجت من المقهى.. لم أكن أدرى .. تسلط على غضب أرعش بدنى كله .. وجعلنى أفكر فى خنقه .. إجتاحنى غضب أسود .. وعندما خرجت من طوار الكوبرى .. أعترضتنى قافلة من سيارات الجيش الإنجليزى .. فغاب الأصلع عن بصرى فى زحمة السيارات .. وبعد مرور القافلة لم أعثر له على أثر ..
*   *   *
وانتابتنى حالة من الرعب القاتل وأنا فى الفراش جعلت النوم يطير من
أجفانى ..
وأخيرا وبعد تفكير طويل راوحت نفسى على أنه حالة من الفزع وتعب الأعصاب وأنه لا يوجد شىء أطلاقا فى حياتى وعملى يجعلان هذا الرجل يتبعنى ..
ولكن فى الصباح .. أحتلت رأسى فكرة جديدة ورأيت أن أنفذها على الفور .. أبتعد كلية عن هذا الرجل وأترك له القاهرة ..
وأخذت قطار الظهر المتجه إلى الإسكندرية ..
ولما كنت لا أبغى من السفر التصييف ولا الإستحمام فى البحر .. فقد وقع اختيارى أن أنزل فى فندق صغير (بالمنشية) حيث المطاعم الشعبية الرخيصة وحيث يوجد مركز الثقل فى المدينة ..
وكنت أسهر أحيانا فى شارع (البير) فى غير ليالى الآحاد .. وهى الليالى التى يكثر فيها البحارة الإنجليز ويكثر مع وجودهم عراكهم وصخبهم .. وكانوا فى حالة فزع من الألمان ورعب مزق أعصابهم ..
ومهما يطل جلوسك لا تشعر بالملل فى هذا الشارع الجميل الفائض بالحيوية والحياة ..
ولهذا كنت أبتعد عنه متحسرا فى مساءى السبت والأحد ... وأقضيهما فى حانة صغيرة بشارع « أديب » وهو شارع أعور قليل الدكاكين ، وحانته أنيقة تنزل إليها بخمس درجات ولا يعرف طريقها الإنجليز ولا حتى المصيفون..
وفى ليالى الغارات الشديدة كنا نعتبرها أأمن مخبأ لأنها فى جوف الأرض..
وفى ليلة طيبة الهواء لمحت وأنا أشرب البيرة فتاة مصرية جميلة تجلس إلى مائدة وحدها فى ظل المصباح الجانبى ..
ولم أكن منذ وصولى الإسكندرية قد أتصلت بالنساء .. وجذبتنى الفتاة بعينيها العسليتين والرقة التى فيها ورشاقتها وجمال قوامها ودعوتها إلى مائدتى..
وجاءت وشربنا وأتفقنا بعد حوار قصير على أن نذهب إلى شقتها ..
وسرنا متلاصقين فى الشوارع الضيقة وكانت قيود الإضاءة بسبب الحرب تجعلنا نستريح أكثر للعتمة التى كانت عليها المدينة .. ولكن كلما لمحت بعض الإنجليز السكارى من بعيد يغنون وهم يترنحون فى الشارع كنت أتحسس النصل الأوتوماتيكى الذى فى جيبى .. ونبتعد عنهم ..
وكان بيتها فى حارة تتفرع من شارع (سيزوستريت) ولم أشعر وأنا أسير بجوارها بطول المشوار .. عندما لم نجد (تاكسى) ولا عربة (حنطور) فى تلك الساعة من الليل .
وعندما درنا فى حارتها الضيقة المرصوفة بالبلاط وأصبحنا أمام الباب .. رأيت الرجل الأصلع بلحمة ودمه أمامى فجأة .. وسحقتنى طلعته ..
وفتحت فمى مدهوشا .. وأرتعش بدنى كأنما وخز جسمى كله بالأبر ..
وكانت الفتاة قد تقدمتنى فى مدخل البيت فلم تلاحظ حالتى .. وتبعتها
وأنا مصعوق ..
*   *   *
وكانت شقتها صغيرة وجميلة .. وشعرت بالهدوء قليلا عندما أغلقت وراءنا الباب .. ولكن فى حجرة النوم وجدت فى المرآة رأس الأصلع فسح عرقى .. فى اللحظة التى كانت هى فيها تخلع ملابسها
وعندما تمددت بجانبها .. كان سيل العرق لا يزال يتصبب .
فمسحت على جبينى وقالت برقة :
ـ مالك .. ؟
ـ لا شىء ..
ــ شربت كثيرا .. ؟
ـ أبدا ..
ـ جسمك بارد ..
ـ أبدا ..
ونظرت طويلا إلى عينى وقالت :
ـ هل تتصور أننى أخالط الإنجليز .. وتخاف من المرض .. ؟
ـ أبدا .. أنك حورية .. ولقد أشتهيتك كأجمل أنثى فى الوجود .. ولكن الأحسن أن أستريح الليلة .. وسأجىء إليك غدا ..
وارتديت ملابسى وقدمت لها جنيها أخذته بصعوبة ..
وسرت فى الشوارع وأنا شبه مجنون .. كنت فى ثورة عارمة .. فقد كان
هذا الرجل المجنون السبب فى أن أشعر بالمهانة أمام أجمل أنثى ..
كانت عيناى تقدحان شررا .. وتبحثان عنه .. سرت فى الشوارع ومن حيث بدأت .. جئت .. ولمحته فى شارع « النبى دانيال » .. يسير الهوينا .. هادئا .. كأنه ما فعل شيئا .. وتبعته ورأسى يغلى كالمحموم .. تبعته كظله .. وأنا أكتم وقع خطواتى .. ولم يكن فى الشارع سوانا .. ومال إلى شارع جانبى ودخل بيتا من أربعة طوابق .. بيتا قديما وسلالم متآكلة وكانت الظلمة فى المدخل وعلى السلم شديدة .. ومع ذلك استطعت أن أصعد وراءه .. وأدركت من وقع خطواته أنه يسكن فى الطابق الأخير ..
وأحسست به وهو يفتح الباب .. ورأيت أن أباغته قبل أن يخلع ملابسه أو يترك فتح الباب لغيره إن كان فى الشقة سواه .. فأسرعت وراءه وضغطت على الجرس .. واول شىء طالعنى طلعته وأخذته مباغته بضربات حادة وتركت النصل فى جسده لم أنزعه .. وجريت إلى الشارع .. وكان السكون يخيم ..
*   *   *
وفى الصباح الباكر خرجت من باب الفندق .. وركبت الترام «الدائرى» وأنا مأخوذ تماما . كنت فاقد الشعور مذهولا .. وعلى بصرى غشاوة جعلتنى لا أميز معالم الطريق ..
ونزلت فى (محرم بك) لأمشى .. وجدت أن الحركة خير من السكون ,.. فمشيت فى الشوارع ومشيت .. ومن وراء سور عال .. لمحت وجوه أطفال فى داخل الفصل ومن نافذة الفصل الوحيدة .. رأيت مدرسا يضرب تلميذا صغيرا على أطراف أصابعة بسن المسطرة .. كانت الضربات متلاحقة وموجعة .. والتلميذ يصرخ ..
واشتغل رأسى فجأة .. ومضى شىء جعلنى أرجع إلى سن الطفولة ..
وتذكرت مدرس الرياضة الأصلع الذى كان يضربنى فى صباح الشتاء البارد على أطراف أصابعى بسن المسطرة .. والأصابع متجمدة من البرد .. فيكون الوجع رهيبا .. ينخلع له القلب ..
تذكرت مدرس الرياضة الأصلع وكيف كنت أبغضه إلى درجة الموت ولكنه أفلت منى طوال هذه السنين .. ووقع الرجل الآخر المسكين مكانه .. ضحية لعذاب الطفولة ..
وصرخت وظللت أصرخ فى قلب الشارع حتى تجمع حولى الناس وكونوا دائرة أخذت تضيق ولكن الوهج المتطاير من عينى جعلهم لا يقتربون أكثر ..


الرجل الأعزب(1)

فى وقت العصارى .. وفى بداية الصيف كانت سيارة أجرة صغيرة تسرع على الطريق الزراعى المرصوف .. الملاصق لخط سكة حديد رشيد .
وكان الطريق يبدو خاليا الا من عربات النقل التى تمر من حين إلى حين محملة بالأخشاب .. والدريس والأسماك .. وفناطيس البترول ..
وكانت الرمال البيضاء تلتمع تحت الشمس .. تبدو للراكبين فى السيارة كبحر من اللجين وعند أدكو تمهلت السيارة .. واشتم المسافرون الثلاثة أنفاس البحيرة وشاهدوا زوارق الصيادين طاوية أشرعتها وواقفة فى صف طويل قريبا من الساحل كأنها فرغت من كد النهار وتعبه .
وعند ما خرجت السيارة من حدود أدكو أنطلقت كالسهم وركز السائق كل حواسه على الطريق وأطبق فمه .. وكذا جميع الراكبين معه .. فلم يتبادلوا كلمة واحدة .. وأخذت النسمات الرطبة تصافح وجوههم فانتعشوا وأخذوا يتابعون مزارع الأرز والقمح والبرسيم التى يمرون بها فى الطريق ..
ولم تكن تجمعهم أية صلة غير صلة الركوب من رشيد فى عربة واحدة ..
وكان السيد / مهران المفتش السابق للرى أطول الراكبين فى السيارة قامة وأكثرهم هيبة .
كان ذاهبا إلى الإسكندرية لمهمة قصيرة تتصل بمعاشه .. إذ سيستبدل جزءا منه بمبلغ من المال يدفع منه أقساط الأرض التى أشتراها بالتقسيط .. وقد أشتغل بالأرض وأخذ يفلحها ويزرعها .
وانقطع منذ خرج من الوظيفة لشئون الزراعة.. وركبته الديون والهموم بسبب جهله وعدم خبرته .. ولكنه ظل فى الطريق .. يجاهد بكل ما يملك من حول ويشترى قطعة الأرض الجيدة لتكون عوضا له عن الرديئة التى أستنزفت ماله وجهده .
وكان أعزب وأخوه الأكبر إسماعيل عاش ومات أعزب .. وورثت معاشه الحكومة .. وكان المصير نفسه يعذبه ويجعله يفكر دوما فى أن يستبدل معاشه كل سنتين أو ثلاث حتى لا يتبقى منه شىء فى آخر أيامه ترثه الحكومة ..
وكان السيد مهران فى الثالثة والستين من عمره ولكنه يبدو أصغر من سنه إذ كان طويلا قوى الجسم .. متين التركيب .. وكان كل من يراه وهو يمشى منتصب القامة منتظم الخطو يتصور إنه تخرج فى كلية عسكرية ..
وكان فى خلال حياته كموظف قد ذهب إلى كل مكان حتى تفتيش الرى بالسودان قضى فيه سنتين من عمره .
وأكسبه هذا التنقل صحة بادية .. إذ لم يكن يشكو من أية علة ولم يذهب إلى الطبيب إلا فيما ندر .. وكان يبدو شابا فى كل حركاته .. فى مشيته .. وفى نشاطه .. لذلك لم يعر باله إلى الكشف الطبى .. الذى سيتقدم إليه فى صباح الغد .. لأنه كشف قبل ذلك مرتين .. وكانت النتيجة مرضية ..
وكانت السيارة الصغيرة تسرع على الطريق الضيق المرصوف .. وأنفاس
البحر البعيد عن الركاب جدا بدت تدخل أنوفهم .. وكانوا جالسين فى صمت .. وكل راكب منهم يفكر فى خواطره وسوانح فكره .. وفيما هو ذاهب إليه ..
وكان السيد مهران يعتزم أن يقضى ليلة واحدة فى الإسكندرية وبعد الكشف الطبى يرجع توا إلى عزبته .. إذ لم يكن يحب أن يمضى أياما فى الإسكندرية .. ويترك شئونه وزراعة الأرز والقمح للريح .
وكانت الطريق تدور وتلتوى أمام بصره وهو ينظر إلى زراعات القمح ويقارنها بزراعته .. وكان شغفه بالزراعة قد جعله يهمل هندامه فبدت بدلته غير مكوية ..
وكانت السيارة وهى تقترب من المعمورة قد بدت تدخل مع أنفاس البحر..
وبدا البحر على الجانب الأيمن من الطريق .. ساكن الموج جميلا كالعروس الضاحكة ومياهه الزرقاء تبدو كصفحة السماء .. وعلى حين غرة اعترضت سيرهم سيارة كبيرة قادمة من الطريق المضاد وكادت تهشم سيارتهم وتسحقهم لولا أن السائق أنحرف بهم فى براعة وسرعة بعيدا عن الخطر الداهم ..
وأغمى على أحد الركاب من هول المفاجأة .. وأخذ السيد مهران .. والراكب الآخر يسعفانه حتى أستفاق ..
واستأنفوا سيرهم وأخذ السائق الذى كان ملجما لسانه طول الطريق .. يسب ويلعن سائقى سيارات النقل .. وحاملات البترول ..
واقتربوا من المنتزه بحدائقه وأشجاره العالية .
وعندما دخلت السيارة المدينة كانت المصابيح تلمع فى الشوارع وبدت أنوار السيارات تسطع فى طريق الحرية .
وكان مهران قد زار الإسكندرية منذ ثلاثة شهور ولكنها لم تبد فى نظره جميلة كما هى الساعة .. كان الشارع الواسع بهيجا بعماراته وفيللاته .. والأشجار العالية .. تزينه .. وتزيده روعة ..
وشاهد من نافذة السيارة فيللا صغيرة من طابقين بطراز عربى ، ولها حديقة مزهرة فتمنى أن يقيم لنفسه مثلها .. فى منطقة سموحة أو مصطفى باشا .. حيث الهواء والهدوء والجمال .. ويجعلها أستراحة .. ويستريح فيها بعد كده وتعبه فى الأرض .. وبدت المدينة فى نظره جميلة قبل أن تزدحم بالمصيفين .. وتذهب نضرتها فىزحمة الناس ..
وعندما نزل من السيارة فى محطة الرمل وجد السيد إبراهيم فى انتظاره.. وهو شاب نحيل ..
وكان السيد مهران قد أدى له خدمة فى التفتيش .. وأصبح مهران كلما قدم الإسكندرية يسرع إبراهيم إليه ليساعده ويقوم نيابة عنه بكل أعماله .. فى إخلاص نادر .. وتناول من مهران حقيبته وأتجها إلى البنسيون الذى أعتاد مهران أن ينزل فيه كلما هبط المدينة .. ويقع فى شارع صغير وراء فندق سيسل وتديره سيدة أجنبية عجوز .
وكان مهران يحب النزول فيه لهدوئه ورخصه فهو يدفع 35 قرشا فقط مع تناول الأفطار ويحس وهو يقيم فيه كأنه فى بيته .
وكانت العجوز تعيش فى غرفة من البنسيون وتؤجر الثلاث الباقية .. ونادرا ما تشغل الغرف كلها فى وقت واحد .
وعندما دخل عليها فى هذه الليلة .. شعر وهو جالس فى الصالة .. بوجود ساكن فى الغرفة المقابلة لغرفته وكان قوموسيونجيا .. يتجول ثم يرجع إلى البنسيون ليقضى ليلة أو ليلتين .. ثم يستأنف تجواله فى البلاد .
واغتسل مهران ونزل مع إبراهيم ليتعشى ويتجول فى المدينة قبل أن ينام.
وتعشى وحده فقد رفض إبراهيم باباء أن يشاركه الطعام وجلسا على قهوة رويال .. ثم تركه إبراهيم .. بعد أن وعده بأنه سينتظره فى الصباح الباكر على باب المركز الطبى .. ورجع مهران إلى البنسيون .. وفتح الباب بالمفتاح الذى أعطته له المدام .. فلم يجدها ساهرة ووجد سيدة تجلس فى الصالة وحدها .. ولما مر بها حياها ودخل إلى غرفته ولكنه أبقى الباب مفتوحا..
فرأى هذه السيدة من مكانه وهى تتحرك فى الصالة .. وكانت شابة بيضاء طويلة .. لفاء العود .. سوداء الشعر .. وعلى خدها غمازتان مع أنف دقيق وشفتين فى لون الكريز . وبصر بها تتحرك فى الصالة وتدخل غرفتها ونام مهران فى فراشه .. وهو يحس بتعب المشوار الذى قطعه بالسيارة .. ولكنه لم ينم نوما عميقا .. كان قلقا .. ويود أن ينهى الكشف الطبى سريعا ويعود إلى زراعته ..
وفى الصباح .. نظر وهو خارج إلى أبواب البنسيون المغلقة .. ولعله كان يبحث عن المرأة التى بصر بها فى الليل ..
*   *   *
وكانت ردهة المركز الطبى ممتلئة بمن جاءوا للكشف .. عندما دخل مهران من الباب .. وقابله إبراهيم على الفور ببشاشته وقال له :
ـ ورق .. سيادتكم جاهز .. وستدخل حالا ..
ودخل مهران حجرة الكشف .. فوجد سيدة ترتدى معطفا أبيض فظنها ممرضة فبحث بعينيه كأنه يود أن يسألها أين الطبيب ثم عرف بعد لحظات لما تحركت نحوه يالسماعة أنها الطبيبة التى ستكشف عليه .. وكانت قد لاحظت نظراته فظهر على وجهها الأمتعاض ولم تستطع أن تكتم أنفعالها .. وكانت خمرية اللون متوسطة الطول .. أقرب إلى السمنة .. ووجهها مستدير .. حلو..
كان جمالها فى الواقع غريبا عنه .. فى هذا الجو .. فقد رأى من قبل حكيمات وممرضات فى المستشفيات وعيادات الأطباء ولكنه لم ير طبيبة بمثل هذه الفتنة .
ووضعت السماعة على قلبه .. وقالت له .. وهى تنظر إلى قامته كأنها تقيس طوله ..
ـ تنفس ..
فحرك صدره ..
ـ كمان ..
وفتحت شفتيها ثم زمتهما ..
وأنطبقت أهدابها .. فقال لها مهران وهو ينظر إلى الخرطوم المتدلى وفى طرفه السماعة ..
ـ هذه هى المرة الرابعة التى أكشف فيها عن صدرى لطبيب
ـ وكانت كلها للاستبدال ؟
ـ للإستبدال والإجازات المرضية ..
ـ ولغير هذا ..
ـ لم يحدث ..
ـ لم تمرض فى حياتك ..
ـ ابدا وكل الأطباء الذين كشفوا على قبلك ماتوا ..
ـ ماتوا .. ؟
ـ ماتوا جميعا .. ولكن أنت جميلة .. وخسارة فى شبابك هذا أن يدركك الموت ..
وقلبت شفتيها .. ولم تنطق ودونت شيئا على الورقة .. دون أن تنظر إليه..
وسألها :
ـ ألبس ؟ ..
ـ نعم .. وتفضل .. إلى غرفة الأشعة ..
وخرج من الغرفة فوجد إبراهيم ينتظره على الباب وسأله إبراهيم لما رآه مضطربا ..
ـ انتهى الكشف ..
ـ أجل .. وأحالتنى على الأشعة ..
ـ لماذا .. ؟
ـ كتبت على الورقة .. هبوط فى القلب .. أشعة ..
ـ لا تفكر فى هذا .. سماعاتهم خاطئة فى معظم الحالات ..وسيطمئنك الرسم الكهربائى ..
ولكن مهران رغم أن الشاب أستقبل الخبر ببشاشته المعهودة وطمأنه .. فإنه لم يطمئن وظل قلقا .. فهذه هى المرة الأولى فى حياته التى يسمع فيها هذا النبأ عن قلبه .. هبوط فى القلب .. ولماذا ..
وظل يفكر فى الأمر .. وقد أحس بأنه شاخ فى ساعة وأضيف إلى عمره عشرون سنة أخرى ..
وأركبه إبراهيم عربة إلى البنسيون وركب بجواره .. وعندما فتحت له صاحبة البنسيون الباب وجدته متجهما لأول مرة ..
ورأى وهو داخل القومسيونجى يتحدث فى التليفون ..
ودخل مهران إلى غرفته وهو ساكن كالصنم ولاحظت صاحبة البنسيون وجومه فأخذت تحادثه هى وإبراهيم ويسريان عنه ..
وكان مهران بعد أن بارح مركز الكشف يفكر فى أن ينتظر فى الإسكندرية نتيجة الأشعة .. ولكنه وجد أن بقاءه فى المدينة .. سيزيده هما وقلقا ويجعله يفكر دائما فى المرض ويضخم المسألة .. فقرر أن يشغل نفسه بالعمل فى الريف وأن ينسى الموضوع .. ويستغنى عن المبلغ والأرض الجديدة.. ويسافر إلى أدفينا فى الصباح .. يركب أول سيارة ذاهبة إلى رشيد أو يأخذ القطار ..
وذهب إلى مطعم ليتعشى وهو مهموم .. فأكل كثيرا ولم يكن منذ ذهب
إلى الريف يشرب الخمر .. ولكنه شرب فى هذه الليلة حتى أحس بأنه يعرق..
وكان إبراهيم يرافقه ويسرى عنه ويكرر قوله بأنه سيتعجل نتيجة الكشف ويزف إليه البشرى بسلامة القلب من كل مرض ..
وكان الشاب صافى النفس يحب الرجل حقا .. ويذكر له صنيعه القديم.. منذ كان فى التفتيش .. فقد عينه فى وظيفته الحالية التى يعيش منها الآن .. ولولاه لما توظف قط .. ومن وقتها وهو يحفظ للرجل جميلة ويقوم له بكل الخدمات ..
وكان مهران يراه المصرى الخالص الأمين الصافى النفس والقلب .. الذى لم يلوث طباعه وأخلاقه الأجنبى الدخيل ..
وكان مهران فى كل مرة يجىء فيها إلى الإسكندرية .. يخرج للشاب من جيبه جنيهين أو ثلاثة لأنه يعرف أنه فقير ويعول والدته المريضه وأخته الصغيرة..
ولكن إبراهيم كان يرفض بإباء وشمم أية معونة ..
وكان مهران يعجب لصفات الشاب ..
*   *   *
وفى منتصف الليل ودع إبراهيم مهران على باب العمارة .
وصعد هو إلى البنسيون وأحس وهو صاعد بالقلق يعاوده .. ودخل البنسيون وهو يتمنى أن يجد العجوز ساهرة ليثرثر معها .. ولكنه وجدها نائمة.. وكان القومسيونجى قد ترك غرفته وسافر منذ العصر ..
ودخل غرفته .. ولبس البيجامة وجلس على الكرسى الطويل يدخن .. وخيم على البنسيون سكون رهيب وراح الليل يمر متباطئا ثقيلا .. وأحس بحاجته إلى أن يشرب فنجانا من القهوة .. فكيف يشربه ؟ أيذهب إلى المطبخ ويبحث عن البن والسكر على الرف ..
وسمع صرير الباب الخارجى فى هذه اللحظة وأحس أن شخصا يتسلل إلى داخل البيت ..
وسمع أقدامها الخفيفة فى البهو .. ولم تكن إلا هى .. السيدة التى رآها بالأمس .. وهى عائدة من السينما .. أو من سهرة ليلية ..
ودخلت غرفتها .. ثم خرجت إلى المطبخ ..
وأحس بالصداع .. فمشى إلى المطبخ .. فوجد السيدة تضع شيئا على النار .. وخجل لما دخل عليها وهو لابس البيجامة ..
وقال متلطفا :
ـ أرجو المعذرة .. لإزعاجك ..
ـ العفو أتريد شيئا .. ؟
وكانت لهجتها مصرية خالصة ..
ـ فنجان من القهوة .. أحس بصداع .. وارجو أن تدلينى على مكان البن والسكر لأصنعه بنفسى ..
ـ حاضر .. تفضل أسترح .. وسأحمل لك الفنجان إلى غرفتك ..
ـ شكرا .. سأظل لأحمله عنك ..
ـ المسألة بسيطة .. تفضل ..
وظلا واقفين .. فابتسمت .. كان وجهها يشع نورا ..
كانت بيضاء .. مثل الدكتورة التى كشفت عليه فى الصباح .. وأجابته بطعنة فى القلب .. ولكن هذه أطول قامة .. واكثر أنوثة ..
وسألت برقة .. قبل أن تضع البن ..
ـ سكر .. زيادة ..
ـ مضبوط ..
ـ وأنا أيضا .. بشربها مضبوط ..
ـ هذا جميل ..
واستدارت بجانب الوجه .. ورأى ظل الأهداب .. على الخد الأيمن .. والأذن الصغيرة المغطاة بالشعر الغزير .. والبلوزة تضم الكتفين الرقيقتين والصدر النافر .. والجونلة التى أنثنت مع استراحة الرجل .. وبدت استدارة الساق وفوقها التنورة الحريرية كأنما تلسعها نار الموقد فتبتعد بها .. وتقترب..
ورأى هذا كله فى ومض سريع .. ولما حملت الصينية برقة .. ومشت أمامه .. مشى خلفها وكان يتوقع أن تضع صينية القهوة فى الصالة .. ولكنها دخلت غرفته .. ووضعت له الفنجان على النضد .
وحيته بهزة من رأسها .. وخرجت حاملة فنجانها ..
وتناول الفنجان .. واخذ منه رشفتين ولكنه أحس بالتعب .. وبالصداع يزداد .. فاعاد الفنجان إلى النضد وأرتمى على المقعد وهو شاحب الوجه .. وأحس كأن الغرفة تدور به .. فتحرك دون وعى وضغط على الجرس الموجود قرب السرير .. وجاءت على أثره السيدة سريعا ..
فأشار إليها بسبابته .. دون أن ينطق ..
وسألته برقة ..
ـ مالك ؟
ـ أحس .. بتعب شديد .. دارت بى الغرفة .
ـ أشرب القهوة ..
وسألها وهو يدير عينيه ..
ـ أنا كنت هنا من ثلاثة شهور .. ولم أرك ..
ـ جئت بعد ذلك ..
ـ وحضرتك من إسكندرية ..
ـ من المنصورة ..
ـ فسحة ..
ـ أننى موظفة فى شركة بإسكندرية ..
ـ وتعملين الصبح .. وبعد الظهر ..
ـ أجل .. ولقد أحببت الإقامة عند المدام .. لإنها هادئة .. ولا يوجد عندها أحد تقريبا .. ولذلك أنا أساعدها فى المطبخ .. وتأكل معى ..
ـ إذا بقيت أياما ساكل معكما ..
ـ أهلا .. يسرنا ذلك ..
وكانت تود أن تستأذنه .. وتعود إلى غرفتها .. ولكنها رأت جبينه يعرق.. ووجهه يزداد شحوبا ..
وكان وجود امرأة معه فى غرفته وفى سكون الليل .. قد جعله
يضطرب.. فعرق .. وظهر الإضطراب على وجهه ..
فسألته :
ـ اتحس بألم ..
ـ تعب .. هبوط فى القلب .. قالت لى الدكتورة اليوم هذا ..
ـ لا تصدق هذا الكلام .. إنها مخطئة .. وجهك كالورد .
ـ مع الأسف إنى أصدقه .. إنى الآن فى فقر عقلى .. وأن خوفى من الموت ليشل جوارحى وقد فقدت كل صمام للامان .. أشاعت بكلمتها الإضطراب فى نفسى .. واستولى على الذعر .. وأرجو أن تبقى معى قليلا حتى أنام .. أرجوك ..
وظلت بجانبه .. تحادثه ..
ودقت الساعة فى البنسيون الواحدة صباحا وكانت سعاد تنصت إلى صمت الليل .. وتحملق فى سماء الغرفة .. وفى الرجل الجالس فى سكون وسمعته يقول دون أن يحرك رأسه .
ـ لقد أربكت نفسى بشىء لم أخلق له .. ولو أننىبدل أن أشتغل فى هذه السن بالزراعة وبعمل لا أحسنه قط وليست لى به أية دراية .. مشيت بين الفلاحين وأخذت أشرح لهم كيف يقيمون الطنابير على المساقى ويشقون القناوات والجداول والترع الصغيرة .. لكان أكرم لى ..
ـ لا تفكر فى المسألة هكذا ولا تجعلها تعذبك .. وأمامك الحياة .. لتعيش فى هدوء كما تحب وترغب ..
ـ لا أدرى هل رغبتى فى أن أعيش ستجعلنى أعيش أم لا .. إن الحياة

لا تتوقف على رغبتنا أبدا ..
ومن خلال الشباك الواسع كانت سعاد ترى البحر .
وقال الرجل وهو ينظر إليها ..
لقد وجدت الحياة لكى نعيشها ، ولكنى لم أعشها قط .. كنت أشق الترع .. وأقيم الجسور والقناطر وأرسل الماء إلى الجداول والقناوات لاسقى الزرع وأبعث فى النبات الحياة .. ولكننى نسيت نفسى .. وعشت فى ضحالة مفزعة وها أنذا كما ترين .. أموت .. ولولا أن اللّه أرسلك إلىّ فى هذه الساعة .. لمت وحيدا كما تموت الكلاب ..
ـ لا تعذب نفسك .. وتفكر هكذا ..
ورأت العرق يسح منه فحنت إليه .. وغلبها التأثر .. فأخذت تمسح عرقه.. وتزداد اقترابا منه .. وبصرت بالدموع تبلل خديه .. فحنت عليه .. وأحاطها بذراعية ..وبللت الدموع صدرها والجزء الأمامى من ثيابها .. وعندما ضغط عليها بصدره ودفن رأسه فى جسمها لم تبتعد عنه ولم تبد أية حركة مقاومة خشية أن يصاب بصدمة ويموت وكانت تتصور أنه لن يموت مادام فى أحضانها ..
وأحست بيده تمسح برقة على ظهرها .. وذراعيها .. وجسمه يلتصق بها أكثر وأكثر .. واستسلمت له وهى لا تحس بأيه لذة حسية .. كانت المسألة بالنسبة لها تضحية وصلت أقصى مداها ..
ونام هادئا ودثرته .. وخرجت إلى غرفتها ..
وفى الصباح .. بحث عنها فى غرفتها .. فوجدها خرجت مبكرة إلى عملها ..
وركب مثل السيارة الصغيرة التى جاءت به .. ليعود بها إلى رشيد .. ولما لم يجد ركابا غيره أستأجرها وحده ..
كان يود أن يصل عزبته قبل أن تشتد حرارة النهار .. وجلس على المقعد الخلفى مستريحا وهو يفكر فى أن يغير من أسلوب حياته ونهجه فى الحياة ..
وكان السائق ينطلق بسرعة الريح فقد كان الطريق خاليا إلا من القليل من العربات وقبل أن يبلغ أدكو .. تمهل وتلفت .. فقد خيل إليه أن الراكب يناديه لشىء أصاب السيارة ، فوقف ثم نزل ودار حول السيارة واقترب منه يسأله عن الخبر .. ووجده . ملقيا ... رأسه على صدره كأنه قد نعس .. ولكن لما حركة عرف أنه نائم النومة الأخيرة النوم الذى لا حلم فيه ولاصحو بعده ..



السلسلة (1)

كان سليم آخر العنقود فى أسرة البحيرى .. وكما يدلل الأبن الأصغر فى كثير من الأسر المصرية حتى يطرى عوده ، ويفسد .. دلل سليم حتى فسد .. وفشل فى دراسته فرسب ثلاث مرات فى إمتحان التوجيهية .. وفصل من المدرسة ..
ولما علم والده برسوبه وفصله أستشاط غيظا وأخذ يحرق الأرم ..
فقد بذل كل ما فى وسعه من مال وجهد ليستقيم عود ابنه ويفلح .. ولكن ذهبت كل هذه الجهود مع الريح ..
ودخل سليم البيت بعد الظهر ليتغدى كعادتة .. فألفى والده فى أشد حالات الغضب وأمسك به قبل أن يقرب من الطعام وما زال يضربه بقوة حتى أدماه وهرب الفتى وهو يصرخ .. وأختفى من القرية .. ثم رجع ذات ليلة متسللا فأخفته أمه عن عين أبيه حتى خرج الوالد .. فى بكرة الصباح إلى مزارعه ..
وأنتهز سليم هذه الفرصة لينفذ ما أعتزم عليه وغافل أمه وسرق منها مفتاح الدولاب .. حيث يضع والده بعض النقود للمصاريف البيتية فوجد مائة جنيه .. فأخذها وإنطلق إلى المحطة لا يلوى على شىء ..
وتحرك به قطار الإكسبريس من محطة المنيا وهو يود لو سابق الريح .. كان قد أنتوى الإختفاء فى القاهرة .. فى حى الحسين حيث الزحام والفنادق الرخيصة ..
ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان .. فإن صاحب الفندق لم يقبل أن ينزل عنده بأقل من خمسين قرشا للسرير فى الليلة لأنه لم يحمل بطاقة .. وسيغامر ولا يقيد أسمه فى سجل النزلاء .. ورضى سليم .. ولكن إقامتة لم تطل فى القاهرة أكثر من عشرة أيام .. فقد التقى به الشيخ عبد الحافظ فى مقهى بشارع الأزهر .. وأخبره أن والده عرف مكانه وأرسل ابن عمه عبد التواب ليبحث عنه ويرده مكبلا بالحديد ..
فطار مفزوعا وأخذ أول قطار إلى الإسكندرية ..
وفى ميدان المنشيا اتخذ سبيله إلى فندق إعتاد التردد عليه .. فوجد الإدارة قد تغيرت وطلب منه كاتب الفندق البطاقة قبل أن يعطية مفتاح الغرفة فسقط فى يده ..
وإتجه إلى فندق آخر .. فطلبوا نفس الشىء ..
فخرج مستاء .. إذ لم تكن هذه المسألة فى حسبانه قط .
وظل يمشى متجها إلى محطة الرمل وكانت الأنوار تلمع فى الشوارع والحوانيت تعرض فى واجهاتها أجمل ما عندها من سلع .. وكان عقله يحدثه بأن يعود إلى المحطة .. ويسافر إلى طنطا أو المنصورة .. وأخيرا رأى أن يذهب إلى منطقة الرمل حيث تكثر ألوف الغرف المفروشة ولا يعقل أن يطلب منه البطاقة هناك أحد ..
وركب ترام الرمل وهو لايزال يشعر بالضيق والقلق .. ونزل فى محطة أسبورتنج قلب المصيف ..
ووقف على باب دكان قريب من المحطة يشترى علبة سجاير ويسأل البائع عن غرفة مفروشة ودله على سمسار فى الشارع الجانبى .. فاتجه إليه .. وخرج معه السمسار يرود المنطقة فى الليل .. وكانت الساعة تقترب من العاشرة وكلما شاهد غرفة طلب سليم غيرها أرخص وأنسب لحالة .. لأنه لن يبقى فيها لفترة الصيف فقط وإنما يقيم إقامة طويلة ..
وأخذ السمسار يقدح زناد فكره .. وكانت الشوارع لا تزال مزدحمة بالمارة ورصيف البحر يموج بالمصطافين .. وسارا على الكورنيش ولما دخلا منطقة  كليوباتره .. تذكر السمسار غرفة هناك فى بيت قديم عند دوران مصطفى باشا ..
ووقف على الرصيف يسأل عن الغرفة .. وظهره إلى البحر .. وعينه على البيوت .. فسمع صوت أنثى يقول :
ـ توجد .. غرفة خلت من ساعة ..
وتلفتا فوجدا سيدة تطل عليهما من طابق أرضى لايعلو عن الشارع إلا قليلا ..
وكانت صبيحة الوجه فى حوالى الثلاثين من عمرها .. تلبس فستان البيت .. وتركت شعرها تداعبه النسمات الآتية من البحر ..
ودلتهما على الغرفة .. فى نفس البناية ..
وكانت لا بأس بها .. وإيجارها تسعة جنيهات فى الشهر .. فأخذها سليم
دون تردد .. 
ونام فيها إلى الضحى .. ولما استيقظ أحس بثقل رأسه .. كان يفكر فى السرقة وكيف أن والده لن يغفر له هذه الفعله أبدا ..
وأخذ يدور ببصره فى جوانب الغرفة .. وكانت صغيرة ولها نافذة مربعة تطل على الطريق ومرتفعة عن الأرض بمقدار متر ونصف المتر .. وبها سرير ومنضدة ودولاب من طراز عتيق .. ورأى المصطافين وهو مضجع على السرير .. وكان الصيف فى ضجيجه .. والموسم على أشده .. من الزحام ، ولكن هذه الجهة المتطرفة لم تكن فى معظم الحالات تزدحم قط .. لأنها تقع فى نهاية البلاجات الشعبية ..
وكان السكان فى الغرفة الملاصقة له مشغولين بالإستحمام فى البحر .. وبالأكلات الدسمة فلم يعيروه التفاتا .. وظل فى وحدته ..
وخرج ليأكل ويتمشى على البحر .. ثم ركب الترام إلى الإسكندرية ليشترى بعض الملابس الداخلية ولوازم أخرى إذ لم يكن يحمل معه أى شىء على الإطلاق ..
*   *   *
ومرت الأيام رتيبة .. وكان يقضى النهار فى منطقة الرمل ..
ولكنه فى الليل كان يشعر بالوحدة وبالفراغ .. فكان ينطلق إلى المدينة ويذهب إلى الملاهى والحانات ليسكر ..
كان يشعر فى أعماقه بأنه ضائع ..
وكان قد نسى حادث السرقة بعد أن صرف نحو نصف ما سرقة فى أقل
من شهر متبطلا شريدا لا يعرف له مقرا .. ولا مكانا فى الحياة ..
وفكر فى أن يبحث عن عمل فى الإسكندرية ما دام قد قطع صلته بالقرية ..
ولم يكن يعرف أحدا يلحقه بعمل .. وأخذ وهو يلعب النرد مع شخص تعرف عليه فى مقهى البورصة يفاتحه فى الأمر .. فطلب منه هذا خمسين جنيها ستدفع إلى من يقوم بالوساطة .. وحدثه أن المرتب لن يقل عن خمسة عشر جنيها بحال .. وعليه أن يبحث عن غرفة خالية بأربعة جنيهات فى الشهر على الأكثر ليستطيع أن يعيش ويتدبر أموره .. وبعد محاورة ارتضى الرجل أن يأخذ ثلاثين جنيها مقدما ويدفع له الباقى عندما يتم التوظف ..
ودفع سليم ثلاثين جنيها .. على أن يوظفه فى مدى أسبوع .. وأرجأ سليم ترك الغرفة المفروشة .. والبحث عن غرفة خالية إلى ما بعد التوظف ما دام الأمر سيتم فى أسبوع .. وانقضى شهر كامل دون أن يوظف فأغتاظ ..
وأختفى الرجل فى المنطقة فأدرك أنه وقع فى يدى محتال .. فزاد ألمه وغيظه .. وأخذ يقامر بالمبلغ الذى تبقى معه ليسترد نقوده الضائعة ولكنه كان يخسر دائما ..
وكان يعود فى الليل وحيدا ضائعاً .. فيجد الحى ساكنا .. وموج البحر يصفق وريح الخريف قد بدأت تزأر ..
وكان قبل أن يتوارى من خلف ضوء الشارع ويدخل فى الدرب الضيق.. يجد المرأة التى دلته على الغرفة واقفة أمامه فى الشباك تنظر إلى البحر نظرة حالمة ..
وكان عندما يظهر فى الدرب ويقترب من البيت .. يراها تنظر إليه وهو
داخل .. وكان يتريث فى مشيته ليملأ عينيه منها ..
كانت رائعة التكوين ذات جسد رشيق وشعر فاحم وبشرة أنصع من بياض العاج وقد جعلتها شمس البحر كأنما أشربت بماء العسجد ..
وكان صدرها النافر يطل من الشباك .. كأنه يود أن يرتمى فى الماء ليبترد..
وفى كل ليلة كان يراها وهو عائد بمفرده إلى غرفته .. إنها كانت دائما هناك .. بصمتها وسكونها .. وعيناها المفتوحتان تحملق فى البحر .. كأنها تترقب أحدا على سفينة ..
وكان يتصورها وحيدة فى مسكنها ثم رأى فى داخل الشقة سيدة أخرى مسنة .. قريبة الشبه منها .. وعرف إنها أمها .. وكانت السيدة العجوز .. تقوم بكل أعمال البيت .. وتركت الشابة الجميلة تنعم بمنظر البحر ..
وفى أمسية من أمسيات الخميس رأى رجلا سمينا يفتح شقة السيدة بمفتاح فى جيبه .. وكان قصيرا مربوعا .. غليظ العنق ضخم الكرش .. وله وجنتان منتفختان وعينان ضيقتان ..
ورآه يخرج مع السيدة فى صباح الجمعة وينطلقان فى إتجاه البحر ..
وعرف إنه زوجها ويشتغل فى شركة السكر بالحوامدية .. وإنه مستأجر هذه الشقة خالية طوال العام بإيجار رخيص .. وتبقى زوجته ومعها أمها فيها إلى منتصف أكتوبر .. ويزورهما هو كلما سمح له عمله ..

*   *   *
واستمرت هذه العلاقة الصامتة بين سليم وبين جارته التى دلته على الغرفة مدة شهر بطوله .. دون أن يتبادلا كلمة واحدة .. إلى أن حدث أن كانت والدتها فاتحة باب الشقة وواقفة فى مدخل البيت .. تتحدث مع جارة لها فدفع الهواء الباب فإنغلق ..
وكان المفتاح بالداخل .. وسعديه أبنتها فى الخارج .. فذعرت الأم وحارت ماذا تفعل .. وجاءت سعديه وعرفت الخبر ووقفت بجانب أمها تفكران فيما تفعلانه فى هذا الليل .
ودخل سليم من الباب ورأى ما هما فيه من حيرة وارتباك .. فكان هو المنقذ .. وأخذ يعالج الباب الخارجى ولكنه استعصى عليه .. فاضطر أن يتسلق من نافذة المطبخ الداخلية المطلة على المنور ودخل الشقة وفتح لهما الباب ..
ودخلت السيدة سعديه ووجدته واقفا أمامها .. وظل واقفا فى ردهة بيتها لحظات وهى تتأمله وجها لوجه ، ولأول مرة تراه بقامته الطويلة وصدره العريض وجسمه المفتول .. ولأول مرة تسمع صوته الخشن .. وأشاع هذا كله الأضطراب فى أعصاب المرأة الشابة ..
وأخذ منذ حادث الباب يبادلها التحية وهو خارج من البيت وراجع إليه.. وكانت ترد عليه فى ابتسامة ناعمة .
وإذا سمعها تنادى على بائع من النافذة .. خف سريعا إليها وعرف ما تطلبه وحمل إليها الأشياء بنفسه إلى داخل الشقة ..
وانصرف على الفور ..
وكانت تتمنى لو بقى ليحادثها قليلا فإنها كانت تشعر بالوحدة المرة .. رغم وجود أمها معها .. ولكنها كانت تتوق إلى محادثة رجل .. محادثة رجل له لطف وإيناس هذا الشاب .. لينسيها متاعبها مع زوجها .. ويدخل السرور على قلبها .. فإنها منذ تزوجت وهى فى خلاف ومنازعات معه ..
وفى الفترة القصيرة التى يأتى فيها لمدة يوم أو يومين يمرضها بسوء معاملته حتى ملت عشرته وكانت تبقى فى الإسكندرية إلى منتصف أكتوبر أو نهايته وتدفع إيجار الشقة من إيرادها الخاص .. لتكون بعيدة عن بيتهم فى الحوامدية ولتريح أعصابها أربعة شهور كاملة .
وكانت لا تحب الإختلاط .. وتتوق إلى الوحدة .. لتتأمل نفسها .. وتتأمل ما حولها .. ولكنها أحست بحاجتها إلى محادثة رجل .. تحادث أى إنسان له لطف وإيناس سليم .
ولكن سليما لم يكن يبقى إلا لحظات .. ثم يمضى .. يشيع فى نفسها الاضطراب ثم ينسحب بهدوء ..
وكانت ترقبه وهو يمضى بجسمه الفارع .. ولم تكن تدرى ما الذى يعمله على التحقيق .. فسنه أكبر من سن الطالب .. ولكنه لا يشتغل .. يبدو متعطلا لا عمل له ..
فهى تراه يعود إلى البيت مرة فى الظهر ومرة فى العصر .. ومرة بعد منتصف الليل .. لم تكن له مواقيت إطلاقا .. فهو من غير شك متعطل .. وأعجبت به لأنه متعطل وإنه ينطلق على هواه .. وكانت تود أن تنطلق مثله وتذهب إلى كل مكان .. وفى محبسها كانت تشعر بالتعاسة .. وفى خلال تسعة أعوام من الحياة الزوجية كانت تشعر بالكآبة .. لم يضحك قلبها فى خلالها مرة واحدة ولم تتفتح براعم نفسها لكلمة حلوة نطق بها الرجل الذى ارتبطت به .. وحتى عندما يجئ إلى المصيف وفى خلال الأيام القصيرة التى يقضيها معها كلما فرغ من عمله .. كان ينكد عليها عيشتها ويثور فى وجهها كالزوبعة محملة بالتراب والهباب ..
وذات مساء وكانت سعديه ساهرة تطل من وراء النافذة إلى البحر والكورنيش .. رأت سليما عائدا وحده وكان يمشى متثاقلا ويبدو حزينا .. مثقلا بالهم على غير ما رأته من قبل .. وأحست بالعطف عليه وإنها يجب أن تشعره بعطفها .. فحملت له طبقا من الحلوى صنعته بنفسها ..
وتناول من يدها الطبق وهو ينظر إلى عينيها وشعرها وصدرها والعطر الأنثوى من جسدها .
وكانت تود أن تخرج هاربة بالسرعة التى دخلت بها .. ولكنه أشار إلى الكرسى لتستريح فى حجرته الصغيرة ، فلم تجلس ووقفت تحادثه .. وتنظر إلى عينية وشبابه وخلوته فى تلك الغرفة الصغيرة بعيدا عن الأنظار ..
وحدثها عن بلده وعن رسوبه فى الإمتحان وعن سبب مجيئه إلى الإسكندرية .. ولكنه كتم حادث السرقة ..
وشعرت المرأة بعد حديثه بعطف أكثر عليه ..
وسألته بحنو وبساطة :
ـ وكيف تعيش ؟
ـ معى بعض النقود وسأبحث عن عمل ..
ــ هل تشتغل فى شركة السكر ؟
ـ أين ؟
ـ فى الحوامدية .. سأحدث زوجى ..
ـ لا .. لا تحدثيه بشأنى .. سيسألك ما علاقتك به .. هل هو قريبك .. وستجرين على نفسك المتاعب ..
ـ سأقول إنه جارنا ..
ـ أن هذا لا يكفى .. أرجوك .. لا تسيئى إلى نفسك ..
ونظر إليها فاحمر خداها والتهبا ..
وإزداد عطف المرأة على الشاب لما علمت بسوء حظه ..
وفتحت صدرها له .. وأستغل الشاب تلك المعاملة الكريمة فأخذ يتودد إليها ويحادثها فى رقة ..
وكلما رأته أرتعشت ثم تنظر إليه نظرة غريبة ..
رآها أمامه ساكنة تحدق فى وجهه وتود أن تقول له شيئا ولكنها تعجز عن النطق به ..
إنها كانت هناك دائما فى نافذتها ترقبة بصمتها ..
*   *   *
وفى ذات ليلة .. عاد متأخرا .. وكان مغموما وقد أحس بنقوده قاربت على النفاد .. وازداد غما أنه غازل امرأة تسير وحدها فى طريق الكورنيش فردت عليه بغلظة وقالت له :
ـ امش يا جعان .. واشتر لك قميصا قبل أن تغازل .
وشعر بطعنة كالخنجر ..
لقد ردته المرأة إلى واقعه .. وسيجوع فعلا ولا يجد ثمن القميص .. وارتعش بدنه لهذا الخاطر ..
ورأى سعديه كعادتها جالسة قرب النافذة ووجهها إلى البحر ونظرها إلى الفضاء .. وراقب خيال أمها فى داخل الشقة فلم يره .. فأدرك أن العجوز قد نامت ..
وظل واقفا على الحاجز ينظر إلى البحر .. وفكره مع المرأة التى طردته بقسوة .. والمرأة التى خلفه هناك على بعد خطوات منه .. وأخذ يدخن .. أن أفتقاره إلى المرأة ألهب حواسه .. ورآها تنظر إليه تراقبه من بعيد .. كأنها تناديه .. كانت خصائل شعرها محلولة .. وثوبها الفضفاض أشبه بقميص النوم، واسع العروة قصير الأكمام يداعبه هواء الليل ويترك جسمها ينطلق على حريته ..
وبصر بذراعيها العاريتين تسحبان دلفتى النافذة إلى الداخل ..
وبعد لحظات أنطفأ نور الغرفة فأدرك أنها دخلت الفراش .
وظل يروح ويجئ فى مكانه فى خط واحد كأنه يقيس أبعاد الأرض بقدميه .. وكان البحر يهدر بجانبه ولكنه لا يسمع هديره كأن حسه كله هناك فى الغرفة التى أظلمت منذ لحظات ..
وقد الهبت حواسه الرائحة المنبعثة من البحر .. وتخيل العطر الأنثوى ، من جسد المرأة فظل فى مكانه شاردا لا يطرف .. ثم تحرك فى اتجاه الكازينو ووجده ساهرا وكان يود أن يجلس هناك ليشرب شيئا ، ولكنه أحس بقلة النقود فى جيبه وهو فى حاجة إلى الطعام أولا ليعيش ويتحرك ، فظل يمشى على البحر ..
ولما ارتد إلى مسكنه كانت الساعة تقترب من الأولى صباحا .. وفتح خياشيمه لليل وهواء البحر . وعندما دخل من الباب لم يتجه إلى غرفته وإنما ظل واقفا فى ردهة البيت ، وعيناه تبرقان فى الظلام ..
وكما يفعل اللص تماما، اتجه إلى المنور وإلى مطبخ السيدة وعالج النافذة الصغيرة سريعا ، ثم علا وقفز منها إلى داخل الشقة وظل قابعا فى الظلام ملتصقا بالحائط حتى يتبين أن سعدية تنام وحدها .. وبعد دقيقة واحدة رأته بجانب فراشها .. وكانت متيقظة فى خوف كأنها تتوقع منه هذه الحركة .. فلم تصرخ وردت الباب حتى لا تسمع أمها أى حس .. كان الخوف يشل كل حركة لها ..
*   *   *
وعندما خرج متلصصا كما جاء ، لم تسرح شعرها المنفوش ولم تسو طيات ثوبها .. كان عقلها يود أن يبقى الأثر إلى الصباح ..
وفى الليلة التالية جاءها متسللا من المنور ، فلم ترده ولم تصرخ .. وظلت العلاقة بينهما أشبه بمد البحر .. ظل البحر يحملهما على موجه .. ويدور بهما مع مهب الريح العاصف ..
*   *   *
ولم تعد سعدية تحسب حساب أمها النائمة فى الغرفة المجاورة أو تحسب حساب أى إنسان آخر .. أنطلقت مع أنوثتها كأنما مسها السعار ..
وكانت سعدية تشعر بأنه جائع ومحروم وعاطل ، وإليها يلقى به موج البحر .. كما يحمل موج البحر العشب الميت والعفن إلى الساحل ولكنها لم تكن تشتم العفن ولا تراه .. كانت تعيش بحواسها المخدرة ..
وذات ليلة لمح وهو يسوى شعره ساعتها فى غرفتها على منضدة الزينة .. فوضعها فى جيبه بهدوء ..
وعرفت فى الصباح إنه سرقها .. ولكن لم تحدثه قط ..
ولما جاء زوجها وسألها عن الساعة قالت له إنها سقطت من يدها فى الترام دون أن تشعر ..
ومر الحادث بسلام .. وكانت تعرف أن سليما باع الساعة ليأكل بها ..
فأخذت تعطيه النقود بسخاء دون أن يطلب منها ذلك .
واستمرأ هذه العلاقة ولم يعد يفكر فى العمل أو فى أى شىء آخر ..
وكان فى الساعات التى ينفرد بها فيها .. ويحسان بالخلوة وأن العالم لهما وحدهما يحدثها عن عواطفه وما ينطوى عليه صدره ..
وحدثها عن والده وكيف كان يدللـه وهو صغير حتى فسد ثم أصبح يخافه خوفه من الموت لأن التدليل والحنان انقلبا فى يوم وليلة إلى قسوة وحشية وأصبح يضربه بقسوة بالسوط ..لأدنى سبب ..
وقال لها معللا فشله ..
ـ ومن الخوف من أن يضربنى بالسوط .. رسبت فى الإمتحان .. ومن الخوف من سوطه فشلت فى كل خطوة فى الحياة .. وجاء أخيرا الرجل الذى ضحك على وأخذ منى كل ما معى من نقود ليوظفنى .. وكنت وأنا صغير أود أن ألقى بنفسى فى ماء النيل وأستريح من كل عذاب . ولكننى عشت معذبا وأنا أكتم كل أحاسيسى فى نفسى ..
وجئت إلى هنا طريدا لأجد عطفك ..
وأمسك بيدها ..
ـ لا تفكر فى شىء ..
قالت هذا بعذوبة ..
ودفن رأسه فى صدرها .. وأخذ يبكى ..
*   *   *
ومنذ تلك اللحظة أصبح لا يمر يوما دون أن يلتقيا ولكنها كانت تتجنب السير معه على سيف البحر وتحسب لذلك ألف حساب ..
أما إذا أرخى الليل سدوله وهدأت الكائنات فإنها كانت تتوقع قدومه إليها فى كل لحظة فى منتصف الليل وفى أخرياته وقبيل الفجر فى كل الحالات كان يأتى وتتلقاه بخوف . فإنها فى كل لحظة كانت تتوقع إستيقاظ أمها أو عودة زوجها من السفر فجأة ولهذا الخاطر كانت أعصابها تشد كما يشد الوتر على الكمان ثم تسترخى وتروح فى مثل الغيبوبة بين ذراعيه وهى مغمضه عينيها .. وتظل العينان مغمضتين حتى بعد أن يتسلل إلى الخارج هاربا وتحس بلفحة الهواء البارد تهب على وجهها فى الفترة التى يفتح فيها الباب.. ويمضى كالسهم وفى خلال أربعين يوما أحست تماما بأنها قد رجعت إلى طاحونة جدها الشيخ عبد الفتاح عندما كانت تذهب مع الخادمات لطحن القمح وتجلس بجانب «الكادوس» وترى الحجر الثقيل يلف والحب يتساقط ويدور تحت الرحى فى مثل الدوامة ..
وكانت تشاهد هذا المنظر والجعجعة تصم أذنيها والصداع يمزق راسها .
ولكنها مع ذلك كانت فى كل مرة تذهب وهى منتشية ..
وقد رجعت الآن إلى الطاحونة وفى كل مرة ينتابها الصداع من الخوف ومن وقع المفاجأة .. ولكنها لا تستطيع غلق الباب لأنها وقعت تحت سيطرته تماما ..
وقد جعلها الإحساس الغريزى تفكر فى أن تضع الغطاء على رأس أمها وهى نائمة إلى الحد الذى يكتم أنفاسها وعجبت أن يسرح بها التفكير إلى هذا الحد .. ولكنها كانت تسير بقوة لا تستطيع ردها ..
*   *   *
وهبت ذات ليلة من نومها مذعورة على حلم مزعج .. فقد حلمت أن زوجها يخنقها فى الفراش وهى تصرخ وجاءت أمها على صراخها وخلصتها من قبضته .
وفتحت عينيها فوجدت أمها على السرير ..
ـ مالك يا بنتى ؟
ـ لا شىء .. يا أماه .. كابوس .. وقد ذهب ..
وظلت أمها فى الغرفة ولكنها تضايقت من وجودها :
ـ أريد أن أنام يا ماما .. اتركينى أرجوك ..
وتكورت .. دون أن تضع الملاءة الخفيفة على جسمها ..
وبعد ساعة فتح زوجها الباب ودخل ..
وظنها نائمة .. فخلع بذلته وتمدد بجوارها دون أن يوقظها ..
وغفى الزوج .. ثم تنبه على سقوط شىء على الأرض .. وظن قطة دخلت من نافذة المطبخ لتلعق بقايا الطعام .. ولكنه لما حرك عينيه ونظر فى الظلام رأى شيئا يقترب من غرفته ..
فنهض من الفراش سريعا .. وجرى الشبح فى الصالة ولكن الزوج أمسك به وتصارع الرجلان فى الظلام صراعا رهيبا فى صمت دون أن يتبادلا كلمة واحدة وكل واحد منهما يضرب رأس الآخر بكل ما يقع تحت يده ..
وأخيرا سقط الزوج صريعا مضرجا بدمه .
ووقفت الزوجة وأمها تصرخان فى قلب الليل الساكن وفر الرجل الآخر.. فر سليم لا يلوى على شىء وهو يعدو عدو المجنون وقميصه ممزق ملطخ بالدم ..
*   *   *
ولما وجد ثغرة فى سور الكورنيش قفز إلى البحر وغاص بحذائه فى الماء وظل يبتعد عن الشاطئ وهو يبحث بيديه وقدميه عن حفرة تحتوى جسمة كله .
وسمع صفارة تزعق .. ورأى الناس يجرون على الساحل ويقتربون منه . على شكل حلقة .. ولكنه لم يعد يخافهم فى هذه اللحظة فقد قطع السلسلة التى كانت تربطه بهم وبالحياة .
وقد راح فى الدوامة ولم يعد يدرك ما حوله .. ولا يحس بأى شىء على الإطلاق ..

فى القفص(1)
كان الصباح غائما مقرورا والريح تهب بشدة من ناحية البحر .. وكانت المقاهى والمطاعم الصغيرة ومحلات الحلوى التى تقع فى الميدان الواسع قليلة الرواد فى تلك الساعة من النهار لتقلب الجو وعصف الريح ..
وبرغم الرياح الهوج والإنذار بالمطر كان باعة الصحف يتحركون فى الميدان كعادتهم فى كل صباح ويصيحون بآخر تطورات الحرب فى الجزائر وآخر رحلة لرجل الفضاء ..
وكان ترام الرمل يفرغ فى كل دقيقتين حشدا مختلطا من الرجال والنساء الذاهبين إلى أعمالهم فيمتلىء بهم الميدان لحظات .. ثم يفرغ منهم ويستقبل غيرهم ..
وخرج ثلاثة من الركاب من خط « باكوس » وداروا متمهلين فى الميدان.. كأنهم يبحثون عن ملجأ يحميهم من العواصف ثم جلسوا فى داخل محل التريانون يستدفئون بشرب الشاى .. ويرقبون من خلال الزجاج فعل الرياح والعابرين من خلال النفق ... وكانت الريح تذوم فى الخارج وهى تحمل فى دواماتها كل ما تستطيع حمله من الأوراق والغبار ولم تكن مثل هذه العواصف قد هبت على مدينة الإسكندرية منذ عشرين سنة .. فثار البحر وزمجر .. ووقفت السفن فى مدخل الميناء وتعطلت الحركة فى داخل المدينة ..
وكانت مثل هذه العاصفة قد هبت فى يوم الأربعاء الماضى على شاب من التجار وهو مسافر من الميناء إلى جنوا .. فضبط وهو يهرب ذهبا وعملات أجنبية وقبض عليه متلبسا بجرمة وأودع السجن رهن التحقيق ..
وعلمت زوجته الخبر المفزع فجاءت من القاهرة على عجل ومعها طفلها الوحيد عادل البالغ من العمر خمس سنوات وشاب قريب زوجها يدعى شوقى الذى أعلمها بالخبر وأبدى استعداده لمرافقتها إلى الإسكندرية ..
وركبوا ديزل الساعة السابعة صباحا ونزلوا فى سيدى جابر .. لأن شوقى كان يود أن يمر على صديق له يقيم فى الإبراهيمية ليساعده على أخذ التصريح من النيابة لزيارة السجين .
ولما لم يجدوا الصديق فى بيته ... واصلوا الطريق بالترام إلى محطة الرمل فى جو عاصف .. واختاروا التريانون ليجلسوا فيه حتى يتدبر شوقى الأمر ..
وكان عبد الفتاح زوج فوزية شابا ذكيا ولامعا .. ويشتغل فى شركة من شركات السيارات وكان رفاقه ينظرون إليه كشاب له مستقبل ...
واتسعت آماله وزادت مطامعه .. بعد أن تعلم من وجوده فى الشركة أشياء كثيرة فاستقل بنفسه وأصبح يتاجر فى السيارات والثلاجات .. ثم اتخذ من المحل ستارا لتهريب الأموال إلى الخارج لحساب الآخرين ..
وفى إحدى محاولاته الجريئة قبض عليه متلبسا ..
وكانت فوزية تود أن تزوره فى هذا الصباح فى السجن وتعود إلى بيتها فى القاهرة فى اليوم نفسه .. ولذلك رفضت أن تذهب إلى الشقة التى يستأجرها شوقى فى الإسكندرية .. وتحت الحاحها على أن تعود إلى القاهرة فى اليوم نفسه .. رأى شوقى أن تجلس فى التريانون ومعها طفلها ويذهب هو لينجز إجراءات الزيارة .
وتركها شوقى وذهب لسبيله وجلست فوزية ترقب الطريق من خلال الزجاج .. والريح تزف فى دوامات وتدفع أمامها كل شىء ..
ولأول مرة تجلس وحدها فى مكان عام وشعرت برجفة .. كان المكان خاليا تقريبا إلا من قليل من الرواد جلسوا متناثرين بجانب المناضد وعليها مفارشها الصفراء .
وكانت العواصف فى الخارج تزار .. والرياح تدفع العابرين إلى الإسراع والسير تحت البواكى وجدران البيوت .. وتلاعب ملابس النساء فتجعلهن يضطربن فى سيرهن ويتلفتن إلى الوراء .. كأنهن يتأكدن من أن أحدا لا يراهن على هذه الصورة المثيرة أو يطلبن من الرجال العون .
ولقد هبت هذه العاصفة على بيت فوزية منذ ثلاثة أيام .. وحملتها على متن الريح ودارت بها .. ومزقت كيانها . وسترها وتركتها عارية أمام الناس.. فأحنت رأسها خجلا وتوارت .
وعند ما طلبت العون فى مصيبتها .. لم تجد أحدا على الإطلاق يعينها غير شوقى ..
وجاءها شوقى فى الساعة الواحدة يحمل لها التصريح بالزيارة ولكن كان الموعد محددا فى صباح اليوم التالى فاختارت ماذا تفعل .. ولم يكن من سبيل غير المبيت فى الإسكندرية .
وخرجوا من المقهى ليتغدوا فى أحد المطاعم العامة .. وعلى مائدة الغداء حدثها شوقى عن ضرورة الراحة فى شقته ورضيت لأنها كانت متعبة جدا وركبوا الترام إلى هناك ..
وكان شوقى مستأجرا شقة صغيرة من ثلاث غرف فى اسبورتنج قريبا من كليوباترا ويتخذها مصيفا ومقاما له عند ما تضطره ظروف عمله إلى التوجه إلى الإسكندرية . وكانت فوزية تدخلها لأول مرة فعلى الرغم من قرابة شوقى لزوجها ولكنه كان قليل الإختلاط بهم فى القاهرة .. لأنه دائما مشغول بعمله .. وكانت فوزية إذا صيفت تذهب مع زوجها وأبنها إلى رأس البر ... فلم يكن هناك مجال لترى شقة شوقى إلا فى هذه المرة .. وكانت لطيفة وسرت بها لأنها تقع على البحر مباشرة وفى عمارة حديثة ..
وخصص شوقى لها ولأبنها الغرفة الوحيدة التى تطل على البحر ولأنها كانت متعبة .. ومحطمة الأعصاب .. وتبكى باستمرار .. تركها تستريح .. ونزل هو إلى السوق يتسوق الأشياء اللازمة للبيت والعشاء ..
ولكن فوزية ظلت جبيسة فى غرفتها ولم تخرج منها ولم تتناول العشاء . وكان يعرف أنها تجتر أحزانها فتركها تستريح دون أن يزعجها إلى الصباح .
وفى الصباح أتجهوا ثلاثتهم لزيارة زوجها .. وحوالى الساعة التاسعة دخل زوجها القفص ورأته شاحبا .. وأن بدا حليق الذقن وفى لباسه العادى .. ونظراته الثابته .. ولما لمح ابنه الصغير إنتفض كأنما لدغته عقرب
وشحب وجهه شحوبا شديدا وبقى جامدا فى مكانه .. ثم مد يده للغلام فقربته أمه منه ..
وسألها :
ـ متى جئتم .. ؟
ـ الصبح .. فى أول قطار ..
ـ هذا أحسن .. أين كنتم تنامون فى الإسكندرية ..
ثم نظر لشوقى .. وكان قد سلم وابتعد يتحدث مع أحد العساكر ..
ـ وشوقى .. جاء معكم ..
ـ لقيناه فى المحطة ..
ـ بعد الزيارة خذى عادل وارجعى « مصر » على طول .. اطمئنى ليس على شىء .
ـ حاضر ..
كان يخشى عليها من وجودها وحدها فى الإسكندرية ..
وكان الحارس .. وكل من يقع نظره عليها يحملق فيها فى ذهول .. كان جمالها وأناقتها فى ملبسها ملفتين للأنظار ..
حتى أن السجان نفسه المكلف بمراقبة الزيارة خجل من أن يقول لها أن ميعاد الزيارة قد أنتهى .. ولم يجرؤ على أن يبعد زوجها عنها ..
وأخيرا دخل زوجها وابتلعه ظلام السجن .. ووجدت نفسها وحيدة وسرت فى أوصالها رعدة وأخذت تنشج .. ثم اعتمدت على ذراع شوقى وبارحت المكان وفى عينيها الدموع الحارة .. وكان طفلها قد تعلق بثوبها فى ضراعة ولكنها لم تكن تحس بوجوده لأول مرة أظلمت فى وجهها الدنيا وأحست بالظلام يتسرب إلى نفسها .
لقد كانت تفرحها البهجة التى عاشت فيها من قبل المال .. والسيارة الخاصة والسكن على النيل فى عمارة ضخمة .. وكان طوع بنانها كل ما تطلبه وتحن إليه كانت هذه الأشياء تفرحها من قبل .. ولكنها رأتها الآن محوطة بالأسلاك الشائكة والحديد .. وأحست بالضياع ..
أخذت تتراجع إلى الخارج .. وهى شاحبة الوجه .. وأحس شوقى بلوعتها فأركبها « تاكسيا » .. وفى « التاكسى » أطلقت العنان لعبراتها .. وكان ابنها بجوارها ذليلا فضمته إليها .
ولما رأت السيارة تنطلق فى طريق الكورنيش سألته :
ـ إلى أين .. ؟
ـ سنروح البيت ..
ـ لا .. أنا عاوزه أسافر .. على طول ..
ـ طبعا .. سنسافر .. ولكن بعد أن تستريحى قليلا .. تعبت وأنا أشفق عليك من هذا العذاب .. وسأرى المحامى . ليقدم له معارضة فى وقت قريب
ـ ضرورى نأخذ قطر خمسة .. خوفا من أن ينام عادل منا فى السكة ..
ـ سأعمل حسابى على ذلك ..
وظلت فوزية شاردة الذهن ..
واستفاقت لنفسها عند ما وقفت السيارة أمام العمارة فى حى أسبورتنج وصعدوا إلى الدور السابع .
واستراحت فوزية بعد أن وجدت نفسها بعيدا عن العيون فى داخل الشقة فقد أراحها البكاء الطويل وانزاحت عن نفسها الغمة التى لازمتها بعد رؤيتها لزوجها فى القفص ودارت ببصرها لتتفقد الشقة بكل تفاصيلها فلم ترها الليلة الماضية إلا فى نظرة عابرة .
كانت الشقة جميلة الأثاث .. أنيقة للغاية وكان جو المكان يوحى بالشاعرية .. وكان من الجلى أن أنامل سيدة ترتب المكان وترعاه ..
وإنطلق الغلام يعدو فى الشقة وهو غير شاعر بما يجرى فى الدنيا ...
وظلت فوزية تفحص المكان بعينيها وشعرت للمرة الثانية وهى جالسة مع شوقى والباب مغلق بالخجل .. وأحست بالحاجة لأن تذهب إلى دورة المياه ولكنها خجلت من أن تدخل أمامه ..
وسألته وهى تشعر بالحرج :
ـ منذ متى استأجرت هذه الشقة ؟
ـ منذ ثلاث سنوات ..
ـ جميلة ..
ـ أعجبتك ؟
ـ جدا .. وبتصيف فيها ؟
ـ بالطبع وأحيانا آتى فى الشتاء .. الإسكندرية .. جميلة فى الشتاء وهادئة..
وهذه الأيام العاصفة تعتبر شاذة ..
ـ أننا نصيف فى رأس البر ..
ـ حدثنى بذلك عبد الفتاح ..
ـ والصيف المقبل .. لا ندرى أين نكون .. لا نعرف مصيرنا ..
ـ فى رأس البر بإذن اللّه كما أعتدتم .. وسأتركك ساعة لأذهب إلى المحامى ..
ـ أذهب معك ..
ـ لا داعى لذلك أستريحى أنت وعادل .. ولكن لا تقلقى سأنتظر المحامى فى مكتبه إلى أن يحضر إذ ربما عنده اليوم جلسة .. فى المحكمة .
ـ إننا فى انتظارك .. إلى أن ترجع بالسلامة وخذ مقدم الأتعاب ..
وفتحت محفظتها ...
فنظر إليها .. وهى تخرج ورقة من ذات عشرة الجنيهات ..
ـ خلى النقود معك الآن سأعطيه .. وأحاسبك بعد ذلك .. وفى عودتى سأحمل معى طعام الغداء .. فاستريحى ..
وخرج وأغلق الباب ..
*   *   *
كانت فوزية تعرف أن الوقت يمر فى تثاقل والنهار على قصره سيطول فبماذا تشغل نفسها حتى يعود شوقى .. كان وجود عادل يسليها فى بيتها ولكن هنا .. كان الأمر على العكس .. والساعات بطيئة .. وخرجت تدور فى الشقة وتخرج من غرفة إلى أخرى .. وتقلب فى المجلات والصور ..
لم تكن الشقة فى أناقتها شقة رجل عازب .. أو شخص يتخذها مصيفا .. بل كانت شقة عروس وعفش عروس .. وأنامل الأنثى بادية فى كل مكان ..
ربما كان شوقى متزوجا وهى لا تدرى .. أو متخذا لنفسه عشيقة .. أو يأتى فى كل ليلة بامرأة كما يفعل غيره .. وأخذت هذه الخواطر تدور فى رأسها ... وعجبت من كونها تفكر فى مثل هذه الأشياء وتشغل نفسها بها وهى على هذه الحالة من التعاسة .
ووجدت « راديو » صغيرا فى حجرة النوم فأدارته .. وانساب النغم هادئا .. وكان عادل يروح ويجىء وهو فى بهجة منطلقة .. واستوثقت أمه من علو الشرفة .. وأطمأنت وتركته يمرح على هواه ..
وكان الجو شديد البرودة فى داخل الشقة مثله فى الخارج والبحر هائجا والموج يصفق وكانت هناك ريح غريبة قد بدأت تهب وشاهدت بعض البواخر الكبيرة .. تسير من بعيد فى عرض البحر وهى تصارع الأمواج وعلى مدى البصر رأت السلسلة .. وبعض الزوارق الصغيرة طاوية أشرعتها وراسية هناك .
وأخذت تتابع بعينها تحركات البواخر فى عرض البحر .. وكان سباق اسبورتنج وراءها وقمم البيوت وقبابها وبدت المدينة يخيم عليها السحاب ويلفها فى شملته ..
*   *   *
وعاد شوقى بعد الساعة الثانية .. يحمل طعام الغداء ...
وأعدت فوزية المائدة وسألته على الطعام :
ـ هل قابلت المحامى .. ؟
ـ لم يحضر من المحكمة حتى الساعة وقد تركت له ورقة لأعود إليه فى الساعة الخامسة مساء ..
ـ سأترك لك الموضوع وأسافر ..
ـ إبقى إلى الغد .. وسنسافر معا .. كما جئنا معا .. أرجوك ..
ـ لقد وعدت عبد الفتاح بالسفر اليوم .. ولابد من السفر ..
ـ إنى أشفق عليك من العودة وحدك .. وسأنهى الموضوع الليلة وربما لحقنا قطر سبعة وربع ..
ولم تعقب فوزية ووقف الحديث عن السفر عند هذا الحد .
*   *   *
وبعد الغداء ... جلسوا يتحدثون .. ونام الغلام .. وأحست الأم لنومه بالراحة .
وخرج شوقى .. وذهب إلى المحامى ..
وعاد فى الساعة السادسة مساء وحكى لها ما جرى مع المحامى وكيف طمأنه وسيتخذ الإجراءات للمعارضة فى أمر الحبس من الغد ..
وظل شوقى يحادث فوزية ويطمئنها على حال زوجها ويحبب لها البعد عن جو القاهرة فى ذلك الوقت حتى رضيت أن تقضى الليل فى الإسكندرية .
ولاحظ عليها قلقها وحزنها وكان يود أن يشغلها بأى شىء فاقترح عليها أن تقوم بإعداد العشاء ولو بالإكتفاء بطبق واحد .. ولكنها اعتذرت بكون أعصابها محطمة ولا تحس بالقوة على أن تقف أمام النار ..
وأخيرا قررا النزول والتعشى فى الخارج ..
ولما رجعوا ثلاثتهم كانت الساعة قد اقتربت من التاسعة ولم تكن فوزية تحس بالنوم فقد كانت أعصابها لا تزال متوترة فأبدت له رغبتها فى أن تجلس فى أى مكان قريبا من البحر .. لم تكن قد زارت الإسكندرية فى الشتاء وكانت ريح البحر ترطب وجنتيها .. وتغسل روحها .. كانت تود أن تصفو روحها القلقة .. وأن يداعب وجهها الهواء البارد ...
ولم يجد أى كازينو على البحر يعمل فى الشتاء .. وجدا مكانا صغيرا .. فجلسوا ثلاثتهم وراء النوافذ الزجاجية محتمين من الريح .. وشربا الشاى وطلبا حلوى لعادل الذى أخذ النوم يداعب جفنيه ..
وسألت فوزية بصوت خافت .. ونغمة حزينة :
ـ هل شرحت الموضوع للمحامى .. ؟
ـ أجل .. بكل تفاصيله ..
ـ وطمأنك .. ؟
ـ كل الإطمئنان ...
ـ أعتقد العكس .. وأعتقد أن عبد الفتاح لن يخرج من هذا القفص . لقد تمزقت حياتنا ..
شعرت بالضياع .. وأخضلت عيناها بالدمع .. وخجلت من كونها تبكى فى مكان عام .. وابتلعت عبراتها .. وظل هو يواسيها ويخفف الألم عن نفسها بكل كلام ..
وقالت من خلال عبراتها :
ـ إن الإنسان لا يحس بالضياع إلابعد أن يضيع فعلا ... والطمع يغشى عينيه ..
فيحسب أن المال هو كل شىء فى الحياة .. منه يشترى السعادة ويتحدى القانون .. ثم يدرك بعد فوات الأوان .. أنه كان مخدوعا .. وأنه عاش فى
ضلال ..
ـ يسرنى أن أسمع منك هذا الكلام .. الآن .. ؟
ـ هل تحسبنى كنت أشجعه على هذه الحياة ؟
ـ أبدا ما فكرت فى هذا ..
ـ لقد كان يصرف المال على مباذله وشهواته الخاصة .. ويضيع كل ما يجمعه يوما بيوم .. والمال الحرام لا يعيش ... وكانت رفاهيتنا مظهرية . بحتة وفى أعماقنا يعيش العذاب ..
ـ أعرف أنك تعذبت ..
وغلبها التأثر فسالت عبراتها وأخرجت منديلها ..
وقال يواسيها :
ـ إن ما حدث مقدر .. وما ذنبك ؟
ـ كان يجب على أن أسأله من أين يأتى بهذا المال . ولكننى تركته حتى جرفنا الطوفان .. فى لحظة .. تعرينا .. وكيف أواجه الناس .. وكيف يعيش الغلام المسكين وأبوه فى السجن ..
ـ فكرى فى رحمة اللّه .
ـ إن اللّه لا يرحم من لا يتقيه .. ولا يخشاه ..
ـ لا داعى لكل هذا اليأس ..
ونظرت إلى ابنها فوجدته ينام على كرسيه ..
ـ أصح يا حبيبى ..
وتناولت يده واتخذوا الطريق إلى البيت ..
*   *   *
وعندما دخلوا الشقة وأغلق هو الباب بالمفتاح ووضعت هى الغلام فى الفراش .. أحست بالراحة وبأن حائطا سميكا قد فصلها عن الناس الذين كانت تخشاهم ولا تحب أن تواجههم بكل تعاستها .. وكل لوعتها وكل عريها .. لقد تعرت أمامهم عراها زوجها ومزق ثيابها ومزق حياتها وجعلها تقف عارية أمام الخلق لا يسترها أى شىء على الإطلاق جعلها تواجه العار وحدها .. إنها تتوارى الساعة من العار .. وراء الجدران السميكة .
وظلت ساهرة فى الصالة وشوقى يحادثها فى مختلف الشئون حتى يسرى عن نفسها ..
وكانت تسمع من حين إلى حين صوت ابنها الذى تركته فى غرفة النوم وحده ..
ـ ماما ..
فنهضت إليه مسرعة .. فتجده فاتحا عينية .. كانت تحسب بعد ان رأته ينام على كرسى المقهى .. إنه سينعس بمجرد وضعه فى الفراش .. ولكنه كان يغفو ثم يصحو .. على غير عادة .. ولعل فى رأسه الصغير شيئا لم تعرفه عندما وجد نفسه فى بيت غير بيته .
وظلت بجانبه .. وكلما بارحت الغرفة ناداها .. فاضطرت أن ترد الباب.. وترقد بجواره متيقظة ونائمة حتى أشرق نور الصباح ..
*   *   *
وجلسا إلى المائدة يشربان الشاى فى الصباح .. وكان الغلام قد بدأ ينام.. شربا الشاى فى تمهل وخاضا فى فنون الأحاديث .. ولما طرقا موضوع السفر .. كانت قد أقتنعت تماما بأن تبقى يومين أو ثلاثة فى الإسكندرية .. بعيدا عن معارفها وجيرانها فى القاهرة .. حتى يتحدد ميعاد المعارضة وخرج شوقى يتسوق الطعام من السوق ثم ذهب إلى مكتب المحامى وبقيت فوزية فى البيت ومضى الصباح ثقيلا مملا والأفكار السوداء تنهش رأسها .. وظلت فى البيت إلى الساعة الحادية عشرة من الصباح لم تر موجبا للخروج ثم شغلت بإعداد الطعام وطلب أنبوبة « البوتاجاز » . وتشغيل المطبخ وشاعت الحركة فى الشقة المهجورة .. وكان الغلام ينزل إلى الأدوار الأرضية ويلعب فى مدخل العمارة مع الأولاد ثم يصعد مسرورا .. فقد وجد ما يؤنسه فى وحشته..
واستراحت فوزية لوجودها منعزلة عن الناس وقريبة من البحر وكانت تسمع صوت الموج رعادا .. وكانت الشمس تطلع ثم تغيب وراء السحاب وبدا النهار أقل برودة من الأمس .
لما جاء شوقى وحدثها بأن المحامى بذل جهده لتكون المعارضة فى يوم السبت المقبل .. شكرته لتعبه ولاحظت أنه خارج لتوه من عند الحلاق وأنه يبدو على غاية من الأناقة .. وقد التمع شعره وتعطر .. وأخذت فوزية تنظر إليه وكأنها تراه أمامها لأول مرة .. بدا أنيق الهندام وأكثر رقة من زوجها وكان متقاربا معه فى السن والطول وفيه صفات أسرة زوجها ولهجتهم .. كان فى الرابعة والثلاثين من عمره أبيض طويلا مستدير الوجه وفى عينيه ذكاء مفرط .. وكان مثل زوجها يشتغل بالتجارة ولكنه لا يبذل كل جهده فيها ومع ذلك بدا لها موفقا غاية التوفيق فى أرباحه .. ولم تكن تعرف على اليقين الشىء الذى يجلب له المال .. وكان ميسورا وقادرا على الزواج .. ولكنه حتى هذه السن لم يتزوج .
ولم يكن فى فترة وجودهم فى القاهرة يزورهم فى بيتهم إلا فى النادر كل ثلاثة شهور مرة .. وكانت تعرف أنه قريب لزوجها ولكنها لا تعرف مبلغ القرابة على التحديد .. وأصبح بعد أن سافر أخو زوجها أحمد ليعمل فى أحدى السفارات فى الخارج هو الشخص الوحيد الذى تراه من أقاربائه ..
ومنذ قبض على زوجها وهى تشعر بأنه جزع للخبر مثلها .. وهو فى الإسكندرية طوع بنائها .. ويقوم بكل ما تطلبه .. وقد ذهب للمحامى عدة مرات .. وأراحها فى بيته .. ويصرف على الطعام والشراب .. ولم يكن فى محفظتها هى غير عشرة جنيهات وبعض الحلى حملتها معها لتبيعها وتصرف منها على زوجها المحبوس .. ولم يكن فى بيهم أى وفر من المال .. كان زوجها يكسب كثيرا ولكنه كان يقامر .. ويصرف كثيرا .. وكانت تعرف أنه يصرف على النساء .. ويصرف عليهن بجنون وأن النساء هن اللواتى يدفعنه إلى كل هذه الأمور الشائنة وظلت صابرة وكانت تتصور أنه سيعود إلى عقله ويعود إليها خصوصا بعد أن كبر عادل .. ولكن المقادير كانت أسرع من تقديرها وها هو الآن فى داخل القفص .. وقد تركها فى الخارج للمقادير وريح الشتاء ..
وعندما وضعت المائدة .. لاحظت أن شوقى يجلس فى كرسيه فى الصدر وفى مواجهتها تماما .. كما كان يفعل زوجها فى بيتهم فى القاهرة .
وتناولت طعامها وهى تلاحظه بعينيها يأكل .. وكان طفلها عادل كعادته.. مدللا .. قلقا وقد أتعبها وهى تطعمه وزاد من همومها .
*   *   *
وفى العصر ذهبوا إلى محطة الرمل ثم عادوا إلى البيت .. بعد الغروب وسألته .. وهى تخلع معطفها :
ـ هل ستبقى فى الإسكندرية إلى يوم السبت .. ؟
ـ نذهب أو نبقى كما تحبين .. أنا طوع أمرك ..
ـ ألا نسافر حتى فى الصحراوية .. ونعود يوم الجمعة ..
ـ أنا عند رأيك ..
عاد إليها القلق
ورآها بعد أن خلعت المعطف وبقيت فى الثوب الوحيد الذى سافرت به فلم يكن معها غير حقيبة يدها الصغيرة .. فإن الثوب أسود داكن .. ولا يدرى لم اختارته بهذا اللون هل هو مقدمة لنعى زوجها أو دليل على حزنها على مصيره .. وكان محبوك النسج على قامتها الفارعة ويبرز تقاطيع جسمها.. وتكوين صدرها .. ورقة خصرها .. واستدارة فخذيها ..
وكانت بيضاء بياضا شفافا ملتمعا .. وعلى شفتيها الخمراوين يجرى ريقها مثل الشهد .. ويشتم من بشرتها .. مثل رائحة العنبر .
وكان الثوب الوحيد قد تكسر من طول لبسها له ومكوثها به فقد كانت لا تخلعه الا فى الظلام .. عندما تدخل فى الفراش ..
ومع وجودها فى صحبة شوقى وملازمتها له أكثر من يوم ولكنها كانت ترتبك لمجرد إحساسها بأن عينيه تتبعانها وهى داخلة إلى دورة المياه .. ولاحظ أرتباكها فكان يذهب بعيدا عن الصالة كلية حتى لا يربكها ..
ولم يكن قد ضايقها بأية حركة أو أى عمل تشتم منه أنه ينظر إليها نظرة الرجل إلى الأنثى .. كانت نظرته ساكنة مؤدبة .. وكان دائما على استعداد لأن يتحمل كل شىء فى سبيل راحتها .. فنام على (كنبة) فى غرفة بعيدة عنها وترك لها غرفة نومه بكل ما فيها من رياش واطمأنت تماما لصحبته ..

*   *   *
وفى اليوم الثانى وبعد الغداء .. أغلق عليه باب الغرفة التى ينام فيها .. تركها فى حريتها مع طفلها .. وجمعت للطفل أشياء يلعب بها .. فى الصالة وجلست قريبة من النافذة من وراء الزجاج ملقية نظرها على الإسكندرية .. على السلسلة .. وعلى رءوس المنازل البيضاء الملتمعة كلما طلعت الشمس وكان الكورنيش فى نصف دائرة من رأس التين إلى المنتزه ..
والبحر أزرق اللون بين هذين وقد بدا هادئ الصفحة وخف عراكه مع الريح ..
لم تكن تسمع حركة السيارات فى الطريق ولا صوت أحد فى هذه الشقة العالية .. واسترخت أعصابها فى هذا الجو الهادئ .. كان الهدوء يؤثر على قلبها .. ويشعرها بالبهجة الحالمة وكانت تشعر فى مثل هذه الأوقات برغبتها فى أن تعانق أحدا لتشعره بسرورها ..
وكان شعاع طويل من الشمس ينفذ من خلال زجاج النافذة ويرتمى على السجادة ونظرت إلى الشعاع وأحست بالرغبة فى أن تستدفىء فى هذا المكان .. فوضعت شيئا تحت رأسها .. وتمددت على السجادة .
وراحت فى غفوة لذيذة وأحست بالدفء ولم تشعر بنفسها .. إلا وهى ترى عينى شوقى ترقبانها .. وكان قد فتح باب غرفته فرآها فى رقدتها .. فوقف فى مكانه يتأملها فى سكون ولم يكن يود أن يقوم بأية حركة مخافة أن تصحو ولكنها صحت على حركة من ابنها ..
ولما فتحت عينيها وجدت (شوقى) يرقبها باسما وكان الثوب قد انزاح عن ساقيها .. فنهضت سريعا ووجهها فى لون العناب .
*   *   *
ودخلت غرفتها .. وأخذ هو يداعب ابنها (عادل) .. ولما فرغت من زينتها كانت فى حالة من الانشراح شجعته على أن يقترح عليها أن يذهبوا إلى السينما فى حفلة الساعة السادسة .. فقبلت .. واختاروا سينما ريو .. وفى الطريق إليها اشترت بعض الملابس الداخلية لها وللغلام .. لأنها لم تكن تحمل غيارات أطلاقا ..
ولما رجعوا إلى البيت .. تعشوا ودخل شوقى غرفته .. ولما أدركت أنه نام.. ذهبت إلى الحمام ..
أخذت تغسل ملايسها الداخلية المتسخة وملابس الغلام .. ووجدت حبلا فى الشرفة .. فنشرت الملابس فيه ..
وأغلقت الباب الزجاجى .. وشعرت بهدأة الليل ..
وكان عادل نائما على الكنبة فى الصالة فحملته إلى الفراش ..وأغلقت النور لينام ..
ولكن قبل أن تنام أحست بصوت الريح فى الخارج .. ثم صوت المطر .. واخذ المطر . ينهمر بشدة .. فرأت أن تبعد الملابس التى نشرتها عن المطر .. وفتحت نافذة الشرفة على عجل فهبت الريح قوية فى وجهها وخبطت أبواب الشقة ..
وعندما اقتربت من حبل الغسيل لتجمع الملابس المنشورة شعرت بأنها هى نفسها تكاد تطير فى الجو من قوة الريح .. وسقط شىء صغير من يدها وحملته الريح إلى جوف الليل وندت عنها صرخة .. وتراجعت مذعورة من قوة الريح فوجدت نفسها على صدر شوقى وضمها إليه يحميها من العواصف وأدخلها فى الصالة وأغلق زجاج الشرفة ..
ولامس بشرتها وجسمه جسمها وشعر بمثل النار ..
ودخلت شاحبة اللون ووجدت ابنها (عادل) يرقب المشهد من مكانه على السرير ..
*   *   *
وعاد شوقى إلى غرفته وهو يحس بهزة عميقة وقسوة عارمة .. فقد لامس جسمه جسمها .. لعبت الريح .. دون غرض .. فأشعل الحادث الذى حدث دون تدبير فيه النار ..
ولم ينم وظلت الريح تعصف طول الليل والمطر ينهمر وكان البحر هائجا كالغول وهما يسمعان صوته ..
وشعرت بالخوف وكان همها أن تدثر الغلام وتدفئه حتى ينام .. ودخل عليها شوقى الغرفة لما أحس باشتداد البرد وفعل الريح يحمل لها بطانية أخرى فشكرته ووضعتها على الغلام .. وجلست على طرف الفراش وهى تنظر إلى عينيه ليذهب عنها .. ولكنه ظل واقفا فى مكانه .. كأنه بعد أن لامس جسمها واحتضنها عفوا .. أصبح له الحق فى أن يدخل عليها غرفتها .. ويبقى فيها ..
وسألها عن الطفل ..
ـ هل نام ؟
فهزت رأسها نعم ..
ـ وأنت هل تشعرين بالبرد .. ؟
ـ أبدا ..
ـ سأعمل لك ولنفسى فنجانين من الشاى ..
وسرت لأنه يهتم بها حتى فى هذه الأوقات ويتحمل التعب فى سبيلها .. ولكنها لم تتركه وحده ونهضت وراءه إلى المطبخ ..
وكان قد وضع الغلاية على النار .. وقف يرقب .. وأخرجت هى «الفناجين» ووضعتها على المائدة فى الصالة .. فذهب وراءها .. وجلسا يتحدثان فى همس خوفا من أن يصحوا الطفل واستغرقا فى الحديث .. حتى سمعا صوت الغلاية وهى تفور .. فجريا إلى المطبخ .. ومد يده قبلها فلسعته النار .. فألقى بالغلاية فى الحوض وتناولت فوزية يده وقد لسعته النار ...
وبعد لحظة سمعت صوت الطفل ينادى .. فجرت إلى الطفل ..
وفى اليوم التالى .. نسيت السفر إلى القاهرة .. أحست برغبتها فى أن تبقى فى الإسكندرية .. وظلت قلقة .. إلى الصباح ..
*   *   *
وفى أول الليل دخلت .. صيدلية واشترت أقراصا منومة .. وكان الصيدلى فى أول الأمر يرفض أن يبيع لها هذه الأقراص من غير (روشتة) طبيب ولكن لما رأى وجهها الشاحب وشرحت له حالها ونفسها وأنها لم تذق النوم منذ أسبوع أعطاها الأقراص ..
*   *   *
ومع كوب صغير من اللبن أعطت الطفل ثلاثة أقراص وهو فى الفراش دون أن يراها شوقى ..
ثم رقدت بجوار ابنها فأحست ببرودة جسمه فذعرت .. ونظرت إلى عينيه وحركته .. فصرخت فى جنون ورعب ..
وأدركت أن الأقراص المنومة قد أنامت ابنها إلى الأبد ..
وجاء شوقى على صرخاتها ولكنه لم يستطيع الأقتراب منها وهى تلطم خديها وتمزق ثوبها وشعرها .. فقد كانت فى حالة من فقد عقله تماما ..

الأخرس(1)
كنت أسير مزهوا فى حى البنوك بالإسكندرية وفى قلبى الفرحة لتأميمها فقد أحسست بعد كل هذه السنين الطويلة من الإستغلال الأجنبى بأنى أضع قدمى على أرضى ولم أعد دخيلا على هذا الحى .
وكانت الساعة الثامنة مساء .. واليوم يوم الأثنين والمتاجر لا تزال مفتوحة ، فأخذت أستعرض ما فى واجهتها من ملابس جاهزة وعطور وادوات الزينة ولم أكن أبغى أن أبتاع شيئا بعينه .. ولكن وجود هذه الأشياء أمامى بطريقة منسقة ومغرية .. جعلنى أفكر فى شراء هدية لوالدتى .. ورأيت حقيبة سوداء أنيقة من الجلد الفاخر فى واجهة متجر وبجوارها ورقة صغيرة مكتوبة بالفرنسية تعلن عن غرفة مفروشة للإيجار تطل على البحر فى حى كليوباترا والإستعلام بالداخل .. ولم أكن فى هذه اللحظة أفكر فى استئجار غرف أو ما هو من هذا السبيل ولكن حب الإستطلاع أدار فى خاطرى أن أسأل عن موقعها وإيجارها فقد تروق فى نظرى وأنتقل إليها وأترك الفندق ..
ودخلت من باب صغير إلى متجر مستطيل ولا عرض له .. وكانت منضدته مستطيلة بطول المحل كله وأشبه بالمناضد التى ترى فى الحانات . ولكن المتجر مع رسمه هذا غير المألوف كان جميلا وبالغا حد الروعة فى التنسيق وطريقة عرض البضائع .
وبرزت أمامى فتاة ممشوقة القوام .. جميلة تقاطيع الوجه .. فسألتها عن الحقيبة .. ورايت أن أرجىء السؤال عن الغرفة إلى حين .. فأخرجت لى عدة حقائب من صناديقها المزركشة .. وأخذت تعرض مزاياها وما فيها من محاسن.. وتناولت واحدة منها .. وقلبتها تحت بصرى ولما قرأت الفتاة التردد على وجهى أمسكتها بيدها .. وأخذت تقبل بها وتدبر منسابة برشاقة فى طول المحل .. لأرى الحقيبة رأى العين على الطبيعة فى يد الحسناء .. ولأقطع حبل التردد .. وفيما أنا أستدير وقد أعجبت بحركة الفتاة أكثر من أعجابى بالحقيبة التى فى يدها لمحت رجلا ضخما جالسا فى الداخل فى العتمة الشاحبة.. وكان صامتا وجامدا كالتمثال .. وقد عجبت لسكون طائرة .. وسكون جوارحه .. فإن الزلزال وحتى النار نفسها كانت لا تحركه من مكانه فى هذه الساعة .. ولمحته يرقب كل شىء بهدوء وخمول عجيبين .. فأغفلت وجوده كله .
وطلبت من الفتاة أن تخفض لى الثمن .. والظاهر أنه سمعنى .. فقال بصوته المجلجل كجرمه :
ـ أذهب حضرتك إلى هانو .. بجوارنا .. وسترى بكم تباع هذه هناك ..
ـ المسألة بسيطة ياخواجه .. !!
ـ لأجل خاطرك سننقصها نصف جنيه ..
ولم أكن أطلب المزيد .. وأخرجت ورقتين من جيبى بعشرة جنيهات .. وتناولت الفتاة المبلغ ودفعته إلى عاملة الخزينة .. وعادت تحمل لى الباقى ولما أخذت تلف الحقيبة وتغلفها .. سالتها عن الغرفة المفروشة المعروضة فى الفترينة .. فقالت لى أنها فى شارع البحر وإيجارها عشرون جنيها فى الشهر
فقلت لها على الفور ..
ـ أحب أن أراها ..
ـ دقيقة واحدة ..
وهنا سمعت من يقول :
ـ من الذى يسأل عن الغرفة .. ؟
وبرزت من الداخل سيدة مكتنزة حمراء الخدين .. ترتدى فستانا على اللحم .. ورمقتنى بنظرة فاحصة .. وبادلتها نظرة مثلها .. وأنا أجد لها شبها بالرجل الجالس فى الداخل .. وخمنته شقيقها .. فقد كانت تشبهه إلى حد بعيد ..
وقلت لها بصوت قد أخذ بحلاوة تقاطيع وجهها رغم ما فيها من سمنة :
ـ أنا يا سيدتى .. يسرنى أن أراها ..
ـ بمكنك أن تذهب فى أى وقت .. وهذا هو العنوان ..
وكتبت بخط متأنق شيئا على ورقة صغيرة ..
وكانت الغرفة فى الدور الثالث فى بناية حديثة فى نهاية حى كليوباترا ولها شرفة صغيرة تطل على البحر .. وأمامها السلم المؤدى إلى الشاطئ وكانت مفروشة ببساطة .. فالشقة نفسها أنيقة وليس فى البيت أطفال .. فكانت فى واقع الحال وفق مناى .. ولذلك رأيت أن أنتقل من فندق هايد بارك إليها دون إبطاء وأن أحجزها مدة شهرين .. فأروح وأجئ من القاهرة إليها كلما شعرت بالحاجة إلى نسيم البحر .. وحملت حقيبتى .. وانتقلت إلى الغرفة فى مساء اليوم نفسه ..
ومن خلال حديث عابر عرفت مدام مارى أننى أشتغل فى مكتب المحاسبة وأعرف شئون الضرائب فسرت جدا .. ورجتنى أن أراجع دفاتر المحل . فى الساعات التى أختارها فى الصباح أو بعد الظهر .. وأطلب الأجر الذى أريده..
ولم أكن أبغى أن اقوم بأى عمل وأنا أصطاف .. ولكننى وجدتها مسكينة.. وفى حالة ارتباك ودفاترها فى غاية السوء .. فأشفقت عليها وجلست إلى مكتب فى داخل المحل وأخذت أعمل كلما وجدت الفرصة مواتيه وساعة الفراغ ..
ومن اليوم الأول وأنا أراجع الدفاتر فى المتجر شعرت بإنتعاش وجو من الألفة جعلانى أواصل العمل بأمانة .. ولم أدر أكان ذلك لأنى أشغل غرفة صاحبة المتجر وأنام فى بيتها أو لأنى كنت أشم العطر فى كل ساعة ..
وكان فى المتجر ثلاث شابات عاملات فيهن مصرية واحدة .. وفراش عجوز .. وكان نشطا رغم شيخوخته ..
وكانت مدام مارى أبدا مرحة ومنطلقة على هواها .. ولاحظت دخول شاب أجنبى من الباب عدة مرات فى الساعة التى أكون موجودا فيها ..
وكانت المدام تناديه بكوستا .. وكان يعمل فى محل بن مجاور .. وظهر لى أنها متيمة به .. فكانت تجعله يقضى كل وقته معها ويتخلف عن عمله وتطلب من المحل قهوة وشايا وشيكولاته دون حاجة حقة لغرض أن تراه ويكون ملاصقا لها .
وكانت تغازله بشكل مكشوف أمام عمال متجرها ..
وكانوا جميعا يتضايقون من كوستا .. ويكوهونه ..
وكان يتردد على المتجر شاب مصرى فى حوالى الثلاثين .. وكانت مدام مارى تسأله فى كل مرة :
ـ عملت أيه يا شيخ عبد الحفيظ .. ؟
ـ المسألة ماشيه .. بعد اسبوع حتعرفى النتيجة ..
وحدثتنى المدام بعد أن خرج .. أنه يسعى ليكسب الجنسية المصرية لزوجها .
وسألتها :
ـ وما دخله وصفته فى الموضوع .. ؟
ـ إنه يعرف كل ذوى السلطان فى الإسكندرية ..
وخمنت أنه يستغلها .. ولم أشأ أن أعرفها الحقيقة ..
وفهمت من كلامها أنها أعطته مبلغا ليسهل لها الأمور ..
وكان الشيخ عبد الحفيظ أنيق الهندام مرحا خفيف الظل .. ومع أننى كنت على يقين أنه أستغل حاجة المدام وسذاجتها وأنه يضحك عليها ولا يقوم لها بأى عمل .. ولكننى كنت استلطفه وما من مرة دخل فيها المتجر إلا وحوله إلى عاصفة من المرح..
وكان صغير الوجه مدور العمامة .. وكاكولته دائما مفتوحة وممتلئة بالهواء ..
ولم يكن يزاول أى عمل على أى وجه من الوجوه فى مدينة الإسكندرية ومع ذلك كان عامر الجيب .. ويصرف بسخاء .. وكل من فى المدينة يعرفه..
فعذرت المدام وهى تسعى إليه بعد أن قدرت ما هو عليه من جاه وسلطان..
وكان البرتو زوجها الرجل السمين البليد الطبع الذى يظل قابعا فى داخل المتجر ويرى زوجته تغازل الشباب وتضاحكهم أمام بصره ولا يحرك ساكنا ولا ينطق بحرف .. يحرك لواعجه إلى الفتاة العاملة على الخزينة .. فكانت أجمل العاملات فى المتجر .. وظهر لى جليا أن الفتاة المسكينة واقعة تحت سيطرته تماما .. وعرفت أنها دفعت ثمن تشغيلها عنده .. وأنه كان يهددها بالطرد إن لم تستجب إلى رغبته .. فوقعت تحت سلطانه تماما ورضيت بالهوان. وكانت تخضع لرغباته وتكرهه بكل قلبها .. وكنت أقرأ فى وجهها العذاب والصراخ الأخرس كلما رايته يقترب منها ليحادثها .. ولقد قر قرارى بعد شهر من عملى فى المتجر .. أن أخلص هذه الفتاة المسكينة ـ وكانت يتيمة وتعول أمها ـ من براثن هذا الوحش وأن اسعى إلى توظيفها فى متجر آخر وقد أكتسبت خبرة كعاملة للخزينة ..
وكانت مدام مارى تذهب إلى المتجر بإنتظام عدا أيام الآحاد ومساء السبت .. فإنها كانت تقضيهما فى البيت أو فى نزهة خلوية على البحر ..
وفى صباح يوم من أيام الآحاد رأيتها تسرف فى الزينة والتعطر .. ثم ظلت ساعة قلقة حتى جاءها كوستا .. وأخذها إلى شاطئ العجمى ..
ومر الأسبوع الأول من شهر سبتمبر .. وقد وجدت ما يربطنى بالإسكندرية إلى نهاية الشهر .. وفى عصر يوم رأيت وأنا داخل البيت شخصا جديدا لم أره من قبل .. وكانت المدام جالسة قبالته على كرسى طويل وفى فمها السيجار .. وكان شابا مصريا فى الخامسة والعشرين من عمره نحيلا أسمر براق العينين وكان يعمل فى الطقم الذى فى الصالة ويغير الكسوة..
وأدركت بعد فترة وجيزة أنه أخرس لما لم يرد تحيتى .. وجلست معهما لحظات أراقبه وهو يعمل ببراعة وحدثتنى المدام أنه اعتاد أن يقدم عليها مرة فى السنة .. يجدد الفراش والمراتب والمخدات ويغير الكسوة إن احتاجت إلى تغيير وأنه منذ خمس سنوات وهو يجئ إليها فى مثل هذا الشهر ولم يتاخر قط عن موعده .
وظل فى البيت أسبوعا كاملا يعمل إلى ساعة متأخرة من الليل ..
وكان يذهب فى الليل إلى جهة « الحدرة » لينام ويجيىء مبكرا فى الصباح .. والواقع إنه كان شعلة نشاط ليس لها ضريب .. واستطعت أن أتفاهم معه تماما بالإشارة ولاحظت أنه أخذ يعنى عناية خاصة بالغرفة التى أشغلها ويغير فراشها إلى شىء جديد ترتاح له العين ..
وكان مرحا وضاحك السن .. ولاحظت أن مدام مارى لا تحتشم فى ملابسها أمامه فقد وجدتها مرة لابسة قميص النوم على اللحم وجالسة بجانبه تراقبه وهو يعمل بأبرته .. وكان السكون يخيم على البيت ..
وكان هناك شىء قد أخذ ينمو على توالى الساعات والأيام والليالى فى عقل الأخرس وقلبه .. حتى أحب مدام مارى .. وتيم بها صبابة .. وكان يلاحظها بعينيه ويراقبها وهى رائحة غادية فى البيت وجالسة أمامه ومطلة من الشرفة على البحر .. وصانعة له فنجان الشاى .. ومقدمة له صحن الطعام ومحدثته بيدها .. ومحركة شفتيها وعينيها .. وكاشفة له عن صدرها ..
وكان ينظر إلى عينيها ويستغرق فى التأمل .. ويستغرق فى الدوامة التى تلفه ..
وكان يعيش فى شبه غيبوبة مطلقة وهى أمامه متنفسا أنفاسها وسامعا حركة أقدامها ..
وكان كلما بعد عنها يرجع إليها .. وفى قلبه شحنة من العواطف الدافئة.
وكانت بعد هذه السنوات الخمس من الحب الأخرس .. وقد ناهزت الخمسين وهو فى الخامسة والعشرين .. وزاد قلبه صبابة .. وجسمه اشتعالا..
ولم تكن تحس به ولا تدرى من عواطف قلبه شيئا ..
والتقيت به ذات ليلة وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء .. نازلا على السلم فراعنى أن وجهه أصفر كوجوه الموتى .. ولما حييته رد بفتور وهو سارح البصر ..
ولما دخلت البيت سمعت صوت كوستا فى غرفة مدام مارى .. فأدركت سبب غضب الأخرس ..
ومر يومان وأقتربنا من نهاية الشهر .. وكان كل شىء عاديا فى البيت والمتجر .. وفى نصف الليل .. وكان السكون يخيم استيقظت على صرخة مفزعة .. ولما خرجت أهرول من غرفتى .. وجدت كوستا مضرجا بدمه فى الصالة .. والمدام مرتمية على جسمه وقد أصابتها مثل طعناته .. وكان الأخرس .. على بعد متر واحد منهما .. ولا يزال ممسكا بالسكين . ووجهه الشاحب قد سكن تماما .. ولا يبدو عليه الخوف من شىء ..

صقر البحار (1)
كان البحر عالى الموج والرياح تزمجر والليلة شديدة الظلام .
وكان الزورق يشق الماء فى جو ينذر بالعواصف والمجدافان يعملان بشدة.. ويجهد أنفسهم الرجال الشجعان ليصل الزورق إلى مقصده .
كان قد أبتعد عن المنتزة وخرج إلى عرض البحر .. واصبح تحت رحمة الأقدار .. ولكن الرجال الأشداء الذين يوجهونه كانوا يكافحون ببسالة .
ولم تكن العاصفة مقدره .. ولا كانت فى حسبان أحد .. ولا كان هناك أدنى أحتمال فى أن ينقلب الجو إلى هذا السوء ولكن الزورق كان لابد أن يبلغ السفينة فى منتصف الليل مهما كانت الأحوال فأقلع .
وكان (مرسى) صاحب الزورق الملقب (بصقر البحر) من أمهر الصيادين ورجال البحر فى الإسكندرية اعتاد على المخاطر وركوب الأهوال ، وكان يعتمد عليه فى مثل هذه المهمة أعتمادا كليا . وندر من يقبلها أو يرضى القيام بها من أصحاب الزوارق الأخرى .. ولكن صقر البحار كان على استعداد تام لأن يبيع نفسه حتى للشيطان إذا دفع له الأجر عاليا .
وكان صقر البحر أصغر من رفيقيه فى الرحلة سنا ولكنه أشدهم بأسا وأعظمهم قوة وكان يتولى القيادة وأمساك الدفة .. وفيه كل طباع القرصان . مع أن عهد القرصان قد ولى .. وذهبت أيامه وبقى ظله فى البحار .. ولكن مرسى كان يضحك ويقول : « أن الناس أصبحوا قراصنة على الأرض بعد أن اختفى قرصان البحار .. فلماذا لا أعيد للبحر هيبته ؟ »
ومنذ عصف البحر وهو يفكر فى الشىء الذى غيبه فى القاع .. خشية أن يغرق الزورق ويفقده فتكون الكارثة الكبرى .
وكان جسورا مقداما بطبعه .. وقد أكسبه العيش فى البحر .. جرأة وجسارة أكثر .. وقد ذهب بزورقه هذا إلى سواحل الشام .. كما ذهب إلى قبرص وإلى بيريه .. ولم تكن جرأته فى البحار تقف عند حد .
وكان يرتدى سروالا أسمر وقد تمنطق بحزام ووضع على صدره (فانلة) البحار وفوق هذه صدارا قطنيا مخططا زاهى الألوان .. وغطى رأسه بطاقية صوفية مزركشة جعلته أشبه بصقر الليل .
وكان الملاحان الآخران المرافقان له فى الرحلة يلبسان ملابس الصيادين.. وحشا أحدهما جيوبه بالتبغ والبلح المجفف .. وأخذ الرجال الثلاثة يدخنون فى صمت وعيونهم إلى البحر والليل وكانت العاصفة تزداد عنفا .
وكان هناك المسافر الوحيد فى هذا الزورق .. وقد جلس قابعا منزويا فى الجزء الخلفى الملاصق للدفة وعلى وجهه كل دلائل القلق والخوف الشديدين.
وأخذ الزورق يتأرجح ويعلو به الموج ثم يهبط .. ومع كل ذلك ظلت ملامح الرجال ساكنة ووجوههم جامدة .. وكانوا قد طووا نصف الشراع .. وبدا النصف الأعلى المنشور كافيا لأن يدفع الزورق كالسهم فى مثل هذه الريح لو كانت الأحوال طبيعية ولكن صراع الموج كان يعوق الإبحار .. وكان الزورق يبدو .. كأنه لا يتحرك من مكانه .. والبحر يزأر بعنف وكأن فى أعماقه غيلانا تتقاتل .. وتجذب الزورق بسلاسل إليها .
عاش الثلاثة رفقاء فى البحر .
وكانت حياتهم ملتصقة بالبحر وممتزجة به .. وتحت سمائه يأكلون ويشربون .. وينامون .
وكانت صدورهم المفتوحة وعضلاتهم وسواعدهم .. تزداد قوة وصلابة فى صراعهم مع الأمواج .
وكان (مرسى) على غير عادة قد أخذ يجدف فى هذه الليلة لهول البحر.. وكانت قوته وحده تعدل قوة رفيقيه .. ثم ترك المجداف لغيره وأنتصب فى مؤخرة الزورق .. يرقب ما هناك .. وبدت قامته الطويلة فى الليل كمارد أسود .
كان فارع الطول عريض الألواح .. وكان يجيل عينيه الحادتين فى أغوار البحر .. باحثا عن السفن التى تتحرك هناك .
وكانت يداه تتحركان إلى الأمام والخلف ثم وضع أحداهما فى جيبه وأشعل لنفسه سيجارة بعد أن أنحنى فى القاع ليكون بنجوة من الريح .
وبدت عيناه حمراوين كوهج السيجارة التى فى أطراف أنامله . وكانت حياته صراعا رهيبا كثيرة المخاطر .. وكانت المخاطرة تدفعه لمثلها أو أشد منها حتى وجد نفسه أخيرا يعيش فى حلقة مفرغة وكان الصيد ستارا لما يقوم به من أعمال خفية ولم يكن يؤمن إلا بالشىء الذى سيحصل عليه هو مهما ركب فى سبيله من أخطار .
كان أنانيا يدور حول نفسه والأنانية هى محور حياته .
وكان عيشه فى البحر قد جعل جلده أسمر كأنما سفعته النكبا .. وكان شعره مفلفلا قصيرا .. 0وترك شاربه مفتولا وكان يعنى به ويدهنه ويجعله لامعا كلما أتيحت له الفرصة لأن يزهو بنفسه .
وفجأة برز أمام عينيه شىء ضخم قام كالجدار كأنما خرج من جوف البحر ولم يشاهد (مرسى) السفينة إلا وهى أمامه .. وكانت ضخمة من عدة طوابق وتسير فى الخط المضاد .. وكانت تقترب منه كأنها متعمدة سحقه ولما أقتربت توضحت معالمها وأبراجها وبدت أنوارها الضئيلة تمسح الظلمة قليلا.. لاحت فى الليل الشديد السواد وهى تتأرجح .. كحبات من الدر متناثرة على صينية من الزئبق الرجراج .
وكان الموج يدفع السفينة الشامخة ويميل بها إلى جانب ولكنها كانت فى جبروت واصرار تلتزم خطها المرسوم .. وكان (مرسى) يدرك تماما أن السفينة لم تره ولم تحس وجوده إلى جانبها .. قط .. وهنا يكمن الخطر ويتجسم فى كل لحظة .
وأحس بالدوامة تقترب وكان الزبد الأبيض المتخلف من محرك السفينة والذى سيطويهم يقترب منه .. رآه (مرسى) على مدى أمتار قليلة .
فامسك بالدفة فى يده وصاح فى رفيقيه وزأر .
وأحس المسافر الوحيد بالخطر فتجمع على نفسه مرعوبا .
وزعق الرجال الثلاثة فى صوت واحد وقد تحولوا إلى مردة .. على المجاديف .
واندفع الزورق إلى الأمام ثم ارتد إلى الخلف مرة أخرى وارتفع كالطود ثم أنخفض وحسب الرجال أنهم قد غاصوا فى قاع البحر .. ثم تنبهوا إلى صوت المحرك .. مع صفارة السفينة .
وكأنما جاء النذير فى الليل العاصف فهدأت المحركات .. ومرق الزورق من جانب السفينة وخرج إلى بحر الأمان .
وران صمت كالجبال على الوجوه المنتفخة .. والعيون المحدقة فى ذهول.. فقد نجوا من الموت باعجوبة .. أعجوبة الأعاجيب .
وتغير وجه مرسى بعد أن أجتاز الخطر .
وظهر عليه العبوس فقد أحس بأنها ليلة مشئومة .. ولكن لهفته على أن ينجز مهمته .. جعلت قلبه الصلد لا يلين ولا يعبأ بما تأتى به الأخطار فراح يحدق إلى الأمام فى سكون .
وكان البحر يضفى عليه إحساسا بالقوة وبالحرية .
تحرك المجدافان فى الماء وأخذا يضربان صفحته فى قوة .. وأحس (شعبان) أحد الملاحين بطقطقة فى الحلقة التى تمسك بالمجداف .. وفى سرعة جذب المجداف من الماء وأخذ يغير الحبل .. وبقى المجداف الآخر يثير الزبد .
واستدار الزورق لما نزل المجداف الثانى إلى الماء مرة أخرى وأخذ يشق طريقه وبدت أضواء السفن من بعيد تتحرك فى بطء .. كأن المحركات تتقى شر العاصفة ولا تدور إلا هونا .
ونظر (مرسى) إلى ساعته فألفاها الحادية عشرة .. وكان أمامه مسيرة ساعة كاملة فى هذه الأهوال حتى يلتقى بالسفينة التى يقصدها.
وكان الزورق رغم العواصف والأنواء يسير فى خط معلوم كأنما يتحرك بمحرك .. كان ينطلق ثم يرتد ولكنه يمضى على سننه فى وجهته المرسومة .
وكان الماء واسعا وخيل إلى (مرسى) عندما أبعد تماما عن الشاطئ وأوغل فى اليم إنه يسير فى وسط المحيط الأطلسى ويتجه غربا إلى أبعد مدى .
وأعتمد على عامود الدفة وأخرج لنفسه سيجارة من جيبه وأشعلها وأجال الطرف فيما حوله .. كان البحر لا يزال مهولا .. ولكن السفن بدت كثيرة وراء بعضها كأنما تربطها سلسلة واحدة وهى خارجة لتوها من قناة السويس .. لابد أنها عبرت القناة بالأمس .. وربما فجر اليوم وها هى الآن تتهادى إلى كل البحار .
ظل الرجل فى مكانه صامتا حتى رأى النور الذى يعرفه والسارية التى يقصدها .. وكان يعتمد على (شعبان) اعتمادا كليا فقال فى صوت النشوان:
ـ إننا نقترب .
ـ أجل .. ياريس .
ـ عندما ندور فى الجانب الأيسر من السفينة أترك المجداف لـ (حميدو) .. وارتكز أنت على المقدمة حتى ترى الزورق ينزل بالحبال من السفينة .. وحاذر من السفينة والا أغرقتنا فى دوامتها .
ـ سنبذل كل ما فى وسعنا .. واللّه يسلم .
ومرت لحظات وظهر من بعيد هيكل السفينة كالجدار ونزل من جانبها زورق صغير وبدا الرجال فى الظلمة كالعفاريت .
ورفع مرسى المجاديف عن زورقه وانحنى إلى الأمام يحدق فى الظلمة الجاثمة أمامه . وقد أمسك بيده عمود الدفة .
ورأى الزورق الآخر على سطح الماء ثم أنزلق إلى ناحيته وران الصمت .. حتى أقترب الرجال .
وخرج المسافر الوحيد من مكمنه كأنه خارج من قاع الجب .
وأخرج (مرسى) الصندوق الملآن بالسبائك الذهبية .. من قاع الزورق وناوله لشعبان فى المقدمة .. وتقابل الزورقان .
ونزل المسافر الوحيد فى الزورق الآخر .. وحمل له مرسى الصندوق المملوء بالذهب والجواهر .. ووضعه بجانبه فى الزورق الآخر وقبض أجر التهريب من المسافر الوحيد .. وعاد إلى زورقه وهو نشوان فقد قبض مبلغا ضخما .. يكفيه لأن يعيش كريما لو أراد .
ودارت المياه وتحرك الزورق الآخر حركة لولبية ثم عاد إلى سفينته مرة أخرى ورفعوه بالحبال والجنازير .
وتنفس الرجال الصعداء لقد قاموا بالمهمة فى جو عاصف وفوق الأمواج المرتفعة .. وسأل مرسى .. رفيقيه .
ـ تعبتم ؟
ـ أبدا .
ـ حركا .. المجاديف .. جولة واحدة ثم نرجع لننام .
وتسمع حركة .. فأنصت وألقى أذنيه :
ـ إنى أسمع حركة .
وأنصت الملاحان .
ـ إنه طراد .
ـ لا .. إنه رفاص السواحل .. حل الشاغول يا شعبان .. وشد الشراع إلى آخره .
ـ نغرق يا ريس .
ـ الغرق .. خير من القبض علينا .. سيسوموننا العذاب .. حل ياشعبان حل .
ـ نغرق ياريس .
ـ قلت لك حل .
وتحرك إليه فدفعه إلى السارية .
واندفع شعبان إلى الأمام .. وعاكسته عقدة فى الحبل .. فتعلق بالسارية.. ليعالجها .. وجاءت موجه عالية فى هذه اللحظة .. رفعت الزورق على صدرها ثم حطته .. وعندما نظر مرسى إلى مكان شعبان وجده شاغرا .. فصرخ فى حميدو .. ولكن الزورق كان يسير بين موج كالجبال فذهب الصراخ هباء .
وكان حميدو يريد أن ينزل وراء شعبان .. ولكن مرسى منعه .
وكان البحر مهولا .. والحيتان تتراقص بجانب الزورق .. وطفا شعبان مرة واحدة وهو يصرخ مستنجدا .. ثم ابتلعه اليم .
وشرب مرسى الشاى .. وأشعل سيجارة .
وخيم سكون الموت فهذه هى المرة الخامسة التى يحدث فيها غرق فى جولاته .. كان شعبان الذى غرق من أمهر الملاحين وقد أسف عليه ولكن ماذا يجدى الأسف .
ولم يحزن مرسى على الرجل الذى غرق وابتهج لأنه سيأخذ نصيبه وقرر أن يعطى أرملة الغريق منحة بسيطة ويأخذ الباقى لنفسه .
أما حميدو فقد حزن على موت رفيقه وأحس بغصة فى حلقه .. ولولا خوفه من مرسى لقفز إلى الماء وتركه وحيدا .
ولما وجد الريح قد سكنت أطلق الشراع كله .. ورفع المجداف .
وخيم الصمت من حوله .. وبدأ الليل تنقشع غياهبه .. وأخذت نجوم الفجر تتألق .
وكان الزورق ينطلق فوق الماء فى يسر بعد أن سكنت الأمواج .
وأحس مرسى وهو معتمد على الدفة وقد أطلق « الشاغول » وشد الشراع بأنه يملك زمام الطبيعة .. وأن كل شىء رجع إليه كما كان .. وبدا البحر جميلا أزرق .. وصفحة السماء فى مثل زرقته .
لم يحزن على الرجل الذى طواه البحر .. أبدا .. هذا عارض يحدث لكل إنسان وماذا يجدى الحزن .. وماذا يجدى الأسف .
وأحس بالجوع .. فأكل شيئا .. ولم يأكل رفيقه .. وأحس بعد الطعام بالدفء ولم تكن الليلة شديدة البرودة .. وإن كانت ريح فبراير لا تزال تسفع.
وكان الزورق يشق صدر الماء فى يسر والشراع منتشرا .. والحبال مشدودة .. وإلى يساره لاحت أنوار بعيدة .
إنه يقترب من الشاطئ جدا .. وقد بعد عن الخطر .
وارتكز ثانية فى مؤخرة الزورق وحول إتجاهه .. ليقترب من الشاطئ أكثر وأكثر .
لقد دخل فى منطقة الأمان ولم يعد البحر يخيفه .
وتحسس النقود فى نطاقه الجلدى .. سيعطى « حميدو » خمسين جنيها فقط ويبقى المبلغ كله له لقد أدى المهمة واستراحت نفسه .. شعر بالإرتياح.. كان يشعر بإبتهاج النفس كلما فرغ من عمل ركب فى سبيله المخاطر .
وملأ رئتيه من هواء البحر .. وتمطى وشعر بلذة من فرغ من عمل كبير . واستحوذ على أجره كاملا ..
وانطلق الزورق .
وبدت اليابسة على مرمى الأفق .. الأرض الخضراء .. وكان يحس بانتعاش وهو يرى إلى بعيد .. ويحس بشوق لأن يعود .. إلى بيته سليما كما خرج منه.
لقد انتهى الأمر .. وذهبت المخاوف كلها .. وبغرق شعبان إنزاح الشؤم كله .
وأحس بأنفاس البحر .. وكان الزبد يذهب مع الموج ثم يجئ .. زبدا راغيا .
وأخذ الزورق يتمايل حتى لاحت اليابسة .. مع أنفاس الصبح .. وأشرق نور الصباح . بهيجا رائعا . وسيسير فى النهار عائدا إلى الإسكندرية .. إنه الآن على مبعدة من رشيد وربما من أدكو .. وسيظل يتهادى بزورقه فى عرض البحر حتى يقبل الظلام .. وفى الليل سيدخل الإسكندرية .. ما أجمل الحياة فى البحر .
أن حياة البحر هى الحرية .
وقال لحميدو :
إرم الشبكة .
ومع مطلع الشمس سحباها وكان فيها سمك كثير .
كان مرسى مستغرقا فى التفكير .. وكان رفيقه يلقى بالسمك الحى إلى قاع الزورق ويطوى الشبكة فى المؤخرة .. ويقوم بعمله العادى فى نشاط عجيب .. ونسى ما حدث فى الليل .. نسيه بسرعة .. لأن الحياة عودته على ذلك .. وأدار الزورق .. وقادة إلى حيث يقدر وجود المياه الساكنة كان يريد أن يصطاد سمكا كثيرا يملأ به قاع الزورق ليغطى العمل الذى خرج من أجله فى الليل فظل يصطاد ويصطاد .. وبدا كل شىء واضحا فى الشمس بهيجا وظل الجو هادئا إلى العصر وفى الغروب انقلب الجو مرة أخرى .. وأمسى عاصفا وظل الرجلان يكافحان ويغالبان الأمواج ببسالة وملامحهم ساكنة .
وأحس مرسى بموجة عاتية قادمة من بعيد ستدفع الزورق وتحطم السارية.. وانقلب الزورق من شدة العاصفة واحتواه الماء .. وغاص مرسى فى اليم ثم طفى ولما نظر لم يجد الزورق المقلوب ولا حميدو واختفى كل شىء عن نظره وظل يسبح ثم أدركه التعب وقبل أن يشرف على الغرق انتشله زورق من زوارق الصيادين وألقاه إلى الشاطئ .. وكان فى حالة من الغيبوبة ولما أفاق لنفسه كان متمددا فى كوخ بجوار البحر .. والشمس مصفرة
وكانت هناك امرأة واقفة خارج الكوخ .
كانت نعيمة على الباب .. واقفة كأنها تنتظر عودة زوجها الذى ذهب إلى الحقل .. أو تتطلع إلى الغروب .. وكان وجهها يرف كالأقحوان وقد بدت طويلة ملساء العود نقية البشرة .
وسألها الرجل الراقد وهو يدير عينيه فى ذهول لعله يتذكر .
ـ ما الذى جاء بى إلى هنا ؟
ـ التقطك صياد .. وأنت غريق فى البحر ـ بين الموت والحياة ـ وألقى بك إلى الساحل .
ـ وأين نقودى ؟
ـ أى نقود ؟
ـ نقودى الكثيرة حزمة من أوراق البنكنوت ثلاثة آلاف جنيه كانت هنا فى نطاقى .
ـ ربما سقطت فى البحر .
ـ إنها لا تسقط .. لقد سرقت منى .. وانتزع النطاق وأنا فى غيبوبة .
ـ ربما فعل هذا الصياد .
ـ من يدرى وربما غيره ؟
وحدق فى وجهها .. كانت رائعة فى دثارها الأسمر .. وكانت عيناها السوداوان تشعان ببريق أخاذ .
وغاظه أن المال الذى ظل يعد العدة له منذ سنة كاملة .. ذهب سريعا فى خطفة عين .. دون أن يدرى من الذى أخذه .
وأحس بالغضب .. ولكنه الحمى كانت تشله عن الحركة .. ونظر إلى المرأة مرة أخرى وأتهمها وإن لم يجد الدليل القاطع .
وسألها :
ـ هل تعرفين الصياد الذى انتشلنى من البحر ؟
ـ أبدا .. إنه عابر سبيل .. ربما كان فى طريقه إلى الإسكندرية .. أو رشيد.. لقد ابتاع منا سجائر .. وأبقاك هنا .. وذهب .
وفكر أنها تكذب .
وسألها :
ـ تحت أى بلدة نحن ؟
ـ إننا قريبا من « ادكو »
ورأى رجلا يقدم فى إتجاه الكوخ .. فسألها :
ـ ومن القادم هناك ؟
ـ إنه زوجى .
ورأى رجلا قصيرا يتحرك فى ظل الغسق .. وكان يحمل زكيبة على عاتقه .. ولما اقترب الفلاح من مرسى جلس بجواره يحييه ويسأله :
ـ كيف حالك الآن ؟
ـ كما ترى .. بخير .. والشكر لك ولزوجتك .
ـ اعملى شايا يا نعيمة .. وجهزى العشاء للريس . ما اسم الكريم ؟
ـ مرسى .
ـ جهزى العشا للريس مرسى .
ـ العشا جاهز .
ـ أشكرك .. تعاف نفسى الطعام .. أرجوك إذا مرت سيارة أجرة فى طريقها إلى الإسكندرية أوقفها لى .. لأعود لبيتى .
ـ أنت الآن تعبان وإذا سافرت .. وأنت مريض ستؤذى نفسك .
ـ لا بد أن أذهب إلى المستشفى إن الحمى تأكل بدنى .
ـ نعم .. سنوقف لك سيارة .
وشرب مرسى الشاى .. وأحس بالعرق والنوم يراود أجفانه فتدثر ونام إلى الصباح .
وفى الصباح وجد الفلاح قد خرج إلى حقله .. وكانت نعيمة هناك بعيدة فى الكشك الذى على ناصية الطريق تبيع الدخان والكازوزة للعابرين .
وألفى نفسه فى الكوخ وحده .. ووجد الفرصة سانحة ليفتش كل جحر وشبر باحثا عن نقوده .. فتحرك وأخذ يفتش فى كل ركن وفى كل الأشياء فى « الغلق » وفى الصندوق وفى الجراب .. وفى الطاقة .. بحث فى هذه الأشياء .. بسرعة ولهفة خشية أن يرجع الرجل أو ترجع المرأة فجأة .. ولم يجد شيئا فى الغلق ولا فى الصندوق ولا فى الطاقة .. فعاد إلى مكانه يائسا وفيما هو يدور بعينه فى الحائط .. لمح شيئا أرتجف له قلبه .. لمح شرخا حديثا فى الحائط سوى بمونة لم تجف بعد .. فانتصب وتحسس بيده قالب الطوب .. وانتزعه .. وهنا وجد الفجوة .. وقبضت يده على البنكنوت .. نقوده بعينها.. نقوده فى الربطة الجلدية التى كان واضعها فى نطاقه .
وقبضها بيديه ووضع النقود فى صدره واحتضنها .. وهو نشوان لإنتصاره .. واستقبل الباب ليفر بها .
وهنا أحس بطعنة خنجر حادة تنفذ فى ظهره تبعتها طعنات سريعة وسقط مرسى صريعا على الأرض فى مدخل الكوخ .
وفى ظلام الليل .. سحب الفلاح القتيل على الرمال الناعمة حتى ألقاه فى البحر .


الجمال الحزين(1)

ذهبت إلى الإسكندرية فى شهر أكتوبر الماضى . وأخذت معى مفتاح بيت عمى عبد اللطيف فى حى مصطفى باشا وقد أعتدت أن أقضى فى هذا البيت الشهر الأخير من الصيف وحدى لأريح نفسى وأعصابى بعد العمل الشاق... على مدار السنة .
وبلغت المنزل بسيارتى فى الساعة التاسعة مساء .. ووجدت النور الكهربى مقطوعا والتراب يغطى الأرض كأنه بساط .. ومع ذلك قررت أن أنام فى البيت مهما كانت الظروف لأنى أكره الفنادق والبنسيونات فى هذه المدينه ورأيت أن أستعين بشمعة لأهيئ لنفسى فراشا فى أى مكان ... وقرعت باب (مدام مارى) صاحبة الفيلا الملاصقة لبيت عمى وكانت من معارفى .
ولم تفتح هى الباب ... ووجدت بدلها سيدة متوسطة العمر مصرية الملامح والنظرات ... وسألت عن المدام فقالت لى بأنها باعت الفيلا وسافرت إلى بلادها منذ ثلاثة أشهر ..
واعتذرت لإزعاجها ... وعرفتها بشخصى .. وبالنور المقطوع .. فجرت
إلى الداخل وعادت تحمل مصباحا صغيرا ... وشكرتها ودخلت البيت لأنام...
وفى الصباح أعدت إليها المصباح وأنا أكرر الشكر ... وجئت بمن نظف البيت وأعانتنى السيدة نعمات بخادمتها لتخرج الفراش إلى الشمس وتقدم لى ما أحتاج إليه .. وشكرتها وأنا أشعر بالخجل ... فلما قالت أن زوجة عمى عبد اللطيف هى أعز صديقة لها ... تركت الأمور تجرى .
ونمت فى الليلة التالية مستريحا ومرت الأيام ... وأصبحت أرى الجارة نعمات فى حديقة منزلها الصغير أو فى المطبخ ... أو فى شرفة البيت الخارجية.. وكانت شفتاها تنفرجان عن ابتسامة خفيفة عندما ترانى .. وكان وجهها صامتا وحزينا ... ورأيت والدتها وكانت سيدة مسنة وشعرها أبيض كفروة الخروف الأبيض . وكانت لاتتحرك إلا قليلا ...ثم الخادمة نجية .. وهذه هى الأسرة التى حلت مكان مدام مارى ... فى هذه الفيلا الجميلة ... وكانت نعمات .. تخرج من الفيلا فى الصباح الباكر .. حاملة حقيبة صغيرة... وعرفت أنها مدرسة فى مدرسة أجنبية فى الرمل .. وأنها أرملة ... ومات زوجها الشاب فى حادثة مروعة فأدركت سر حزنها ...
وكنت أحييها كلما وقع عليها نظرى فى الصباح بايماءة من رأسى ... ثم أصبحت أحييها بيدى ولسانى .. إذا تصادف وخرجنا إلى الشارع فى وقت واحد لنبتاع صحف الصباح من الغلام المقطوع الساق الجالس على الناصية...
وكنت أقف وأتحدث معها قليلا .. إذا وجدتها عرضا فى الطريق ... أو فى محطة الرمل ... وكنت أرى فى عينيها النظرة المتجاوبة .. وبريق المودة .. وكنت صادق الرغبة فى توثيق الصلة بها .. فقد شعرت عندما التقيت بها لأول مرة بميل إليها وشفقة على جمالها الحزين ...
وكنت ألاحظ أن لا أحد يختلط بها وهى من جانبها لاتختلط بإنسان فى الطريق .. أو فى البيت ... فهى تعيش وحدها كالمنبوذة ..
وكانت تقطع الطريق من المدرسة إلى البيت وحدها ... وتسير دون رفيق... صامتة تجتر أحزانها ...
وكان وجودها فى مدرسة أجنبية قد جعلها متحررة ... وكان من يراها وهى تسير بسرعة فى الشارع .. أو راكبة أو نازلة من الترام .. يتصور أنها أجنبية ..
ولكننى لم اشاهدها على البحر فى يوم الأحد وهو يوم العطلة عندها .. ولا فى ملهى أو كازينو على الشاطئ .. وإنما وجدتها ساعة الغروب واقفة عند محطة الأوتوبيس فى رشدى باشا وبيدها كتاب ..
فلما بصرت بى مرت على شفتيها إبتسامة .. وظهر السرور فى عينيها... فتقدمت إليها ووقفت بجانبها .. وسألتها :
ـ أنازلة الإسكندرية ؟ ...
ـ نعم ... لأشترى شيئا ... من محطة الرمل وارجع بالترام .
ـ أتسمحين بأن نجلس لحظات فى ماى فير ... وأوصلك بالسيارة .. ؟
ـ شكرا ... فى وقت آخر .. وأنت ترى أن ملابسى لا تناسب ..
ـ لابد أن يتغلب الطبع والعادات الشرقية .. برغم أنك فى مدرسة أجنبية...
ـ أننى لم أفكر فى هذا ... وأنت مخطىء .. فاعذرنى .. وسنتقابل فى وقت آخر .. واتركه للظروف ...
ولم أقل لها شيئا ... وتناولت يدها الرخصة وأركبتها الأتوبيس ...
ووجدتها بعد ذلك بيومين سائرة فى طريق الحرية ولم تشعر بى الا وأنا واقف بجوارها بسيارتى ... وسلمت عليها ... ونزلت من السيارة ... لأدعوها للركوب معى ...
فقالت :
ـ اننى معتادة أن أتمشى لأتريض .. وهذا أحسن لصحتى ... ثم أنا لا أركب سيارة ملاكى ...
ـ لا تجعلينى أسىء الظن بالمرأة المصرية ... وأتيقن أنه مهما يكن علمها وثقافتها ستظل جارية ... من رواسب القرون ...
ـ أنك لا تفهم ... يا سيد كمال ... لا تفهم اطلاقا ...
ـ أنك تخشين الناس .. ؟
ـ لا .. إن هذا ما دار بخلدى قط ...
ـ ماذا إذن ؟ ...
فصمتت ثم قالت فى صوت خافت وصوتها يرتعش ..
ـ إنه مات فى حادث سيارة ... وكنت راكبة بجواره ...
ونظرت إلى بوجه صامت وعينين ساكنتين ... بدأ يسبح فيهما الدمع ... ولعنت نفسى على حماقتى .. فقد أثرت أشجانها .. وسحبتها من يدها وأركبتها السيارة ... وبدلا من أن أذهب إلى البيت ملت إلى شارع البحر ... وبعد أن تريضنا قليلا .. دخلنا كازينو يشرف على البحر ...
وجلسنا إلى مائدة قرب الخليج ... وطلبت لها عصير التفاح .. فأسرعت تقول :
ـ لا ... أننى سأشرب بيرة ستاوت ...
فطلبت لها زجاجة صغيرة ... ولنفسى كوبا من عصير الليمون .
فقالت :
ـ وأنت ألا تشرب ... ؟
ـ أشعر بالخجل وأنا أقول لا ...
ـ لا تشرب ؟ ...
ـ أجل .....
ـ هذا غريب من شاب فى هذا العصر ....
ـ إن الإنسان يشرب الخمر لأنه تعس ولأنه يهرب من الحياة .. وأنا أواجهها الآن بكل أعصابى ...
ـ أولم تشرب الخمر قط ... ؟
ـ شربتها حتى أرتويت ... وحتى تيقنت من قتلها لروح الإنسان ... وجسده ... إن الإنسان مخلوق عظيم .. أبدع وأجمل الكائنات ... فلماذا نقتله ... ونلوث روحه ؟ ..
ـ إن كلامك هذا لا يمنعنى من قتل نفسى .... أولا تدخن ؟ ..
وكانت قد أشلعت سيجارة .....
ـ لا أدخن ... لأننى لا أقلد .. وأنت قلدت صاحباتك ...
ـ إن زوجى كان يدخن .. ,اعطانى أول سيجارة ...
وشعرت فى أعماقى بالإستياء ... لأنها تحدثنى فى أول لقاء لنا عن المرحوم زوجها .. ولكننى عذرتها ... إذ لابد أن يكون حبه قد تمكن من نفسها ... ولم تستطع الفكاك من أسره بعد ... ونظرت إليها وهى تدخن ... كأنها غانية فى ملهى ... وتشرب الخمر كأنها راقصة تفرغ أحزانها فى الكأس ... ولم أسألها عن شىء ... يحرك أشجانها ... وكنت أحدثها أحاديث مختلفة .. وأطرى دماثتها وجمالها ولين طباعها ... وكانت تنظر إلى نظرات لينة متكسرة .. وتقول لى بعينها .. إننى أشكرك وأننى أستريح إليك ... واطمئن إلى مودتك وقالت :
ـ أتسمح بأن أشرب ... زجاجة أخرى على حسابى ...
وطلبت لها الزجاجة ... وقلت :
ـ وهل أنت بخيلة إلى هذا الحد ... ؟
ـ لا ... وإنما تكفى الزجاجة الأولى ... وبعد قليل سأعشيك ..
ـ أتعشينى ؟ ... إن هذا لا يحدث حتى من فتاة أمريكية ..
ـ ولكننى أنا المصرية سأعشيك ...
ـ وأنا قبلت الدعوة ... بكل سرور ...
ـ شكرا ...
ـ هل أنت مستريحة إلى عملك فى المدرسة .. أم ترينه مرهقا ؟ .
ـ أننى أسعى إلى الأرهاق ... لكى لا أجد الفراغ الذى أخلو فيه ... إلى نفسى ... إن نفسى تعذبنى ...
ـ لماذا تنظرين للحياة هكذا .. بمثل هذا المنظار الأسود ؟ .. إن كل السيدات يموت أزواجهن ... ولا يقتلن أنفسهن حسرات مثلك ... إن الأيام كفيلة بمسح أحزان البشر ...
فقالت بمرارة :
ـ ولكنه ليس بزوج واحد .. أنهم ثلاثة ... ماتوا جميعا فى حوادث مروعة ... حل بهم نحسى ... مساكين ..
ـ لماذا تعذبين نفسك بهذه الخرافة ... إنهم كانوا سيموتون هكذا ... لو تزوجوا بأيه امرأة أخرى ، هكذا أجلهم ...
ـ لا تكلمنى بمنطق أرسطو .. اننى أعرف .. نفسى .. وأرجو أن تبتعد عنى ... حتى لا يصيبك النحس .. الأبدى ..
ــ أتتكلم سيدة بمثل ثقافتك هذا الكلام ... ؟
ـ إن الإيمان بالخرافة غريزى ... وأنا أنذرتك ... فابتعد .
وضحكت ...
ـ لماذا تضحك ... ؟
ـ سأجعلك تؤمنين بعكس ما تتصورين تماما ... وسنخرج غدا فى نزهة طويلة .....
ولم تقل شيئا ... وأخذت تشرب فى صمت ...
وعلى باب منزلها ... أمسكت بيدها وضغطت عليها ... فتركتها فى يدى ورأيت لأول مرة نور الحياة يلمع فى عينيها ... نور الأمل ...
وأقسمت أن يظل هذا النور مضاء ...

*   *   *
وفى الصباح الباكر ... نقرت على بابى ... وحملت إلى بنفسها جميع جرائد الصباح ... وكان وجهها يفيض بالبشر ... وقد تزينت لأول مرة ... وتأنقت ... ولبست أجمل ثيابها ..
وبقيت معى حوالى ربع ساعة تتحدث وتضحك ... ولاحظت أنها ولدت من جديد ... عذراء ضاحكة كالوردة الجميلة ...
وانصرفت وهى تلوح لى بيدها ....

*   *   *
وفى الأصيل .. أخذنا طريق سموحة الزراعى ... إلى البحيرة ... وكنت أود أن أصطاد بعض السمك ... وأتمتع بالهدوء والجمال فى تلك البقعة ...
وتركنا السيارة فى منحدر بعيد عن الطريق ... وجلسنا على شاطئ البحيرة نصطاد وكان الهدوء يخيم والطبيعة ساكنة ...
وقالت :
ـ إذا أصطدنا شيئا .. سنتعشى به فى البيت .. حتى ولو كان سمكة صغيرة ..
واصطدنا سمكة متوسطة ... وسرت بها كثيرا ...
وعدنا إلى البيت .. وأخذت السمكة وشوتها سريعا ...
ووضعتها على مائدتى ... وجلسنا معا نأكل ... كأننا زوجان ..
*   *   *
وفى اليوم التالى توغلنا بالسيارة حتى اقتربنا من العامرية ...
وأوقفنا السيارة فى الصحراء ... وأمسكت بيدها ... ونظرى إلى السماء الصافية ... وإلى الصحراء الممتدة إلى مالا نهاية .. وسألتها :
ـ ما أمنيتك فى هذه اللحظة ... ؟
ـ أن نموت معا ....
فنظرت إليها فى دهشة .. وكان وجهها ساكنا .. واستطردت :
ـ أن ندفع السيارة ... إلى هذا المنحدر .. وننتهى فى لحظة .. دون أن يشعر بنا إنسان ... لقد عشت ثلاثة أسابيع معك ... كأننى ... أحلق فى السماوات بجناحين ... وليس بعد هذا سعادة ... والحياة لا تعطى إلى النهاية... وقبل أن تتحول عناوتأخذ منا .. يجب أن ننتهى على طريقتنا ... ونختار النهاية ....
ـ أمامك ... الكثير من الحياة والأمل ....
ـ لا ... يجب أن ننتهى الآن .. عندما رأيتك لأول مرة وأنا أعطيك المصباح .. شعرت بقلبى ينتفض ... وبسيال كهربائى يسرى فى جسمى كله فيهزه ورأيت عينيك تبحثان فى أعماق عينى .. وكنت ألاحظك من النافذة... ومن باب البيت ... وأقف الساعات الطوال أتأملك ... وأنت جالس وحدك ... فى حجرتك ... مستغرقا فى تأملاتك ... وأشعر بقوة مغناطيسية تجذبنى نحوك ... وظللت أقاوم .. وأقاوم .. وانا أرتعش حتى لمجرد سماع صوتك .. ولا أريد أن أقول لك أننى أحببتك ... لأن هذا ليس بحب... ولكنه جنون .. وأنا أريد أن أموت الآن وتموت أنت معى ... لأننى لن أتركك لواحدة غيرى .. لن أتركك ..
ومسحت بيدى على جبينها ..
وقلت لها فى همس :
ـ سنعيش .. وستكونين سعيدة ولا داعى لهذه الأفكار ....
وأخذنا الطريق إلى الإسكندرية ... وكانت الطريق خالية فأسرعت ..... والشمس تميل إلى الغروب ... وكان الهواء يداعب شعرها ... ويمر على وجهها .. وكانت ملقية برأسها إلى الوراء .... صامته كأنها لم تستفق من حلمها اللذيذ ...
وفجأة وأنا أسرع ... قفز غلام من تحت الجسر ... وظهر أمامى فى وسط الطريق ... فضغطت على الفرامل بكل قوتى ... وإنحرفت بالسيارة لأتجنب الإصطدام به ولم أشعر بنفسى إلا وأنا واقف بالسيارة على حافة البحيرة .. وعندما صرخت الفرامل طار الغلام ... أما نعمات فارتمت على صدرى .. ولما وجدتنى سليما أخذت تغمرنى بقبلاتها كالمجنونة ... وتمر بيديها على جسمى كله ... لتتأكد من سلامة كل عضو فيه .. وطوقتنى وقالت وهى تشهق بالبكاء :
ـ أنزل وأمش .. أريد أن أراك ماشيا على رجليك .. أنزل
ـ الحمد للّه .. لم يحدث شىء ...
ـ أنزل ... وأمشى ...
ونزلت ... ووقفت بجانب السيارة .. ونزلت هى وأخذت تنظر إلى فى وله .. كأنها لا تصدق أننى سليم ولم يحدث شىء ... وركعت .. ودارت بذراعيها حول ساقى وأخذت تهزنى وهى تبكى ورأسها مرفوع إلى وجهى... فانحنيت وطمأنتها ...
وأصبحنا فى يوم الجمعة ... وكانت تعرف أننى راجع إلى القاهرة صباح السبت ... فأحسسنا معا بقرب الفراق ... وعرضت عليها ألا تذهب إلى المدرسة لنمضى النهار كله معا ... فقبلت مسرورة ..... ومضينا النهار على الشاطئ فى مكان منعزل .. وفى الليل ذهبنا إلى المدينة لنتعشى ونستمع إلى الموسيقى فى اثنيوس .. ولم تشرب خمرا على العشاء وقالت لى أنها لن تضع الخمر فى فمها مادمنا حبيبين ، وكانت مسرورة لهذا القرار وتحدثنا عن المستقبل ... وعرفت أننى عائد إلى الإسكندرية بعد شهرين ... لأعيش معها ولا أتركها وحيدة قط ...
ولما رجعنا إلى البيت قلت لها وأنا أضغط على يدها فى الظلام ...
إن هذه آخر ليلة لنا ... وأريد أن أودعك ... قبل سفرى ...
ـ « كيف ؟ .. »
سأنتظرك فى منزلى
وأحمر وجهها وقالت :
ـ أننى لا أستطيع أن أفعل ذلك .. فلماذا تطلب منى هذا الطلب .. ؟

ــ لأننى أحبك ...
ـ ولكن إذا رآنى .. إنسان .. ماذا يكون .. مصيرى .. إنك لست بمراهق .. هذا جنون ...
ـ سأنتظرك .. ولن أنام حتى تأتى ....
ـ لن أحضر ....
وقالت هذا بغضب .. فتركتها ودخلت بيتى ودفعت الباب ورائى بعنف..
*   *   *
وحتى الساعة الثانية صباحا .. لم أخلع ملابسى ولم أذهب إلى الفراش .. وأخذت أروح وأجىء فى صالة البيت كالنمر المحبوس فى قفصه ... وكنت غاضبا وقلقا ... وأخذت ألعن الأقدار التى ألقت بهذه المرأة فى طريقى ... وثرت عليها ولو كانت معى فى تلك الساعة لسحقتها .. أو خنقتها ... فقد كنت فى حالة جنون مطبق ...
وفى الساعة الرابعة سمعت الباب يفتح .. ورأيتها داخلة ... بخطى متثاقلة وجريت إليها وسلمت عليها ...
وبقينا كذلك إلى الصباح
*   *   *
وفى الصباح وقفت على الباب تودعنى وقالت :
ـ كلمنى فى التليفون ... عندما تصل ... إلى استراحة شل ... وعندما تصل الهرم ... وعندما تصل .. إلى مصر الجديدة .... كلمنى سأظل بجانب التليفون طول اليوم ....
كانت تخاف الأقدار ...
*   *   *
ولم أكلمها ... وقد أصبت فى حادث تصادم وقع لسيارتى قبل أن أبلغ استراحة شل ... ونقلت إلى أقرب مستشفى ... وعندما عدت إلى رشدى أرسلت إليها برقية أنبئها باننى وصلت سالما ...

النافــــذة (1)
سافرت إلى الإسكندرية لأقضى فيها ليلة واحدة أريح فيها أعصابى من عمل متصل مرهق ..
ومع أنى كنت أود أن أقضى هذه الليلة قريبا من البحر ولكنى لم أنزل من القطار فى محطة سيدى جابر .. وبقيت فيه حتى بلغ محطة « مصر » ..
ولما خرجت من نطاق المحطة .. استقبلنى أكثر من حمال ليحمل عنى حقيبتى .. الصغيرة .. واخترت الذى سألنى إن كنت أرغب فى غرفة مفروشة ..
لأنى كنت أعرف زحام الفنادق فى شهر يوليو .. وأود أن أتعلق بقشة .. فإن لم أجد مكانا فى الفندق الذى اعتدت أن أنزل فيه .. دلنى هذا الحمال على الغرفة المفروشة ولم نجد فى الفندق الذى أعرفه ولا فى غيره من الفنادق فى دائرة محطة الرمل أية غرفة خالية ..
فاستأت جدا .. لأنى أخترت هذا الوقت بالذات لأقضى عطلة الأسبوع.. وسرت مع الشاب إلى الغرفة التى حدثنى عنها ..
ولما رأيتها لم تعجبنى إطلاقا .. وبدت لى صاحبة البنسيون نفسها .. بدت كأنها « عالمة » فى شارع القلعة ‍!
فذهب بى الحمال إلى غرفتين أخريين.. فلم تروقا لى أيضا .. وأخيرا قال لى :
ـ لا يوجد سوى هذا .. نحن فى عز الموسم ..
فقلت له :
ـ أنى أفضل أن أقضى الليل .. فى الشارع .. على النوم فى مثل هذه الغرف .. إبحث عن شىء مناسب ..
ففكر قليلا ثم قال :
ـ تفضل واسترح قليلا .. على هذه القهوة .. هناك غرفة ستعجبك .. لكن صاحبتها .. لم ترد أن تؤجرها لإنسان وسأحاول إقناعها بكل الوسائل .
وجلست وجاءنى بعد نصف ساعة .. وهو يسرع فى مشيته وقال بلهفة..
ـ تفضل .. قبل أن تغير رأيها ..
ومشيت معه .. حتى وقف على باب بيت كبير .. وصعدنا إلى الدور الثانى .. وفتحت لنا سيدة مسنة الباب .. وكانت تضع يدها على عينيها كأنها لا تقوى على مجابهة الضوء ..
ونظرت إلينا طويلا .. لتذكر سبب وقوفنا على بابها .. ثم قالت :
ـ آه تفضل ..
ودخلنا البيت .. وطالعنى الهواء المرطوب .. وخيل إلى وأنا فى الصالة ألا أحد يتنفس فى الداخل .. فقد كان الجو خانقا ومحبوسا وبدا لى أن نوافذ الشقة لا تفتح أبدا .. وتقدمت أمامنا السيدة إلى غرفة فسيحة بعد أن فتحت النور فرأيت غرفة جميلة مفروشة بفاخر الرياش وهو شىء لم اقع على مثله فى المصيف ..
وطلبت من السيدة أن تفتح نافذة الغرفة .. ففتحتها بعد تردد وهى تنظر إلى ناحيتى بقوة .. وسألنى الشاب :
ـ أعجبتك الغرفة ؟
ـ رائعة ..
ـ السيدة تطلب .. جنيها فى الليلة .
ـ طيب .. هل أدفع لها المبلغ الآن ..
ـ أبدا .. على راحتك .. أدفع بكرة ..
وأخرجت ورقة بخمسة وعشرين قرشا ناولتها للشاب فاخذها وأنصرف.. وبقيت أنا فى الغرفة ..
وسمعت السيدة تقول له .. قبل أن تخرج من الباب الخارجى .
ـ الم تقل لى .. إنه عجوز .. هل هذا عجوز ؟ ..
ـ ياسيدتى .. إنه شاب طيب وسيقضى ليلة ويذهب لحاله .. هل سيأخذ قطعة من الشقة ..
ـ ما كنا .. نريد أحدا ..
ـ يعنى نقول له أخرج .. الآن .. أظن هذا لا يليق ..
ـ إنك تعرف أننا وحدنا .. ماذا يقول الناس ؟ ..
ـ يا سيدتى كل الناس الآن تستفيد من الصيف والبيه يجىء كل أسبوع .. يعنى لماذا لا تستفيدين منه بضعة جنيهات أحرام ؟ .
وانقطع صوته بعدها وخرج ..
وفتحت حقيبتى وأخرجت فوطة .. وذهبت إلى دورة المياه لاغسل وجهى..
ولما رجعت سألتنى السيدة .. وكانت تنظر إلى بتوجس .
ـ هل تريد شيئا .. ؟
ـ كوبا من الماء المثلج .. إذا أمكن ..
ـ حاضر ..
وذهبت .. وعادت تحمل الماء .. وكانت فى الخمسين من عمرها .. ولكنها كانت تبدو أكبر من ذلك .. كانت التجاعيد قد ظهرت على وجهها... والعينان انطفأ منهما البريق ..
ودارت ببصرها فى الغرفة ثم حيت وانصرفت .. ودخلت غرفتها وأغلقت عليها بابها .. وطالعنى السكون المطلق من البيت .. سكون الرمس.. فلم أسمع حسا ولا صوت ولا دقة ساعة ولا منبه ولا صوت وابور.. ككل الأشياء التى نراها فى البيوت ..
ورغم إحساسى الشديد بالجوع .. فإننى لم أترك البيت لأتعشى .. ودفعنى الفضول لأن أبقى ساعة ثم أخرج فقد كنت أود أن أعرف مع من تعيش هذه السيدة . ولكنى بقيت ساعة .. دون أن أبصر أحدا سواها .. وأخيرا خرجت لأتعشى وأتنزه فى المدينة وعدت فى نصف الليل .. وفتحت لى نفس السيدة الباب .. وخيم السكون من جديد .. ووجدت كل النوافذ وأبواب الغرف مغلقة .. ومع أنى اعتدت على النوم فى الفنادق والبنسيونات وفى الفراش الغريب .. ولكننى توجست خيفة من البيت ومن السكون المخيم ومن نوافذه وأبوابه المغلقة دائما وقد أخذت هذه الخواطر تتجسم وترعبنى وتذكرت كل ما قرأته من القصص المرعبة عن الفنادق والبنسيونات مرة واحدة .. قفزت كل هذه السوانح إلى ذهنى فجأة ..
وأغلقت الباب .. ولم أجد فيه مفتاحا .. وزادنى هذا رعبا .. فظللت ساهرا ..
وفى صراع مع هواجسى النفسية .. حتى تعبت وأخذنى النوم وأنا مضطجع ولما فتحت عينى كان الصبح قد شعشع .
ورأيت وأنا ذاهب إلى الحمام بابا نصف مفتوح .. ووجها بنظر إلى بفضول .. وجه فتاة لا تتجاوز العشرين عاما كانت تنظر إلى بعينين مفتوحتين جدا .. كأنها ترى رجلا لأول مرة فى حياتها ..
وأحسست فى الحمام بالرطوبة الشديدة .. تطل من الجدران .. وبدالى أن النافذة لا تفتح أبدا .. واغتسلت سريعا .. وعندما عدت إلى الصالة .. وجدت الفتاة لا تزال واقفة فى مكانها .. ونظرت إلى بعينين أشد جسارة .. ودخلت غرفتى وتركت الباب مفتوحا ومرت الفتاة أمامى ووراءها السيدة كانتا تنظفان البيت .. دون فتح النوافذ .. وكانت الفتاة كلما دخلت غرفة.. دخلت السيدة وراءها .. وظهر لى جليا أنها تتبعها كظلها فى كل حركة.. وأنها بمثابة الحارس .. عليها ولكنه الحارس الأحمق الذى يمنع عنها الشمس والهواء ..
وكانت الفتاة مع جمالها النادر .. صفراء شاحبة .. وبدا لى اضطراب أعصابها .. من كل حركاتها فى البيت ..
وطلبت فنجالا من القهوة من السيدة بكل لطف وأدب مخافة أن ترفض..
وحملته لى الفتاة على صينية صغيرة .. فطلبت منها أن تضعها على المائدة التى فى الصالة .. وبعد نصف دقيقة كانت السيدة وراءها وكانت الفتاة مضطربة جدا وخجلى ..
ونظرت إلى الظلام الذى يخيم على البيت فى الساعة الثامنة صباحا وإلى الهواء الراكد .. وإلى جو يحس معه المرء بالاختناق وقلت للسيدة :
ـ لماذا لا تفتحين النوافذ كما فتحت نافذة غرفتى ألا ترين فعل الشمس؟..
ـ لقد اعتدنا على ذلك منذ سنوات طويلة ..
ونظرت إلى حالها فى أسف وأخذت أشرب القهوة وأحادثها وعلمت أنها عانس وأن سعاد هى أختها الوحيدة .. وأن والدتهما كانت لبنانية وأبوهما مصرى وكانا يشتغلان فى صيدلية مشهورة فى المدينة وتوفى الوالدان منذ سنوات وتركاهما لعيش الكفاف وهما الآن يقضيان معظم الوقت فى البيت ولا يتنزهان ..
ولم أسألها لماذا لم تتزوج لأنه وضح لى جدا أنها تنفر من الرجال وأنها رفضتهم منذ سنوات وقد تكون كرهتهم وأنها تحاول الآن أن تجعل الفتاة الشابة مثلها وتعيش حياتها
وزادت نفسى حسرات على الفتاة وأن أرى هذا الجمال النادر يروح ويجىء أمامى وهو محبوس فى شبه قمقم .
وارتديت بذلتى وقلت للسيدة وأنا أحمل بيدى ماكينة الحلاقة الكهربائية .
هل توجد (بريزة) فى الحمام أضع فيها الماكينة ؟
ـ فى المطبخ أريها له يا سعاد .. وسأجىء لك بمرأة صغيرة حالا ..
ومشيت وراء سعاد إلى المطبخ وتناولت منى حبل الماكينة الكهربائية لتضعه فى البريزة ووقفت أبحث عن المكان الذى نعلق فيه المرآة ..
وسمعت صرخة حادة من الفتاة .. كانت وهى تضع طرف الحبل فى البريزة قد سرت فيها الكهرباء من الرطوبة الشديدة فارتعشت ووقفت حائرة وقد شلت عن الحركة فجذبتها بسرعة ووجدتها دون شعور ترتمى على صدرى بقوة وتضغط وتبكى بحرقة ..
ولما جاءت السيدة بالمرآة شاهدت هذا المنظر الأخير ففتحت فمها ولم تنطق ..
ومشينا بالفتاة إلى الصالة وبعد أن مسحت عبراتها وذهب عنها الروع..
قلت للسيدة :
ـ أرجو أن تفتحى نوافذ البيت كلها الآن لتدخل الشمس والا سيتكرر الحادث على صورة بشعة ..
ففتحت السيدة فمها .. كانت تود أن تحتج ولكن أمام نظراتى القوية تحركت وفتحت أول نافذة وفتحت أنا وسعاد باقى النوافذ .
*   *   *
وسافرت إلى القاهرة فى عصر اليوم نفسه ولكنى عدت إلى السيدة والفتاة مرة أخرى فى الخميس التالى بعد أن شعرت بأن لمسة الكهرباء مستنى أنا أيضا وأن جذبة سعاد إلى صدرى هى تنبيه قوى من الفتاة المسكينة لأنقذها من هذا العذاب
وتزوجنا فى الصيف نفسه ودخلت حرارة الشمس وملأت كل جنبات البيت ..

امرأة أحلامى(1)
اعتدت أن أصيف كل عام عند سيدة أجنبية تقيم فى الرمل ، وكانت امرأة غربية الأطوار بادية الشذوذ ، تحيط نفسها وبيتها بجو من الهدوء المطلق، فلا تحب أن ينزل عندها أحد من المصيفين على الرغم من أنها كانت فى أشد الحاجة إلى المال ، وكان  نفورها من جنس الرجال لاحد له ، فقابلتنى فى أول الأول بمنتهى الحذر والتحفظ ثم أنست بى على ممر الأيام . وكنت لا أرى طوال مدة إقامتى معها رجلا غيرى يدخل المنزل .. فهى تدع عند السلم الخارجى حقيبة صغيرة من القماش يلقى فيها باعة الخبز والخضار واللحم ما تحتاجه لطعامها .. فلا يراها منهم أحد ولا تراهم . وكانت غرفتى تطل على البحر وبعيدة عن غرفتها ، فكنت لا اراها ولا اسمع صوتها إلا نادرا .. بيد أننى كنت أسمعها تتحدث عصر كل أحد مع امرأة علمت أنها جارتها ، وأنها المرأة الوحيدة التى تزورها
ومرت الأيام وأنا لا أسمع إلا صوت المرأة وهى تناغى القطط ، أو تحادث نفسها ! وكان الهدوء الشامل الذى يخيم على البيت يحبب إلى الإقامة فيه جانبا كبيرا من النهار والليل .. فكنت أجلس فى الشرفة وأشرف على البحر، وأمتع بصرى بما يحيط بى من مناظر الطبيعة الخلابة .. وأنا لا أسمع فى أرجاء المنزل إلا دقات الساعة المعلقة فى البهو ، وهى تدق من حين إلى حين.. وكان هذا الصمت يحملنى على التأمل ، وتوجيه نظرى إلى هذه المرأة لأعرف علة وحدتها المرة .. بيد أننى كنت كلما حاولت أن أجر لسانها إلى الكلام لعلى أعرف بعض حياتها ، وبعض سرها أرتد خائبا .. فهى امرأة من طراز نادر فى الذكاء والحذر .. ومن اللواتى يقلن لك بأعينهن إذا ما تجاوزت معهن الحد فى الحديث إلى هنا ونفترق ! .. على أن هذا الكتمان كان له اثره السىء على أعصابها ، ووقعة المر على نفسها وجسمها ، فقد بدت عليها عوارض الشيخوخة قبل الأوان .. وثقلت عليها الوحدة فكانت تحتد وتشتد فى الكلام لأتفه الأسباب ..وساء ظنها بالناس أجمعين ، فكانت تتصور أن خدم العمارة التى تسكنها يتآمرون على قتلها ، وأن إحدى الجارات مشتركة معهم فى تبييت الأمر وتنفيذ الجريمة .. ! وكنت أجاهد لأصرف ذهنها عن هذه الخواطر .. واعرض عليها التنزة فترفض .. فلا تراها إلا محتبسة فى غرفتها مريضة النفس حزينة
لقد كان منظر هذه المرأة يبعث فى نفسى الشجن بأقصى ضروبه .. وكنت أسائل نفسى .. هل هى واحدة من اللواتى لهن ماض مروع هل هى إحدى ضحايا الرجل .. ؟ ما معنى هذا الحزن .. وما سبب هذه الوحدة .. أليس لها أقرباء ؟ .. ما من رسالة وصلت إليها .. رسالة واحدة لم تصلها من إنسان طوال مدة وجودى فى بيتها .. ولما رأتنى ذات يوم أكتب رسالة وأجعل العنوان بإسمها .. نظرت إلى فى أبتسام وقالت :
« إن موزع البريد لا يعرفنى .. فما حمل لى رسالة قط .. أجعل رسالتك على عنوان آخر .. »
كان صوت هذه المرأة الهادئ مشوب بمرارة تقطر حزنا ، إن قلبها يتفطر وجسمها يذوى على التدريج .. لا أنا ولا أحد من الناس يستطيع أن يفعل شيئا لأجلها الآن .. لقد خرج أمرها من يدنا .. إنها الآن تعيش لنفسها بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان ، وحد بها على القطط لا يغير هذه الكلمات ولا يلونها بلون آخر .. لقد اتجهت عاطفة الرحمة عندها إلى الحيوان بعد أن حرمت من الإنسان ، واتجهت اتجاها قويا فيه حنان أكيد وعطف شديد .. لقد قمت ذات صباح من النوم فزعا على صوتها وهى تولول وتنوح .. فعلمت أن قطا من القطط قد مات .. واحداً من أبنائها .. كما كانت تنعت هذه الحيوانات دائما .. وأشهد أنى ما رأيت أحداً يبكى على ميت كما بكت هذه المرأة على قطها
*   *   *
جلست ذات يوم ، بعد أن تغديت ، على السرير لأستريح قليلا .. وحملت لى السيدة قدحا كبيراً من القهوة .. فأخذت أشرب وأدخن .. وكان معى كتاب من تلك الكتب القديمة النادرة الطبع التى أغرم باقتنائها ومطالعتها دائما .. إن هذه الكتب تحمل بين طياتها أسرار القرون وعبير الدهور .. فتحت الكتاب وأخذت أطالع .. وكان باب الغرفة المؤدى إلى فسحة البيت مواربا .. فسمعت صوتا إنسانياً حلواً يرن فى البهو .. واستمر الحديث بين صاحبة البيت ، وصاحبة هذا الصوت الجديد مدة .. وألقيت الكتاب وتسمعت .. كان صوتا جديداً يختلف عن صوت جارتها .. وانقطع الحديث وسمعت حركة أقدام تقترب من غرفتى .. لم تكن أقدام المرأة .. كان خطو هذه أسرع وأخف وأنشط .. ووجهت عينى ناحية الباب ، ومر ظل أمام الباب الزجاجى الكثيف .. ظل امرأة طويلة القامة .. هذا هو كل ما استطعت أن أتبيته .. وكان الزجاج الكثيف ، والباب الموارب لا يسمحان لى بأن أرى أكثر من ذلك .. ومر الظل أمام الباب أكثر من مرة .. كانت ذاهبة إلى المطبخ وعائدة منه ، وكانت تغنى فى رواحها ومجيئها بصوت أخذ بمجامع قلبى وأسر لبى .. لم اسمع صوتا أحلى من هذا الصوت .. لم تكن تغنى بلغة أعرفها ؛ ولكن الصوت كان موسيقيا واضح النبرات لين المخارج ، حلو الرنين ... وتحركت من فوق السرير ومشيت نحو الباب لأفتحه وأرى صاحبة هذا الصوت الجميل .. ولكن يدى وقفت على مقبض الباب لا تحركه .. رأيت أن هذا لا يليق .. وتبدل رأيى وتراجعت ... وملت إلى النافذة ، وأنا أرمى الجو بدخان سيجارتى .. والصوت يهفو إلى حلواً قوياً .. وبعد الصوت عن سمعى ثم أنقطع .. وأنطلقت أتمشى فى أرض الغرفة بخطى رتيبة ، مستعرضا الصور المعلقة على الجدران
*   *   *
عدت إلى البيت لأنام بعد منتصف الليل بقليل ، فألفيت غرفة صاحبة البيت مضاءة على غير عادة .. وسمعتها تحادث السيدة صاحبة الصوت الجميل الذى سمعته فى أصيل ذلك اليوم .. ووجدت أن يداً جديدة مرت على المنزل كله ، فغيرته ولونته بلون آخر ، وذوق آخر .. فقد رتبت الصور، وغير موقع الأثاث ، وغطى المصباح الذى فى غرفتى بالحرير الأزرق .. وفرش السرير بعناية ، وتغير كل شىء فى الغرفة ، وشعرت عند دخولى فيها بجو أنيق ممتع .. ونمت نوما عميقا مريحا .. وأستيقظت مبكراً عسى أن أوفق إلى رؤية السيدة الجديدة .. وكنت أسائل نفسى هل هى نزيلة جديدة أم قريبة من قريباتها .. ومرت أيام دون أن أشاهدها .. وكنت أسمع صوتها ، وحركة أقدامها ، وأرى نافذتها المفتوحة ، وغرفتها المضاءة .. هذا هو كل ما كنت أراه .. ولم أحاول غير ذلك ، وتركت لقاءها للمصادفات ، فإن الأقدار هى التى تربطنا بأناس لم يكن لقاؤهم فى الحسبان ، أو الأتصال بهم يخطر على بال إنسان
*   *   *
رجعت ظهر يوم إلى المنزل ، وأنا شاعر بألم فى إحدى عينى .. وكان الجو شديد الحرارة كثير الغبار . وأغلقت نوافذ الغرفة ، وتمددت على السرير .. وحملت إلى صاحبة البيت قليلا من الماء الساخن .. فغسلت عينى ، وأحسست ببعض الراحة .. وسمعت المرأتين تتحدثان .. وسمعت خلال الحديث لفظة « أكسيد بوريك » فأدركت أن الحديث يتعلق بى .. وتحدثت المرأة مع البواب .. وسمعت حركة أقدام السيدة الجديدة فى البهو .. ثم مضت مسرعة إلى المطبخ .. ولمحت ثوبها وهى ماضية أمام بابى .
ولما جاءت صاحبة البيت بمحلول البوريك ؛ وغسلت عينى أدركت اليد التى صنعته ووددت لو أقبلها .. وأكبرت فى هذه السيدة هذا الخلق النبيل مع إنسان لم تره ولم تعرفه ....
شغلت هذه السيدة بعد ذلك تفكيرى ووقتى وتشوقت إلى رؤيتها للغاية..
*   *   *
وخرجت من غرفتى ذات أصيل ، واجتزت البهو وانحرفت إلى الصالة ، فوجدت صاحبة البيت جالسة على أريكة بالقرب من الباب الخارجى .. وبجوارها سيدة فى مقتبل العمر ، وروعة الحسن .. فأدركت أنها النزيلة الجديدة ..
فلما أحست بى صاحبة البيت قالت :
« كيف حال عينك الآن .. ؟ »
« بخير وأشكرك .... »
وكانت السيدة الأخرى فى أثناء ذلك الحديث قد أطرقت .. فنظرت إليها بجانب عينى لحظة ثم أضفت :
« وكل ذلك بفضلك ... »
فأجابتنى صاحبة البيت وهى باسمة مشيرة إلى السيدة التى بجانبها ....
« لقد كان هذا رأى مرغريت ... »
فتحول نظرى إلى مرغريت ، وهى مطرقة .. وأخذ قلبى يزداد وجيبه ورفعت رأسها .. ورأيت وجهها الصبوح الفاتن لأول مرة ، وتشربت روحى من حسنه ... وتبادلت معها كلمات قليلة ، ووجهها فى خلال ذلك يحمر ، ويرف لونه ، ويزداد سحره .
وأحنيت رأسى ، وخرجت إلى الطريق ، ومخيلتى تسبح فى بحر من الأحلام اللذيذة .
*   *   *
وقدمت لى ذات صباح قدح القهوة بدل أختها .. فتقبلته شاكراً ممتنا وأخذت أحادثها .. فتوردت وجناتها .. وظهر عليها الحياء الذى بدا منها عندما قابلتها أول مرة .. وعاد إلى عينيها ذلك البريق الفاتن الذى يشاهد فى عينى العذراء قبل أن تنخرط فى البكاء ، أو تنفجر من الضحك
*   *   *
وخرجنا فى ليلة من الليالى لنتنزه لأول مرة . وسرنا نحن الثلاثة على شاطئ البحر بعد أن أسدل الليل ستائره ، وأوحش الطريق ، ومضى الناس إلى منازلهم . وكنت أبادل مرغريت النظرات والبسمات ، وأشد على يدها خلسة ! .. وكنا نتمهل فى السير عن عمد لتتقدم « المدام ! » وشعرنا بعد مضى دقائق قليلة بأن وجودها يضايقنا ، كان هذا هو إحساسنا المشترك دون أن ننبس بنت شفة ، ولعل المدام قد شعرت بغريزتها بذلك ، فقد أشارت علينا بالعودة قبل أن يهبط البرد ، فأخذنا الطريق إلى المنزل صامتين ....
ولما حييت مرغريت تحية المساء ، وأنصرفت إلى غرفتها وأغلقت عليها بابها ، وقفت برهة أنظر إلى هذا الباب الموصد دونى .. وقلبى يزداد خفقانه ويشتد
وأحتلت مرغريت بعد هذه الليلة مركز شعورى ؛ ونفذت صورتها إلى سويداء قلبى ، وكنت أراها فى كل مكان ... أنام وصورتها فى ذهنى وأصحو وصوتها يرن فى أذنى .. لقد استولت على كيانى ، وغدت امرأة أحلامى
*   *   *
وألفيتها ذات ليلة ساهرة تكوى بعض الملابس .. وكانت هذه هى المرة الأولى التى أشاهد فيها مرغريت وحدها ، فان عين العجوز لا تنام أبدا ! .. وجلست أحادثها ، وأشترك معها فى عملها .. وهى تضحك وترفع المكواة الحامية فى وجهى لابتعد وإلا وضعتها على قلبى !
ولما فرغت من عملها أشرت عليها بأن نجلس قليلا فى الشرفة حتى نشعر بالنوم .. فنظرت إلى غرفة أختها المظلمة لحظات .. ثم مضت معى ..
وجلسنا نتحدث فى الظلام ... وطوانا الليل فى جلبابه .. واستغرقنا فى الحديث ، وغفلنا عن كل شىء فى الوجود .. وشعرت لأول مرة بالسعادة الحقة تهز مشاعرى وترقص قلبى .. حتى خيل إلى أن لا أحد سوانا فى المنزل، وأن أختها رقدت رقدة الأبد
وبعد تلك الليلة انمحت الفواصل ، وانزاحت الستر ، وتبددت الظلال التى كانت بينى وبين مرغريت .. وامتزجت روحانا .. وازداد وجدى بها حتى أصبحت لا أقوى على فراقها لحظة .. فكنا نخرج إلى المدينة فى الصباح، ونستريح فى البيت وقت الظهيرة .. ونتنزه فى المساء على ساحل البحر بين المندرة وسيدى بشر .. بعيداً عن الناس فإذا حان وقت النوم رجعنا إلى البيت.. وافترقنا أمام المدام .. ! ويظل كل منا ساهرا فى غرفته حتى ينطفىء النور فى غرفتها وينقطع حسها .... وهنا تفتح مرغريت باب غرفتى فى رفق وحذر شديدين ... وتهمس ... ووجهها يشرق فى الظلام :
« فتحى .. هل أشعل النور .. أو أهتف بالمدام .. ؟ فتحى هل أنت فى حاجة .... »
فأطوقها بذراعى وأغمر فمها بقبلاتى ، ونظل نتناجى ونحلم حتى تبدو خيوط النور فى الأفق
*   *   *
وكان عندها مجموعة من الصور تمثلها فى مختلف أطوار حياتها .. فقدمتها لى .. وأخذت أقلب المجموعة وهى جالسة بجوارى .. فرأيت صورتها وهى طفلة صغيرة فى بودابست .. وجزيرة مرغريت ....
وسألتها :
« هلى سميت جزيرة مرغريت بإسمك .. لأنك أجمل فتاة فى المجر .. »
فضحكت وقالت :
« فى المجر .. فقط ... ! ؟ »
« فى العالم يامرغريت .... »
فقبلتنى فى فمى وهى طروب .. ومضيت أقلب الصور حتى أستوقفتنى صورة فتاة شديدة الشبه بها
فسألت مرغريت عنها .. فنظرت إلى ثم أطرقت وراعنى أن وجهها قد اكتأب وعلاه الوجوم .. وتحير فى عينيها الدمع .. فطويت الصور .. ورفعت وجهها إلى وجهى .. فارتمت على صدرى وهى تنتحب .. فأخذت أمر بيدى على شعرها وأغمرها بقبلاتى .. حتى هدأت .. ثم رفعت وجهها إلى وقالت :
« أعرفت صاحبة الصورة .... ؟ »
« أجل يا مرغريت .. وآسف لحماقتى .. »
« لا تقل هذا ولماذا أكتم عنك .. لقد أصبحت عندى أكثر من أخ .. أنها أختى .. لـ .. وقد انتحـ ..... أنتحرت .. كانت صغيرة .. وغريرة...... وعشـ ..... عشقت زوج أختها .. زوج المدام ... »
ووضعت يدى على فم مرغريت .. بعد أن رأيت جسمها عاد يهتز ويرتجف .. ولم أكن أود أن أسمع شيئا عن هذه المأساة .. وأدركت كل شىء يتصل بهذه المرأة الغريبة ، وعرفت علة نفورها من الرجال وعزلتها المطلقة عن الناس . أدركت كل هذا بسرعة وأخذت أحادث مرغريت فيما يصرفها عن هذه الذكرى حتى هدأت ، فخرجنا لنتنزه
*   *   *
ومرت الأيام سراعا ونحن فى سعادة لا تقدر .. وكنا نمضى معظم الليل فى الغرفة نتسامر ولا نحس بأن فى العالم سوانا ... وانمحى كل شىء .. فينا ونسينا مدام « ت » التى أدركت كل شىء وعرفت كل أمر وصمتت ؛ كانت تعرف أن الكلام لا يجدى .. وأننا مستغرقين فى حلم لا نصحو منه أبدا .. وكانت مرغريت تدرك أيضا حال أختها ... فيعتريها سكون ووجوم ، وتطوقنى بذراعيها وهى ترتجف وتبكى ..
وشعرنا مع الأيام بنظرات المرأة تشتد وتحتد وجو البيت قد تكهرب ، وأصبح خانقا .. فكنا نمضى الساعات فى صمت ...
وقررنا ذات ليلة العودة إلى القاهرة ..... لنقضى معا ما بقى لنا من عمر.. وشعرت بعد هذا القرار بالهدوء المقرون بالسعادة الحقة ...
وأخذت أرتب الحقائب ، وأعد كل شىء للرحيل .. وذهبت إلى المدينة وتركت مرغريت تهيؤ نفسها للسفر وعدت إلى المنزل فى ساعة متأخرة من الليل وأنا سعيد حالم .. وحاولت النوم فلم أستطع فقد طيرت السعادة النوم من عينى .. فرأيت أن اذهب إلى غرفة مرغريت .. وأوقظها لنقضى ما بقى من الليل معا .. ونهضت من الفراش .. وفتحت باب غرفتى وتقدمت ، على أطراف أصابعى فى الردهة .. حتى قربت من باب غرفتها وهنا وصل إلى سمعى صوت بكاء مختنق .. وصوت مرغريت وهى تتحدث بصوت خافت ، فأدركت أن أختها معها فى الغرفة .. وساورنى القلق وأنصت .. فإذا بالحديث يخصنى فوقفت فى وسط البهو ذاهلا شاردا .. وأنا لا أسمع إلا بكاء المرأة المختنق وصوت مرغريت وهى تهدئها بصوت خافت ثم سمعتها تبكى معها .. فأحسست بقلبى يتفطر لوعة وأسى .. وسمعت المرأة تقول لأختها وهى تنشج..
« لا تتركينى وحدى .. بعد كل الذى حدث .. لقد وجدتك أخيرا .. وأصبحت ومالى فى الوجود سواك .. فلا تتركينى وتذهبى معه ... »
وأرتفع النحيب .. وتكرر الرجاء .. وأنقطع الصوت .. وخيم صمت القبور ..
وتحاملت على نفسى حتى بلغت غرفتى . وتمددت على السرير وجسمى يحترق ورأسى يشتغل والعرق يتصبب على جبينى .. وعيناى فى وقدة الجمر.. وأطرافى تتقلص .. والسيجارة تنتفض بين أناملى ... والأفكار تموج فى رأسى وتتصارع .. لقد من اللّه على بالسعادة بعد شقاء طويل فهل أرفضها فى سبيل امرأة فى عداد الموتى .. حية كميتة لا فائدة من وجودها ، ولا خير يرجى منها ، لقد انقطعت صلتها بالحياة وصلتها بالناس ، وتقطعت بها الأسباب .. فما ذنب هذه المسكينة وهى فى نضرة عمرها ؛ ورونق صباها حتى تشقى مع هذه المرأة الشقية إلى الأبد .. هل إذا انتزعتها منها سأنتزع نفسها .. هل أذهب بحياتها .. ولماذا لا أذهب بحياة من لا يصلح للحياة ولا تصلح له ... وقفت عند هذا الخاطر العاصف أترنح .. وهل يمكن أن نظل سعيدين بعد هذه المرأة .. أنها ثالث لا ينفصل عنا ولا يتجزأ .. إنها فى حياتها ومماتها .. شئنا ذلك أو لم نشأ .. وأنطلقت أتمشى فى أرض الغرفة بخطى سريعة كالنمر المحبوس فى عرينه .. والأفكار تشتعل فى جمجمتى وتعصف ، حتى شعرت بمثل الحمى تسرى فى عروقى وبحلقى يجف .. فاتجهت من غير وعى إلى المطبخ لأشرب .. ووقع بصرى وأنا أدير صنبور الثلاجة على بلطة معلقة فى الحائط .. رباه .. هلى أمسك ببلطة رازكو لنيكوف(*) وأحطم هذه الجمجمة .. وأمسكت بالبلطة ! فاحسست بثقلها وأخذت يدى ترتعش ، وجسمى يهتز والعرق يتفصد .. رحماك يا سيد الكتاب ليس بين أعقل الناس وبين الجريمة غير قيد شعرة !
هل أقتل هذه المرأة ، وأقتل مرغريت ، وأقتل نفسى .. وتفتحت عيناى فى رعب وجزع .. واشتد الظلام ولم أعد أرى شيئا
ووجدت نفسى ممددا على فراشى والعرق يتصبب .. فاستويت على قدمى ، تحت ثورة الحمى ، وأمسكت بحقيبتى ..... وخرجت أضرب فى ظلام الليل على غير هدى ولا سبيل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) بطل الجريمة والعقاب لدستوفسكى .


البواب الأعرج(1)

عندما ضرب الألمان مدينة الإسكندرية بالقنابل لبغرقوا الأسطول الإنجليزى . ضربوا منطقة البحر ضربا شديداً . واصابت القنابل عمارة ضخمة فى شارع الكورنيش ، فهوى طابقان منها ، وطارت بعض شرفاتها ، وتناثر زجاج نوافذها. ومع هذا فقد خرج سكان العمارة من المعركة سالمين . فقط أصيب بوابها . أصابته شظية فى قدمه اليمنى خرج بعدها من المستشفى يعرج . ورضى الرجل بحكم القدر ، واستسلم للمصير المحتوم . وعاد يجلس على الدكة فى مدخل العمارة كما كان يرقب الداخلين والخارجين بعينى الذئب الجائع .
وكان معظم سكان العمارة فى أيام الحرب من الجنود الإنجليز ، وكان منظرهم فى ملابسهم الرسمية ، وما يحدثونه دائماً من ضوضاء وجلبة فى غدرهم ورواحهم ، يثير السخط فى نفس البواب .
كما أنه كان ينظر إليهم دائما بعين الكراهية .. لأنهم كانوا السبب فى بلواه . فلولا وجودهم فى هذه المنطقة ما ضربت العمارة ، ولا أصابته الشظية. فلما أنتهت الحرب وغادر الجنود العمارة تنفس « عثمان » البواب الصعداء وشعر بأنه عاد يتنفس فى جو من الحرية كما كان منذ ست سنوات. على أن عرجه زاده انطواء على نفسه ، وبعداً عن الناس ..
كان سكان العمارة جميعاً يعرفون أنه يكره النساء .. فلا يحب أن تجلس الخادمات على دكته . كما أن واحدة منهن لن تجرؤ على دخول غرفته . وكان يتضايق أشد الضيق حتى من سيدات الأسر ، وهن جالسات على الدكة فى انتظار المصعد . وكان أشد الأشياء على نفسه أن تكلفه امرأة بعمل. قبل العرج وبعده ، كان يطوى لهن على بغض شديد ، لم يكن يعرف مأتاه ولا مصدره .. مجرد وجودهن فى ممشى العمارة ، أو على بابها ، أو بالقرب من غرفته ؛ كان يجعله ينفعل ، ويتغير ويكاد يثور .. وهو لا يدرى لذلك سبباً.
*   *   *
وفى صباح يوم علم أن الشقة رقم 4 فى الدور الأرضى بالعمارة ، قد أجرت إلى أسرة من القاهرة مدة الصيف ، فحمل المكنسة ونظفها ، وأغلق نوافذها . وجاءت الأسرة فى قطار الظهر ، وكانت مكونة من سيدة وسيد ولا ثالث لهما .. وفتح لهما البواب الشقة وحمل الحقائب من السيارة . وأشفقت السيدة على الرجل ، ففتحت حقيبتها الجلدية الأنيقة وأعطته ريالا فحنى رأسه وخرج . ولأول مرة رأته السيدة يعرج !
وفى أصيل اليوم نفسه رآهما البواب يخرجان ويتمشيان فى طريق البحر. وكانت السيدة أنيقة وجميلة وصغيرة .. والسيد رجلا فى الأربعين حسن الملبس مليح القسمات .. ولما عادا من نزهتهما ، كان البواب جالسا فى غرفته ، وسمع صوت السيدة وهى تصيح :
« يا بواب .. يا بواب .. »
فلم يتحرك . وبعد قليل رآها واقفة على بابه تنظر إليه بعينيها الناعستين وتسأله :
« أنت اسمك إيه ؟ ... »
فرد عليها بصوت منفعل :
« عثمان .. »
« تسمح تفتح لنا الباب ؟ .. مش راضى ينفتح .. »
ونهض فى تثاقل ، وهو يرميها بالنظر الشزر .. وفتح الباب .. وعاد إلى مكانه ، ورأى السيدة تقابل نظراته الشزراء بنظرات ناعمة متكسرة .. فازداد غيظا وحنقا .
*   *   *
فى الصباح حمل للسيدة حاجتها من السوق ..
وكان يروح ويجىء فى الطريق مرات ومرات ولا يشعر بتعب !
وفى كل يوم كان يفعل ذلك .
وفى الضحى كان يحمل المظلة والكراسى إلى البلاج ، ويسير وراء السيدة كالكلب الأمين ! وينصب لها المظلة ثم ينصرف .
وقد شعر على توالى الأيام بأنه تغير ، ولم يعد يثور لأتفه سبب ، ويحتد على الخصوص وهو يحادث النساء ..
لقد تغير وتغير .. ! وأصبح ينام نوما عميقا فى الليل ، ويستيقظ مبكراً فى الصباح ، ولا يحس بضربات قلبه ، وثورة دمه ؛ كلما سمع صوت امرأة .. لقد عاد إلى سكينة نفسه .
وذات يوم نزل إلى البحر ليرجع المظلة كعادته ، فلم يجد السيدة جالسة تحتها تقرأ فى كتاب كما اعتاد أن يراها .. ودار ببصره ورآها مقبلة من بعيد فى لباس البحر ..
ولأول مرة يراها هكذا شبه عارية !
وأحس بمثل النار تسرى فى ألياف لحمه .. وأدار رأسه .
ولما ارتدت ملابسها حمل المظلة ومشى وراءها ، ولأول مرة يجد نفسه ينظر إلى جسمها من الخلف ويعجب بمفاتنه .. وأخذه مثل السعار ودخل معها الشقة وهو يرتجف ، ووضع المظلة ، ومشى إلى غرفته .. وأغلق بابها
*   *   *
كان ينام فى غرفته ، فأخرج فراشه ونام به على الدكة ليقترب من بابها ويرى النور وهو يطفأ فى غرفتها .. كان يتقلب طول الليل فى فراشه ويتسمع وقع أقدامها .. ويصغى إلى صوتها وهى تحادث زوجها .. زوجها الذى يعود من سهراته متأخراً دائماً وغالباً ثملا ... وغالباً مقامراً ..
وفى كل أصيل كان يراها جالسة فى غرفتها المطلة على البحر ، وكان يقف عند الحاجز الحديدى على الكورنيش ، ووجهه إليها وعيناه لا تتحولان عنها . وكانت تدخن وترمى بأعقاب السجاير من النافذة
فإذا غربت الشمس اقترب من النافذة ، وجمع هذه الأعقاب ومضغها بشراهة ونهم . وكان يحس بلذة عنيفة تهز كيانه كله ، وبمثل الإعصار يحمله ويدور به .. ويود لو ينحدر من النافذة ، ويحملها بين ذراعيه ويمضى بها فى الظلام .
وكان يحلم بها فى الليل ويستيقظ من الحلم وهو يتفصد عرقا . ويزحف على رجليه حتى يقترب من باب شقتها ، وهناك يمرغ وجهه بمواضع أقدامها ويظل ملتصقاً بالباب إلى الصباح !
لاحظت سعاد هانم أن زوجها أصبح يتأخر كثيراً فى سهراته .. وهى تخاف فى الليل وحدها . ولما حدثته عن ذلك ، قال لها وهو يضحك :
« كيف تخافين .. وغرفة البواب بالقرب من باب الشقة ... ؟ ! »
« ولكننى أخاف ... »
« إنك ما زلت طفلة ... ! »
وتألمت وصمتت .
ونامت سعاد هانم فى ليلة من الليالى بعد العشاء مباشرة ... واستيقظت فى هدأة الليل ، ونظرت إلى ساعتها ، فوجدتها الأولى بعد منتصف الليل . وكان زوجها لم يعد من سهرته بعد ، فأدركت أنه يقامر فى هذه الليلة إلى الصباح ، كعادته فى الليالى التى يتأخر فيها .
وظلت ساهرة تستمع إلى هدير الأمواج على الشاطئ .. وكانت الشقة ساكنة لا حس فيها .. لا صوت كلب ، ولا نفس إنسان يشاركانها هذه الحجرات الأربع . وأحست بالخوف يسرى فى كيانها فازداد خفقان قلبها . وثبتت بصرها على الباب .. وخيل إليها أنها تسمع حركة فى الردهة فاعتدلت فى جلستها ، وأطلت من فوق السرير لترقب زوجها ، فلم يدخل عليها أحد .فنزلت وأخذت تتمشى فى الغرفة .. وأشعلت سيجارة وجلست على كرسى طويل ، وعيناها إلى النافذة المطلة على الطريق . كانت تود أن تفتح هذه النافذة لتستأنس بحركة السيارات التى تمر من حين إلى حين .. ولكن النافذة تعلو قليلا عن رصيف الشارع فكيف تفتحها فى الليل ... ظلت جالسة والخوف يشل حركتها ، وسمعها متيقظ ، وعيناها مفتوحتان ... وسمعت نقراً على الباب . أنسى زوجها المفتاح . ؟ أم أضاعه فى الطريق ؟ يحتمل هذا وذاك ... مشت إلى الباب وهى ترتجف هلعا .. وفتحت الشراعة الزجاجية ، ونظرت منها فلم تر أحداً فأغلقتها ، وعادت إلى غرفتها .
وبعد قليل سمعت النقر على الباب مرة أخرى . فنهضت واتجهت إلى الباب ، وفتحته وقلبها يكاد ينخلع من بين ضلوعها . وحدقت فى الظلام فلم تر أحداً .. ووجدت البواب نائما فى الممشى ، قريباً من الباب ، فنادته وهى تنتفض :
« عم عثمان ... »
وتحرك البواب ، وفتح عينيه ، ونظر إليها فى ذهول ، وقال بصوت خافت :
« نعم .. »
« إننى خائفة وحدى .. تعال نم فى الصالة ... »
ونهض البواب .. ورآها وهى تهتز كالقصبة فى مهب الريح .. ودخل وراءها ، وأغلق الباب .
*   *   *
عندما حمل عثمان المظلة لسعاد هانم فى ضحى اليوم التالى ، ومشى معها إلى البحر، نظرت إليه من قمة رأسه إلى أخمص قدمية ، وكأنها تراه لأول مرة..! واشمأزت من هذه القذارة . أهذا هو الرجل الذى قضت الليل معه .. ! اشمأزت من نفسها .. إنه لا يغير ثوبه القذر .. وما استحم قط والبحر على قيد خطوات منه !
أى نتن هذا . ! ولعنت زوجها ، واحتقرت نفسها !
ولكن عندما ينتصف الليل ، ويشتد السكون ، ويعلو موج البحر ، كانت تجد موجة طاغية عاتية ؛ آتية من بعيد تحملها إلى هذا الرجل .. ولم تكن تستطيع مقاومتها ولا دفعها .. كانت الموجة العاتية تحملها فى الظلام وهى غائبة عن رشدها . فإذا عادت لنفسها فى الصباح ، نظرت إلى هذا الرجل ، فوجدته قبيح الوجه ، قذر الثوب ، أعرج ؛ فيزداد احتقارها لنفسها ويشتد . وتكاد تجن مما وصلت إليه حالها ...
فى كل ليلة كانت تحاول أن تقاوم وأن تبقى فى مكانها ... ولكن يداً سحرية كانت تجتذبها إليه . وفى غمرة المد كانت تتمرغ فى الوحل . وفى الصباح كانت تتحسر ، وتنفض ما علق بثوبها من قذارة .
*   *   *
ولما انقضت أشهر الصيف ، حزم الزوجان حقائبهما ، واستعدا للسفر وركب معهما البواب السيارة إلى المحطة .
ولما تحرك القطار ، دفع الزوج يده فى جيبه ، وأعطى بعض النقود للبواب فاحنى هذا رأسه ، وانصرف يعرج على الرصيف .
وقال الزوج لزوجته :
« إنه مسكين ... ! »
فصمتت الزوجة ، ونظرت إلى زوجها ، وعلى وجهه أمارات الطيبة ، وعقد لسانها ، وشرد ذهنها طول الطريق ، وتصورت نفسها أكثر من مرة تحت العجلات ، والقطار يمزق جسمها تمزيقا ...

روح الفنان(1)
« لمن أجرت الشقة ؟ » .
« لشاب من القاهرة » .
« شاب ؟ » .
« أجل . وشاب أعزب » .
« ومعه أسرته ... ؟ » .
« لا .. إنه قادم وحده .. ليس معه أحد إطلاقا » .
« وحده .. ؟ وفى هذه الشقة الكبيرة ؟ » .
« هذا ما عرفته من زوجى .. »
ولم تسترسل آمال طويلا مع صاحبة البيت .. بل تركتها ، واندفعت إلى شقتها تبحث عن أختها الكبرى هدى ، لتقص عليها ما سمعت من فاطمة هانم، وعرفت هدى ما دار بين أختها وصاحبة البيت من حديث عن الساكن الجديد ، الذى أجر الشقة التى تحتهم مدة الصيف ، وأخذت تكون فى رأسها صورة عنه . إنه لا شك يملك سيارة فاخرة أحسن من سيارتهم ، ولابد أن يكون حسن الملبس ، رائع المظهر ، قوياً وسيما ، ولابد أنه يدخن السيجار ! وسيجىء ومعه الطباخ والسفرجى والخادم الخاص ... وربما خادمة ... ولا بد أن تكون الخادمة جميلة للغاية ، ولا بد أن .. واغتاظت هدى من هذه الخادمة! ومن هذا الشاب الوسيم أيضاً وسألت أختها :
« أعرفت متى سيأتى ؟ »
« غداً فى قطار الظهر » .
« ليس فى السيارة ؟ » .
« قد تجىء السيارة بعد ذلك » .
وكفت هدى عن السؤال ، وتصورت فتى أحلامها خارجا من القطار الفاخر ، فى إحدى عربات الدرجة الأولى . والشيالون يتزاحمون على حمل حقائبة ، والفتيات فى المحطة ينظرن إليه فى إعجاب حتى يركب السيارة إلى البيت .
وظلت هدى وأختها تحلمان بهذا الشاب ، وتكثران من التحدث عنه مدة طويلة من الليل .. ونامتا غراراً . ولما أصبح الصباح .. وقفتا فى الشرفة تنتظرانه. وكلما وقفت سيارة تحت البيت أخذتا ترقبان من ينزل من السيارة ومعه حقائب السفر .. وجاء الظهر ، ومر ميعاد القطار ، ولم يأت أحد بالصورة التى فى خيالهما .. وأخيراً أبصرتا بشاب يحمل حقيبته فى يده ، ويمشى فى الطريق على مهل ، وهو يقرأ أرقام البيوت كأنه محصل فى شركة النور ! ووقف تحت البيت ورمقه بنظرة فاحصة ثم دخل ، ونظرت الفتاتان إليه فى ذهول .. أيكون هو !! ذلك الرجل النحيل المشعث الشعر ، الذى يرتدى حلة قديمة باهتة ، ويجىء ماشياً على رجليه ، حاملا حقيبته فى هذا الجو الشديد الحرارة .. لا سيارة ولا خدم .. ولا شىء من آثار النعمة .. اذلك الأفاق هو الذى ظلتا تحلمان به الليل بطوله وانسحبتا من الشرفة ، بعد أن تبادلتا نظرات لها معناها ، وجلستا فى الصالة فى انتظار ساعة الغداء .
*   *   *
وفى الأصيل أبصرتا به خارجا من البيت ، وكان يرتدى نفس البذلة .. وشعره لا يزال مشعثاً ، وهو ينحنى فى مشيته إلى الأمام .. ويمشى على مهل.. كأنه يعرج ووجهه طويل ضامر .. وخط أنفه مستقيم ، وكتفاه ضيقتان . وظهره مقوس .. ومشى أمامهما فى طريق البحر وعيناه إلى السماء! إنه لا ينظر إلى الناس أبداً ، لم يرفع بصره إليهما قط كما يفعل غيره من الشبان . وغاب عنهما فى زحمة الناس .
ولما نزلت الفتاتان مع أسرتهما للنزهة فى ساعة الغروب ، رأتاه جالسا على مقهى صغير فى الإبراهيمية . وأمامه كومة من الأوراق .. هو شاخص ببصره إلى البحر .. ونظرتا إليه وكان غافلا عنهما سابحا بعينيه فى البحر . وغاظهما ذلك جداً ..
ومع أنهما كانتا تنظران إليه فى استخفاف وازدراء . والصورة الخيالية الرائعة التى كونتاها عنه ، انمحت بعد أن وقع نظرهما عليه ، وظهرت هذه الحقيقة البشعة ، ولكن حب الاستطلاع حملها على معرفة كل شىء عنه !
ولما سألت آمال صاحبة البيت عن هذا الشاب ، وقالت لها : إنها لا تعرف عنه أكثر من أنه من القاهرة . وأجر الشقة بواسطة صديق لزوجها .. ازدادت رغبة فى أن تعرف أكثر من ذلك . أما أختها الكبرى فقد هزت كتفيها إستخفافا ، وابعدته عن دائرة خيالها .
وكانت آمال تراه كل صباح ومساء يخرج وحيداً .. ويعود وحيداً ، ولا أحد يقوم على خدمته ... وكانت تسأل نفسها كيف يعيش ؟ ومن ينظف له الشقة ، إنها لم تر البواب أو أى خادم فى البيت يدخل شقته قط .. فكيف يعيش هذا الرجل ؟ كانت تراه ينزل إلى البحر قبل الغروب ، ويجلس بعيداً عن المصيفين فى ركن قصى ، وبيده كتاب . وكانت عيناه بين البحر والكتاب .. لم يكن ينظر إلى النساء العاريات كما يفعل الشبان .. إنه مستغرق فى عالم آخر .. عالم كونه بنفسه لنفسه .
كانت آمال تنظر إليه فى عجب .. ولفت نظرها إليه شذوذه وبروده العجيبان ، وبعده المطلق عن الناس ، وكانت تود أن تعرف ما يقرأ . كانت تود أن تعرف ما يشغله عن الناس .. وكانت تروح وتجىء أمامه .. وتنظر إلى الكتاب .. إنه ديوان من الشعر ، وجلست على قيد خطوات منه ، وهى ترمق الكتاب ، إنها تود أن تعرف هذا الشاعر الذى يشغله عن الناس ، وقرأت العنوان وكان مكتوبا بخط كبير .. إنه ديوان ابن الرومى وفى المساء كانت مع أختها فى مكاتب الإسكندرية .. سألت عن الديوان فى مكتبة المعارف ، ومكتبة الآداب ، فلم تجده وغاظها ذلك .. وكانت أختها هدى تعجب ، لماذا تسأل أْختها عن هذا الديوان ، وهى لا تقرأ الشعر ، ولا تفهم الشعر .. وأخيراً وجدت آمال الديوان فى مكتبة صغيرة .. وفتحته عرضاً وقرأت :
أعانقها والنفس بعد مشوقة إليها وألثم فاها ...
من التى يعانقها ويلثم فاها . ! ووضعت الديوان جانباً .. ومضت إلى الشرفة ، وكان البحر يهدر ، والناس يقلون فى الطريق .. وأسرتها تعد مائدة العشاء .. ولكنها لم تكن تحس بجوع ، ولم تكن تود أن تجلس معهم . كما كانت تفعل كل يوم .. إنها تحب أن تجلس هنا وحيدة ..
ما الذى جرى لها ؟
ولما جلسوا للعشاء .. اعتذرت بألم فى رأسها .. وبقيت فى الشرفة وسمعت النافذة التى تحتها تفتح .. وظهر النور فى عرض الطريق . إنه هو . . لقد عاد من الخارج .. وسمعت حركة فى الشرفة التى تحتها .. ولوت عنقها ونظرت .. إنه جالس على كرسى طويل ، وعيناه إلى البحر ، إنه لا ينظر إلى فوق أبداً .. إنه لا يقرأ الآن .. ولكنه يسبح فى عالم الشعر ويتأمل ؛ إنه شاعر.. ولهذا يعيش وحيداً ، ولهذا يعيش فريداً ، وبعد العشاء جاءت أختها وجلست معها ، ولأول مرة تشعر بأن أختها ضايقتها ، ولم تعرف لذلك سبباً.
*   *   *
واستمر عبد المجيد على حاله لا يعير باله لأحد من سكان المنزل ، ولا يلتفت إلى الفتاتين اللتين كانتا تراقبانه فى غدوه ورواحه ، وفى حركاته وسكناته فى البيت ، وكانت هدى على الرغم من انصرافها عنه تعجب لشذوذه وغرابة أطواره .. أما آمال فكان يغيظها منه أنه لا يحس بوجودها معه فى منزل واحد ، وهى لم تشعر نحوه بأى عاطفة ما ، فليس فيه ما يحب .. وكل الشبان الذين تراهم حولها ، وفى البيت ، أحلى منه شكلا ، وآنق ثوبا ، وأكثر قوة .
ولكن صورته مع هذا ... كانت لا تبارح خيالها أبداً .. وفى مرة من المرات كانت نازلة من البيت ومعها أختها ، وكان هو واقفاً على بابه يتهيأ للخروج . فلما رآهما دخل وأغلق الباب .. وقد غاظهما ذلك جداً . وجعلت آمال تلعنه فى سرها ، هذا الصعلوك الأفاق .. يفعل هذا ‍!
وضحكت هدى حتى احمر أنفها .
وقالت وهى تميل على أختها :
« إنه خجول كالعذراء .. يا آمال خجول .. هذا الأفاق خجول » .
« إنك مخطئة . إنه يحتقرنا .. إن أنفه دائماً فى السماء .. »
ونزلتا إلى البحر ، وأختلطتا بالمستحمين من فتيان وفتيات ، وكان النهار رائعاً ، والبحر هادئاً كالحصير .
*   *   *
بعد ايام قليلة من هذه الجفوة التى بدرت منه على السلم ، لاحظت آمال أنه لم يبرح المنزل .. لم ينزل إلى البحر ولم يتريض ، حتى غرفته المطلة على الطريق لم يفتح نافذتها .. ولم تره جالساً يطالع كما أعتادت أن تراه كل ليلة، وهى عائدة مع أسرتها من الخارج ... أسافر ؟
أبداً ! إن النور مضاء كالعادة فى الصالة ، وفى بعض حجرات البيت .. كيف يعيش هذه الأيام كلها من غير طعام .. ؟ إنها لم تر البواب ، أو أحد الخدم يحمل له شئياً من الخارج .. قد يكون مريضاً هذا المسكين .. ولا أحد يعوله ، ولا أحد يمرضه .. وتصورته وقد زاد نحولا !
وفى صباح يوم رأته يخرج من البيت ، وكان شاحب الوجه تبدو عليه آثار المرض الشديد .. ومشى متمهلا حتى رأته يجلس على مقهى قريب فى دائرة الشمس .. وكان قد اعتمد برأسه على كفه وأطرق ، وظلت تتأمله من بعيد ، وفى نفسها شتى الانفعالات
أحست نحوه بالعطف على حاله ... إنسان وحيد يمرض فى بلد غريب ، ولا يجد أخا ولا أختا ولا أما تسهر عليه ، إنه مسكين .. لابد أن تفعل له شيئاً..
بعد ساعة رأته ينهض ، ويتحامل على نفسه حتى دخل البيت ... إنه مريض .. ومريض جداً .
وأخذت تروح وتجىء فى الشرفة . أترسل إليه الخادمة ؟ .. ما الذى تفعله لهذا المسكين .. ووجدت نفسها تهبط الدرج ، وتنقر بيد مرتعشة على بابه ، وفتح الباب ، ونظر إليها بعينين منطفئتين .
وكانت تنظر إليه فى إستحياء .
وقالت أخيراً بصوت خافت :
« جئت أسألك إن كنت تحتاج لشىء ، فقد لاحظنا أنك مريض ... ولم تبرح منزلك منذ أيام » .
ورفع وجهه إليها فى سكون ، وقد عاد إلى عينيه بعض البريق :
« أشكرك .. إن هذا كرم منك » .
« إننى لم أفعل شيئاً حتى الآن » .
ثم حملت إليه كوباً من الليمون عصرته بيدها .. وهبطت به السلم ، وقد شعرت لأول مرة فى حياتها بشىء لذيذ هز كيانها ، وجعلها أكثر حيويةوأكثر نشاطاً ، شعرت بأنها تفعل شيئاً عظيماً .
وتناول منها الكوب ، وقال لها ، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة ، عيناه الصافيتان تنظران إليها فى سكون ودعة :
« أنا لا أستطيع أن أرفض هذا من يدك ... )
وتمتمت بشىء ، وصعدت الدرج بسرعة وقلبها ينتفض .
وفى الغداء أرسلت إليه حساء ساخناً وخبزاً ناشفاً ، فقبلهما ، وبعد أن تناول الطعام نام قليلاً ، ووجد أن روحه القوية وإرادته الجبارة تعملان فى داخل نفسه ، واستكثر أن يظل هكذا طريح الفراش ، وفتاة من أسرة أرستقراطية تمرضه وترسل إليه طعامها . وطرح فكرة المرض عن نفسه .. وخرج يتمشى قليلا ، ثم ركب الترام إلى المدينة . وابتاع لها كتاباً لأديبة مصرية ، وأرسله إليها مع خادمتها رداً على صنيعها عنده .. وأحس بعد هذا بالإرتياح الشديد ، وأزاح صورتها عن ذهنه .
وفى اليوم التالى لم يعد يفكر فيها إطلاقاً .
*   *   *
وجلس فى مساء يوم فى الشرفة يطالع ، وكان يرفع بصره من حين إلى حين إلى البحر ، ويرتد به إلى المارين تحته فى الطريق ، ورفع بصره مرة فرأى آمال مطلة عليه من النافذة ، وظلت تنظر إليه مبتسمة ، ووجهها يفيض إيناساً وبشراً .
وأخيراً حركت شفتيها :
« كيف حالك اليوم ؟ »
« أحمد اللّه وأشكرك »
« إننى لم أفعل شيئاً »
« بل فعلت كل شىء »
« أبداً .. أشكرك على هديتك »
« أقرأت الكتاب ؟ »
« أجل .. ساعة ما أرسلته ‍»
« وأعجبك ؟ »
« للغاية .. »
وسمعت آمال من يناديها .. فحيته بإيماءة من رأسها وأنصرفت .. وعاد يقرأ ويسائل نفسه .. أيحب هذه الفتاة .. أبداً .. إنها من أسرة أرستقراطية ناعمة تتكلم الفرنسية .. وتعيش فى جو خانق من التكلف . وهو رجل فقير وفنان طليق .. شتان ما بين تفكيره وتفكيرهم ‍!
أما آمال فقد كانت على توالى الأيام تزداد وجداً به وتعلقاً . وقد وجدته رجلا يغاير غيره من الرجال . فهى لم تره عند ما ينزل إلى البحر ، يحاول التحدث مع الفتيات كما يفعل غيره من الشبان الذين هم فى سنه . كما أنها لم تره جالساً فى المقهى مع غيره يصخب أو يلعب النرد أو يحتسى الخمر .. إنه يعيش فى عالم خلقه لنفسه ..
وقد أعجبتها طريقته الهادئة فى الحياة ، وهو وإن لم يكن جميل الشكل ولا أخاذ المظهر ، لكن روحه هى أجمل شىء فيه ، وهى التى تأسرها ، وتأخذ بمجامع فؤادها ، وصوته دائما ينفذ إلى أعماقها ، وتحس وقعة الحلو فى نفسها.. وحديثه ليس معاداً ولا مبتذلا .. إنه لا يردد كلمات الآخرين كالببغاء الحمقاء . وحتى عندما يصمت يكون أشد أسراً ، وأعظم فتنة !
تعبث يداه الناصعتا البياض بالكتاب ، وتتركز عيناه السوداوان فى عينيها.. فتحس برجفة .. وتحس بهما تقرآن سرها .. فتغض من طرفها .. وتحول وجهها عنه .. ولكنه يظل مع ذلك ينظر إليها ، وكأنه يسر لأنها ترتجف . وكأنه يسر لأنها تحس بقوة روحه الجارفة تطغى عليها .
وتأخر ذات ليلة فى الخارج ، ولما عاد للبيت وفتح حجرة نومه وخرج إلى الشرفة ، وجد آمال تطل عليه من النافذة .. ولعلها كانت تنتظر عودته .. وإنها الوحيدة الساهرة فى بيتها .. ونظر إليها فى عجب : لماذا تهتم به هذه الفتاة لماذا ؟
وقال لها بصوت خافت :
« لماذا أنت ساهرة ؟ » .
« إن منظر البحر الليلة جميل .. وأنا ألقى عليه النظرات الأخيرة لأننا راحلون بعد غد » .
« حقا .. ؟ » .
« ولماذا تسأل .. ولماذا تهتم ؟ » .
« أريد أن أتأكد لأستريح من هذه الجلبة التى فوقى ! »
« أنضايقك ؟ » .
« طبعاً .. فما أكثر خدمكم .. وما أكثر أطفالكم .. إننى لا أنام إلا فى الساعات الأخيرة من الصباح ! » .
« آسفة لك .. » .
« ماذا يجدى الأسف ؟ » .
« أتود أن تعرف الحقيقة ؟ » .
« أجل .. »
« إنهم راحلون جميعاً .. وسأبقى وحدى .. سأبقى وحدى لأجرب حياة العزلة مثلك ! » .
« إنك لا تستطيعين أن تمكثى فى البيت وحدك ساعة واحدة .. »
« ولماذا تستطيع أنت ؟ » .
« لقد تعودت ذلك .. ثم أنا لا أعيش وحدى بل تؤنسنى دائما أطياف أحبها .. »
« خيالات الشعراء .. ؟ »
« سميها ما شئت .. »
« ومتى تزورك هذه الأطياف ؟ »
« كلما كنت وحدى ! .. »
« سأتركك إذن لترى هذه الأطياف التى تحبها .. »
« . . . . . »
ودخلت آمال ، وسمع النافذة تغلق ، وظل هو فى مكانه مرسلا بصره إلى البحر ، وفى رأسه تطوف أحلام لذيذة ، وكان السكون العميق ، والظلام المحيط به ، ومنظر البحر فى الليل وهو يصفق بامواجه ويرقص ؛ قد جعله ينسى نفسه ، ويبقى فى مكانه طويلا .. ثم أحس بالبرد فنهض ، وأغلق باب الشرفة ، وذهب إلى فراشه .
*   *   *
وفى مساء اليوم التالى سمع جرس الباب يدق ، ولما فتح الباب وجد آمال واقفة أمامه ولا بسة ثوباً أزرق آية فى الذوق والأناقة .. وبيدها كتاب .. وأبتدرته بقولها :
« لقد جئت لك بهذا كتذ كار .. »
« ما هو ؟ »
« ديوان من الشعر ! »
فانتفض سروراً ومد يده نحوها ، وتناول منها الكتاب وهو يبتسم . ونظر إليها فى سكون وقوة ... وظلت واقفة أمامه ساهمة .. فتناول يدها ، وكانت لينة حارة فى يده الخشنة .. ونظر فى أعماق عينيها وهمس :
« لا أدرى كيف أشكرك .. »
ووجدها تتقدم نحوه وتكاد تلتصق به ، فشدها إليه ، وأغلق الباب برجله، وضمها إلى صدره ضمة قوية .
*   *   *
وفى صباح يوم السفر .. أدعت آمال المرض .. وبعد نزاع طويل بين الرجال والسيدات فى الأسرة ! تغلبت السيدات أخيراً وأجلت الأسرة سفرها إلى الشهر التالى ... !


بيان عن القصص المستوحاة من الإسكندرية
بقلم
محمود البدوى

اسم القصة
تاريخ النشر
اسم الصحيفة أو المجلة
الزوجة المصونة
يناير 1936
م. غريب
إمرأة أحلامى
نوفمبر 1941
مجموعة فندق الدانوب
روح الفنان
20/1/1948
م. دنيا الفن
الجواد الجريح
2/2/1948
ص. السوادى
البواب الأعرج
يونيه 1948
مجموعة العربة الأخيرة
نساء فى الطريق
يونية 1948
مجموعة العربة الأخيرة
الزوجة العصرية
25/7/1950
ص.الزمان
الليل والوحش
14/2/1955
م.الجيل
فى الليل
24/3/1956
ص.الأهرام
صراع
1/6/1956
م.الأدب
الباب الزجاجى
7/3/1957
ص.الشعب
الوحش
13/5/1957
م.الجيل
الهارب
24/6/1957
م.الجيل
النافذة
3/8/1959
م.الجيل
الزورق
7/10/1960
ص.المساء
الرجل الأعزب
27/5/1961
ص. أخبار اليوم
السلسة
13/9/1961
م.آخر ساعة
القنطرة
16/9/1961
ص.أخبار اليوم
الأرقام الناطقة
11/11/1961
ص.أخبار اليوم
الجوهرة
27/11/1961
م.الجيل
الحياة البهيجة
3/1/1962
م.آخر ساعة
ذات ليلة
10/1/1962
م.آخر ساعة
فى القفص
18/4/1962
م.آخر ساعة
الأخرس
12/12/1962
ص.المساء
الياسمين
19/6/1966
ص.التعاون
صقر البحار
يونيه 1966
مجموعة مساء الخميس
مساء الخميس
يونيه 1966
«     «    «
المظلة اليابانية
يونيه 1966
«     «    «
وقفة على الدرب
يونيه 1966
«     «    «
فى الليل وحدى
29/1/1970
ص.الجمهورية
صقر الليل
أغسطس 1970
م. الهلال
الأصلع
أكتوبر 1970
م.الهلال
البرج
1971
مجموعة السفينة الذهبية
الغزال
7/7/1972
م.المصور
القطار الأخير
24/5/1973
ص.الجمهورية
الورقة البيضاء
يونيه 1973
م.الهلال
الشبابيك
مايو 1975
م.الهلال
الباب الآخر
أبريل 1976
م. الهلال
قصة فريدة
ديسمبر 1977
م. الثقافة
صوت البحر
17/8/1982
ص.الجمهورية



مؤلفات محمود البدوى


(1) الرحيل
رواية قصيرة
ديسمبر1935
المطبعة الرحمانية بالخرنفش بالقاهرة
(2) رجل
مجموعة قصصية
أبريل1936
المطبعة الرحمانية بالخرنفش بالقاهرة
(3) فندق الدانوب
مجموعة قصصية
نوفمبر1941
أبريل 1945
الطبعة الأولى ــ مطبعة النهار بالقاهرة
الطبعة الثانية ـ مكتبة مصر ومطبعتها
(4) الذئاب الجائعة
مجموعة قصصية
سبتمبر1944
1954
1961
الطبعة الأولى ـ مكتبة مصر ومطبعتها
الطبعة الثانية ـ الكتاب الذهبى
الطبعة الثالثة ـ الكتاب الماسى
الدار القومية للطباعة والنشر
(5) العربة الأخيرة
مجموعة قصصية
يونية1948
1966

1999
الطبعة الأولى ـ مكتبة مصر ومطبعتها
الطبعة الثانية ـ الكتاب الذهبى مؤسسة روز اليوسف
الطبعة الثالثة ـ مكتبة الأسرة الهيئة المصرية العامة للكتاب
(6) حدث ذات ليلة
مجموعة قصصية
نوفمبر 1953
مارس 1965
الطبعة الأولى ـ دار مصر للطباعة
الطبعة الثانية ـ الكتاب الماسى ـ الدار القومية للطباعة والنشر العدد 125 .
(7) العذراء والليل
مجموعة قصصية
فبراير 1956

1975
1996
الطبعة الأولى ـ كتب للجميع العدد 99 دار الجمهورية ـ تحت اسم عذارى الليل
الطبعة الثانية ـ كتاب الهلال
الطبعة الثالثة ـ مكتبة الأسرة
(8) الأعرج فى الميناء
مجموعة قصصية
1958
1976
الطبعة الأولى ـ الكتاب الفضى
الطبعة الثانية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب
(9) الزلة الأولى
مجموعة قصصية
يولية 1959
الكتاب الذهبى ـ دار روزاليوسف
(10) غرفة على السطح
مجموعة قصصية
مايو1960
الكتاب الذهبى ـ دار روزاليوسف
(11) حارس البستان
مجموعة قصصية
1961
الكتاب الماسى ـ الدار القومية للطباعة والنشر ـ العدد 28
(12) زوجة الصياد
مجموعة قصصية
1961
الكتاب الماسى ـ الدار القومية للطباعة والنشر العدد 21
(13) ليلة فى الطريق
مجموعة قصصية
سبتمبر 1962
الكتاب الذهبى ـ مؤسسة روز اليوسف
(14) الجمال الحزين
مجموعة قصصية
1962
الكتاب الماسى ـ الدار القومية للطباعة والنشر ـ العدد 51
(15) عذراء ووحش
مجموعة قصصية
مايو 1963
الكتاب الذهبى
(16) مدينة الأحلام
أدب الرحلات من الشرق والغرب
1963
الدار القومية للطباعة والنشر
(17) مساء الخميس
مجموعة قصصية
يونية 1966
الكتاب الماسى ـ الدار القومية للطباعة والنشر ـ العدد 157
(18) صقر الليل
مجموعة قصصية
1971
كتاب اليوم ـ مؤسسة أخبار اليوم
(19) السفينة الذهبية
مجموعة قصصية
1971
دار الشعب
(20) الباب الآخر
مجموعة قصصية
1977
2001
الهيئة المصرية العامة للكتاب
مكتبة الأسرة
(21) صورة فى الجدار
مجموعة قصصية
1980
مكتبة غريب (دار غريب للطباعة بالقاهرة)
(22) الظرف المغلق
مجموعة قصصية
1980
مكتبة غريب (دار غريب للطباعة بالقاهرة)
(23) السكاكين
مجموعة قصصية
1983
مكتبة غريب (دار غريب للطباعة بالقاهرة)
(24) عودة الابن الضال
مجموعة قصصية
1993
2001
دار الشعب
مكتبة مصر
(25) قصص قصيرة
مجموعة قصصية
2000
المجلس الأعلى للثقافة
(26) الغزال فى المصيدة
مجموعة قصصية
2002
نادى القصة

الأعمال الكاملة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب
الجزء رقم 1 :
1985 يحتوى على المجموعات القصصية :
العذراء والليل ــ الأعرج فى الميناء ــ حدث ذات ليلة .
الجزء رقم 2 :
1986 يحتوى على المجموعات القصصية :
العربة الأخيرة ـ الذئاب الجائعة ـ فندق الدانوب

مختارات :
(1) قصص من اليابان                 مكتبة مصر 2001
(2) قصص من هونج كونج .         مكتبة مصر 2001
(3) قصص من الصعيد .                      مكتبة مصر 2001
تحت الطبع :
(1) المأخوذ مجموعة قصصية  * قصص لم تنشر من قبل لمحمود البدوى .
(2) الرماد المشتعل .
مؤلفات عن محمود البدوى
(1) سيرة محمود البدوى ـ على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ــ مكتبة مصر 2002 .
(2) محمود البدوى والقصة القصيرة ـ على عبد اللطيف ـ مكتبة مصر 2001 .
(3) محمود البدوى ــ علاء الدين وحيد ــ دار سنابل للنشر 2000 .
(4) محمود البدوى عاشق القصة القصيرة ــ محمد قطب ـ 1987 ــ الهيئة المصرية العامة للكتاب .
فهـرس بالمحتويات
العنــــــــــــــوان
الصفحة
الإهداء إلى الأديب الدكتور عبد العزيز الدسوقى ..............
جائزة الدولة التقديرية ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى ......
محمود البدوى .................................................
قصة الإهداء ..................................................
مقدمة بقلم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ..............
قصة الغزال ................................................
قصة صوت البحر ......................................
قصة البرج ......................................
قصة صقر الليل ......................................
قصة الأصلع ......................................
قصة الرجل الأعزب ......................................
قصة السلسلة ......................................
قصة فى القفص ......................................
قصة الأخرس ......................................
قصة صقر البحار ......................................
قصة الجمال الحزين ......................................
قصة النافذة ......................................
قصة امرأة أحلامى ......................................
قصة البواب الأعرج ......................................
قصة روح الفنان ......................................
بيان عن القصص المستوحاة من الإسكندرية ....................
مؤلفات محمود البدوى ......................................

3
4
5
6
8
14
37
62
80
92
102
117
133
154
163
178
191
199
211
219
231
233




(1) نشرت بصحيفة الجمهورية فى 17 / 8 / 1982 .  (عودة الابن الضال)
(1) نشرت عام 1971 بمجموعة السفينة الذهبية .
(1) نشرت بصحيفة أخبار اليوم فى 27/ 5/ 1961    (عذراء ووحش)
(1) نشرت بمجلة آخر ساعة فى 13 / 9 / 1961   (عذراء ووحش)
(1) نشرت بمجلة آخر ساعة فى 18/ 4/ 1962 (زوجة الصياد)
(1) نشرت بصحيفة المساء الفنى فى 12/ 12/ 1962  (عذراء ووحش)
(1) نشرت عام 1966 بمجموعة مساء الخميس
(1) نشرت بمجلة الجيل الجديد فى 6/ 12/ 1954   (الجمال الحزين)
(1) نشرت بمجلة الجيل فى 3/8/ 1959  (عذراء ووحش)
 (1) نشرت عام 1941 بمجموعة فندق الدانوب
(1) نشرت بمجموعة قصص العربة الأخيرة الصادرة عام 1948
(1) نشرت بمجلة دنيا الفن فى 20/ 1 / 1948 (العربة الأخيرة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق