السبت، 11 أبريل 2015

القصة المصرية صورة فى الجدار للأديب المصرى الراحل محمود البدوى







صورة فى الجدار

     دعتنى " سهير " لزيارة مرسمها فى قصر الفنانين بالغورية ، ولبيت الدعوة رغم حرارة الجو الشديدة فى ذلك النهار ، ورغم ازدحام شارع الأزهر ، وسوء حالة المواصلات فى هذا الحى التجارى الصاخب ..
     ولم أفكر وأنا فى الطريق إليها ، فى كونى سأجد فى لوحاتها ما يهز المشاعر ، أو يحقق رغبة فنية بعيدة المنال .. لم أفكر فى هذا اطلاقا ، بل كنت فى واقع الحال أريد أن أقضى معها ساعات طويلة فى مكان هادىء بعيدا عن العيون ، ولم يكن هناك ما هو أنسب من هذا المكان . إذ كنت فى شوق شديد إليها بعد انقطاع طويل الأمد ، لم يكن لأحدنا سبب فيه ، فقد باعدت بيننا الظروف ، فانفصلنا بقسوة ، بعد عشرة هنية فى المعهد الإيطالى بحى عابدين استمرت فى صفاء ، بعيدا عن كل عواصف الحياة ، وكنا ندرس معا اللغة الإيطالية فى صف واحد ، وتوطدت بيننا فى ذلك الوقت مودة صادقة ، حسبها الزملاء فى المعهد حبا مسيطرا على القلب ..
     وكنت قد زرت القصر قبل ذلك مرة واحدة ، ولاتزال فى ذهنى صورة عنه ، وأن كانت باهتة ..
     وهو مكان هادىء جميل ، يطالعك منه السكون المطبق ، ولاشىء فيه حى ، غير أولئك الفنانين الذين يعملون فى داخل حجراتهم ..
     وتستطيع أن ترسم فيه فى هدوء ، وأن تسترجع أو تستلهم العصر الفاطمى ، أو العصر الأيوبى ، أو العصر المملوكى ..
     كما تستطيع أن تطالع ، وأن تكتب . كما تستطيع أن تصور فيلما .. وأن ترتكب جريمة قتل ، دون أن يحس بعملك أحد ممن فى داخل المبنى ..
     والمكان شبه مهجور ، وتدرك ذلك لأول وهلة بمجرد ما تضع قدمك على بابه الكبير ، وإذا دخلت فيه أصبحت فى تواهة ، ويصعب عليك أن تهتدى لصاحب " المرسم " مهما تكن خبرتك السابقة بالمكان . ولهذا اتفقت على أن تنتظرنى " سهير " فى حوش المبنى ، وفى مواجهة الباب ، فى الساعة العاشرة تماما من صباح يوم الإثنين ..
     ووجدتها وحدها فى الساحة ، وعلى وجهها اللوعة .. وكنت قد وصلت بعد الموعد المحدد بثلث الساعة .. لخطأ فى تقدير المسافة ، سيرا على الأقدام من شارع خيرت إلى حى الغورية ، لأنى لم أسلك الطريق الصحيح فى مثل هذه الحالة ..
     ولو مشيت من شارع خيرت إلى الناصرية .. إلى عابدين .. إلى شارع حسن الأكبر .. إلى باب الخلق .. إلى باب المتولى .. ثم إلى الغورية لوصلت فى الميعاد ..
     ولكننى اتخذت طريق شارع عبد العزيز والعتبة .. وكنت مخطئا .. وجاهلا بالتقويم المساحى للمدينة .. 
     ووجدتها واقفة فى قلق .. وقد فقدت الأمل فى وصولى .. لأنها تعرف عنى شدة الحرص على المواعيد ..
     وكانت فى ثوب أرجوانى من قطعة واحدة .. مقصوصة الشعر .. عارية الساقين .. تلبس حذاء صيفيا خفيفا تطل منه أصابع قدميها .. وجعلها هذا شبه حافية ..
     وقالت فى عذوبة وكل نبضات وجهها تنطق بالفتنة :
     ـ لماذا تأخرت ..؟
     ـ الواقع أنه لاعذر لى .. فقد أخطأت فى تقدير المسافة ..
     ـ أجئت من عابدين ..؟
     ـ لا .. من العتبة ..
     ـ اتخذت طريق " السوارس " منذ القدم .. لأنى غبى مثل البغل الذى كان يجرها ..
     وضحكت " سهير " واهتزت شفتاها القرمزيتان .. وبرزت أسنانها فى صفاء اللؤؤ .. وظهر رضاب شفتيها .. واشتد سواد عينيها .. وبدا فيهما بريق خاطف امتد مع الضحك وتلألأ .. وقالت :
     ـ هيا ..
     ومشيت وراءها فى المكان الموحش .. وأنا أتلفت يمينا ويسارا وبصرى على الأبواب المغلقة فى الساحة الواسعة .. عساى أجد فيها بابا مفتوحا .. أو انسانا يتنفس ، فيقلل من وحشة البناية .. ولكن لم أجد أحدا .. وحتى الغرفة التى على يسار الداخل من الباب لم يكن فيها الملاحظ ولا الفراش ..
     وأحسست بالخوف عندما وصلنا إلى بداية السلم الحجرى .. فقد دخلنا فى ظلمة خفيفة .. ولكنها مخيفة .. ولكنى قاومت الخوف ..
     وسمعتها تقول وهى تعتمد بذراعها على عضد الحائط :
     ـ إصعد ..
     ـ أصعد ..! وكيف أصعد أمامك .. هل أعرف الطريق ..؟
     ـ إصعد وأنا أدلك ..
     وظهر الخجل على وجهها واضحا ، وخفت الصوت .. وتضرجت الوجنتان .. وبدا أنها تعانى من خفر طبيعى آسر ..
     وأدركت الموقف لغبائى بعد نصف دقيقة من التوقف .. وكان يمكن أن أدركه على التو .. لو كنت خبيرا بمثل هذه المواقف .. فهذه حركة طبيعية من أنثى ناضجة .. فإن طلوعها السلم أمامى ، سيكشف ساقيها وباطن فخذيها .. ولا حيلة لها فى تغطية هذه المفاتن مادمت وراءها ..
     وصعدت أمامى بعد إصرارى على الجهل بالطريق .. وصعدت وراءها وأنا مغمض العينين ، ومفتوح العينين .. فإن الظلمة الخفيفة ، ودوران السلم جعلتا بصرى يحدق أكثر وأكثر .. وكانت تحدثنى بمكر لأنشغل بالحديث عن النظر ، ولكننى كنت أنظر وأجاوب فى اقتضاب وسهوم ، وأنا أحس برجفة فى قلبى بعد كل درجة أصعدها ..
     وأخيرا وصلنا إلى باب مرسمها فى الطابق الثالث .. وفتحت الباب ودخلنا فى حجرة صغيرة ، ولكنها نظيفة ، وكل ما فيها كان مرتبا وموضوعا فى مكانه .. حشية طويلة عالية بجانب النافذة للراحة والاسترخاء .. ومنضدة وثلاثة كراسى من الخيرزان .. وطاولة فى جانب وأمامها لوحة منصوبة .. وفرش وألوان .. ثم لوحات تغطى جدران الغرفة إلى السقف .. وأبريق ماء .. ودورق كبير على يمينه كوب .. ووابور لصنع القهوة والشاى ..
     وجلست على الحشية أتطلع لكل هذا ، وأنا مفتون بنظافة الحجرة وتنسيقها .. وسألتها :
     ـ ألا يوجد فنانون غيرك فى هذه البناية ..؟
     ـ يوجد طبعا .. ولكنك لاتحس بوجودهم ..
     وأخذت تصنع القهوة ، وأنا أتأملها عن قرب ..
     وبعد أن شربنا القهوة .. بدأت ترينى رسومها ..
     ولاحظت أنها تكرر رسما لوجه رجل واحد فى كثير من هذه اللوحات ، وأن ذلك قد يكون جاء عفوا ، وعن غير قصد ، دون أن تدرى ، وهى تحسبها وجوها مختلفة ..
     وسألتها :
     ـ لمن هذا الوجه ..؟
     ـ أنه ليس لأحد .. أنه من الذاكرة ..
     ـ ولكننى أتصور أننى التقيت به على ظهر باخرة ..
     ـ ولماذا على ظهر باخرة ..؟
     ـ هذا ما أحس به فى داخلى .. وقد يكون ذلك لأنى كثير الأسفار ..
     ـ قد يكون تصورك صحيحا .. فما أكثر الوجوه المتشابهة ..
     ثم شرعت ترينى باقى اللوحات التى فى الغرفة .. وكان معظمها عن حى الغورى ، وكانت طبيعية فى رسمها .. وتستعمل الزيت والفرشاة .. كما تستعمل الماء .. وتستعمل الفحم .. ولم أجد فى أى رسم منها الغموض الذى شاع فى الفنانين الجدد ، وإن كنت قد وجدت بعض الرمز ، ولم أجد فى هذا ما يستحق اللوم ..
     وقالت فى دماثة :
     ـ بعد كل هذه الرسومات .. أريد أن أرسمك أنت يا شوقى ..
     ـ يسعدنى هذا ..
     ـ مادام الأمر يسعدك .. فمتى تحب أن تبدأ ..؟
     ـ كما تشائين .. من الغد ..
     ومرت ساعتان ونحن فى حديث متصل عن الماضى والحاضر .. ثم نظرت إلى ساعتها وقالت :
     ـ والآن نريد أن نتغدى .. فما الذى تحبه .. كباب وكفته .. أم نيفة ..؟ وأنت ضيفى ..
     ـ ضيفك .. قطعا لا.. فأنا رجل وأكبر سنا .. ولا أقبل هذا الوضع المقلوب ..
     ـ طفت وسحت بكل البلاد .. ولاتزال بعقلك القديم ..لم تتطور ..
     ـ أن التطور لايحدث فى هذا ..
     ـ المهم أن نأكل .. ولاداعى للنقاش .. وتصرف كما تحب وترغب ..
     ونهضت لأخرج وأجىء بالطعام .. فقالت :
     ـ أبدا .. سأنزل أنا .. أنت لاتعرف السوق ..
     ـ ياستى .. لقد قضيت شبابى فى هذا الحى فكيف لاأعرفه ..
     ـ طيب .. خذ هذا الكيس النيلون .. وليكن الطعام لثلاثة .. فعندنا ضيف وسأنتظرك تحت ..
     ـ ولماذا تحت ..؟
     ـ أخشى أن تضل الطريق وأنت صاعد ..
     ـ أبدا .. أنا أعرف الطريق إلى غرفتك أحسن منك ..
     ومشت معى إلى بسطة السلم .. وأنا أشعر بفرحة لم أشعر بمثلها فى حياتى .. ولم أسألها عن الضيف الثالث من يكون .. مادام سيأتى وأراه على الغداء ..
     ولما هبطت الدرجات ، وخرجت من البوابة ، وأصبحت فى الشارع ، واختلطت بالناس ، انتابنى الخوف .. خشيت أن أرجع ولاأجدها .. فعندما كانت غائبة عنى ذاب الشوق ، وذهب أباديد مع الأيام .. ولكن عندما وجدتها ، والتقيت بها ، عاد الشوق ملتهبا وحارا .. وكان ولعى بها فى كل الحالات متوهجا ، حتى ونحن فى المعهد الإيطالى ، وكان جسمها فى ذلك الوقت أكبر من سنها .. كان متكاملا ومثيرا .. وكانت ناضجة فى هذه السن المبكرة ومتفتحة للحياة ، وكنت كلما رافقتها فى جولة قصيرة إلى أن تركب الترام إلى بيتها .. أحس بعيون المارة تصوب نحونا كالسهام ، وكنا نتلافى هذه العيون مااستطعنا ، ونختار الأماكن المظلمة فى السير والتجوال ..
     ولما رجعت بالطعام وجدتها أعدت المائدة بذوق وبراعة .. استعملت كل شىء يمكن استعماله كأداة من أدوات المائدة .. حتى أصبحت مائدة متكاملة ..
     وجاء الضيف الثالث فى منتصف الساعة الثالثة بعد الظهر .. وكان شيخا محطما قد جاوز الثمانين ، يرتدى بدلة كحلية قديمة وقميصا غامقا .. وقد أطلق لحيته ، وترك شعر رأسه الأبيض يطول حتى يكون هالة لوجهه البيضاوى الأسمر ..
     ورحبنا به وحدجنى بنظرة فاحصة ، إذ كانت عيناه هى كل ما بقى فيه من حياة .. وعرفتنى به " سهير " كأستاذها فى الرسم ، وأطرته وحمدت صفاته ، وبالغت فى فنه حتى شعرت بالغيرة منه .. وكان موضع العطف منها ، طوال ساعة الطعام ، تقدم له هذا وتؤخر ذاك ..
     كانت تحنو عليه فى بنوة لم أشاهد مثلها فى بنت نحو أبيها .. وتذكرت الوجه الذى تكرر ملامحه فى رسمها ، ومعظم لوحاتها .. فأدركت أنه وجه هذا الرجل فى شبابه .. كان مستحوذا على قلبها تماما .. وكانت مأخوذة ومتيمة به فى شبابه ورجولته .. وأصبح فى شيخوخته موضع العطف والحنان ..
     وعلمت من حديثها أنه يأتى فى غالب الأيام ليتغدى معها .. وأنه يعيش فى وحدة مرة .. فليس له من أهل فى القاهرة ، ولا فى سواها من المدن المصرية ..
     وساءلت نفسى إذا كانت تغديه .. فمن الذى يعشيه ..؟ وشعرت بغصة .. كان رساما ، وانقطع عن الرسم لضعفه وشيخوخته وأصبح يعيش فى بطالة وفراغ وجوع ..
     وقالت لى " سهير " أنه ينام فى حجرة مظلمة كئيبة فى حى " المغربلين " فى بيت متهدم كل ما فيه ينهار وينذر بالسقوط .. وكلما ذهبت إليه ، وصعدت السلالم شعرت بأنها ذاهبة ولن تعود ..
     ولكن من عجائب القدر أنها تعود .. لتشقى مع شقاء هذا الفنان المسكين ..
     وهو مع شقائه مكافح ، وعنده جلد على التغلب على الصعاب .. وقد تفرغ وهو مريض وجوعان لعمل لوحة عظيمة وضع فيها كل ما فى فنه وروحه .. من طاقة .. ولكن لم يتقدم لشرائها إنسان ..
     وظلت مطمورة فى حجرته الكئيبة حتى طمسها التراب ..
*** 
     وعصفت برأسى الخواطر .. الجوع موجود فى كل مكان فى العالم حيث لايوجد النظام ..
     وتذكرت الصورة المشرقة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، عندما كان يعفر لحيته بالدخان ، وهو ينفخ فى النار تحت القدر الذى وضع فيه الطعام لأطفال جياع ..
     هذه كانت دولة النظام والعدل فى أعلى مراحلهما .. أعلى ما يمكن أن يصل إليه حكم الإنسان ..
     وأخذ الرسم البيانى فى الهبوط .. فهل يعود إلى الصعود ، ونحلم بالعصر الذهبى للإنسان .. فنقضى على الجوع ..
     واستفقت من خواطرى على حركة من الشيخ .. فقد أبدى رغبته فى العودة إلى بيته ، ونهض فعلا ..
     ونزلنا معه أنا " وسهير " لتوصيله إلى مسكنه .. وعلى باب البيت سلمت عليه ، ودخلت معه " سهير " حتى بسطة السلم .. وشاهدتها تضع فى جيبه ورقة مالية فى خفاء وهى تحسبنى لم أر ذلك .. وخرجت منشرحة الصدر ..
     وأخذنا الطريق إلى مرسمها لنستريح ..
     وقالت سهير بعد أن دخلنا حجرتها :
     ـ أتشرب كوبا من الليمون ..؟
     ـ لابأس منه .. ولكن أفضل عليه فنجانا من القهوة ..
     ـ قهوة مرة ثانية .. ألا تفكر فى النوم ولو ساعة ..؟
     ـ القهوة لاتأثير لها على أعصابى .. أنام بعد شربها على التو ..
     ـ سأعد الليمون .. ثم القهوة ..
     ـ هذا شىء جميل ..
     وبعد أن شربنا الليمون والقهوة ، واسترحنا قليلا أخذت تهىء لى الحشية .. وقالت :
     ـ استرح هنا .. وأنا سأتمدد هناك وأعمل لنفسى حشية أخرى ..
***  
     وتمدد كل منا فى مكانه .. اختارت لى مكانا بجوار النافذة لأشعر بطراوة الهواء .. أما هى فنامت هناك وراء الطاولة ، حيث تقوم لوحتها الكبيرة التى مازالت تعمل فيها ..
     وأغلقت عينى ، كما أغلقت هى عينيها ، ولكنى كنت على يقين من أنها لم تنم .. ولاأدرى كيف سرحت بها أحلامها ..
     وفتحت عينى فوجدتها نائمة بطولها على الحشية .. ورأسها المقصوص يعطيها وجه الصبى الناضر .. لم تكن قد ثنت فخذا ، ولا حركت قدما طوال هذه الرقدة منذ وضعت ظهرها على الحشية .. وعجبت لهذه المقدرة " اليوجية " أنه شىء لايقدر على مثله إلا من مارس لعبة " اليوجا " وبرع فيها ..
*** 
     وفتحت عينيها فوجدتنى أنظر إليها .. ولعلها أدركت ذلك .. دون أن تكون فى حاجة للنظر ..
     وقالت :
     ـ ألم تنم ..؟
     ـ أبدا ..
     ـ الغرفة حارة ..؟
     ـ بالعكس انها جميلة الهواء ..
     ـ إذن نخرج ونتجول فى خان الخليلى .. ثم نطلع إلى الدراسة ..
     ـ هذه جولة جمياة .. تذكرنا بماضى أيامنا ..
***  
     وسرنا فى حى الغورية متجاورين على مهل ، من شدة الزحام .. وأحسست بنظرات المارة تصوب إلينا كالسهام .. كان جمالها مثيرا ، ويلفت الأنظار من أول وهلة .. وخشيت من هذه النظرات الوحشية .. ولعنت نفسى لأننى لاأحمل مسدسا .. فكيف أدافع عنها ، وأنا مجرد من السلاح ..
     وعندما صعدنا إلى " الدراسة " شعرت بخوف مضاعف فماذا يحدث لو مرت بجوارنا سيارة .. وخطفوها .. كيف أدافع عنها وأنا أعزل .. كيف أدافع عنها فى هذا الظلام ، وهذا السكون أمام قوى الشر ..؟
     إن الشر عندما يضع قدمه فى المكان الآمن يحوله إلى جحيم .. يحوله إلى أشد الأماكن خطورة ، ويقلب نوره الباهر إلى ظلام مطبق ..
     كانت تشعر بقلقى ، ونحن فى الفضاء الواسع ، قريبا من المقابر .. والشمس قد غربت ، وأضيئت المصابيح البعيدة ..
     وسألتها :
     ـ أين تسكنين ..؟
     ـ فى العجوزة ..
     ـ سأوصلك ..
     ـ لاداعى لهذا التعب .. سآخذ " تاكسى " ..
     وحاولنا إيقاف تاكسى بكل الوسائل .. وانقضت ساعة كاملة دون نتيجة .. وانطفأ النور فجأة ..
     وسرنا على مهل ، ونحن فى حالة يأس من الركوب .. ولم تقبل ركوب الأتوبيس إطلاقا فى هذا الزحام الشديد وعلى الأخص بعد انطفاء النور ..
***
     وعاد النور ففرحنا .. ولكن فوجئنا بانقطاعه مرة أخرى بعد عشر دقائق .. وأصبحنا فى ظلمة شديدة .. فسرنا ببطء شديد .. ثم توقفنا بعد أن أحسسنا بخطورة السير بجانب السيارات التى تسرع فى جنون فى هذا الظلام ..
     وقالت " سهير " فى رقة وهى تدير عينيها من حولها :
     ـ ان أقرب مكان إلينا " المرسم " فلنذهب إليه حتى يعود النور ..  
     وكان حقا خير مكان يأوينا فى هذا الظلام ، ويقينا من شر الليل ، وشر الظلام ..
     وابتعنا شمعة ، وابتهجت لما وجدت باب البناية لايزال مفتوحا ، ودخلنا على ضوء الشمعة .. وأمسكت " سهير " الشمعة بيد .. ويدى بيد .. وصعدنا ..
     وكنت أشعر بفرح غامر .. فى هذه الظلمة .. وهذا السكون ، وشعرت بأننا وصلنا إلى العش الذى هيأه القدر لنا دون أن نبذل جهدا ..
***
    أضاءت الشمعة الغرفة الصغيرة التى اتخذتها " سهير " مرسما بنور هادىء جميل .. نور أحببته وأحببت هدوءه ، وذكرنى بنور القمر الفضى فى القرية .. نور جميل ينساب فى رقة ، ولايؤذى البصر ، ولايثير الأعصاب .. نور مريح للقلب والنفس معا ..
     جلسنا متجاورين على الحشية صامتين .. تسبح خواطرنا فيما يشبه الأحلام .. ونسينا أنفسنا .. ونسينا وجودنا كله ..
     ونسينا الظلام فى الخارج وانقطاع النور ..
     وكنا نسبح معا فى ضوء الشمعة .. نسبح فى خواطر جميلة .. وصوبت إلىّ نظرة حالمة .. وقرأت فى عينيها الرغبة .. فأمسكت بيدها ..
     وأمسكت بيدها ، وشعرت بالنعومة والعذوبة .. ولمست الحنان ، وهى تشد على يدى فى دلال .. وتتحول بجسمها وتكاد تضغط على صدرى .. وكدت أن أقبلها وأن أضمها .. ولكن لمحت باب المرسم لايزال مفتوحا .. فاتجهت نحوه لأغلقه ، وأنا أحس بضربات قلبى ..
***  
     وقبل أن أصل إلى الباب ، وأدير مقبضه لأغلقه ، لمحت صورة .. صورة لرجل فى منظار أسود معلقه فى اطار ذهبى .. فسألتها :
     ـ صورة من هذه ..؟
     ـ انه زوجى ..
     ـ ولماذا المنظار الأسود ..؟
     ـ لأنه أعمى ..
     وأحسست بخنجر يمزق أحشائى .. أن العين العمياء تنظر إلىَّ فى سخرية قاتلة .. انطفأت الجذوة التى اشتعلت فى جسمى ، وحل محلها لوح من الثلج حط على عاتقى .. وأحسست بالبرودة الشديدة وبالرعشة .. وأنا راجع عن الباب دون أن أغلقه ..
     تركته مفتوحا كما كان ..




================================= 
نشرت القصة بمجلة الثقافة بعددها رقم 50 فى نوفمبر 1977وأعيد نشرها فى كتاب " صورة فى الجدار " سنة 1980
=================================











القطار الأزرق
   

          

       التقيت " بنادية " لأول مرة بفندق أوكرانيا فى مدينة موسكو ، وكانت واقفة فى الصف أمام عاملة المقصف ، وتحاول أن تجعلها تفهم بالإشارة وبكـل وسائل التعبير ما تريده من أصناف الطعام ولم تنفع هذه الوسيلة ، فتلفتت نادية إلى ناحيتى وأشارت إلى الأطباق التى أمامى على المائدة لتأتى لها العاملة بمثـلها تماما ..

    ولما تناولت الطعام من فوق الرف واستدارت ، بحثت بعينيها عن مائدة خالية ، فلما لم تجد ظهر عليها الضيق ، فلوحت لها بيدى لتتفضل وتجلس إلى مائدتى ، فجلست تأكل افطارها صامتة بعد أن عبرت لى عن شكرها بهزة خفيفة من رأسها .
    وتصادف بعد ذلك ركوبنا المصعد معا وهو صاعد ونازل فى طوابق الفندق ، وكانت تفتح عينيها السوداوين على سعتهما وتحدق فى وجهى كمـا كنت أفعل مثلها فى صمت دون أن نتبادل كلمة واحدة .
    وتقابلنا ساعة الظهر فى " الجوم " وكانت مع رفيقة لها فى مثل أناقتها وشبابها وحيويتها ، ومع أن رفيقتها بدت لى روسية خالصة .. ولكنهما تاهتا مثلى فى طرقات المتجر ، فقد كنا نلف جميعا وندور فى هذا التيه دون أن نهتدى إلى باب الخروج .. وكلما تقابلنا ابتسمنا ابتسامة تجمع بين المرارة والعجز ..!
     وكنت كلما رأيتها نسيت ما أنا بسبيله .. وأشعر بأنى سأظل على اتصال دائم بها كلما تحركت فى قلب المدينة الكبيرة ، وأن صورتها لن تبرح خيالى أبدا ، وبدا لى جليا أنها تدعونى ولا تستطيع التعبير عن ذلك بالإشارة ولا بالكلام .
    وفى صباح يوم وقفت على باب المصعد فى الدور التاسع كعادتى لأنزل إلى الطابق الأرضى وكان السهم يشير بأنه نازل .. فضغطت على النور ، ولما وصل طابقى وفتح الباب ، وجدته ممتلئا كله بالنساء من المضيفات اليابانيـات وغيرهن .. وليس فيه موضع لى .. فبقيت مكانى .. وأشرت للعاملة فى أسف .. بأن تواصل طريقها فى النـزول .. ولكنها لم تفعل وظل الباب مفتوحا ..
      وسمــعت صوت نادية من الداخل يردد مع صوت العاملة :
     ـ تعال come .. بالإنجليزية ..
     فدخلت وسط هؤلاء الفتيات وأنا شاعر بالخجل ، وظللن يضحكن ويزقزقن كالعصافير حتى وصلنا إلى الأرض ..
     وخرجت من الفندق بصحبتها فى هذه المرة ، وأصبحنا نتجول فى المدينة معا ، وسرنى أنها تجيد الإنجليزية ، فقد تعبت من الحديث بالإشارة وأنها ذاهبة إلى " ليننجراد " مثلى .
    قالت لى أنها " فنلندية " ومسلمة وتشتغل مدرسة علم نفس وجاءت إلى روسيا فى عطلة دراسية لتـزور صديقة لها فى طشقند .. بدعوة منها .. وبعد أن توافر لها المال ..       
     وحدثتها بأننى التقيت منذ أكثر من ثلاثين سنة ، على التحقيق ، بسيدة "فنلندية " مسلمة وشابة مثلها .. على ظهر باخرة رومانية .. ونزلنا فى "استانبول " .. وقضينا ليلة جميلة على ضفاف البسفور ..
     وسافرت هى إلى " فنلندا " .. على أن تكتب لى .. وأعطيتها عنوانى فى كونستنـزا ، وبودابست ، وفينا ..
     ولكن بعد وصولى بيومين اشتعلت الحرب فجأة فى أوربا عام 1939 ، فعدت سريعا إلى مصر ، وانقطع بيننا كل اتصال .. ولا شك أنها قدرت موتى كما قدرت موتها ..
     وقالت " نادية " بعذوبة :
     ـ قد يكون تقديرك مخطئا ..
     ـ وقد يكون صائبا .. وقد تذكرت هذه السيدة الآن بحنان وشوق عندما رأيتك ..
     ـ الأنى فنلندية ومسلمة مثلها ..؟
     ـ أجل .. فكنا نتحدث معا بالإنجليزية أيضا كما نتحدث الآن فى طلاقة وود ..
     وكنت أبحث عن أفلام " للكاميرا " فاضطررنا أن نذهب إلى شارع "جوركى " .. وكان البرد شديدا والثلوج تتساقط بغزارة ، فأشفقت عليها فى هذا الجو ونحن نعبر الشارع إلى المتجر ..
     ثم خرجنا لنتغدى .. واتفقنا فى ساعة الغداء على أن نسافر فى الغد إلى "ليننجراد " ..
     وقضينا نهار السفر معا نتسوق بعض الأشياء ونودع معالم المدينة الجميلة..
     وكان القطار المسافر إلى " ليننجراد " يتحرك فى تمام الساعة الثامنة مساء .. فوصلنا المحطة والثلج يتساقط والبرودة تحت الصفر ب 25 درجة .. وكانت " نادية " متدثرة بمعطف سميك وتغطى رأسها بقبعة زرقاء وفى يديها القفاز الصوفى ، ومع ذلك خفت عليها من هذا الجو الثلجى .
     ووقفنا على الرصيف نرتعش من البرد ، وكانت المحطة خالية من الركاب تقريبا .. لأننا قدمنا قبل موعد السفر بمدة طويلة .
     وأشفقت علينا موظفة مسنة فى المحطة ، فأدخلتنا قاعة انتظار الضيوف ، فوجدنا قاعة فسيحة مكيفة ، وشعرنا على التو بالدفء والراحة ..
     وخلعت معطفى وغطاء الرأس والكوفية الصوف ، وخلعت " نادية " معطفها وقبعتها وقفازها ، وبدا شعرها الأسود مرسلا متموجا شديد اللمعان ، وتألقت عيناها بعد أن خلعت القبعة وزاد ما فيهما من صفاء ورقة ، وأسفرت عن فستان كحلى من الصوف جيد النسيج محكم التفصيل ، أضـفى سحرا جديدا على بشرة فى لون المرمر ونعومته ، وزاد الوجه نضارة وحسنا ..    
     وقدرت سنها بما لايزيد على الثلاثين سنة ، فقد بدت فى الجمال الآسر للمرأة عندما يكتمل عقلها وجسمها معا .. ويزداد بريق عينيها .. وتتفجر أنوثة وحيوية وهى تأخذ من الحياة قبل أن تولى عنها ..
     وقد أخذتنا السيدة الروسية المكلفة بغرفة الضيوف فى المحطة على اعتبار أننا صديقان أو زوجان .. رغم ما بيننا من فارق كبير فى السن ، فقد كنت أكبر من " نادية " بعشرين عاما على الأقل .. وقدمت لنا الشاى الساخن وما عندها من مجلات روسية باللغة الإنجليزية ..
     ولما أخرجت لها " نادية " علبة من الحلوى فاض وجه العجوز بالبشر وتناولت قطعة صغيرة من الشيكولاته وردت الباقى وهى تردد الشكر بالروسية التى لانعرفها ..
     ورأيت فى هذه السيدة من الحنان والأمومة مثل ما شاهدته تماما فى العجوز الأخرى التى كانت تشرح لنا باستفاضة ودقة كل طباع " تشيكوف" وأحواله عندما زرنا بيته فى هذا الصباح فى قلب موسكو ، حتى تصورت أنها هى التى ربته على صدرها ..وهو جيل عطوف صهرته الحياة وأظهرت فيه أجمل صفاته .. 
     كانت العجوز فى المحطة لاتفتأ تسألنا بالإشارة إن كنا فى حاجة إلى شىء آخر غير الشاى ، فشكرناها بحرارة ، وقلنا لها بالإشارة أيضا أننا أعددنا لليل الطويل فى القطار كل ما نحتاجه من طعام ..
     وكانت تنظر الينا فى تمعن وتطيل النظر وتحاول أن تقول شيئا لاتستطيع التعبير عنه بالإشارة ، شيئا كان يدور فى رأسها ويحتل مراكز تفكيرها ..
                             *** 
     وقبل موعد القطار بربع ساعة ، ودعنا السيدة العجوز وخرجنا إلى رصيف المحطة والثلج لايزال يتساقط وكل منا يحمل حقيبته فى يده ..
     ومررنا على صف طويل من العربات ، أنه قطار طويل ، بل أطول قطار رأيته فى حياتى .. قطار أزرق فاخر .. وعلى باب كل عربة وقفت الكمسارية بردائها الأزرق الجميل وكأنها قطعة من جماله ، وقفت ساكنة متهيئة للرحلة الطويلة .
     وكانت عربتنا هى الرابعة وراء القاطرة .. وحيتنا الكمسارية على البـاب ودخلنا فى طرقة العربة المفروشة بالسجاد إلى مقصورتنا .
     ووضعت حقيبة " نادية " وحقيبتى فى الداخل فى المكان المخصص للحقائب وخرجت من المقصورة أتطلع من النافذة وأعطى الفرصة " لنادية " لتخلع معطفها وقبعتها وكل ما كانت تتقى به البرد فى خارج القطار .
***
   وقفت أرقب الرصيف من النافذة وأنوار المصابيح الزاهية قد غشاها الثلج المتساقط فأصبحت شهباء تريح العين ، وبدا شىء أشبه بالستارة الزرقاء قد انسدل فوق كل ما يحيط بنا من أبنية وأشجار ، وكان المسافرون الذين يتحركون على الرصيف قلة من السائحين والروس وبعض الضباط بملابسهم الرسمية ..
     وبدا السكون واضحا ، ولم أسمع صفيرا للقطارات ولا زعيقا ولا ضجة ، ورأيت قطارات أخرى وكلها زرقاء واقفة حذاء الأرصفة تنتظر من يأذن لها بالمسير ..
     وأحسست " بنادية " تقف بجانبى منشرحة الصدر ، وقد غيرت فستانها وبدت كأنها تلبس رداء أعد للسفر الطويل ، وأخـذنا نتحدث ونتطلع إلى بعيد ، وكان رأسى يشتعل بالليلة " الحالمة " ..
     وظللنا نرقب الرصيف بعيون ثابتة بعد أن أزحنا الستارة كلها ، وكانت الحركة قليلة ومن يظهر من حين إلى حين من الركاب يمضى سريعا ويدخل فى جوف العربة الدافىء ومعظمهم أزواج ، رجل وامرأة فمن الذى يقضى اثنتى عشرة ساعة فى القطار وحده دون رفيق أو أنيس ..
     وشعرنا بأن القطار بدأ يتحرك ببطء وينسحب على الرصيف ، وظلت عيوننا معلقة بأنوار المدينة المتألقة وبالثلج المتساقط على الأعمدة وأسلاك البرق وفروع الأشجار . وشاهدنا من بعيد شيخا كبيرا يمشى بتؤدة فى طريق صاعد وهو يطلع وسط الثلوج ، ورغم الجهد والتعب البادين على ملامحه وجسمه ، فإنه رفض أن تعينه امرأة كانت بجانبه ..
     وقالت نادية وقد تأثرت من منظره :
     ـ إنه يتحرك بإرادته وحده ..
     فقلت معقبا :
     ـ ولعله حارب وانتصر بإرادته أيضا .. وأحسبه فقد ساقه فى الحرب .. ولكنه ظل صلدا ..
     وسلطت الكاميرا عليه ..
     فسألت نادية :
     ـ هل ستظهر الصورة ..؟
     ـ أرجو هذا ..
     وخـيل إلىّ ونحن فى الممشى أنه لا يوجد ركاب سوانا فى هـذه العربة . وكانت الكمسارية واقفة هناك على الجانب الأيمن من المدخل ، ثم تحركت وأخذت تنـزل ستائر النوافذ الخارجية كلها ، ودخلنا المقصورة وردت نادية الباب .. وحمدت الله على أن السريرين متجاوران ، فلا داعى لأن يصعد أحدنا على سلم وينام فوق سرير الآخر ..
     وسحبت " نادية " الطاولة التى بين السريرين وأخذت تخرج من حقيبة اليد بعض الأشياء وتضعها على الطاولة ..  
    وقالت وهى تدور بعينيها فى جوانب المقصورة :  
     ـ جميلة .. ؟ !
     ـ جدا .. اتفضلين هذا الجانب ، أم تحبين مكانى ..؟
     ـ شكرا أننى مستريحة هنا ..
وأخذت تجرى المشط على شعرها الأسود الناعم .. وترسله إلى الوراء وهى ترمقنى بعينيها الواسعتين بنفس النظرة الثابتة المفكرة التى كانت فى موسكو ..
     وأخرجت المجلات الإنجليزية والكتب لتتسلى بها فى القطار إن طابت لها القراءة ..
     ونهضت وفتحت الباب وأنا أقول " لنادية " :
     ـ سأطلب من الكمسارية قدحا من الشاى ، ألا ترغبين ..؟
     ـ أرغب .. ولكن الشاى يقدم عادة فى الصباح ..
     ـ ولكنى سأحاول ..
     وكانت " الكمسارية " جالسة فى مقصورتها بكامل زيها الرسمى ، فطلبت الشاى بالإنجليزية ، وسرنى أنها تعرف هذه اللغة .. فنهضت على الفور لتصنعه ..
     وحملت لنا قدحين كبيرين من الشاى ممزوجين بالسكر على عكس الشاى الذى يشرب فى قطارات الصين ، وحيت نادية وهشت وبشت فى وجهها . ودلتنى وهى تنسحب على عربة الطعام .. فشكرناها وكان معنا طعامنا .. تسوقناه من بقالة فى موسكو .. خبز وزبد ولحم بقر صنعت منه " نادية " شطائر شهية ، سنأكل منها كلما أحسسنا بالجوع ، دون أن نتقيد بمواعيد الطعام فى القطار ..
     وأخذنا نتحدث ، ونتطلع من النافذة فى جلستنا المريحة عن الليل فى روسيا فى القرى والحقول والمصانع والمدن الصغيرة والكبيرة .. وكان القطـار يمضى كالسهم ، ولكن لانحس بسرعته .
     وعجبت لإحساسى نحو " نادية " .. فبعد ساعة كاملة من الانفراد بها فى مقصورة ضيقة مغلقة الباب .. لم المس كتفها ولا خدها ولاشعرها .. ولم أشعر بالرغبة فى ذلك ولم أبادلها كلمة غزل واحدة .. أنا الذى كنت أتحرق شوقا إلى السائحات فى موسكو ، وأشتهى مضيفات الطائرات النازلات فى الفنادق وعاملات المصاعد ، وكل شابة التقى بها وأجد عندها الرغبة لمبادلتى النظر والحديث ..
     كنت أتحرق شوقا لأن أضم كل أنثى تستجيب لرغبتى .. ولما جاءت الأنثى وأصبحت على قيد ذراع منى والباب مغلق والسكون يخيم ، وكل شىء يهيىء النفس لإشعال العواطف .. لقيت نفسى باردا ميت الإحسـاس .. ميت العواطف .. لا أحس بأى إحساس مما يشعر به الرجل نحو المرأة عندما يخلو بها .. وتدفقت بدلها عواطف جديدة فى كيانى كله .. أحسست بهـا لأول مرة .. عواطف من الحنان الخالص والعطف الشديد ..      
     فلما قالت لى بأنها تشعر بصداع خفيف ، وضعت أمامها كل مـا معى من أقراص ومسكنات للصداع .. وكانت الحرارة فى المقصورة قد زادت فخرجت وتركتها لتخفف من ملابسها وتفعل كل ما تحب أن تغيره الأنثى من ملابسها وهى وحدها ولا تضايقها نظرات الرجل ..
     وعجبت أنا الرجل الأعزب الذى لم يتزوج قط ويعاشر المرأة ليصورها .. كمصور للصحف .. ويبيع صورتها دون اعتبار لصاحبة الصورة .. أنا بكل صفاتى أصبحت فجأة أحترم هذه السيدة وأجلها ، ولم أفكر قط فى أن آخذ لها صورة ..
     وكانت تقرأ خواطرى فى موسكو وتقول لى بعذوبة :
     ـ لماذا لاتأخذ لى صورة ..؟
وكنت أجيبها :
     ـ سأصورك صورة تذكارية عندما نفترق فى " ليننجراد " أما هنا فلا ..
ـ هل أنت بخيل ..؟
ـ جدا ..!
ـ إذا سأشترى لك الفيلم ..!
   أنها تخلق فى كل كلمة من كلمات الحوار جمالا بلاغيا كان يهز مشـاعرى ، وضحكت .. وكانت مسالك تفكيرى تطرد .. وكنت أخاف من شىء لا أعرفه ولذلك لم أحاول تصويرها قط . ولم أفكر فيه مع أن صورتها مغرية .. ومثيرة فى جريدتى .. شابة فنلندية مسلمة رائعة الحسن بكل الملامح الشرقية فى العينين والخدين والأنف والفم والجبين والشفة الرقيقة الحالمة ..أى كسب وأى إغراء بعد هذا .. ولكن كل حلقات تفكيرى كمصور كانت تقف عندها وتصدم بشىء أعزه فيها ولا أعرف مكنونه .
***
     كانت " نادية " قد زارت ليننجراد .. قبل مجيئها إلى موسكو وطشقند . لأن ليننجراد أقرب المدن الروسية إلى فنلندا ، ولذلك أخذت تحدثنى عن ليننجراد وما سنشاهده فيها من جمال وبهجة .
     وقالت برقة :
ـ وسنقضى يوما بطوله فى " الأرميتاج " ..
ـ يوما بطوله ..؟
   ـ واليوم لايكفى .. ألست مصورا ؟ سترى بعينيك أنه لايكفى .. إن فيه أجمل ما صنعه الرسامون فى العالم أجمع ..
    وتناولت لفافة الطعام وأخذنا نأكل على مهل ، وكان فى الكيس ثلاث تفاحات كبيرة .. فأكل كل منا واحدة ، واقترحت نادية أن تعطى الثالثة لكمسارية العربة ، وخرجت من المقصورة لتعطيها التفاحة .
    وعادت الكمسارية إلينا تشكر ومعها دفتر ، وطلبت أن نكتب لها كلمة تذكارية ، وكتبت نادية كلمة بالإنجليزية أعجبتنى جدا ، ووقعت تحتها باسمها ووقعت أنا باسمى " ابراهيم " بالحروف اللاتينية الكبيرة .
     وأرادت الكمسارية أن تعرف منطوق الاسمين فكررته لها نادية .. نادية .. ابراهيم .. والكمسارية تحاول نطق الاسمين وراءها بلكنة وأنا أضحك ..
***
     وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة بعد أن فرغنا من العشاء .. واقترحت أن نخرج إلى الطرقة ونتمشى قليلا حتى لا نصاب بالخمول ..
     فخرجنا وواصلنا السير إلى العربات الأخرى .. وكانت معظم أبواب المقصورات مغلقة ، وقليل من الركاب كان يقف مثلنا فى الممشى ..
     ولكن الوقفة بجوار النافذة والقطار يمضى ويطوى فى الليل كل شىء وراءه .. كان لها فعل السحر فى نفس " نادية " فقد تفتحت نفسها وتطلق وجهها وأخذت تدفع شفتها السفلى إلى جانب .. وتفتح عينيها السوداوين إلى ما وراء الحجب ..
     وشعرت أنه القطار الذى يطوى الزمن .. ولم أعد فى فترة الأحلام أشعر بشىء .. ثم تنبهت على يد " نادية " على كتفى ولم أتحرك من مكانى حتى لا أجرح شعورها .. إن السعادة حالة نفسية ، وقد أحسست بها فى هذه الساعة إلى أقصى مدى .. وأحسست بعد ذلك بأنها وضعت خدها على كتفى الأيسر بجانب الصدر .. قريبا من القلب .. ولم أتحرك .. وشعرت فى هذه اللحظة بأن نادية جزء من كيانى .. ولا انفصال لنا بعدها .. ولم أسألها إن كانت متزوجه أم لا .. لأنها لم تسألنى هذا السؤال ..
     واستفقت على صوتها :
     ـ نرجع ..
     وكنا قد تجاوزنا عربتنا بثلاث عربات على الأقل .. فعدنا على مهل ، وبعد أن دخلنا المقصورة بقليل واضطجعنا وأخذت تقرأ .. وأنا أقلب فى صفحات المجلات .
     سمعت نقرا خفيفا على الباب فقمت وفتحته ، فوجدت فتاة رشيقة فى الطرقة وناولتنى بطاقة عليها صورة قارئة كف مشهورة موجودة فى القطار !!
     وأخذت " نادية " تحاور الفتاة بالإنجليزية وكانت ضاحكة مرحة وفى لباس قصير جدا جعلها شبه عارية ، وقدرت أنها إنجليزية أو دنمركية ، فقد كانت شقراء الشعر وسيمة ..
     وسألتها عن العرافة :
   ـ أين هى ؟
ـ فى العربة السادسة والمقصورة السابعة ..
ـ وكم الأجر ؟
ـ عشرة دولارات ..
ـ هذا كثير ..
ـ إن الناس تسافر اليها .. وتصرف آلاف الدولارات لتراها .. ولكنها الآن موجودة وفى القطار ..!
وسألت نادية :
ـ هل ترغبين ؟
ـ لا .. أنا أعرف حظى ..!
   ثم رأينا أن نذهب لمجرد الفرجة .. وفتحت الفتاة باب المقصورة قليلا لنرى من بعيد .. فوجدنا عجوزا نحيلة تجلس مسترخية على السرير .. وشدنى وجهها بغضونه وتجاعيده .. وكانت فوق الثمانين .. وعيناها تلمعـان فى حدة وقوة أبصار غريبة كعينى العقاب
     وبدت فى جلستها قصيرة جدا ونحيفة ، ولكنها كانت تتحدث بالإنجليزية بطلاقة مذهلة ..
    وقلت لنادية :  
   ـ أدخلى ..
   فقالت :
   ـ لا .. ولكن لنقف ونتفرج ..
     ووقفنا مع الواقفين على الباب .. وكان أمر العرافة قد عرف فى القطار وأصبحت تسلية للمسافرين ، ولم يكن تسمح لغير الراغب فى الدخول .. ولم نسمع من كلامها حرفا لأنها تغلق الباب تماما ، وبدافع الفضول دخلت أنا "ونادية " وسألتها إن كنت أستطيع أن أدفع بعملة أخرى ..
     فقالت بالإنجليزية :
   ـ دولارات فقط ..!
   وتلفت نحو نادية لنخرج .. وأنا أقول :
   ـ بالعشرة دولارات نقضى يوما ممتعا فى ليننجراد ..
فهمست نادية :
   ـ إن منظر المرأة يسحرنى ..
    وأخرجت ورقة بعشرة دولارات وناولتها للعرافة ..
وسألتنى :
ـ من الذى سنقرأ كفه أنت أم هى ؟
ـ أنا ..
ـ اذن تخرج السيدة ..
ـ ليس بيننا أسرار ..
وأصرت على خروجها ..
وناولتها كفى ..
فقالت بصوت هادىء :
   ـ يدك معروقة .. وطويلة .. وخطوطها واضحة .. أسفار كثيرة .. ومن سن العشرين وأنت تسافر ، والحظ عاثر ، أرى لقاء فى سفينة بين عاشقين ، وأرى بحر مرمرة .. والبسفور ، وهاج البحر ، ودوت القنابل ، وأرى فتاة جميلة ثمـرة لهذا اللقــاء .. عاشت والتقت بوالدها بعد سنين وسنين ..
  وذهلت عند سماع قولها .. وأخذت أردد .. بحر .. مرمرة .. والبسفور ..وسفينة .. ولقاء .. وبحر مرمرة بالذات ولم تقل بحرا ككل البحور ..
     وسألت وأنا أرتعش :
     والأم ما زالت تعيش ؟
ـ أجل ..
ـ أين ..
ـ فى مدينة كبيرة .. وهى غنية وما زالت جميلة ..
     وظللت واقفا والعرق يتفصد على جبينى .. كاد وقع المفاجأة أن يصيبنى بدوار .. ثم تمالكت زمام نفسى وخرجت شاحب الوجه .
     سألتنى نادية :
ـ ما الذى قالته لك ..؟
ـ لا شىء .. مجرد أكاذيب كالمعتاد ..
     وفى المقصورة أخذت أحدق فى وجهها ورجعت أتذكر أمها .. نفس العينين وخط الأنف ونفس البسمة على الشفتين ونفس الطباع ..
     وعادت نادية تسأل :
ـ ما الذى قالته لك المرأة ؟
ـ ما الذى تقوله عرافة .. أكاذيب بالطبع ..!
ـ أريد أن أسمعها ..
   ـ قالت أنى متزوج .. وخط السعد واضح .. وتنتظرنى ثروة كبيرة .. وسأظل أسافر دوما .. ولو عرفت أننى مصرى لقالت أننا سنهزم إسرائيل فى هذا الشهر
ـ وإذا كنت لاتصدقها .. فلماذا تغير حالك بعد قولها ..؟
ـ هذا يحدث لكل إنسان ..
    وخيم بيننا الصمت ، ولم أكن أنام فى القطارات .. وتمددت لتنام هى .. بعد أن خففت الضوء وشمل الظلام المقصورة ..
ثم سمعت صوتها :
    ـ هل نمت ؟
ـ أحاول ذلك ..
ـ متى نصل ليننجراد ؟
ـ فى الساعة الثامنة صباحا ..
ـ وأين سننـزل ..؟
ـ فى فندق ليننجراد ..!
ـ حجزت ؟
ـ أجل ..
وخطر على بالى سؤال ، فقلت لها :
ـ نادية .. هل والدك موجود ..؟
ـ لا .. لقد توفى فى أثناء الحرب ..
ـ وأمك ..؟
   ـ تعيش معى فى فنلندا .. وهى لا تزال صبية وجميلة مع أنها تقترب من الخمسين ..
ـ وما أسمها ..؟
ـ صفية خير الله ..
     وارتعش قلبى ..
وسمعت " نادية " تقول بعد فترة صمت :
ـ إن صورتها معى فى الحقيبة ، هل تحب أن تراها الآن ؟
ـ فى الصباح يا نادية .. لاداعى للتعب فى الليل ..
     كنت أود أن أعيش فى ظل الشك .. ولو حتى إلى الصباح ، فالحقيقة السافرة مع كل ما تحمل من فرحة .. فيها وقع الفجاءة التى لم أكن أتوقع حدوثها قط ، فقد شطر كيانى نصفين .. إن القطار الأزرق حملنى عبر السنين إلى بعيد وأنا لا أدرى .. لاشىء ينسى .. وكل ما يحدث فى حياة الإنسان فهو لاصق بوجوده ..
     لقد كانت " نادية " أستاذة علم النفس وتقرأ أفكارى ، وتعرف هواجسى ، ومشاعرى ، وما أنا فيه من فرحة واضطراب .. ولكنها لزمت الصمت ..
     وبعد ساعة قمت وغطيت " نادية " بالبطانية .. ولم يكن جو المقصورة يحتاج إلى غطاء ..



============================================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة عدد أكتوبر 1973 وأعيد نشرها فى كتاب  " صورة فى الجدار " سنة 1980 " وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993     
=================================    






الأســرار


     سافر الدكتور حمدى زميل الدراسة بعد تخرجه من كلية الطب إلى لندن وعمل هناك فى مستشفياتها سنين طويلة .. ولما رجع إلى مصر كانت أزمة المساكن قد استحكمت فى القاهرة .. فوقع فى حيرة شديدة إذ لابد أن يفتح عيادة ويزاول عمله كطبيب أو يعود إلى الخارج كما كان ..
     وبعد بحث طويل ومشقة وجد من دله على عيادة فى شارع الفلكى لطبيب يهم بمغادرة القاهرة .
   وانتقل إليها شاكرا الله على نعمه إذ وفقه إلى المكان القريب من ميدان الأزهار حيث توجد عيادات معظم الأطباء وحيث تحققت الرغبة الدفينة منذ الصبا بالعمل فى هذا الموقع ..
     واستقر الدكتور حمدى فى مكانه وسارت أموره كطبيب على أحسن الوجوه .
     وكان الدكتور حمدى مع تفرغه للطب .. يعشق التنويم والايحاء .. ويقرأ كل الكتب القديمة والحديثة التى تصدر فى هذا الباب .. ويزاوله كهواية متمكنة من النفس .
     ولهذا خصص لجلسة التنويم غرفة خاصة فى عيادته مجاورة لغرفة الكشف .. يزاول فيها عمله فى يوم الجمعة فقط ولايحضرها إلا أخص أصدقائه .
     وكان عنده تمرجى أسمه " خليل " وهو فى الوقت نفسه فراش وخادم يقوم له بكل الأعمال .
     وكان هذا التمرجى .. ربعه فى الرجال وثيق التركيب حاد النظرة سمين الوجه أحمره .. يرتدى مريلة التمرجى البيضاء .. ولا يخلعها فى صيف ولا شتاء .. 
     وكان يعرف أصدقاء الطبيب جميعا من غير المرضى ويعرفهم بكل صفاتهم .
     ومع كثرة ترددى على العيادة ، ولكنى كنت أخاف من جوها إذا لم أجد الدكتور إو المرضى .. ووجدت التمرجى وحده ..
     كان يصنع لى القهوة ، ويستقبلنى بحفاوة وأدب ، ولكن مشيته وصمته كانا يخيفانى .
     وكنت أرى الغرفة التى يستعملها الدكتور فى يوم الجمعة للتنويم مغلقة وعلى بابها ستارة كثيفة دكناء .. وكان فى هذه الغرفة علم الدكتور وأسراره .
     وذات مساء .. دخلت العيادة وكان بابها مفتوحا .. فلم أجد التمرجى جالسا فى المدخل ، ولا فى المطبخ كعادته عندما يكون الدكتور فى الخارج .. فرجعت إلى الباب الخارجى وضغطت على الجرس لأنبهه .. ولكنى لم أسمع وقع خطواته الثقيلة استجابة للجرس ، فجلست على أول كرسى فى المدخل وأنا أدير بصرى فى كل الأبواب المغلقة .. ومرت دقائق وأنا أحس بانقباض ضاغط وبرهبة شديدة .. وأن شيئا سيقع .. أو وقع بالفعل ..
     وبعد دقائق رهيبة من الفزع والسكون ، دخل " خليل " فى خطوه الثقيل وحيا ..
     وقال يبرر غيابه :
     ـ كنت عند الدكتور " فاضل " أصلح له جهاز الأشعة .. فأرجو المعذرة ..
     وأضاف :
     سأعمل لحضرتك قهوة سريعا .. والدكتور سيأتى حالا ..
     وسريعا حمل قهوة تركية على صينية نظيفة .. وكان أحسن من يضع الفنجان وبجانبه كوب الماء المثلج .
     وكنت إذا تطلعت إليه أرى رأسه دائما منحنيا .. كان يخصنى بأدب جم .. ويعرف مقدار العلاقة الوثيقة التى بينى وبين الدكتور حمدى .. ويلمس ذلك كلما بعثه الدكتور فى طلبى لأى عارض أو ألم نزل به فجأة ..
     ولهذه العلاقة كان " خليل " يخصنى بالجلوس فى مكتب الدكتور حمدى عندما يكون هذا فى عمل بالخارج .
     وكان مكتبه عامرا بالكتب الطبية والعلمية ، ويعنى عناية خاصة بكتب التنويم .. وقد تمكنت منه هذه الهواية ، وكنت أسمع الكثير مما يقوم به ويعمله فى الغرفة المخصصة لذلك .. كانت أعمالا محيرة للعقل وخارقة ..
     ولم أكن أحضر هذه الجلسات بصفة منتظمة لظروف عملى .. ولأنى كنت ألاقى الدكتور فى نفس اليوم فى المساء فى مطعم كنا نتعشى فيه كل يوم جمعة .
     ومع براعة الدكتور فى التنويم ، ولكنى لم أكن أؤمن بهذه العملية إيمانا مطلقا .. وكنت أرتعش من مجرد تصور أن الوسيط قد لايصحو .. من نومه .. وينام نومة الأبد وما ذنب الفتـاة المسكينة .. وكانت وديعـة ورقيقة المشاعر للغاية .
     وكنت كلما رأيتها أشفق عليها وأقول لحمدى :
     ـ يا أخى .. أختر أحدا غيرها .. انها مسكينة وتعبت ..
     ـ لايصلح غيرها .. أتعتقد أن المسألة سهلة .. الوسيط له خصائص معينة .. وقد اجتمعت كلها فيها ..
     ـ نوم " خليل " .
     وضحك وقال :
     ـ خليل .. ينومنا جميعا .. !
***
     والواقع أن " خليل " يستطيع أن ينومنا جميعا كما قال عنه الدكتور حمدى .. لأنه يتمتع بارادة قوية ونظرات نافذة فيها التسلط والجبروت .. وبهذه النظرات يستطيع أن ينوم من يشاء .. ولهذه النظرات النارية ولارتباطه الوثيق بغرفة التنويم ، كنت أخافه ، فهو يعرف كل أسرارها .
     ولقد وجدته ذات ظهر فى العيادة ، وكان فى حديث حاد مع رجل يحمل حقيبة مكتظة بالأوراق .. وكان الرجل خارجا وأنا داخل .. و " خليل " لاتزال بيده الورقة التى تسلمها من الرجل الذى أدركت أنه المحضر .. لأنى كنت أعرف أن هناك قضايا بين الدكتور وصاحب العمارة بسبب الشقة لأن " حمدى " أجرها من الباطن .. وصاحب البيت يسعى إلى طرده ..
     وأعطانى " خليل " الورقة المكتوبة بالكوبيا الباهتة وبالخط الردىء الذى لايقرأ وهو يقول ..
     ـ أنظر سيادتك إلى تاريخ الجلسة 19 نوفمبر .. أو 29 الخط غير واضح ..
     فتناولت منه الورقة وقلت له :
     ـ أنها .. 29 نوفمبر .. على الأرجح .
     ـ إن شاء الله لن يكون هناك 19 ولا 29 وسيستريح الدكتور من كل هذا العذاب نهائيا .
     ـ لماذا لاتتفقون معه ..
     ـ نتفق مع من يا أستاذ رأفت .. الدكتور المهذب الجنتلمان الذى عاش فى بلاد الإنجليز يتفق مع وحش .. شيطان من شياطين الانس .. له ثلاث سنوات يعذبنا .. مرة يعلن الدكتور فى طنطا .. ومرة فى الاسكندرية .. ومرة يدعى أننا لم ندفع الإيجار ، أساليب كلها شيطانية ملتوية .
     ـ أعرف كل هذا .. ولقد حدثنى الدكتور حمدى عن الكثير .. وكان مـن الواجـب أن يعمـل العقد فى اليوم الأول من سكنه ..
     ـ لم يقبل يا أستاذ .. وحاول الدكتور بكل الوسائل ولكنه رفض لأنه جشع يجمع المال بكل الوسائل .. اشترى هذه العمارة فى أيام الرخص بتسعة آلاف جنيه .. وفيها الآن أربع شقق مفروشة تغل له أكثر من هذا المبلغ .. ومع هذا الاستـغلال البشـع لايحمـد ربنا ويريد أم يؤجر شقتنا مفروشة ..
     ـ كلهم أصبح هذا الرجل ..
     ـ العالم انقلب إلى وحوش .. والإنسان المهذب الذى يعيش بالقيم .. يستضعفه الأنذال .. الدكتور حمدى لم يرفع أجر الكشف كغيره .. ولايزال أجره جنيها وغيره يأخذ عشرة .. وليس لهم صفاته فى العلم .. ولكنهم أصحاب دعاية .. ويأتى إليهم الفلاحون من الريف مساقون وعيونهم معصوبة لايعرفون الجيد من الردىء ولا الطالح من الصالح .. ويتلذذون من الاستغلال ..
     ـ ولكـن مـا ذنبهـم إذا لـم يكن هناك من يدلهم على الطريق ..
     ـ انهم لايهتدون أبد مهما تحاول معهم .. الدكتور فاضل جارنا كشفه بجنيه وهو رجل صالح وعالم وعنده كل الأجهزة الحديثة .. للأشعة والتحاليل وغيرها ويكشف بأمانة وحرص ومع ذلك يتركونه ويذهبون إلى غيره ويدفعون خمسة جنيهات وعشرة .. جهالة عمياء ..
     والدكتور فاضل هذا عندما يذهب إليه صاحب البيت الملعون كمريض ، مع جشعه وكل صفاته ، لايأخذ منه مليما .. ويحاول اقناعه بأن يتصالح مع الدكتور حمدى ولاداعى للقضايا .. لأنها لاتوصل لنتيجة .. ولكنه لايسمع كلامه ..
     شرير يا أستاذ مسلح بكل أنواع الشر ولا يفكر إلا فى الفلوس .. كيف يتصالح مع رجل مهذب ضعيف مجرد من كل سلاح ..
     يوميا فى كل صباح يلقى علينا الزبالة متعمدا .. من شرفته .. انه يسكن فوقنا .. وأزيل كل شىء واصبر ..
     ومرة .. كان فى حالة موت .. عنده سكر شديد وربو وطلبه لاعطائه حقنة .. ولم يكن فى العمارة من الأطباء سوانا .. فأعطيته الحقنة .. ومد لى يده بعشرة قروش .. فرددتها له .. وقلت له عيب يامعلم .. داحنا جيران ..
***
     واطلع الدكتور حمدى على الإعلان الأخير الذى أرسله إليه صاحب البيت وتضايق منه جدا .. وقال لى بهدوء :
     ـ انه يتصور نفسه هرقلا .. ويستضعفتى .. من دون السكان وهذا ما يفجر غيظى .. ولقد استقر رأيى على التخلص منه نهائيا .. لقد طفح الكيل وليس هناك زيادة لمستزيد ..
     ـ كيف ..؟
     ـ سأسلط عليه الوسيط ..
     وضحكنا ..
***    
     واتجهت إلى العيادة ذات مساء .. فرأيت صوان جنازة فى نفس الشارع .. فاضطربت وحسبت أن مكروها أصاب الدكتور حمدى وأنا لاأدرى ..
     ولكن لما دخلت العيادة .. وجدت خليل التمرجى .. فى مجلسه .. وكان أكثر الناس هدوءا .. فاطمأنيت ..
     وسألته عن الدكتور ..
     فقال :
     ـ تفضل .. هوا جوا ..
     ولما دخلت عليه عانقنى .. وقال .. بفرحة :
     ـ ربنا خلصنا من المعلم ..
     ـ من ..؟
     ـ صاحب البيت .. مات ليلى أمس ..
     وسألته مازحا ..
     ـ أسلطت عليه الوسيط ..؟
     ـ يا راجل حرام .. أنا كنت أضحك ..
     وكان فرحا ونشطا .. ويحس بأن كابوسا ثقيلا رفع عن كاهله ..
     وفكرت هل يفرح الانسان لموت إنسان آخر .. هل يحدث هذا فى الحياة منذ وجدت الخليقة .. أم يحدث فقط فى هذه الأيام بسبب أزمة المساكن ! !
***  
     وكان وجه التمرجى يروعنى .. فمنذ مات الرجل وهو على حالة من السكون .
     وفكرت هل تخلص منه بحقنة قاتلة أو بغيرها من الوسائل .. لما يلقيه عليه من الزبالة من فوق ، وفعل ذلك لأنه أكثر الناس تضررا منه ..
     وهل فعل ذلك وحده وبدافع من نفسه أم بتحريض ودفع من الطبيب .. وهل يفكر الرجل المتعلم المثقف فى الجريمة كما يفكر كل الناس ..
    وما جدوى العلم والثقافة إذا كنا نتساوى فى الانفعالات والسقطات والثورات الجامحة وتنقلب إلى وحوش .. ولا فرق بيـن إنسـان وإنسـان إذا تملكه الغضب وأفلت منه الزمام ..
     ظلت هذه الأسئلة تدور فى رأسى أياما .. ثم صرفتنى شئون الحياة عنها إذ سافرت إلى الإسكندرية فى مهمة عاجلة .. ولما عدت إلى القاهرة وذهبت إلى العيادة كعادتى فى مساء الخميس وجدت الدكتور قد بكر فى الحضور عن ميعاده المسائى ..
     والمرضى على غير المألوف وأكثر من المعتاد ..
     وكان خليل .. فى مكانه من المدخل .. يدخل الزبائن حسب أرقامهم .. ويخطو فى الردهة .. بخطوه الثقيل المألوف .. ومرتديا نفس المريلة ..
     وبعد أن انصرف المرضى .. وجلست مع حمدى نتحدث وتأملت وجهه البرىء وروحه الصافية ، استبعدته تماما من الأمر فانه لايمكن لمثل هذا الانسان أن يفكر فى الجريمة على أى وجه من الوجوه .. مهما أوذى وأصيب من ضرر .
     وتعشينا سويا .. وافترقنا على لقاء فى الغد لأحضر جلسة التنويم .
***  
     وحضرت الجلسة .. فى الميعاد .. كما حضر الأستاذ رمزى صديق الدكتور الذى وقع فى بيته حادث سرقة ..
     ودخلنا الغرفة المسدلة الستائر .. وشعرت بالظلام ورهبة المكان ..
     وبدأ الدكتور ينوم الوسيط .. وكانت النقود قد سرقت من دولاب فى غرفة النوم .. فأوضح الوسيط صفات السارق بدقة .. طوله وعرضه وسنه وملامح وجهه وما كان يرتديه من ملابس وقت الحادث . فعرف الأستاذ رمزى أنه قريب له فاشل وعاطل .. وكان قد شك فيه من قبل ولكنه استبعده لصلته القريبة ..
     وقال الدكتور حمدى موجها الخطاب لى :
     ـ والآن جاء دورك :
     وارتعشت وقلت له على الفور لأقطع عليه السبيل :
     ـ ليس عندى مشكلة .. وما سرقنى أحد ..
     فقال الدكتور :
     ـ انها مجرد نزهة فى بيتك من زمان لم نزره ..
     هيا يا مديحة ..
     ـ اتجعل مديحة تتلصص فى بيتى .. لا ..
     ـ يا راجل لاتفكر هكذا .. انها زيارة ممتعة ..
     وتركته يفعل ما يشاء
     وبعد دقائق قليلة .. نامت مديحة .. وانطلقت إلى بيتى فى شارع حسن الأكبر بعابدين وقال لها حمدى ..
     ـ صفى له الشقة ..
     فوصفتها فى دقة غريبة ..
     ـ طيب .. هل يوجد أحد .. الأستاذ رأفت معانا الآن ..
     ـ يوجد ضيوف .. جالسين فى الصالة ..
     ـ صفيهم ..
     ـ سيدة مسنة .. وشابة .. ومعهما رجل أفندى طويل ..
     فارتعشت ..
     ـ صفى السيدة المسنة ..
     ـ انها بيضاء .. قصيرة .. تلبس السواد .. ملثمة بطرحة .. وعلى خدها الأيسر غمازة .
     وقال حمدى :
     ـ انها والدتك ..
     ـ والدتى جاءت من المنصورة .. الساعة .. من غير اخطار ..
     ـ أجل .. وان كنت غير مصدق .. اتصل بها بالتليفون ..
     ورد علىّ عبده الخادم ..
     فسألته باضطراب :
     ـ هل عندك ضيوف .. ؟
     ـ أجل يا أستاذ .. الست الوالدة .. وأخت حضرتك وجوزها .. 
     ـ متى حضروا .. ؟
     ـ منذ ساعة ..
     وتصورت أن الدكتور أراد المزاح واتصل بالخادم واتفق معه على هذا الرد .
     فقلت له لأزيح عن نفسى كل شك .
     ـ طيب خلى والدتى تكلمنى ..
     ولما سمعت صوتها حقا ، سقطت السماعة من يدى ، وأصابنى الاغماء !
***
     ولما فتحت عينى وجدتنى ممددا على كنبة الكشف والدكتور حمدى بجانبى ، وقد أمر خليل بأن يعد لى حقنة مقوية ..
     ولما جاء خليل بالحقنة .. كان الدكتور قد خرج من الغرفة لبعض شأنه ..
     فقلت لخليل وعلى فمى ابتسامة :
     ـ أوعى تكون الحقنة مثل الحقنة التى أعطيتها للمعلم مرسى ..
      فرد فى هدوء :
     ـ ومن قال لك يا أسـتاذ رأفـت .. أننى أعطيت المعلم حقنة .. ؟
     ـ سمعت ..
     ـ أنا لم أعطه حقنا على الاطلاق .. ولقد وجدته وحده فى بسطة الدور الثالث .. وكان المصعد معطلا والنور مقطوعا .. وقبل أن المسه كان قد لفظ أنفاسه ..
     ـ هل ضرب ..؟
     ـ أجل ضرب فى مقتل بطريقة فذة .. طريقة ليس لها نظير .. وأعظم عالم فى التشريح لايجد لها أثرا عضويا يمسك منه خيط الجريمة ..
     ـ ومن الذى فعل هذا .. ؟
     ـ لا أدرى ..
     ـ هل له أعداء ..
     ـ سكان القاهرة جميعا .. أعداؤه ..
     وسمعت خطوات الدكتور حمدى فى داخل الغرفة فقطعت حبل الحديث .. وأنا فى حيرة ورحت أتذكر خليل وهو يقول لى منذ أسابيع .. لن يكون هناك 19 ولا 29 نوفمبر .. والرجل أنتهى .. فعلا قبل هذا الموعد ..





=================================  
نشرت القصة فى مجلة الثقافة المصرية عدد يناير 1979 وأعيد نشرها فى كتاب " صورة فى الجدار " سنة 1980
================================   








 





الزورق المقلوب
    

     كنت فى طريقى إلى المغرب .. وهبطت فى مدينة " وهران " لأقضى فيها أربعة أيام .. فقد سمعت بجمالها وهدوئها .
     والذى يعيش فى القـاهرة المختنقة بالسكان ، والتى يسودها الضجيج ،يتنفس الصعداء فى أى مكان آخر ليس فيه زحام .
     نزلت فى فندق متواضع يقع فى وسط المدينة ، تقوم بالخدمة فيه النساء .. ولكن ليس فيه طعام .. فكنت آكل فى المطاعم ، وأتجول وحدى فى شوارع المدينة ما طاب لى التجــوال .. ثم أجلس لأستريح فى أول مقهى تقع عليه العين .
     والمقاهى فى وهران صغيرة وليس فيها طاولة ، ولا ضمنة ، ولا كوتشينة ، ولا تستطيع أن تجلس فيها أكثر من نصف ساعة .. وهى الفترة التى تستغرق شرب القهوة .. فكنت أضطر فى ساعات الصباح إلى ارتياد أكثر من مقهى .. وكان هذا ما يضايقنى فقد أضطر للجلوس فى مكان لا أحبه .. كما أن فيه من الاسراف ما يحز فى نفس المسافر ، وهو فى حاجة لكل قرش .
     وأخيرا عثرت فى شارع جانبى على قهوة عربية .. صفت أرائكها وموائدها وحشياتها وبسطها ، على الطراز العربى الخالص .
     ووجدت روادها يجلسون على هواهم ، وحسب رغبتهم ، ساعة وساعتين .. دون حرج .. يشربون الشاى والقهوة فى أكواب مزخرفة أنيقة .. ويتحدثون فى هدوء وسكون ..
     وفى اللحظة التى دخلت فيها من باب المقهى ، وجلست فى ركن أشرف منه على الحركة فى الطريق لأتسلى فى وحدتى .. عرف صاحب المقهى أننى مصرى .. فرحب وأوصى الغلام الذى يحمـل الطلبات للزبائن ..
     ووجدت المكان جميلا وهادئا يريح الأعصاب .. فأخذته كمستقر لى بعد أن شاهدت كل معالم المدينة وقطعتها طولا وعرضا .
     وفى الصباح التالى ترك الشيخ الوقور " صاحب المقهى " مكانه .. وجاء يؤنسنى بحديثه . وكان فى برنس أخضر وعمامة بيضاء ، وتطل الحيوية من عينيه الواسعتيــن البراقتيـن . رغم أنه فى تقديرى قد جاوز الستين .
     وكان متوسط الطول ، أبيض البشرة ، نحيف الجسم .. وله لازمة الاشارة بيديه وهو يتحدث كمعظم المصريين ..
     وبعد الترحيب بى ، والحديث المألوف عن الجو والمطر فى وهران . سألنى :
ـ أذاهب من هنا إلى باريس كالعادة .. ؟
ـ  لا .. أنا ذاهب إلى المغرب ..
ـ  سياحة ..؟
ـ  أنا مدرس فى الجامعة ..
وتهلل وجهه ..
ـ هل تعرف زبيدة .. ؟
ـ  زبيدة حمدون .. ؟
ـ  زبيدة محمد بن قاسم ..
ـ  أجل أعرفها انها تلميذتى وهى من انبغ الفتيات ..
ـ  انها ابنتى ..
 وظهر على وجهه السرور وهو يقول هذا .. وسرنى انه والد لفتاة ذكية وطيبة الأخلاق .
     وقال الشيـخ قبل أن تنحسر موجة الفرح التى غمرتنا معا .
ـ لقد شربت القهوة هنـا .. وأحب أن تشرب قهوة أخـرى فى بيتى ..
     واعتذرت له بأن المدة قصيرة .. ولكن تحت الحاحه الشديد قبلت الدعوة .
***    
     وفى ظهر اليوم التالى كنا فى بيته .. وكان يسكن فى شقة واسعة قريبة من البحر .. وفتح هو الباب بمفتاحه .. ودخلنا ولم يستقبلنا أحد .. ولم أسمع حسا فى الداخل .
     وأجلسنى إلى مائدة الطعام مباشرة .. فوجدت عليها الأطباق والأكواب والشوك والسكاكين والملاعق .. والبلح فى سعفه .
     وكانت المائدة منسقة تنسيقا جميلا ومعدة لثلاثة .. ولم أكن أعرف من هو الثالث .
     وأخذ الشيخ يحدثنى عن السنين التى قضاها فى فرنسا .. وكيف بدأ حياته شيالا ، ثم عاملا فى مزرعة وتزوج وهو فى سن الأربعين من فرنسية ماتت فى فرنسا ، وأنجب منها ولدا وبنتا .. ومات الولد وبقيت البنت ولأنها كانت صغيرة اضطر أن يجىء لها بمربية سوداء من الصحراء .
***  
     ودخلت علينا " زبيدة " تحمل تحمل آنية الطعام ، وكان سرورها بلقائى فى بيتها لايوصف .
     وسلمت وجلست .. بعد أن فرغت من تجميل المائدة بأصناف مختلفة من الطعام .. أضلاع كاملة من لحم الخروف .. ثم الدجاج المسلوق .. والدجاج المشوى .. والفطائر المحشوة .. والشوربة .. وأخيرا الكسكسى وقد أكلنا منه كثيرا لمذاقه الحلو .
     ولما كنت لا أستطيع فهم اللهجة الجزائرية فهما تاما ، وتغيب عنى الكثير من كلماتها .. فقد أخذت أتحدث مع الآنسة " زبيدة " بالفرنسية والعربية الفصحى .. وكذلك جرى حديثى مع الأب .
     ولاحظت أن أثاث البيت كله على الطراز الفرنسى .. البوفيه .. والمائدة والكراسى .. وكل ما شاهدته فى البيت وأنا داخل كان فرنسى الطراز .
     وانتقلت بعد الغداء .. إلى قاعة عربية وجلسنا على الحشيات نشرب الشاى .. وكان الجو كله فى هذه القاعة عربيا خالصا .. وكانت زبيدة هى التى تقدم كل شىء بعد أن تسمع خبطة خفيفة من الداخل .
     واشتقت بعد أن عرفت أن الرجل أرمل إلى رؤية هذه السوداء التى صنعت كل هذا الطعام باتقان وفخامة .
     ولكنها لم تظهر فى هذه الجلسة .
     وأخذنا بعد الشاى نتحدث ، والشيخ يحكى لى كيف لاقى كل أنواع العذاب فى سنواته الأولى وهو فى فرنسا .. وعندما ذهب إلى الريف وتزوج استطاع أن يقف على رجليه .. والفضل لزوجته .. ولهذا يحب ابنته لأنها قطعة منها ، وصورة من جمالها ..
     وكانت " زبيدة " تسمع كلام أبيها وهى منشرحة الصدر محمرة الخدين .. ثم أخذت تسألنى عما شاهدته فى " وهران " فذكرت لها أماكن كثيرة ..
      فقالت :
ـ وهل ذهبت إلى البلاج ..؟
ـ ذهبــت إلى البحر ولكن لم أشاهد مكانا يصلح للاستحمام ..
ـ أين ..؟
ـ هناك قرب الميناء بعد منـزلكم بخطوات .
     ـ ليس هذا هو " البلاج " .. البلاج بعد نصف الساعة بالسيارة .. ولابد أن تراه لأنه أجمل مكان فى الدنيا ..
ـ ولكنى مسافر ..
فقال الوالد :
ـ سـنذهب غدا .. وهو مكان جميل لابد أن تراه قبل سفرك .
***   
     واتفقنا على أن نتقابل فى " المقهى " فى الساعة الرابعة بعد الظهر .. ومن هناك ركبنا سيارته .. وكان هو الذى يسوق .. ومر على البيت .. وصعد اليه .. ونزلتا معه " زبيدة " ومربيتها السوداء " صالحة " وكانت فى برنس أزرق زاهى اللون يضفى انعكاسا باهرا على تقاطيع وجهها الجميلة .. وكانت لفاء العود متناسقة التركيب .. وعيناها الواسعتان تلمعان فى وهج أخاذ .. وقبل أن تدخل فى جوف السيارة القت على شخصى نظرة سريعة ولكنها فاحصة .
     أما زبيدة فكانت تلبس برنسا أبيض .. وقد غطت وجهها وشعرها ، إلا من حيث يبرز جزء من الأنف ، وتبرز العينان البنيتان .. ولولا رنة صوتها ، والابتسامة المشعة من عينيها ، لعرفتها بعد لأى ..
     وحملتا معهما الكثير من الأشياء .
     فسألت " زبيدة "
ـ لماذا هذا كله ..؟
ـ سنتعشى هناك .. كما أشارت " صالحة "
وركبت زبيدة ومربيتها " صالحة " فى الخلف .. وركبت بجوار الشيخ من الأمام ..
وانطلقنا بالسيارة فى طريق كثير المنحنيات ، ولكنه مرصوف جيدا وفى نعومة الحرير .. وكانت الحركة قليلة فى الطريق .. وعن يسارنا التلال العالية المكسوة بالعشب الأخضر .. والتى تظللها أشجار الحور والصفصاف فى أكثر من موقع ..
وكان الشيخ يود أن يصعد بى فوق هذه التلال .. لنرى الكنيسة الأسبانية .. ومغاور وكهوف الغواصات التى نحتها الفرنسيون فى الجبل ..ولكن رأيت أن نرجىء هذا إلى جولة أخرى فى الصباح المبكر ..
     وكنت أرد بصرى عن التلال الصخرية عن يسارى ، إلى البحر الأزرق عن يمينى ، وأعجب لما أعطته الطبيعة لهذه البلاد فى سخاء لاحدود له .. إن مدنهم تنهض على التلال وتغوص بأقدامها فى البحر .. فاكتسبوا طبيعة البحر وطبيعة الجبل معا ..
     وكان الشيخ رقيقا وصلبا ويسوق العربة بمهارة تجل عن الوصف .. وكنت أتلفت برأسى إلى الوراء .. وأنا أسمع شرح " زبيدة " بالفرنسية لكل ما نمر به ونشاهده فى الطريق .. أما الشيخ فلم يكن يتحدث لأن الطريق كان صعبا ، ويتطلب الانتباه الكامل وإلا سنصبح فى غمضة عين طعاما للأسماك .  
     وكانت المربية " صالحة " صامتة مثل الشيخ .. ولكنها مـن حين إلى حين تتبادل كلمات قليلة بالفرنسية مع " زبيدة " .
     وبدأ البحر الأزرق يتلون .. وظهرت السحب الداكنة فى السماء .. ظهر هذا فجأة ..وهى ظاهرة مألوفة فى أرض الجزائر فى شهرى مارس وأبريل ..
     وكنت أشعر بانتعاشة لتقلب الجو .. فأنا أريد أن أرى الطبيــعة فى أقصى ضراوتها .. بعد الحيــاة الرتيبة فى مصر ..
     وكنت أفكر فى الحظ الذى جعلنى التقى بهذه الأسرة البالغة الحد فى الطيبة والكرم .. فالأب كريم شهم ترك عمل المقهى لتابعه وخرج يرينى جمال البحر .. والبنت مثال للرقة والجمال .. والمربية مثال للوداعة والحسن .. فأى حظ هذا وأى سعادة ..
     وكان الشيخ طوال الطريق يسألنى إن كنت مستريحا لسرعة السيارة .. أو متضايقا من دخان سيجارته ، وكان يدخن بشراهة وابنته تضحك لسؤاله .
     وتقول بعذوبة :
ـ كل شىء تستطيع أن تمتنع عنه .. إلا التدخين يابا ..
ـ والله أستطيع ..
ـ أبدا ..
وكانت تضحك .
***
 وبلغنا المصيف .. وقبل أن نصل إلى منـزل الشيخ .. عرجنا على مقهى فى الشارع الرئيسى .. وكان المقهى خاليا .. ولكن الحركة فى الشارع وفى المتاجر القريبة كانت تدل على وجود الحياة فى المنطقة رغم أن الصيف لم يبدأ بعد .
وأودع الشيخ العربية فى " جراج " ومشينا إلى بيته لأن الطريق إليه كان ضيقا ولا يصلح لمرور السيارة .
ودفعنا " زبيدة " لتمشى أمامنـا على الرمـل المفروش بالحصى .. وبجوارها مربيتها وسرنا أنا والشيخ وراءهما .. وفى هذه اللحظة فقط أدركت مقدار ما فى قوام زبيدة من حسن وهى فى برنسها الأبيض .. وما يمكن أن تعطيه للرجل من سعادة .
وكانت المربية تتحرك وهى على معرفة بالطريق فأدركت أنها جاءت إلى هنا قبل هذه المرة .. بدأت ريح البحر تهب بعنف ، والشمس أخذت تغيب .. وكانت الفيلات عن يميننا وشمالنا صغيرة وأنيقة بأبوابها وشبابيكها الزرقاء .. وجدرانها البيضاء المتألقة .
شعرت بيود البحر وبالجمال حولى وأمامى ..وبالشباب والحيوية فى عروقى .. وكنت أود أن أمد ذراعى ، وأعانق الشيخ أولا لأنه هو الذى أتاح لى هذه الفرصة ، ثم أضع قبلة على جبين ابنته كأخت .. ولأنه لا حق لى بعد على تقبيلها فى ثغرها .
ووصلنا إلى الفيلا وكانت من طابق واحد على سيف البحر .. بينها وبين الماء الأزرق مد ذراع .. وكانت معدة فى الداخل للإقامة الدائمة ، وليست لفترة الصيف فقط .. وهى مكونة من غرفتين للنوم .. وغرفة للمائدة .. التى تعد للجلوس إذا اقتضى الأمر ذلك . ثم شرفة دائرة على البحر .. وفيها تستطيع أن تصطاد الأسماك بكل سهولة .
وجلست أنا والشيخ وراء زجاج الشرفة نشرف على البحر .
وأخذت زبيدة ومربيتها فى اخراج الأشياء من الأكياس .. واعداد العشاء .. وأوقدت المربية النار فى المدفأة .. وأدركت وأنا أرى النار السبب فى حمل الخشب معنا فى شنطة السيارة .
وأحسست بالدفء حتى بعد أن خلعت المعطف .. وبقى الشيخ فى عباءته .
***   
ولما جلسنا إلى الطعام ، كان الجو رصاصيا ، والسماء تمطر بعنف .. والبحر قد انقلب أسودا .
وكان من عادة الشيخ أن يشرب كأسين من النبيذ على العشاء .. وقد تعود على هذا مذ كان فى فرنسا .. وقد جاريته وشربت مثله .. أما زبيدة ومربيتها فشربتا ماء معدنيا من عيون الجبل .
وسمعنا ونحن على الطعام ، قصف الرعد ، ورأينا تشقق السماء بالشهب . وفى الساعة التاسعة ليلا كانت العودة بسبب حالة الجو مستحيلة .. فقررنا المبيت فى الفيلا إلى الصباح .. وليس فيها ما ينقص للراحة .
وكان الظلام مخيما .. ولم يكن حولنا من جاء يستمتع بالبحر مثلنا .. كان السكون عميقا ومطبقا .. ولم يكن هناك من حاجة لإضاءة منطقـة البحر ما دام الصيف لم يبـدأ بعد .. فكان الإظلام تاما فى البحر والأرض .
***   
نامت " زبيدة " ومربيتها " صالحة " فى الغرفة الداخلية .. وجلست أنا والشيخ نصطلى بالنار ونتطلع من وراء النافذة إلى البحر ..
وبدأ القمر يرسل نوره .. ولمحنا من وراء الزجاج شيئا أسود يحركه الموج .. كان يسير فى اتجاه الريح ..
وسددت بصرى ، وبدأت ملامح ذلك الشىء تتضح كلما ارتفع نور القمر .. وظهر أنه زورق صغير ..
وحدق الشيخ ونظر كما نظرت ثم قال :
     ـ انه زورق وبه رجل .. يستغيث بنا .. يلوح بذراعه .. لم يجد نورا إلا فى بيتنا ..
فقلت له :
ـ أنا أرى الزورق .. ولا أرى الرجل ..
فقال :
     ـ بل أرى الرجـــل .. وهو يلوح بيــده .. أتعرف الســباحة ..؟
ـ أجل ..
ـ لو كنت أعرف السباحة مثلك .. لذهبت إلى الرجل وأنقذته .. يا لها من سعادة أن تنقذ نفسا بشرية من الموت ..
ـ فى هذا الجو لاأستطيع .. وأشعر بالخوف ..
ـ إن الحرب مع إسرائيل أشاعت فى قلبك الخوف ..
     ـ أبدا إن الحرب مع إسرائيل لاتشيع فى قلوبنا الخوف ولو امتدت مائة عام .. وانما الخوف جاء من الداخل .. ولم يأت من الخارج قط .. وعندما ذهب شبح الخوف .. عادت الينــا القــوة .. وعبرنا القناة وانتصرنا .. ولم يعد هناك خوف ..
ـ إذن انقذ الرجل .. وإذا لم تفعل هذا سأخوض فى الماء وأنقذه ..
     ـ لا داعى لهذه المخاطرة والزورق يقترب منا وحده ..
     وكنا نتحدث وعيوننا معلقة بالزورق .. وكان يقترب ويبتعد تبعا للموج والريح .. ولكنه كان فى كل الحالات يقترب منا ..
     ولما أصبح على مدى أذرع قليلة .. نزلت فى الماء بسروالى الصوفى فى هذا الجو القارس ، وسحبت الزورق إلى الشاطىء تحت الشرفة .
     وكان قد انقلب بملاحه .. ولم يكن على ظهره أحد .. وارتديت ملابسى بعد أن علقت سروالى قرب النار .. وأخذنا أنا والشيخ نبحث فى جوف الزورق بعد أن عدلناه .. فوجدنا جورابا جلديا ربط باحكام فى العارضة الخلفية للزورق .. ولا شىء بقى سواه .. وعندما انقلب الزورق ذهبت كل الأشياء إلى قاع البحر .
     نزعنا الجراب الجلدى ، ودخلنا به الفيلا .. وجلسنا قرب النار .. وأخذنا نخرج ما فى جوفه .. وجدنا علب معلبات وأدوية .. وزجاجة خمر وخبزا مقددا .. وأشياء أخرى كثيرة حشرت حشرا .. وفى قاع الجراب وجدنا كيسا جلديا به عدة دولارات ..وبمجرد ظهور الدولارات الكثيرة تغيرت سحنتانا .. على ضوء اللهب .. وقال الشيخ بصوت مخنوق :
ـ نعدها ..
وأخذنا نعد .. فوجدناها ثلاثة عشر الف دولار .
وقال الشيخ :
ـ انها رزقك ..
ـ أبدا .. أنها تخصك أنت ..
وطال الجدل بيننا فيمن يستحق المبلغ .. وقلت لأريحه :
ـ نعطى هذه الدولارات للمربية .. ما دمت ترفضها ..
ـ أى مربية يا أستاذ " حسن " أنها زوجتى ..!
        والجمنى العجب عن التعليق .. إن الرجل الذى يأكل نصف فخذ العجل ، وفخذ الضأن فى الوجبة لابد أن يتزوج من هذه الحسناء .
    وقال الشيخ بعد تفكير ..
ـ نبحث عن اسم صاحب الزورق قد نعثر على بطاقة فى الكيس ..
وبحثنا فلم نعثر على شىء .. وقال الشيخ :
     ـ إن الزورق بشكله من زوارق الشمال .. هولاندى .. دانمركى .. نرويجى .. وهؤلاء هم الذين يركبون المخاطر فى البحار لتحقيق غرض أو نزوة .. ولكن الدولارات أمريكية ..
     فقلت له :
     ـ إن الدولار الأمريكى يحمله عادة كل مسافر .. مهما كانت جنسيته ..
وسألت الشيخ :
     - هل أنت على يقين من مشاهدتك لصاحب الزورق .. ربما كان ذلك مجرد تصور .. لاستكمال الصورة .. إذ كيف يسير زورق من غير صاحبه ..
ـ أبدا .. لقد شاهدته بعينى هاتين .. وكان يشير بيده ..
    ـ إذا كنت متأكدا من وجوده .. فقد غرق .. وستظهر جثته هنا .. إذا لم يدفعه تيار البحر وموجه بعيدا ..
وسألنى :
ـ متى تطفو الجثة على سطح الماء ..؟
ـ بعد ثلاثة أيام .. كما سمعت ..
ـ سننتظره ..
وجلس الشيخ متجهما قرب النار ، يغذيها ويفكر .. ثم قال :
ـ لو كان الرجل موجودا فى الزورق وحيا إلى هذه اللحظة ما بقى كل هذا الطعام .. الرجل غرق من زمان ..
كان منقبض النفس ويشعر بكآبة .. لم تظهر على وجهه فرحة من عثر على كنـز كان يمنى النفس به ، على مدى سنين طويلة ، ووجده مرة واحدة تحت قدميه .. لم يكن ينتابه هذا الشعور ..
وكنت بمثل كآبته وبمثل غمه ..
     وهل كان ذلك لأننا عثرنا على الكنـز معا ؟ لقد أوجد هذا المال بيننا شيئا حادا كنصل السكين قطع كل ما كان بيننا من علاقة انسانية ..
     فالشيخ الذى كان مثال الكرم والأريحية ، ويعاملنى كأخيه .. انقلب فجأة إلى طماع مغامر .. رأيته فجأة يفتح الباب الخارجى ، وينـزل إلى حيث يوجد الزورق رابضا.. ويدفعه بيديه إلى الماء ..
     وعاد وأغلق الباب ، وقد اكتسى وجهه بالهدوء .. كأنه قد محا آثار الجريمة .. أنه لم يعد الآن يفكر فى الجثة تطفو أم تذهب مع الريح .. لم يعد يفكر إلا فى المال .
***     
    وشعرنا بالتعب .. وآن لنا أن ننام .. وترك الشيخ لى غرفة النوم .. وتمدد هو على حشية فى غرفة الطعام وغطى نفسه جيدا ..
    ولم تكن " زبيدة " ولا " صالحة " قد فتحتا باب غرفتهما ، ولا اشعرتانا بأنهما قد أحستا بأى شىء مما جرى .
***
     وتمددت فى الظلام على الفراش الدافىء .. ولكننى لم أنم إن الثلاثة عشر الف دولار .. توجد لى مستقرا فى القاهرة ، وتغنينى عن الاغتراب فى البلاد التى أنا ذاهب اليها .. وتغير من مجرى حياتى تماما .. آه لو كنت قد عثرت عليها وحدى .. ولكنها تخص شخصا آخر ولو تابعنا البحث لعثرنا عليه .. فكيف أفكر على هذه الصورة المريضة ..
     كان صوت البحر عنيفا فى الليل .. ولكننى شعرت بأن الشيخ لم ينم .. تحرك فى فراشه ، وكنت أحس بخطواته .. وتصورته فتح علىّ باب غرفتى ، وربما فكر فى قتلى والتخلص منى .
     ورحت فى غفوة .. وسمعت صوتا كصوت البارود .. ولكن لما فتحت عينى لم أر وهج النار .
***     
     وفى الصباح أفطرنا فى صمت .. ولم تدر " زبيدة " ولا " صالحة " سبب الصمت ، ولا الذى حدث فى الليل .
     وعندما أخذنا نخرج من البيت نظرت إلى الكيس الجلدى ، وكان فى مكانه من الأمس لم تمسه يد .. ولكنى وجدت عليه عنكبوتا كبيرا ..
     وتقدم الشيخ وأمسك به .. وخرجنا إلى السيارة وركبنا كل فى مكانه .. ووضع الشيخ الكيس على يمينه بيتى وبينه .. وكان متجهما صامتا ..
     وتحركنا على مهل .
     وقبل أن نخرج من منطقة البيوت نظرنا إلى البحر معا .. كأن هناك جذب من المغناطيس يجذبنا لننظر فى اتجاه البحر .. فرأينا جثة الرجل المجهول تقترب من الشاطىء .. والزورق يدفعه الموج وراء صاحبه .
     وأحسست بمطارق الحديد فى رأسى وقلبى ..
     وكان الشيخ صامتا متجهما كعهده .. ولكنى رأيت العرق يتفصد على جبينه ..
     وأوقف السيارة .. وأمسك بكيس الدولارات وفتح الباب واتجه إلى البحر .. ونزل إلى الشاطىء ..
     وسألتنى " زبيدة " :
ـ ما الذى فى الكيس ..؟
ـ عناكب .. وسيرميها فى البحر ..
وكنت أفكر فى تأخرى عن السفر إلى الدار البيضاء ..
وكانت زبيــدة وصالحة تبتسمان .. فهل فهمتا .. لم أكن أدرى ..


 
نشرت القصة فى مجلة الثقافة عدد ديسمبر 1976 وأعيد نشرها فى كتاب " صورة فى الجدار " سنة 1980





صوت البحر

     اشتغلت منذ سنوات فى مكتب للسياحة بشارع شريف بمدينة الإسكندرية .. وكان صاحبه رجلا إيطاليا يدعى « لوسيانى » كثير الأعمال ، واسع النشاط ، إذ كان يقوم بأعمال أخرى تجارية غير السياحة ، وكان لمكتبة فروع فى معظم الدول الأوربية .. كما كان له شركاء لا أعرفهم ، ولم أشاهد أحدا منهم فى مدينة الإسكندرية ..
     وكان هو قليل الإقامة فى هذه المدينة أيضا.. وترك إدارة عمل المكتب لشاب متجنس بالجنسية المصرية يدعى « ميشيل » وكان مثقفًا خبيرًا بشئون السياحة إلى أقصى مدى .. ويجيد أربع لغات حية ويعرف كل شبر فى مصر وفى كل بلد له أتصال بعمل المكتب .. وكان يعتمد علىَّ اعتمادا كليا إذا سافر إلى الخارج ..
    وكان فى المكتب ثلاث موظفات أخريات من خريجات المعاهد الأجنبية منهن مصريتان .. وكنا مع اختلاف ثقافتنا وسننا نكون مجموعة صالحة تجيد الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية .. ولم نكن فى حاجة إلى لغة أخرى بالنسبة لعمل السياحة ..
     وكان العمل فى المكتب متصلا طوال أيام الأسبوع فلا اغلاق فى يوم جمعة ولا أحد .. وكنا نتناوب بيننا يوم الراحة ونترك لكل منا اختياره حسب ظروف الأحوال .. وكثيرا ما كنا تحت ضغط العمل لا نستريح أبدا .. فقد كانت سمعة المكتب حسنة فى كل البقاع ..
      وكان شعارنا الأمانة والصدق وحسن اللقاء .. وهى صفات لم نكن نتكلفها بل كانت من طباعنا ..
     وكنت اتوجه إلى عملى فى الساعة التاسعة تماما من كل صباح لا أتأخر دقيقة ..
     وفى صباح يوم من ايام الأثنين .. وكانت الساعة التاسعة إلا ثلثا .. شاهدت وأنا أمضى على الرصيف الأيسر من شارع « النبى دانيال » سيدة تعلق بعض المجلات الأجنبية على واجهة محل .. ولم أكن قد لاحظت من قبل وجود مكتبة فى هذا الشارع على الاطلاق .. لأنه كان يختنق بدكاكين صغيرة على الصفين لا علاقة لها بالكتب .. دكاكين الأحذية ، والملابس الجاهزة ، والسجائر والحلوى ، وحقائب السيدات ..
     ووقفت أسأل عن جريدة « نيوز اوف ذا وارلد » فأجابت السيدة دون أن تتحول إلى ناحيتى ، ويدها مشغولة بترتيب مجلاتها :
     ـ انها تأتى فى صباح الثلاثاء ..
     وسألتها وأنا أتطلع إلى الواجهة ..
     ـ المكتبة جديدة .. ؟
     ـ إننا هنا من تسع سنوات ..
      وواجهتنى وهى تقول هذا .. بصوت فيه لذعة السخرية من غفلتى .. ورأيتها سمينة قليلا وتقترب من طولى وهى واقفة على الرصيف .. وأنا تحته .. حتى لا يحتك جسمى بجسمها ..
      وكانت قد شغلت الرصيف كله وفتحت « فترينة » المكتبة الخارجية لتضع فيها بعض الكتب الجديدة .. وانحنت ثم انتصبت فى رشاقة وسددت إلىَّ عينين فيهما من الشحوب مثل الذى رأيته على وجهها ..
     وقلت وبصرى مركز على شفتيها المنفرجتين ..
     ـ سأمر غدا ..
     ـ مرحبا ..
      وهبطت الدرجات وتركتنى اتطلع .. ولمحت المكتبة كلها فى عمق « البدرون وهى فى طول مع اتساع ، وممتلئة إلى السقف بالكتب ، فى تنسيق جميل ..
     وعجبت لغفلتى ، وكيف لم الاحظ وجود هذه المكتبة من قبل ، مع أنى أمر كثيرًا من هذا الشارع .. وهى قريبة من مركز عملى ، وكثيرا ما احتاج للصحف والكتب الأجنبية .. فكيف كنت أبعد وأذهب إلى غيرها ..
***
     وفى صباح الثلاثاء وجدتها فى الداخل ، وكانت فى رداء غير الذى شاهدته عليها بالأمس .. جونلة رمادية على بلوزة من « الجرسيه » والشعر مقصوص متموج .. والوجه أكثر شحوبا مما كان بالأمس .. والعينان العسليتان فيهما بريق مطفى ..
     وثبتت بصرها على وجهى برهة .. وأدركت أنها نسيتنى تماما ، ونسيت أننى طلبت نسخة من « النيوز » ..
وجاءت بالصحيفة .. ونقدتها اثنى عشر قرشا ثمنها ..
     وقلت أنا أقلب البصر فى رفوف الكتب :
     ـ كنت أود أن يكون لدى وقت .. لأرى هذا كله .. ولكن الساعة تقترب من التاسعة .. أمفتوحة المكتبة بعد الظهر ... ؟
     ـ المكتبة مفتوحة طول اليوم ..
     ـ طول اليوم .. ؟
     ـ لى شريكة تأتى بعد الساعة الثالثة .. وأنا فى الصباح ..
     ـ والكتب رائجة .. ؟
     ـ الحمد للّه .. اعتمادنا كله على مجلات الأزياء الآن ..
     وكانت لهجتها مصرية خالصة وسرنى ذلك وحييتها وخرجت ..
***
     وبعد يومين الفيتها وحدها فى الداخل كالعادة .. والساعة تقترب من الثانية والنصف بعد الظهر .. وحييتها بهزة من رأسى ، وأخذت استعرض الكتب الإنجليزية والفرنسية .. ولم أكن أبغى كتابا بعينه ..
     وسألتنى بعد أن رأتنى أطلع فوق السلم المعدنى وأنزل منه .. دون أن أقع على شىء ..
     ـ هل وجدت ما تطلبه .. ؟
     ـ أبدا .. ومازلت أبحث ..
     ـ رواية .. ؟
     ـ نعم ..
     ـ ما اسمها .. ؟
     ـ الثعلب .. هل شاهدت الفيلم .. كان فى سينما « أمير » ..
     ـ أبدا .. عن إذنك ..
     وهبطت ، وطلعت هى .. وترددت قليلا قبل أن تضع قدمها على أول درجات السلم ، لأنى كنت أقف تحته مباشرة .. وأصبح وجهها فى لون الكريز عدة ثوان ..
     ثم صعدت فى خفة رغم أنها سمينة نوعا .. ولكننى أدركت موقفها وما اعتراها من خجل فلم أرفع وجهى وهى صاعدة ورفعته وهى هابطة وبيدها الكتاب ، فتناولته من يدها ، وأمسكت بذراعها الناعمة حتى استوت على أرض المكتبة ..
     وكان الكتاب من طبعة « بنجوين » وأعرف ثمن هذه الطبعة فاخرجت الأربعين قرشا .. وسألتنى وأنا أناولها النقود ..
     ـ أترغب فى لفه .. ؟
     ـ لا .. شكرا .. سأقرأه فى الترام ..
      ولم يكن هناك سبب لبقائى .. ولكننى بقيت وأخذت أدير عينى فى عناوين الكتب فى الناحية التى وضعت فيها الكتب الفرنسية ..
     فسألتنى :
     ـ أتقرأ بالفرنسية أيضا ..
     ـ أجل ..
     ـ هذا جميل .. فالكتاب الفرنسى فقد سوقه عندنا منذ رحيل الأجانب ..
     ـ ستخرج المدارس الفرنسية غيرهم ...
     ـ أبدًا .. إن هؤلاء مع الأسف لا يقرأون إلا الكتب المدرسية ..
     والفيت المجال انفتح أمامى للمحادثة .. ولما كنت أعرف أن شريكتها تأتى فى الساعة الثالثة ، فقد شعبت الحديث ، وأطلته إلى أن تجىء الأخرى ويقع عليها بصرى ..
     وفكرت فى الأشياء التى تجعلها تستريح إلىَّ بعد أن لاحظت حالة المكتبة وما هى عليه من قلة الرواد ..
     فقلت لها :
     ـ أعرف أصدقاء كثيرين .. يشترون الروايات الأجنبية من " هاشيت " وغيرها .. وسأعرفهم طريق مكتبتك .. سيكونون زبائن جدد ..
     ـ شكرًا .. شكرًا ..
      وظهر على وجهها الفرح .. بدت ابتسامة خفيفة فى العينين الساكنتين .. وتكسر الجفن قليلا ، وعلت الوجنتين حمرة ورعشة .. وبدا الوجه أقل طولا مما هو فى الواقع ..
وظل جانب منها .. من عينيها ، وشفتيها ، يلاحظنى فى إصرار لأقول كلامًا أكثر .. كلاما كانت متعطشة إليه وفى أشد حالات اللهفة على سماعة.. ولكننى صمت ..
     وقلت وأنا أنظر إلى الساعة :
     ـ الساعة الثالثة وخمس دقائق .. لقد أخرتك ..
     ـ أبدا .. لابد أن أنتظر شريكتى ..
     ـ امعتادة هى على التأخير .. ؟
     ـ قليلا .. انها موظفة ..
     وقلت وأنا أهم بالذهاب ..
     ـ أشكرك .. سأذهب لأن مشوارى طويل ..
     ـ أين تسكن .. ؟
     ـ فى اسبورتنج .. وسأعود للمكتب فى الساعة الخامسة ..
     ـ أنا أقرب منك ..
     ـ أين .. ؟
     ـ فى الابراهيمية ..
     ولم اسألها ان كانت تسكن بالإيجار مثلى أم هو بيت الأسرة .. فقد صعدت درجات المكتبة ، وأستقبلنى جو الشارع البارد ..
***
     وانقضى الخريف ، ودخلنا فى الشتاء ، وأخذت أفواج السياح الأجانب تتوافد على الإسكندرية من البحر ..
     وكانت شركتنا تمتلك سيارة واحدة كبيرة تتسع لـ40 راكبا ويسافر فيها السياح فى جولات قصيرة إلى القاهرة .. ولزيادة العدد اضطررنا إلى استئجار سيارة أخرى وركبت مع السياح فيها كدليل .. وعدت بعد أسبوع مع الفوج ونحن نغلق المكتب فى التاسعة مساء ..
     ولما مررت على المكتبة وجدتها مضاءة ، ولم أجد صاحبتى ، وجدت شريكتها التى حدثتنى عنها من قبل .. وكانت أصغر منها سنا وأطول قامة ، وأكثر خفة حركة ورشاقة ..
     وسألتها عن « النيوز » ، وهى مشغولة بالحديث مع بعض الزبائن ..
     فقالت فى برود وهى تحدق فى وجهى بشدة ..
     ـ خلصت ..
     ولم تزد حرفا واستدارت إلى الزبائن .. وكان وجهها الجامد الخالى من كل تعبير لا يغرينى على محادثتها ..
     فتركتها وأنا أحاول أن أتذكر أين وقع بصرى على هذا الوجه من قبل .. ثم تذكرت أنها تركب ترام الرمل من محطة الابراهيمية فى ساعة معينة لا تغيرها .. وتدخل فى نفس العربة التى أجلس فيها ، وتحاول بقامتها الطويلة ، وشعرها الأسمر المتدلى وبعينيها الواسعتين أن تتلمس مقعدا فى زحمة الصباح .. فإن لم تجد لم تيأس وتظل واقفة .. فى مكانها من وسط العربة وعيناها تدوران فى كل اتجاه وحقيبتها ذات الحمالات على كتفها .. وما كان وجهها فى خلال المسيرة من الابراهيمية إلى محطة الرمل تتحرك فيه جارحة أو تحس معه بالحياة .. وانتقلت الصورة كما هى بكل صفاتها إلى المكتبة ..
     كانت عاملة الصباح بوجهها الشاحب ورقتها أكثر إيناسا لى .. وهناك أناس تراهم فى الحوانيت ، وتنفر من سحنتهم الكئيبة ، ومن خمود ملامحهم ويجعلونك لا تفكر قط فى شراء أية بضاعة منهم .. وان كانوا يبيعون أجود الأصناف على الأطلاق ..
     ولهذا نفرت من عاملة المساء ..
     وقل ترددى على المكتبة فى أثناء نوبتها ..
***
     ولما هبطت درجات المكتبة فى الصباح وجدت صاحبتى فى ركن تتعامل مع سيدة مسنة وشابة .. واستقبلتنى وأنا داخل بابتسامة خفيفة .. وتركتها حتى تفرغ منهما ..
     واشترت واحدة ولم تشتر الأخرى .. وخرجتا ..
     فرفعت إلىَّ وجهها كأنها تسأل :
     ـ أى خدمة .. ؟
     وكانت فى فستان برتقالى من التيل ، محكم التفصيل على جسمها المكتنز .. فأبرز مفاتن الجسد .. وأحمر وجهها قليلا لما لاحظت نظراتى التى ليس فيها أدب ..
     وقلت وأنا أرفع « دافيد كوبر فيلد » من الصف ..
     ـ لقد انقطعت لسفرى ..
     ـ أين كنت .. ؟
     ـ فى القاهرة .. رحلة للمكتب ..
     ـ وجبتلنا أية معاك ..؟
     قالت هذا بدلال وعامية حلوة وصوت أحلى ..
     فأخرجت سريعا علبة صغيرة من جيبى وقدمتها لها ..
     فتناولت العلبة وفتحتها وقالت فى دهشة :
     ـ هل أخذت المسألة جد ..؟ هذا لى .. ؟ !
     ـ بالطبع ..
     ـ سلسلة .. وكمان دهب .. ؟!
     ـ هذا قليل ..
     ـ وهل كنت تفكر فى أنا .. وأنت فى القاهرة ومعك نساء جميلات .. سائحات من كل جنس ..
     ـ أن هؤلاء لا يحركن مشاعرى أبدا ..
     ـ صحيح .. ؟
     ـ صحيح ..
     وضحكت .. ورف وجهها مثل الأرجوان .. وسددت نظراتها .. وفى تلك اللحظة شعرت بأنى أميل إليها .. ولا أدرى إلى أى حد ..
***
     وفى صباح الخميس ، وكنت أتقدم فى الشارع فى تؤدة .. لمحتها من بعيد ترتدى مريلة زرقاء وبيدها المكنسة ..
     وكانت تكنس الرصيف الواقع أمام المكتبة وحتى ما يجاوز ذلك بمقدار أذرع .. وأشفقت عليها وأكبرتها فى الوقت عينه .. فإنها تقوم بكل عمل بنفسها .. دون أن تستعين بخادم وكثيرا ما تحمل مجلات الأزياء إلى زبوناتها فى بيوتهن لتسهل عليهن عملية الشراء والتردد بانتظام على المكتبة ..
     ولم يظهر عليها الخجل أو تتوقف عن الكنس لما اقتربت منها .. وإن كانت يدها قد تباطأت قليلا .. وأزاحت خصلة من شعرها عن جبينها .. وانتصبت ترد على تحيتى ..
     فقلت بابتسامة :
     ـ خلى عنك ..
     ـ العفو ..
     وظلت الابتسامة الناعمة ترف على ثغرها ، وتركتها فى عملها وهبطت إلى قاع المكتبة .. وجاءت بعد قليل من الوقت فخلعت مريلتها وبدت تحت المريلة فى بلوزة بيضاء وجونلة زرقاء كأنها تستقبل بهما أسعد أيام الصباح .. وان كان الشحوب لا يزال يرى بعض آثاره على الخدين .. ولكن العينين أخذتا فى الالتماع ..
     وبدافع من الشفقة البحتة اشتريت كتابين لم أكن أبغى شراءهما ..
     وسألتها وهى تلفهما :
     ـ هل أنت مستريحة إلى هذا العمل .. ؟
     ـ وماذا أفعل غيره ..؟
     ـ توظفى مثلا ..
     ـ انى لا أحمل شهادات مجرد تعليم ثانوى فى المدارس .. الأجنبية ..
     ـ انهم لا يطلبون الشهادات بالنسبة للمرأة .. وتستطيع من تجيد اللغات الأجنبية أن تقوم بأعمال كثيرة .. لا تتطلب الشهادة .. كالسكرتارية .. والآلة الكاتبة مثلا ..
     ـ لقد قمت بعمل المكتبة وأنا صغيرة لأعول شقيقاتى بعد وفاة والدى وأمى .. كنت الكبيرة ولم يكن لهن عائل سواى .. وكنت أشترى لهن الكتب والكراسات من مكتبة بجانب بيتنا فى محرم بك .. فقلت لنفسى ولماذا لا أفتح أنا مكتبة ..
     وفتحتها وحدى فى شارع تانيس .. وبعد هذا جئت إلى هنا .. وأشعر بالاستقلال والحرية .. وقد خفت أعبائى الآن وتزوجت شقيقاتى الثلاث جميعا ...
     ـ وهل هن معك فى الإسكندرية .. ؟
     ـ أبدا .. انهن بعيدات عنى .. وأقربهن إلى متزوجة فى طنطا ..
     ـ لقد قمت برسالة عظيمة .. وأنت لماذا لم .. هل ..
     ـ لم أتزوج .. لقد شغلت بهن ونسيت نفسى .. حتى فاتنى القطار ..
     ـ أبدا .. لا تفكرى هكذا .. انك الآن فى سن الجمال الآسر ، فى أجمل ساعات العمر بالنسبة للمرأة .. فكيف تفكرين هكذا ..
     وتضرجت وجنتاها .. وأنفرجت شفتاها .. والتمعت عيناها .. وشعرت بأن كلماتى ردت النضارة إلى وجهها .. وأجرت الدم فى شرايينها ..
     وقالت هامسة :
     ـ بصراحة .. لم أفكر فى الزواج أبدا وشغلت بالعمل .. كما ترى ..
     ـ العمل .. جميل وطيب بالطبع .. ولكن لا تفكرى أن القطار قد فاتك أبدا .. فبعد عشرين سنة من الآن يمكن أن تقولى هذا ..
     فقالت برنة فرح ..
     ـ ما هذا .. ؟ !
     وضحكت جذلانة طروب ..
     وخرجت وأنا أشعر بالرضا .. لأنى حركت الرماد الذى كان خامدًا فى أعماقها ..
***
     وبعد هذا الحديث لاحظت أن أحوالها تغيرت تمامًا .. وأصبحت تعنى باختيار فساتينها ، وتتزين ، وتستقبلنى وهى متعطرة .. فى بشاشة تطل من العينين والشفتين ..
     وأصبح شراء الكتب لا يهمها .. بقدر ما يهمها حديثى .. وبمجرد دخولى إلى المكتبة .. أراها تفرغ مما فى يدها بسرعة .. لتقف بقربى وأنا جالس على الكرسى الذى أعدته لى بجانب الطاولة .. وأصبحت لا أشاهد من يجلس عليه سواى ..
     وكانت تستبقينى ويطول بيننا الحديث ، إلى أن تحضر صاحبتها التى تأتى غالبا بعد الساعة الثالثة ..
     ويحدث أحيانا أن أتأخر فى المكتب إذا أشتد ضغط العمل .. فإذا اتجهت إلى المكتبة الفيتها واقفة على الباب ونظرها معلق بالناحية التى أجىء منها .. فإذا أقتربت أرى كل جوارحها تتفتح لمقدمى كما يتفتح الورد للظل ..
     ولاحظت أنها تشعر بالغيرة الشديدة إذا تبسطت مع زميلتها فى الحديث .. أو جاوزت الحد إلى المداعبة الخفيفة .. مع أنى لم أكن أشعر بالميل نحو شريكتها أبدًا .. وكنت أحاول فقط بالمداعبة الخفيفة أن أذيب بعض جمودها وأن أجعلها تتيقن أن علاقتى « بصفية » لا تتعد ما هو يجرى عادة بين صاحب المتجر والزبون ..
    وعلمت أنهما تسكنان معا فى شقة واحدة فهما شريكتان فى البيت كما هما فى المكتبة .. « فصفية » لما أصبحت وحيدة فى الإسكندرية بعد زواج شقيقاتها .. أسكنت « عفاف » معها فى نفس الشقة .. والشقة ايجارها رخيص وتقع فى شارع تانيس ذلك الشارع الطويل الضيق ، الهابط الصاعد ، الذى يبدأ وينتهى إلى حدود الأبد ..
***
     وعرض فيلم جميل فى سينما « رويال » .. والسينما قريبة من المكتبة ومن مكتب السياحة .. ففكرت فى أن تراه فى يوم الأحد وهو اليوم الوحيد الذى تغلق فيه المكتبة ..
     ولما عرضت الرغبة على « صفية » قالت برقة :
     ـ آسفة .. لا أستطيع أن أرافقك إلى حفلة فى السينما .. فأنا معروفة فى هذا الحى .. وزبونات المكتبة كثيرات .. وأنت تعرف السنة النساء ...
     ـ الفيلم جميل .. وخسارة أن يفوتك .. وما دام وجودى معك يحرجك.. سأجىء بتذكرتين واحدة لك والأخرى لعفاف فى حفلة الساعة الثالثة ..
     ـ لا تكلف نفسك .. ولا تعود عفاف على السينما ..
     وابتسمت وأضافت :
     ـ وكفاية وجودنا مع بعض فى المكتبة ..
     تضايقت من رفضها رغم هذا الاعتذار الرقيق .. وبإحساس شاب فى مثل سنى لا يجد فى نفسه قبولا لمثل هذا الاعتذار ، وفى فورة غضب انقطعت عن زيارة المكتبة فى الصباح وأصبحت أمر عليها فى المساء .. أثناء وجود شريكتها عفاف ..
     والفيت هذه رغم برودتها وما فى وجهها من قبح .. تتفتح عواطفها إذا كنت معها وحدى فى المكتبة .. ولا يوجد زبون آخر .. وتتطلب فى هذه اللحظات المداعبة الصريحة والغزل المفتوح ..
     وتطورت العلاقة ولكنى وقفت بها عند حد النزهات الخلوية .. والقبلات والضحكات والسينما كلما غفلت عنا العيون ..
     وكنت أمنيها برحلة إلى باريس فى الصيف المقبل ..
     وكادت أن تستسلم لى بكليتها لمجرد الأحلام التى تدور فى ذهن الفتاة عن هذه الرحلة .. ولكننى لم أكن أحبها .. وعاملتها بلطف .. كما كنت أعامل رفيقاتى فى العمل فى مكتب السياحة اللواتى لم أكن أشعر نحوهن بأية عاطفة ، مع أن فيهن من تعد جميلة بين النساء ..
      ولكن هناك أحساس فطرى لا يمكن فهمه ولا تفسيره بعين العقل فى هذه الحياة .. احساس يقرب المرء من هذه المرأة وينفره من تلك ..
     وبهذا الاحساس عشت حياتى ..
***
     وفى الساعة الثامنة والنصف من صباح السبت ، وكنت أعبر إشارة المرور عند مقهى « التريانون » فى محطة الرمل ، تحت رذاذ المطر ، وجدت « صفية » تسير خلفى ..
     وقالت وهى تقترب بلهجة عتاب .. !
     ـ أكنت مسافرا .. ؟
     ـ أبدا ..
     ـ ولماذا لا أراك .. ؟
     ـ شغلنى عمل كثير فى المكتب ..
     ـ لا .. ليس هذا هو السبب ..
     ـ ما هو إذن .. ؟
     ـ اعتذارى عن السينما أغضبك .. ولماذا السينما .. نستطيع أن نكون مع بعض فى مكان آخر ..
     ـ ولكنى أصر على السينما ..
     وكان هذا حماقة منى .. وربما تكون السبب فى القطيعة .. وراعنى أنها أجابت فى رقة :
     ـ سنذهب إلى السينما ..
     وذهبنا إلى السينما فى حفلة الساعة الثالثة من اليوم التالى .. وكانت وادعة طيعة ، ومتعطشة لكل كلماتى فى الظلام ..
     وعرفت أننى أقيم فى شقة على البحر فى اسبورتنج ، وأنام مع صوت البحر وهدير موجه العالى .. ومازلت أصف لها الشقة وما فيها من جمال حتى تشوقت إلى رؤيتها ..
     وفى طريقنا إلى ترام الرمل ، اشتريت لها زجاجة عطر فرنسية من أجمل العطور فسرت بها كثيرا ..
***
     وأخذنا نخرج معا للتنزه .. كلما وجدنا الوقت والفراغ .. وكنا نختار الليل دائما .. ودخل الشتاء علينا ونحن لا نكاد نشعر بامطاره وعواصفه .. فقد كنا فى دفء من العواطف ..
     ولم أقل لها كلمة حب ، ولم تقل هى ذلك .. ولكن كل ذرة فى جسمينا كانت تنطق به .. ونسيت سمنتها والالتواء الذى فى ساقيها .. وأسرنى صدرها المكتنز .. وعيناها الساجيتان ، وشعرها المتموج ، والرقة التى فى حديثها ..
     كانت تفيض بالعواطف الزاخرة .. وعرفت بيتها وعرفت بيتى .. ولكننا لم نتزاور بعد .. وقد مضت شهور طوال على أول لقاء ..
***
     وفى ليلة من ليالى مايو .. وكنا راجعين من استانلى .. نزلنا من الترام فى اسبورتنج ونزلت معى صامتة دون أن تفتح فمها بكلمة .. أحسست بأنها مأخوذة بشىء لا تستطيع مقاومته ولارده .. شىء أقوى من كل إرادة للأنثى ..
    ودخلنا شقتى .. ولما أصبحنا فى البهو الصغير وأغلقت الباب ورائى تعانقنا فى الظلام قبل أن ندير مفتاح النور ..
     وكنت رقيقا وأنا أفك أزرار ثوبها .. وأحسست بها متعطشة للحب الذى جاءها قبل فوات الأوان ..
     واخترنا شاطئ أسبورتنج للاستحمام أيضا ... وكنا نهبط فى اتجاه البحر من سلم صغير أمام باب الشقة .. وكان المكان الذى اعتدنا الاستحمام فيه حجريا كثير الصخور .. ولكنه غير عميق لأنها لا تعرف السباحة .. وهو آمن من السيف الرملى الذى يقع بجوار الكازينو .. والذى كثيرا ما يعصف فيه البحر ويعلو موجه ..
     ولم يكن فى الجوار أحد فى هذا الصباح المبكر قبل الشروق بكثير ..
     ودخلت الماء بصدرها ثم انتصبت فتساقط الماء مثل حبات الدر على خطوط جسمها اللدن .. وتقدمت فى حذر حتى بلغ الماء ردفيها المكتنزين .. وسمعتها تنادينى ..
     ـ عزت .. تعال .. أنا خائفة ..
     فأسرعت وأمسكت بيدها ..
     وكنا نشاهد على ضوء الصباح الشاحب ، زوارق الصيادين هناك على خط الأفق ، واقفة فى نصف دائرة .. وأنوار قناديلها لازالت تشع ، وقد أخذت تسحب شباكها بعد أن ظلت طوال الليل تغرى السمك بالفوسفور البراق ، وبكل الحيل التى يعرفها الصيادون فى البحار الساكنة ..
     ومالت برأسها على صدرى فى الماء فأحتضنتها وغطست بها .. وأحسست بكل ما فيها من نعومة وفتنة تحت ملمس أصابعى .. وطال بقاؤنا فى البحر حتى أحسست بالبرد .. فأخذنا طريقنا إلى الشاطئ فى حذر حتى صعدنا إلى الشارع الخالى من كل إنسان ..
***
     وأصبحت « صفية » تقرع بابى فى ساعة معينة ..
     ومرت أيام جميلة ..
***
     وفى ليلة من ليالى الصيف الشديدة الرطوبة .. خلعت « صفية » بلوزتها وجلست على حافة السرير ..
     وقالت من غير تمهيد :
     ـ إنى حامل ..
     وشعرت بسكين حادة تنغرس فى قلبى ، وسألتها وفى صوتى رجفة الخوف :
     ـ هل أنت على يقين ..؟ يحدث كثيرا أن تنقطع .. 
     وقاطعتنى قائلة :
     ـ إنه الشهر الثالث ..
     ـ لا داعى لأن تضطربى .. فالمسألة أصبحت سهلة للغاية فى هذا العصر .. والأطباء كثيرون ..
     وسألت بجفاء :
     ـ أية مسألة .. ؟
     ـ التخلص من الجنين ..
     ـ ومن الذى قال لك أننى أريد التخلص منه .. ؟
     ـ كل سيدة تفعل هذا ما دامت غير متزوجة ..
     ـ ومن حدثك بأنى غير متزوجة .. ؟
     ـ لم أكن أعرف هذا .. من هو ..؟
     ـ أنت .. ومن كل كلامك المعسول عرفت رغبتك الأكيدة فى الزواج منى .. فلماذا تراوغ الآن كالثعلب .. سنتزوج قبل الفضيحة ..
     ـ لم أستعد للزواج الآن .. وهو مسئولية وأعباء .. وأنا بحكم عملى فى مكتب للسياحة كثير الأسفار إلى الخارج .. وأحيانا يطول غيابى إلى سنة .. ومتى وجدت وظيفة أكثر استقرارا أعدك بالزواج ..
     ـ إذا لم تقبل الزواج الآن .. سأحتفظ بالطفل ...
     ـ هذا جنون .. وسمعتك .. لقد كنت تخشين السنة الناس من مجرد ذهابك إلى السينما ..
     ـ ولكننى الآن لا أعبأ بشىء وسأحتفظ بالطفل ، لأنى فى حاجة إليه .. فى حاجة إلى رجل يقف بجانبى .. فى حياتى وعملى .. سأحتفظ به ..
      وتنمرت سحنتها .. وخشيت أن يتطور الحديث معها إلى عراك .. فتركتها وحدها .. وخرجت إلى الشارع ..
     ثم رجعت إلى نفسى ، وأدركت أن من الصالح لى أن أجاريها فى رغبتها فى الزواج ، لأمنعها من اثارة فضيحة .. ولذلك عدت إليها وأخذت أطمئنها .. ووعدتها بالزواج بمجرد تسلم المكافأة من الشركة التى يوزعها علينا « لوسيانى » عند مقدمه من أوربا .. لنستطيع بهذه المكافأة أن نؤثث بيتا جميلا يليق بنا .. واقتنعت .. وعاد إليها الصفاء ..
     وأصبحت تجىء إلى شقتى فى اسبورتنج ، وهى مطمئنة غاية الاطمئنان .. كما كنت أذهب إلى بيتها فى الليلتين اللتين تغيب فيهما زميلتها « عفاف » وتسافر إلى أهلها فى دمنهور .. وكانت تسافر مساء الخميس كل أسبوعين .. وتعود فى صباح السبت إلى المصلحة مباشرة .. فكنا نقضى مساء الخميس ومساء الجمعة أنا وصفية معا فى عناق متصل .. وشعور بالراحة النفسية والحرية لأننا وحدنا فى البيت ..
     وكنا نتخفف من ملابسنا ونستحم معا فى الحمام .. ونغطس فى البانيو الدافئ ..
     وقد ولد عندى الحمام والسخان فكرة رائعة .. وجدت فيها خلاصى .. ولكننى أجلتها إلى حين ..
***
وسيطرت عليها فكرة الزواج .. سيطرة تامة فكنا نتحدث عنه فى الصباح والمساء وفى كل وقت نلتقى فيه ..
     وكانت تقول لى أن صاحبة لها وجدت شقة فى ميامى .. أو فلمنج .. أو كليوباترا .. من البيوت القديمة ويطلب أصحابها خلوا ليس فيه مغالاة .. وتحت رغبتها كنا نذهب أنا وهى ونرى هذه الشقق لأزيد من اطمئنانها إلى وعدى ..
     وفى كل شقة يظهر العيب واضحا .. فكنا نعود من الجولة دون نتيجة ..
     واخيرا استقر رأينا على شقة جميلة فى الشاطبى .. ووجدناها الأحسن لنا فهى قريبة من مكان عملها وعملى .. كما أنها فى عمارة حديثة البناء وايجارها مقبول .. ونستطيع تأثيثها بسهولة بأثاث جديد لأنها من حجرتين فقط .. وحصرنا تفكير المستقبل فيها ..
     وكنت إلى هذه اللحظة أشك فى الحمل وأتصور أنها لعبة جهنمية لعبتها لترتبط بى .. ولكننى تأكدت منه ذات ليلة وأنا فى بيتها .. وكانت تتجرد من ملابسها فى غرفتها ولا تتوقع دخولى عليها .. فلاحظت البروز بوضوح .. وأصفر وجهى فإن هذا الشىء لا أحبه أبدًا .. يكون لى نسل منها .. ؟ لا .. لا .. أبدا .. أبدا .. وساقنى التفكير المرعب إلى حالة جنون ..
***
     وحدث فجأة ما شغل كل وقتى .. فقد كان هناك فوج من السائحين الأجانب عائد إلى جنوا على سفينة تركية بعد عدة أيام .. فوجدت الفرصة متاحة أمامى ، وأبديت لمدير المكتب رغبتى فى أن أسافر مع هذا الفوج على نفس الباخرة .. وأشتغل فى " جنوا " أو " مارسيليا " الأشهر المقررة لكل منا فى الخارج .. ووافق وبدأت الاتصالات بمكتبنا فى جنوا .. وبدأت أجهز جواز السفر والاجراءات كلها ..
     وأخذ ذهنى يشتغل فى الوقت عينه بما هو أهم عندى .. ووجدت فى السفر الفرصة الذهبية لتنفيذه على الفور ..
     وتحدد يوم السفر وتمت جميع الاجراءات وبقى على ميعاده خمسة أيام قضيتها مع « صفية » فى نزهات ليلية متصلة ..
     وكتمت عنها خبر السفر طبعا .. وأكثرنا من الحديث عن الزواج وما يدخره لنا المستقبل من هناء ..
     وفى صباح الثلاثاء ، علمت منها أن عفاف مسافرة إلى دمنهور فى مساء الخميس كعادتها .. فطار قلبى من الفرح ..
     وفى مساء الخميس أعطتنى « صفية » المفتاح .. فدخلت الشقة قبلها .. وأغلقت هى المكتبة قبل ميعادها بساعة وجاءت منشرحة تواقه للعناق ..
     وفى صباح الجمعة استيقظت قبلها ودخلت الحمام .. وأشعلت السخان وأخذت أعاين الجهاز بدقة وتناولت الخرطوم .. ووجدت أن الثغرة فيه تكفى ..
     وبعد خروجى من الحمام كانت قد استيقظت فسألتنى :
     ـ هل أخذت الحمام .. ؟
     ـ أجل ..
     ـ سأعد الشاى واستحم مثلك .. لقد تأخرت عن المكتبة ياعزت .. بسبب حبى لك .. وجنونى بك ..
     ـ اليوم جمعة .. والتأخير ساعة لا يهم ..
     وفرغنا من الشاى ..
     وتناولت هى البرنس وملابسها الداخلية .. وبصرت بى خارجا من الحمام وهى تستعد لدخوله ..
     فسألتنى :
     ـ هل نسيت شيئا .. ؟
     ـ نسيت الساعة .. وأشعلت لك السخان .. لأنه يعاكس ..
     ـ شكرا ..
     ودخلت الحمام وأغلقت الباب .. وسمعت صوت الدش .. وظللت أسمعه .. واستمر صوته .. ولم ينقطع تدفق المياه ..
وشممت رائحة الغاز يتسرب من فرجة الباب ..
     وخيل إلىّ أنه ملأ جو الشقة فارتديت ملابسى على عجل ..
     وعدت إلى باب الحمام فلم أسمع صوتها .. وكان من عادتها أن تغنى وهى واقفة فى البانيو ..
     واستمر صوت الماء ..
***
     وخرجت سريعا من باب الشقة .. واجتهدت ألا ترانى امرأة البواب وأنا أجتاز عتبة العمارة ..
     واتجهت مباشرة إلى المكتب وكنت هادئ الأعصاب إلى الحد الذى جعلنى أعجب لحالتى ..
     وبعد اغلاق المكتب .. ذهبت إلى السينما ثم دخلت حانة لأشرب وأثقل رأسى وأنام ..
      ولما فتحت باب شقتى الصغيرة فى اسبورتنج وتمددت على السرير لم أنم .. وظللت أسمع صوت البحر ..
     كان يهدر فى غضب .. لم أسمعه فى مثل هذه الحالة من الهياج أبدا .. كان موجه يعلو على رصيف الشارع ويضرب بابى المغلق .. والرياح من ورائه تصفر ..
     كان البحر يحكى فعلتى وكل ما فعله ويفعله الإنسان بأخيه الإنسان فى هذا العالم المضطرب المتوحش منذ الأزل من عهد قابيل وهابيل ..
     كان يحكى والرياح تصفر ..
***
     وأغلقت أذنى ، وأغلقت عينى ، واسترخيت .. لم أعد أسمع صوت البحر .. بعد يومين ستقلع الباخرة .. وسأسافر وربما إلى الأبد ..
***
     وتنفست الصعداء .. وأنا أدخل من باب الميناء .. وكدت من الفرحة أن أصرخ ..
      وقدمت الجواز ودخلت الصالة الواسعة .. والباخرة أمامى على الرصيف ..
      وكانت معى حقيبة واحدة ومر كل شىء سريعا ..
     وفى مكتب بوليس الميناء .. نظر الضابط إلى الجواز .. وإلى وجهى .. ثم طوى الجواز ..
     وقال لى وهو يبتسم :
     ـ استرح لحظة ..
     ـ أهناك شىء .. ؟
     ـ سيدة تنتظرك فى الخارج .. وتريد وداعك ..
      ونظرت من وراء الزجاج فوجدت « صفية » واقفة هناك فى الخارج عند صالة الجمرك وقد ظهر بروز بطنها بوضوح من خلال ثوبها الضيق ..
===============================  
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 689 بتاريخ 17/8/1982وأعيد نشرها فى كتاب " صورة فى الجدار سنة 1980 وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
فهرس
اسم القصة
رقم الصفحة
صورة فى الجدار

القطار الأزرق

الأسرار

الزورق

صوت البحر






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق