السبت، 11 أبريل 2015

القصة القصيرة الباب الآخر للأديب المصرى الراحل محمود البدوى











الخطوط الثلاثة
قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


توقفت حركة " المترو " فجأة عند محطة " غمرة " الذاهب منها إلى محطة " كوبرى الليمون " والراجع ..
ونزل الركاب لما طال الوقوف يسألون عن السبب ولما عرفوا السبب .. اقشعرت أبدانهم ، وانخلعت قلوبهم ، فقد وجد صبى صغير مقتولا على الشريط ..
وأحدث النبأ الفاجع الهلع ، ورجفة الأعصاب فى كل من سمعه ..
ولما بصر به السائقون تراجعوا بالقطارات عن الجثة بمقدار عشرين خطوة .. فمن الذى يقترب من جريمة قتل ..؟
وأحاط الجمهور بالشيء الصغير المغطى بالجرائد .. كأنهم يحمونه من العبث .. حتى جاء البوليس .. وحمل الإسعاف الجثة .. وتفرقت الجموع فى وهج الشمس الساطعة ..
ولكن بقى على الشريط نقطة دم .. وتحركت القطارات بعد وقوف طال أمده واستأنفت الحياة العادية نشاطها على الخط .. وظل القطار الذى صدم الصبى مجهولا .. وشغل هذا خواطر السائقين وأخذوا يتساءلون عن الذى فعل الحادث ..
وفى نفس الليلة التى وقع الحادث فى نهارها .. لمح سائق قطار ، كان فى طريقه إلى المخزن ، قطعة قماش من ثوب الصبى المقتول معلقة فى بطن عربة من العربات .. ونزعها فورا ووضعها فى جيبه دون أن يشعر بعمله إنسان ..
وأحس بضربات قلبه تشتد ، وبالعرق يتفصد على جبينه .. هل فعلها هو دون أن يشعر ، فى غمرة ازدحام الجمهور فى فترة الصباح .. وفى محطة " غمرة " على الأخص حيث يتزاحم الجمهور كالذباب لأنه يركب دون أجر قبل أن يصل الكمسارى إليه ..
هل فعلها هو .. أم فعلها سائق غيره ..؟
لقد مر على الشريط فى هذه اللحظات ، ثلاثة قطارات ، يقودها ثلاثة من السائقين .. فأيهم فعل الحادث ..؟
وساءل نفسه .. ولماذا لم تظهر هذه القطعة من الثوب لمن عاينوا الحادث وحققوا فيه ..؟ لماذا غفلت عنها عيونهم ، ووقعت عليها عيناه هو ..؟ لابد أن يكون لذلك من سبب وضعه القدر فى طريقه ، ورسمه لعينيه .. أنه امتحان له .. وامتحان رهيب ..
وفى مثل هذا جعل يفكر .. وقد قاده التفكير إلى هلع أكثر ، واضطراب أشد ..
وفى البيت انتهز فرصة انشغال زوجه ، ونشر قطعة الثوب أمامه .. وأخذ يفحصها بإمعان ، ليس فيها أثر من دم ، ولكن أثر التمزيق يظهر بوضوح من فعل الجذب والشد ، والسحب على الحصى ، والتراب ..
لقد قاوم الصبى المسكين .. بغريزة البقاء .. الموت الرهيب .. ولكن هذا جاءه فى ساعة نحس كمنجل الحصاد ..
وبعد تفكير دخل السائق المطبخ ، وفى جيبه قطعة الثوب .. على زعم أن يصنع لنفسه فنجانا من الشاى ، وأشعل النار ، وهم بأن يحرقها ، ولكن دخلت عليه زوجه فى هذه اللحظة ، فطواها سريعا فى جيبه ..
وترك زوجه لصنع الشاى ..
ما أعجب الحياة .. هذه القطعة الصغيرة من القماش .. أصبح لها دلالة كبيرة ، وأثر حاسم .. أصبح لها شأن كبير فى حياته .. أصبح لها أن تأخذ بمخنقه ..
وشرب الشاى وظل فى مكانه .. كان من عادته فى الفترة بين الورديات أن يواصل دراسته فى الميكانيكا ويطور حياته .. فمنذ حصل على الشهادة الثانوية العامة .. وهو يشعر بفرحة كبيرة لأنها فتحت أمامه الطريق ، وحققت آماله فى دراسة الهندسة الميكانيكية فى نطاق واسع .. لقد شغف بالميكانيكا والآلة منذ الطفولة .. وعاش لهما ..
وعندما أمسك بمقود القطار ، شعر بأنه حقق بعض ما يصبو إليه .. وبقى الأمل الكبير ..
ولكن حدث اليوم ما عكر صفو حياته ، وقطع عليه الطريق بمثل حد السيف البتار حدث ما أشاع فى نفسه القلق المدمر .. وأوقف زورق أحلامه ..
ما أعجب تصرف الأقدار .. نرسم لأنفسنا خط الحياة فى تأن واقتدار .. ولكن فى لحظة حاسمة يتغير كل شيء فجأة ، وينقلب النعيم إلى جحيم ..
لقد جره العلم إلى الشقاء .. إن كثيرا غيره من أصناف البشر الذين يزاولون مثل عمله ويعيشون فى جهالة .. لا يفكرون مثل تفكيره .. وليس لديهم أقل حساسية للحوادث ، ولا عندهم أعصاب للقلق ، أعصابهم من الحديد .. وضميرهم ميت .. ويرتكبون الحوادث وينكرونها متى وجدوا الفرصة السهلة والسبيل للانكار ..
وعلام الأسى .. ربما كان الصبى عبئا على أهله فى هذه الحياة القاسية .. وهذا الغلاء .. وقد أراحهم الله منه ..
وفى الساعة السادسة رأى زوجه تتهيأ للخروج فسألها :
-      إلى أين ..؟
-      الولد لم يأت من المدرسة ..
-      لعله يلعب الكرة مع الأولاد ..
-      أبدا .. عمره ما لعب ..
ونظر إليها وسقط قلبه .. لأول مرة يشعر بالرعب ..
إنه ما فكر فى تأخر الغلام أبدا .. ولا عرف إلا فى هذه اللحظة أنه فى الفترة المسائية للمدرسة .. وزاده رعبا أنه فى عمر الصبى الذى سقط اليوم تحت العجلات فما أعجب تصاريف القدر ..
وفى البيت اثنان غيره يلعبان .. ولكن الولد الكبير الذى ذهب إلى المدرسة ولم يعد ، أصبح هو الشاغل وعليه تركز نظر الأسرة ..
جلس الأب الشاب فى ردهة البيت متخشبا ساقط الهمة ، مضعضع الحواس .. لا يلتفت إلى لعب الطفلين وصخبهما ، ولا يحس بوجودهما لأن بؤرة شعوره كانت منصرفة إلى شيء ما بالخارج ، خرج كعادته كل يوم .. ولم يعد ..
ووجد أن جدران البيت ستخنقه ، فخرج إلى الشارع ليزيح الثقل عن صدره وليتنفس ويتحرك بحثا عن الغلام .. وستريحه الحركة .. وسيشعر بالجمود القاتل لو بقى فى البيت ..
ودار فى الشوارع كالمخبول .. ذهب إلى المدرسة فوجدها مغلقة .. ورجع منها دون أن يسأل أحدا عن ابنه ..
ووجد أمامه مترو " الميرغنى " فركبه .. وسأله الكمسارى :
-      إلى أين يا شوقى ..؟
-      مشوار ..
وفى محطة " غمرة " نزل وهو لا يشعر .. كان مشغولا بشيء سيطر على وعيه تماما ، وجعله يتحرك كالمعصوب العينين ..
وكانت الشمس لم تغرب بعد .. فعاين المنطقة كلها فى صفرة الشمس الغاربة ..
ذهب إلى شريط السكة الحديد .. وعاد منه إلى شريط المترو .. وعيناه مرة إلى الأرض ، ومرة إلى السماء ..
كان يبحث عن قطعة أخرى من ثوب الصبى ، ليقارن بينها وبين التى عثر عليها .. ولم يجد شيئا ، ولكنه ظل يدور ..
وخشى أن يفتضح أمره ، فركب المترو المتجه إلى مصر الجديدة .. وسمع الكمسارى يتحدث مع السائق عن حادث الصباح ، فوقف بجانبهما ينصت للحوار الدائر ..
وسمع الكمسارى يقول :
- المتروهات الثلاثة مشتركة فى الحادث ، مترو الميرغنى .. مترو النزهة .. ومترو عبد العزيز فهمى .. ومن الذى فعلها .. لا أحد يدرى ..
وقال السائق :
-      سمعت أن النيابة حصرتها فى عبد الحفيظ ..
فرد الكمسارى :
- أبدا .. هذا لم يحصل .. وها هو شوقى كان فى نفس الوردية .. ولم يوجه إليه أى اتهام ..
ونظر الكمسارى إلى شوقى فاصفر وجه هذا ولكنه تماسك ..
وقال شوقى وهو يحاول أن يخفى انفعاله :
- يا أخى .. أنا دخلت المحطة ولقيت الولد قدامى على الشريط .. فوقفت على بعد عشرين خطوة .. والنهار كان طالعا .. وربنا يرحمنا من هذه الشغلة المهببة قلنا لهم مائة مرة أن هذه المحطة نحس ولا لزوم لها .. ويركب منها النشالون والمتسولون واضرابهما من حثالات البشر .. ولكن من يسمع ..
- كلامك يا شوقى معقول .. وتحت محطة المترو .. هناك مائة أتوبيس لكل الركاب .. وربنا يرحمنا ..
ولما دخل شوقى البيت وجد زوجه تولول اذ لم يعد الصبى .. ولم تجده فى كل مكان قدرت وجوده فيه ..
وأفلتت منه أعصابه ، فضرب زوجه لأنها فى تقديره أهملت رعاية الولد ..
وغدت الأسرة فى مناحة ..
وقبل نصف الليل بثلث ساعة ، دخلت خالة الغلام تجره فى يدها ..
وتجمعت الأسرة حوله ..
وتركهم شوقى .. ولم يسأل أين كان الغلام ودخل فى فراشه ..
استقر أمره على شيء فكر فيه طوال الليل .. وفى الصباح المبكر كان فى طريقه إلى عمله كعادته .. وقد استعاد رباطة جأشه تماماً ..
كانت قطعة الثوب فى جيبه .. فأمسك بها طويلا من الداخل .. ثم أخرجها من جيبه ونشرها فى قبضته ، يعرضها لضوء النهار ، خشية أن يتردد ..
وظلت فى قبضة يده حتى دخل بها غرفة ناظر المحطة .. وكان فى حالة إعياء تام وأصابه مثل الخرس .. فلم يستطع أن يفصح عما فى نفسه ..
وتجمع حوله زملاؤه ، ونظروا إليه فى عجب .. ولم يستطع أى واحد منهم أن يفهم من الأمر شيئا ..
============================ 
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 21 فى يونية 1975 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
=========================

























الشبابيك

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى

       لم أكن أقدر سقوط المطر فى هذه الليلة .. ولكنه سقط بغزارة .. بعد أن اضطرب الجو فجأة .. ولا أدرى لماذا عقدت العزم على السفر رغم حالة الجو .. وأصررت عليه .. حتى بعد أن تعطلت السيارة عند " أبيس " ..
       وكان يمكن أن أعود إلى الإسكندرية كما جئت .. لأن السيارات الذاهبة إلى هناك كانت فارغة ..
       ولكننى آثرت المضى فى الطريق باصرار لا أعرف مأتاه ، ولا أستطيع تعليل أسبابه ..
       ومرت بجانبى سيارات خاصة لم تشأ التوقف .. ثم سيارات أجرة كانت كلها ممتلئة ..
       طال انتظارى على طريق السيارات فى الليل الداكن .. وكانت الرياح تهب بعنف .. وتحرك فروع الأشجار .. وتدفع السحب السوداء فى السماء الشاحبة ..
       ونزلت عن الطريق إلى جذع شجرة مقطوعة حديثا .. ولم تكن معى حقائب على الإطلاق ..
       وكانت هناك حركة فى القرية النموذجية رغم سقوط الليل ، وانقطاع الرجل ..
       ووقف بجوارى ثلاثة من الفلاحين ، لمساعدتى فى الركوب ، بعد أن شعروا بحالى ، وقد اعتادوا مثل هذه المواقف من العابرين الذين تنقطع بهم الأسباب فى الليل ..
       وبعد ساعة كاملة ، مرت سيارة متوسطة الحجم بصندوق .. فأشرت إليها ، كما أشار الفلاحون ، فتوقفت على مهل .. وكان يقودها – وهو فى الوقت عينه الراكب الوحيد – شخص تطلع إلى سحنتى طويلا قبل أن أركب ..
***
وأركبنى بجانبه دون أن يسألنى عن وجهتى .. وشكرت الناس الطيبين الذين عاونونى على الركوب ، وأغلقت باب السيارة ..
بعد نصف فرسخ من الصمت .. تبادلنا السجائر والحديث .. وقال لى الرجل أن وجهته القاهرة مثلى .. وأنه لو مضى على سننه ، ودون عوائق الطريق فسيصل بعد أربع ساعات بالدقيقة والثانية .. ولا شأن للمطر أو الوحل أو الريح فى حسابه ..
وكانت السيارة قوية ، وإطاراتها جديدة ، وكشافها يلحس الظلام على مدى البصر ، فلم أعجب لتوقيته ..
وكنا نسبق السيارات الخاصة والعامة ، وكل اللوريات الضخمة .. وأدركت من سرعتها أنها فارغة ..
وتلفت لجارى وكان يرتدى بدلة رمادية مثلى ، ووجهه الطويل الأبيض غير حليق ، ومشربا بحمرة خفيفة .. وكان ممتلئ الجسم نوعا ، وفى حدود الأربعين ، واسع العينين ، حاد النظرة ، سريع اللفتة ..
وبدا لى من حركة يديه على مقود السيارة ، ومن تجاوزه لأخطاء الأخرين فى الطريق ، أنه هادئ الأعصاب إلى حد عجيب ، فهو سائق عربة من طراز فريد ..
وبعد أن جاوزنا " كفر الزيات " لم نر أثرا للمطر .. ومالت  العربة عن الطريق الرئيسى ، وانحرفت إلى اليمين فى طريق مترب ضيق ..
وحولت وجهى إلى الرجل ، فأدرك ما دار بخاطرى ، وقال فى هدوء :
-      مشوار بسيط .. وسنعود كما كنا ..
وكان الليل يزداد قتامة ، والطريق المترب ليس فيه بصيص من النور .. ودخلنا فى ظلمة مطبقة كلما أوغلنا فى السير .. وأحسست برطوبة الجو .. وشعرت بالخوف يصيبنى بمثل الرعشة ، ويهز كيانى كله ، ولكنى تماسكت فى الظلام ، فان إظهار الخوف أمر لا يليق أمام هذا الرجل ، الذى بدا لى من حديثه ، أنه على درجة عالية من التعليم والثقافة ..
ودخلنا فى كثيف من الأشجار ، وأمام ساقية متعطلة ، توقفت العربة ونزل الرجل .. وصاح :
-      يا مدكور ..
فظهر نور ضئيل فى بيت عادى من بيوت الفلاحين بجواره حظيرة ، ومخزن للتبن والدريس ..
ولاح مارد فى الظلمة .. يمسك بيده بندقية .. فحيا ورحب ، وتلامست الأيدى ..
-      هيا يا مدكور .. وشاى للبيه .. بسرعة ..
-      حاضر ..
ونزلنا نحتمى فى جدار الحظيرة من البرد والريح ..
وبدأ الرجال أمامى يشحنون العربة بالصناديق .. تحولوا إلى مردة ..
وظهرت العربة بعد الشحن كبيرة .. وكأنها تضخمت .. وقد أخذت مظهرها الطبيعى بين العربات ، وأغلق السائق بابها الخلفى بإحكام ..
وشربنا الشاى .. وسلم السائق على مدكور والرجال ، ثم ركبنا العربة واستدارت متمهلة فى السير حتى نصل الطريق الرئيسي ..
وفى الطريق الرئيسي ، استأنفت العربة سرعتها رغم حمولتها الكبيرة ..
وكان جارى يدخن ، ويتفحص بعينيه الواسعتين الطريق .. وكانت العربات التى تسير فى الطريق المضاد كثيرة ، وأنوارها القوية تعشى أبصارنا ..
وتوقفنا عند أول نقطة مرور ، بعد أن شحنت العربة ..
-      كله تمام .. يا فندم ..
-      كله تمام ..
وبدا لى جليا أن الجندى يعرف السائق معرفة قديمة ، فلم يسأله عن شيء ولم يقدم له أية أوراق ..
واستأنفنا السير بقوة ..
وأصبحت أسمع هذه الكلمة كثيرا بعد كل توقف ..
-      كله تمام .. يا افندم ..
-      كله تمام ..
ثم يتحرك " شريف " بعربته على الطريق ، وهو مطمئن النفس ، ساكن الطائر ، يستمع إلى صوت الموتور وأزيز الريح فى الليل الساكن ، وكأنه يستمع إلى موسيقى فى ليل الأحلام ..
وبعد " بركة السبع " .. مالت العربة إلى تعريشة وقال " شريف " وهو يوقف عربته :
-      سنستريح قليلا ، وننفخ أحد الإطارات ..
ونزل هو ، وبقيت أنا بداخل العربة ..
وسمعته يسأل :
- أين نعيمة ..؟
- موجودة ..
وأحسبها سمعت نداءه فقد خرجت على الفور من بطن التعريشة وعلى فمها ابتسامة .. وكانت طويلة ملساء العود ، ترتدى ثوبا من القطيفة الزرقاء ، وتغطى شعرها بمنديل أخضر مطرز .. وبدا بياض وجهها يتألق فى الظلمة .. وأخذت عيناها الواسعتان تشيعان ببريق الأنثى المتعطشة لكل لقاء ..
ولمحتنى فى داخل السيارة ، فسألت شريف :
-      أمعك أحد ..؟
-      ضيف حملته من " أبيس " ..
واقتربت منى تحدق " وشعرت باضطراب " ..
ومالت إليه تهامسه :
فتقدم شريف نحوى وهو يقول :
-      تفضل يا حسن بيه .. الست تدعوك إلى العشاء ..
-      شكرا .. لقد تعشيت ..
-      إنها تصر .. فلا تكسفها ..
وخرجت من السيارة .. وجلسنا فى حلقة واشعل تابع " للست " النار ..
وأكلنا اللحم والأوز والفطير وكانت " نعيمة " نشطة ، وفى حيوية دافقة ، وهى تقدم هذا وترفع ذاك .. وتعينها فى رفع الطعام ووضعه فتاة أخرى أصغر منها سنا .. ولم أكن أدرى أهى أختها أم جارة لها .. وكانت هذه على جمال قروى نادر .. ومع ملابسها السمراء السابغة ، وخجلها .. مع هذا قرأت فى عينيها الخضراوين التطلع إلى كل جديد ..
ورفعت الفتاة الطبلية وخرجت .. ورأيت " نعيمة " تميل على أذن شريف ، فحول هذا وجهه إلى ناحيتى وقال فى إبتسامة :
- تسألنى نعيمة .. لماذا يبدو على وجهك الحزن ..؟ هل خسرت صفقة ..؟ إنها على استعداد لتعوضك ..
ومالت برقبتها بعد السؤال وحدقت ..
وأخافنى البريق الناعس الذى فى عينيها وقلت :
ـ إنه مظهر خارجى وقد يكون فيه خداع ..
فقالت فى نعومة :
ـ إن الليلة جميلة .. ولو كان عندنا زامر ، لجئنا بمن يرقص لك ..
ـ شكرا ، يا ستى ويكفى هذا الكرم ..
وتركونى وحدى فى داخل العريشة ، ورأيت باب السيارة الخلفى يفتح وأخذوا يخرجون منها بعض الصناديق ، ثم شحنوا العربة بصناديق أخرى أصغر وأخف حملا .. كما بدت لى .. وبعد أن تم هذا بترتيب وسرعة .. أغلق " شريف " الباب الخلفى بإحكام ..
ولم أكن أعرف ما بداخل هذه الصناديق ولكنى خمنت أنها الأشياء النادرة الوجود فى السوق .. فقد كان الناس يتقاتلون أمام الحوانيت للحصول على قطعة من الصابون ، وكيس صغير من الشاى ..
ودخلت الفتاة تحمل أكواب الشاى ، ووراءها " نعيمة " منشرحة الصدر ، طليقة المحيا .. فتناولت الكوب ..
وقلت لنعيمة فى مرح :
-      هذا هو الكوب الخامس ..؟
-      اشرب .. الدنيا برد ..
وكان شريف بالخارج يهيئ العربة للسير .. فذهبت إليه الفتاة حاملة الصينية ..
وقالت نعيمة بدلال مشيرة إلى الفتاة :
-      أتتزوجها .. إنها عروس جميلة ..
-      أهى ابنتك ..؟ انها صغيرة على الزواج ..
-      صغيرة ..؟
ولم تجب على النصف الأول من السؤال ..
-      أجل .. أنها لم تبلغ السادسة عشرة ، فى تقديرى ..
-      هذا هو سن الزواج عندنا فى الريف ..
-      ولكنه لا يصلح لنا ..
-      وأنا .. هل أنا صغيرة أيضا ..؟
ووجمت ثم رفعت رأسى :
-      أبدا .. أنت العروس المشتهاة ..
-      تزوجنى إذن .. وسأبنى لك قصرا ، مكان هذا البيت ..
-      ولماذا لاتتزوجين " شريف " ..؟
-      إنه متزوج ..
-      متزوج ..؟ حدثنى فى الطريق أنه أعزب ..
-      أنه متزوج العربة .. أفهم ..
وضحكت وخرجت .. وعلى أثرها قدمت الفتاة .. فأدركت أنها أرسلتها ..
وجلست الفتاة بجانبى وتسامرنا .. ووجدتها فى هذا الحيز الصغير ، أكثر جمالا ورقة مما كانت عليه وهى فى الخارج .. ودفعها البرد إلى أن تلتصق بى .. ولكن لم تكن بى رغبة ، وكنت أنظر إليها بعاطفة حنان خالصة .. وخشيت أن ينكسر فؤادها فاحتضنتها بقوة ، وأخذت أمسح على شعرها ..
***
وخرجت نعيمة من الحظيرة .. ترتب سوالفها بيدها ، وكان وراءها شريف ..
ودخلت العريشة .. وسألتنى :
-      هل تشعر بالدفء الآن ..؟
-      نعم .. وشكرا ..
    ـ أريد أن استل من عينيك هذا الحزن .. وأفكر فى الذى أعمله ليحدث هذا ..
-      المرة القادمة ..
-      ستأتى مع شريف ..؟
-      أجل ... سآتى :
    ـ إن لم تأت ... سنزورك فى مصر ونأخذ العنوان من شريف ..
ـ سأجئ حتى .. أقول لك الحق لقد تعجبت عندما رأيتك راكبا مع شريف .. انه ما ركب شخص فى عربته قط ..
-      ذلك من حسن حظى .. لأراك فى هذا المكان الجميل وأكل من خبزكم ..
-      شكرا ..
ودخل " شريف " فرفعت رأسها إليه وقالت :
-      الا تبيع لى العربة .. يا شريف ..؟
- أبدا .. إنها حياتى .. ولو بعتها سيسحقنى الأنذال كما يسحقون دود الأرض بأرجلهم .. وعرباتهم ، هل تشعرين بالدود وأنت تسحقينه برجليك فى الغيط ..؟ إنك ما شعرت به قط .. ولست بدودة حتى أترك للانذال لتسحقنى ..
وقالت نعيمة :
ـ بعها ، وسافر كما كنت .. انك مقطوع من شجرة ..
-      هذه بلدى .. وسأعيش وأموت فى ترابها ..
- انت الآن سكران .. وعندما تفيق من سكرك ستندم .. قد تتحطم العربة .. وإن لم تتحطم العربة .. وإن لم تتحطم ستتلف وستتحول على مر الأيام إلى جثة ..
- هناك عربات كثيرة .. فلماذا عربتى وحدها ..؟
- إنى أحبها وأتفاءل بها .. والنقود جاهزة .. وسأعطيك كل ما تطلب ..
- أنها لا تقدر بثمن ..
وحولت رأسها إلى ناحيتى وقالت :
-      انه رجل غريب .. وعجيب ..
وضحكت ، وغابت ، ثم عادت تحمل له رزما من الأوراق المالية .. فعدها ووضعها فى حقيبته ..
ولما سلمنا على الجميع ، وجلسنا فى السيارة ناولته " نعيمة " مدفعا رشاشا فوضعه تحت الكرسى ..
***
وتحركنا فى الليل ..
وسألته قبل أن نبلغ الطريق الرئيسي :
-      لماذا هذا ..؟
-      هل تخاف من النار ..؟
-      أبدا .. وإنما قد يجر هذا إلى المتاعب ..
- إننى لا أسمح لنفسى بأن أقتل ذبابة ، ولكن ماذا تصنع مع الأنذال .. إن لم تجابههم بمثل هذا .. أن العربة تحمل أشياء بألوف الجنيهات ، فهل أترك هذا لذئاب الليل ..؟
-      معك حق ..
-      اطمئن تماما .. اننى لا أقتل ذبابة ..
وسألته :
-      لماذا لا تبيع لها العربة ، وتشترى غيرها جديدة ، عربتك كما يبدو قديمة ..
- إن عربتى قديمة حقا .. ولكنى أعتز بها ، أن لهذه العربة قصة لو عرفتها لوافقتنى على رأيى ..
-      وأشعل سيجارة وقال ونحن نسير على سرعة 80 كيلو فى الليل البارد ..
- منذ تسع سنوات كنت فى ألمانيا الغربية ، أعمل فى شركة تصنع وتبيع السيارات .. شركة كبيرة ولها فروع فى جميع أنحاء العالم .. وكنت فى رغد من العيش ، واستقر بى المقام ، وكانت الأيام جميلة .. كأنها أحلام .. ثم حدثت هزيمة 1967 وأحس جميع المصريين فى ألمانيا بلطمة ، وكانت لطمتى أشد اللطمات .. لأننى كنت أكثر المصريين حماسة وضراوة لسحق اليهود ، فإذا بى أتلقى القارعة ، ونظرات السخرية ، والاحتقار من الجميع ..
وفى ليلة ليلاء ، قررت أن أعود لبلدى ، وأواجه العاصفة ككل مصرى يعيش على أرضها ، وكانت الشركة تريد أن تعطينى مكافأة على عملى ..
فقلت لهم إننى أريد قبل النقود .. عربة .. لأعيش .. أشتغل عليها .. فأعطونى هذه السيارة التى تركبها أنت الآن ..
وشحنوها لى وسافرت قبلها .. وكان معى فوق السيارة نقود كثيرة ..
وعندما وصلت القاهرة ، فكرت فى البيت والحياة ، ورسمت الخط الطويل لمستقبلى ..
ووصلت السيارة إلى الإسكندرية ، فسافرت من القاهرة لاجئ بها ..
ولم أكن أعرف شيئا فى أمور الشحن والجمارك والتخليص ، فقضيت خمسة عشر يوما فى الإسكندرية ألف وأدور فى دوامة ، وأرغمونى على العودة إلى ألمانيا لاجئ ببعض الأوراق ..
وبعد طول العذاب وجدت من يدلنى على رفيق لى فى الدراسة يشغل منصبا فى المصلحة ، فذهبت إليه وأنا فرح بلقائه ، وحكيت له قصة السيارة ، وقدم لى القهوة ثم قال وهو يبتسم :
-      هل ترى هذه الشبابيك ..؟
-      نعم .. أراها ..!
-      مر عليها جميعا .. وبعدها تخرج السيارة ..!
وشعرت بخذلان شديد ، ودارت بى الأرض وتحطمت أعصابى .. وكنت أقدر أنى سأبقى فى الإسكندرية يوما واحدا .. فإذا بى أعود إلى نفس الدوامة ..
وعندما خرجت السيارة وركبتها فى طريقى إلى القاهرة ، كنت قد تغيرت تماما .. ورسمت الخط الجديد لسير حياتى ..
وسألته :
-      ولكن ممن تنتقم الآن ، وأنت تهرب هذه الأشياء ..؟
-      من دود الأرض الذى يعيش على الرشوة ..
-      ولكنك لم تقاومها ..
- وكيف أقاومها وحدى ..؟ هل رأيت الذباب ، أنه لا يجتمع إلا على القذارة ، هل رأيته يحط على شيء نظيف ..؟ أبدا ..
-      ولكن من الذى فتح هذه الشبابيك ..؟
-      أنا .. وأنت .. وما فكرنا فى اغلاقها قط ..
وصمتنا ، وأشعل سيجارة أخرى .. ونظرت من نافذة السيارة إلى الأشجار والقرى والمدن التى نطويها فى الطريق ، والى النجوم التى أخذت تضئ بقوة بعد أن اختفى السحاب ..
نجوم ذهبية كبيرة ستظل تتألق فى سماء بلادنا رغم كل ما يمر تحتها من السحب ..
وتوقفنا عند نقطة مرور ..
-      كله تمام .. يا أفندم ..
-      كله تمام ..
وسرنا .. وأغفيت ، أخذنى النعاس ، وملت بجسمى إلى اليمين بعيدا عنه حتى لا أعوق حركته وهو يسوق ..
وصحوت على توقف العربة .. وفتحت عينى فى الظلام ، فوجدت ضابط مرور قد اعترض السيارة ، ونزل من فوق الموتوسيكل ودار حولنا ..
ثم تقدم وقال لشريف :
-      أفتح الباب الخلفى ..
ونزل شريف وهو يجاهد بما له من قوة أعصاب فى اخفاء وقع هذه المفاجأة على ملامحه ، وسار خطوات فى الظلام ، وفتح باب الصندوق الخلفى فى صمت ..
وقبل أن يتحرك الضابط إلى الخلف لمحنى ، وأنا جالس فى العربة فاستدار إلى وحدق فى وجهى بقوة ..
ثم سألنى فى بشاشة :
-      هل تعرفنى يا أستاذ ..؟
-      أسف ذاكرتى ضعيفة ..
-      أنا زكريا .. تلميذك فى مدرسة السلحدار الإعدادية ..
-      أهلا .. يا بنى لقد مضت سنون .. وكيف حالك الآن ..؟
-      كما ترى ..
-      ضابط عظيم ..
-      شكرا .. وحضرتك مسافر إلى القاهرة ..!
- أجل .. وقد أنقذنى هذا الرجل فى هذا الليل الأسود ، بعد أن تقطعت بى الأسباب فى الطريق ..
ورأيت وجه الضابط فى الظلمة تبدو عليه إمارات الصراع الشديد .. ثم سكنت ملامحه ، وأشار إلى شريف بأن يغلق الباب الخلفى كما كان قبل أن يلقى عليه مجرد نظرة ..
وأغلق شريف الباب .. وعاد وجلس بجوارى .. وحيينا الضابط ..
ولكن قبل أن نسير وقفت بجوارنا عربة أخرى من عربات البوليس ..
وسأل الضابط الجديد زميله راكب الموتوسيكل :
-      فتشت هذه العربة يا زكريا ..؟
-      أجل فتشتها ..
وأعطى زكريا لنا الإشارة وتحركنا ..
وخيم علينا الصمت فى الجزء الباقى من الطريق ..
وعندما دخلنا فى قلب القاهرة ، كان وجه شريف يعبر عن صراع داخلى طال أمده ..
وسألنى ونحن نجتاز النفق :
-      لماذا غير الضابط رأيه ولم يفتش العربة ..؟
-      لا أدرى ، ولم أسأله ..
-      ألأنك كنت أستاذه ..؟
-      قد يكون هذا .. ولكن الواقع أنه أشفق عليك ..
فوجم ، ونظر إلىّ فى استغراب .. وخيل لى أن وجهه قد انقسم إلى نصفين .. 
========================== 
نشرت القصة فى مجلة الهلال بالعدد رقم 5 فى مايو 1975 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
========================= 




























النداء الصامت

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى

رأته لأول مرة فى صالة المستشفى ، ومعه زوجته .. وكانا فى انتظار الطبيب ..
وكانت الحركة فى طرقة المستشفى شديدة .. وفى غرفة العمليات تجرى جراحة عاجلة لحالة خطيرة .. والممرضات فى غدو ورواح .. والسكون الذى كان يخيم على المستشفى منذ نصف ساعة فقط ، قد تحول إلى حركة دائبة كخلية النحل ..
ومع كل هذه المشاغل ، وهذه الحركة ، فإنها نظرت إليه وكأنها ترى رجلا لأول مرة .. منذ وجدت فى هذه الدنيا ..
ولما جاء دور زوجته ، ودخلت على الطبيب .. كانت تتلقى تعليمات الطبيب ، وهى على حالة من السرور غير مألوفة ، لأن الزوجة ستبقى فى المستشفى ، وستجرى لها العملية ، وستراه هى أكثر وأكثر ..
***
وأعدت لزوجته غرفة شتوية ، فى واجهة شمس الصباح الجميلة ..
وسألته لأول مرة سؤالا مباشرا .. بعد أن دخلوا الثلاثة الحجرة ..
ـ هل مع الهانم مرافقة ..؟
ـ سأكون أنا المرافق ..
ـ نعد لك سريرًا ..
ـ لا .. يكفينى هذا الكرسى الطويل ..
ـ كما تحب ..
وأخذت الممرضات فى المستشفى يعددن الزوجة للعملية التى سيجريها الطبيب فى الصباح التالى .. فأخذوا عينة من الدم .. وقاسوا الضغط .. ومنعوا عنها الطعام ..
وكان " صلاح " يشعر بالقلق ، وهو يرى كل هذه الأشياء تجرى أمامه لأول مرة فى حياته .. فزوجته شابة ولا تزال فى نضارتها ، ولم تدخل من قبل مستشفى .. وكانت دائما تخاف من العمليات مهما كان نوعها .. وبمجرد إحساسها بحالة المرض .. أخذت تتردد على الأطباء ..ونحف جسمها وهزل .. وظهر الشحوب على وجهها .. وأوجد عندها القلق والخوف حالة ارتفاع فى الضغط شاذة ، حتى عجب لها الأطباء ..
وكان قلبها سليما .. ولكنه كان يدق بعنف كلما لف الطبيب السوار الجلدى على ساعدها ، أو وضع السماعة ..
وكانت تسأل الطبيب بصوت المسترحم ..
ـ هل العملية ضرورية يا دكتور ..؟
ـ بالطبع .. ضرورية جدا .. وإلا ستظلين دوما تشعرين بهذا الألم ..
ـ أليس من المستطاع تأجيلها ولو شهرا .. حتى أرتب شئونى فى البيت ..؟
ـ أبدا .. ولا ليوم واحد ، إننا نخشى من انفجـار الكيس .. وعندئذ تكون العاقبة وخيمة ..
وأخير رضخت ، وذهبت فى صحبة زوجها إلى المستشفى وقرر الطبيب إجراء العملية فى الصباح التالى ..
***
فى أول ليلة بالمستشفى أحس " صلاح " بالجوع الشديد لأنه لم يكن قد أكل شيئا فى ساعة الغداء .. فخرج من المستشفى ليتعشى ، وعاد بعد ساعة فوجد زوجته نائمة .. فخرج من غرفتها ، وجلس فى الردهة الصغيرة الخاصة بهذا الجناح ..
وكانت الحركة فى المستشفى قد خفت ، وخرج الزوار ، ولم يبق أمامه إلا المصعد طالعا ونازلا فى حركة رتيبة ..
ورأى رئيسة الممرضات " تمر أمامه " رائحة وغادية بسيرها السريع الخفيف ، كأنها لا تلمس الأرض ، وواجهته أكثر من مرة وهو جالس .. ولكن لم يظهر على وجهها أنها تعرفه ، وأنها أشرفت على غرفة زوجته .. وسألته إن كان فى حاجة إلى سرير .. وذلك منذ ساعات قليلة فقط ، فهل حركة المستشفى ، وكثرة ما تشاهده من الوجوه فى داخله .. جعلاها تنساه بهذه السرعة ، تعجب وجلس مستاء ..
رآها هادئة فى تحركاتها ولكنها حازمة ، وكل شيء يسير فى المستشفى بإشرافها فى نظام ودقة وسرعة .. وبالوداعة والنظرة المسترخية ، والصوت الناعم الحنون .. كانت تأسر القلوب ، وقد أسرت قلبه من أول نظرة ، وبعد أول لقاء ، جلس فى مكانه يتابعها وهى ذاهبة وراجعة أمامه .. ونسى نفسه فى جلسته .. نسى أن زوجته وحدها فى غرفتها .. ظل فى مكانه ، ثم تحرك ودخل على زوجته فرآها نعسانة .. فبقى قليلا فى الغرفة وشعر بالملل .. فخرج إلى مجلسه من الصالة .. ورئيسة الممرضات تروح وتجئ أمامه .. وكأنها لا تبصره .. وأدرك من وجودها إلى هذه الساعة من الليل ، أنها فى نوبة عمل طوال الليل ..
وبعد الساعة العاشرة أحس بالبرد .. وبحيطان المستشفى الباردة .. وكان كل شيء قد نام حوله ، فنهض من مقعده ، واتجه إلى غرفة زوجته ، واضطجع على الكرسى ..
وتصور نفسه فى حلم .. عندما بصر برئيسة الممرضات بجانب سرير زوجته .. تعطيها الدواء .. ثم تلقى فى خفة ببطانية على جسمه وهو نائم ..
ولم يفتح عينيه .. ورآها تخرج فى لين وتنساب على أرض الحجرة انسيابا ..
ومع شروق الشمس دخلت عليهما الحجرة ، ومعها ممرضتان .. وكان هو قد ارتدى بدلته ، وحلق ذقنه ..
وقالت بعذوبة بعد تحية الصباح :
ـ سنغير للمدام ملابسها ..
فنهض ..
وعقبت بنعومة :
ـ تستطيع أن تخرج إلى الشرفة ، وتستدفئ فى الشمس ..
ـ لا .. شكرا .. سأنزل لأجئ بصحف الصباح ..
ـ كما تحب ..
وخرج ونزل فى المصعد إلى الدور الأرضى ، وهناك جلس يطالع الصحف .. ويرقب حركة الموظفين فى المستشفى من وراء الزجاج ..
***
كان ممرضات الليل فى طريقهن إلى الخارج ، وممرضات الصباح فى طريقهن إلى العمل فى المستشفى .. وفيهن القبيحة ومتوسطة الجمال والجميلة للغاية .. والسمينة التى تعمل فى المطبخ ، والموظفة التى تعمل فى المكتب ..
وكان يطالع فى وجوههن جميعا الطيبة ، وقد اكتسبن من طول عشرتهن للمرضى ، حالة انسانية تبدو واضحة عند أول اختبار ..
وكانت بعض الوجوه مألوفة لديه ، فقد كن يركبن معه نفس الأتوبيس فى الصباح وهو ذاهب لعمله ..
لما صعد إلى الدور العلوى .. كانت زوجته قد أعطيت المخدر .. وبعد ساعة تحركت إلى غرفة العمليات ..
ووقف على باب غرفة العمليات مضطرب الخاطر ، مزعزع النفس .. مستعرضا فى ذهنه كل الأخطار التى حدثت ، والتى سمعها ، والتى قرأ عنها فى الصحف .. كل أخطاء الطبيب وانحراف المشرط فى يده .. وما يترك سهوا بعد فتح البطن .. من أدوات الجراحة .. ويكون سببا فى الموت المحقق ..
تذكر هذا ، وهو واقف فى مكانه مسمرا .. وراء الباب المغلق .. وكان لا يحس بما يجرى فى الطرقة الواقف فيها .. لقد تركز شعوره كله ، وحواسه كلها ، على ما يجرى فى الداخل ..
كان لا يحس بما حوله فى الطرقة .. من تحرك الممرضات ، وذهابهن إلى حجرات المرضى ، وعودتهن منها .. وحملهن الأدوية والعقاقير والطعام على العربات الصغيرة ..
ولا يشعر بأقدام الزوار فى هذه الساعة الحية من الصباح ، ولا بتحركات الأطباء إلى غرف المرضى .. ولا بكل ما يجرى فى داخل المستشفى ..
كان موقفه مؤلما .. وكان يبصر بالداخلين إلى الصالة الخارجية التى أمام غرفة العمليات من ممرضات وأطباء ، ويود أن يسأل أحدهم عما جرى لزوجته .. بعد أن طال وقوفه ، ولكن أحدا منهم لم يجب على سؤاله .. كانت وجوههم جميعا جامدة ، تعبر عن الهدوء المطلق ، فقد اعتادوا مثل هذه الحالات فمن يمت .. يمت .. وعربة الموتى قريبة .. ومن يعيش يعش .. والدنيا خارج المستشفى واسعة .. واسعة جدا ..
واستدار " صلاح " وأصبح ظهره للباب .. ورأى شعاع الشمس ينفذ إلى الطرقة ، وشجرة كبيرة تبدو من الباب الزجاجى المفتوح على الشرفة ، وشاهد الشجرة حية مورقة وتحركها الريح .. تتلاعب بأعصابها وتميل ..
لماذا تموت زوجته .. أنها ستعيش .. لماذا التشاؤم .. إن العملية سهلة .. ولكن فتح البطن ليس بالسهل .. فتح البطن .. وإذا حدث الخطأ فلن يكون الخطأ من الجراح وحده .. يكون من مساعده ، ويكون من الممرضة .. ويكون من طبيب البنج ويكون من جهاز البنج ..
ورأته رئيسة الممرضات واقفا كالصنم ، لا يكلم أحدا .. ولا يسأل مخلوقا ..
فقالت برقة وابتسامة جميلة على شفتيها :
ـ العملية لم تبدأ بعد .. استرح فى الغرفة .. أحسن ..
ـ وما الذى كان يفعله الطبيب منذ ساعة .. اذن ..؟
ـ أجرى عملية فى القلب لسيدة ..
ـ فى القلب ..؟
ـ فى القلب .. استرح فى الغرفة ، وعندما تبدأ العملية سأخبرك ..
ـ شكرا ..
    ومشى متباطئا إلى الحجرة ..
وكان بعض أقارب زوجته وأقاربه قد جاءوا إلى المستشفى ، فجلس معهم فى الردهة الكبيرة .. ولم يكن يعرف من الذى أخبرهم .. فإنه كان قد أتفق هو وزوجته على ألا يخبرهم إلا بعد انتهاء العملية ليتم كل شيء فى هدوء .. أما وقد عرفوا وجاءوا فلا بأس ..
وسألوه أسئلة كثيرة :
وقال لهم :
ـ العملية .. قد تعمل بعد الظهر .. لأن أمام الطبيب مشاغل كثيرة ..
كان يرغب فى عودتهم إلى بيوتهم .. فليس خالى البال لاستقبالهم ، والترحيب بهم فى هذه الساعة ..
كان يود أن يكون لنفسه ومع نفسه ..
وظلوا معه بعض الساعة ، ثم انصرفوا على أن يعودوا بعد الظهر ..
ونهض وعاد إلى الحجرة ..
وهناك جلس وحيدا يتأمل السرير الخالى .. وعاودته الخواطر المرعبة .. أن زوجته صغيرة فى عز شبابها .. لم تبلغ الثلاثين من عمرها بعد .. فلماذا تمرض بهذا المرض .. ولماذا تموت ..؟ إنها ستعيش .. ستعيش .. عشرة فى المائة يعيشون من الذين تجرى لهم هذه العملية .. فلماذا لا تكون منهم .. لماذا ..؟
أحس بالبرودة فى الحجرة فنهض ، وتحرك إلى الشرفة وفتح بابها .. فوجد شرفة طويلة تدور ومخصصة لحجرات الجناح كله .. ومن هذه الشرفة الطويلة الدائرة ، يستطيع أن يدخل كل الغرف عن يمين ويسار ، من أبواب الشرفات .. هكذا نظام المستشفى فلا توجد حواجز إطلاقا .. الا أبواب الشرفات اذا أغلقت ..
إنها شرفة طويلة مخصصة للجميع ، للدفء بحرارة الشمس فى الشتاء ، والتمتع بالهواء الطلق فى الصيف ..
ونظر إلى الشمس التى ارتفعت .. وإلى حديقة المستشفى حوله .. وإلى الحركة الشديدة فى الشارع الواسع الذى يختنق بالسيارات والمارة .. فى قلب القاهرة الكبرى ..
وكان يود أن يتحرك إلى الغرفة التى على يمينه أو يساره ، ولكنه خجل أن يقوم بهذه الحركة .. إذ أنه فى مستشفى وليس فى فندق ..
ورجع ودخل الغرفة .. وجلس بجانب السرير .. ووضع رأسه على الفراش .. كان يود أن ينام ..
واستفاق على صوت رئيسة الممرضات :
ـ مبروك ..
ورفع رأسه ، فرآها فى ثوبها الأبيض بكل جمالها وكل فتنتها .. وكان من فرط الانفعال يود أن يقبلها .. ولو كانت وحدها لفعل ذلك وإن عد متهورا .. ولكن كانت معها ممرضتان أخريان .. فتناول الأيدى الثلاث وضغط عليها شاكرا ..
وكانت هى وحدها تنظر إلى عينيه بنظرة فيها الفرح والتمنى ..
وخرجت الزوجة من غرفة العمليات ، وحملتها العربة إلى حجرتها .. وكانت لا تزال تحت تأثير البنج .. فوقفت ممرضتان على رأسها ، كل واحدة فى جانب من الفراش ، تمسحان عن فمها البنج .. وظلتا إلى أن تفيق تماما ..
وكانت رئيسة الممرضات تدخل الغرفة وتخرج .. وتلاحظ أحوال المريضة ، وتشير على الممرضتين بعمل أشياء ..
وسألها " صلاح " :
ـ متى تفيق من البنج .. ؟
ـ بعد سـاعة .. بعد ساعتين .. كل واحدة حسب جسمها وأعصابها .. هل الهانم عصبية ..؟
ـ أبدا .. ولكن المرض هو الذى جعلها عصبية ..
ـ اقترب .. واجلس بجانبها وكلمها .. وستفيق على صوتك .. انك تحبها ..؟
وسددت إليه نظراتها ، كما فعلت أول مرة عندما التقت به ..
ـ بالطبع أحبها .. والعشرة الطويلة توجد عند بعض الناس السأم ولكنها أوجدت عندنا الحب ..
ـ عشرة طويلة ..؟
ـ أنت وهى فى عز شبابكما فهل تزوجتما صغيرين ..؟
ـ تزوجنا صغيرين جدا .. وزورنا شهادتى الميلاد ..!
وضحكت .. وكانت تعرف أنه يضحك ، وبعد ساعة استفاقت زوجته .. وجاء الأهل يسلمون ويهنئون .. وجلس النساء معها فى الحجرة .. وخرج هو مع الرجال إلى الصالة ..
وفى الليل نامت زوجته مبكرة .. وخرج هو إلى الطرقة يتمشى حابسا صوت أقدامه .. ولاحظ أن الغرفتين المجاورتين لغرفته .. عليهما علامة خاصة .. والغرفة الملاصقة تخرج منها الممرضات بعربة الأدوية .. فأدرك أنها مخصصة لهن ..
وكانت " رئيسة الممرضات " تتحرك فى الطرقة رائحة وراجعة فى صمت .. ولكنها تناديه بعينيها ، وكان يعرف النداء ويدركه ..
ولم يسأل عن اسمها .. ولم يكن يهمه ذلك ولا يود أن يعرفه .. ويكفيه أنها تناديه فى صمت ..
ومر أسبوع وهو يشعر بوهج النار فى جسمه ومشاعره ..
كان المستشفى مع برودة حجراته وطرقاته .. والرتابة التى فيه .. ومع رائحة المخدر والشاش والقطن الطبى .. وعربة الأدوية .. وعربة المرضى .. وملابس الممرضات المتشابهة والعمال .. والأطباء المتحركين فى صمت ..
كل هذه الأشياء أصبحت رتيبة وكئيبة أمامه ..
ولكن شيئا آخر جديدا استولى على مشاعره واستغرق كل حواسه .. وحدث هذا فى ساعة مرض زوجته ، ورقادها وتعطل مشاعرها نحوه .. شعر بالشيء الجديد الذى دخل حياته وهز مشاعره .. والذى لم يشعر بشيء مثله من قبل أبدا .. وأين .. فى مستشفى ..؟ يا للحياة ..
منذ أشهر قليلة قرر أن يسافر ومعه زوجته إلى الخارج ليوسع رزقه .. فهو لا يزال فى مقتبل العمر ، وأمامه العمر الطويل للسعى والثراء ..
أما الآن فان كنوز الدنيا لا تساوى نظرة حنان من عينيها .. هذه الجديدة .. وضغطة من يدها ..
وما الذى سيأخذه من هذا الحب .. وهل هذا خيانة .. وزوجته مريضة .. لتكن ولتلعنه السماء والأرض ..
فى صباح يوم جميل .. قالت رئيسة الممرضات لزوجته :
- انزلى يا هانم .. من فوق السرير .. وامشى .. الحركة مفيدة جدا .. ادخلى الحمام ..
- لا أستطيع ..
- لماذا .. حاولى الآن .. وسأعينك أنا و " صلا ح " بيه ..
ولا يدرى كيف عرفت اسمه ..
وأمسكت بزوجته من اليمين ، وعاونها من اليسار .. حتى انزلاها من فوق السرير .. ومشيا بها نحو باب الحمام .. وكان من داخل الغرفة .. وولدت هذه الحركة شعورا داخليا دافقا فى نفسه .. شعورا بفرح غامر لم يشعر بمثله من قبل ..
إن زوجته بينه وبينها .. وهى تنظر إليه بدلال وغبطة .. وتبادله الغرام الصامت ..
وأدخلا الزوجة إلى داخل الحمام .. ثم تركاها وحدها .. وخرجا وأغلقا وراءها الباب .. ووقفا فى الحجرة .. ينتظرانها ..
وكان يود فى هذه اللحظة أن يقبل " رئيسة الممرضات " ..
لأول مرة ينفرد بها فى غرفة مغلقة الأبواب .. لأول مرة .. ثم غير رأيه واكتفى بأن مد يده إلى يدها وأمسك بها .. فتركتها فى يده مدة طويلة .. تركتها .. وامتزج عرقه بعرفها حتى فى الشتاء .. كان الانفعال قويا ..
وفتحت زوجته وحدها باب الحمام .. وأعاداها إلى سريرها فى رفق ..
وفى الليل كان جالسا وحده فى الطرقة بعد أن انصرف الزوار .. وأغلق باب المستشفى الكبير ورأى " رئيسة الممرضات " خارجة من غرفة جانبية فسألها :
ـ غرفة من هذه .
ـ غرفتى ..
كانت فى نفس الصف ، بعد غرفة زوجته بغرفة واحدة .. وسر لأنها تتنفس قريبا منه ..
وسألها :
ـ وتنامين هنا ..؟
- بالطبع .. وأقيم إقامة دائمة .. المستشفى هو بيتى .. والليلة التى لا أكون فيها فى نوبة سهر .. أنام من الغروب ..
وعرف الليالى التى تعمل فيها إلى الصباح .. والليالى التى تستريح فيها وتنام من الغروب ..
ومرت أيام أخرى طويلة وهو فى صراع مع عواطف قلبه .. ولمحها فى عصر يوم من بعيد تتحرك بسرعة كعادتها فى الطرقة .. ودخلت إحدى الغرف .. وانتظرها ، ولما خرجت مشى نحوها واستوقفها فى مكان خلا من الحركة .. وسألها وهو يهمس :
ـ هل أنت فى راحة الليلة ..؟
ـ أجل ..
ـ إذن سأجئ إليك بعد منتصف الليل .. من ناحية الشرفة ..
ـ هذا جنون .. أنت متزوج وأنا ..
- أعرف هذا ويلذ لى أن تكون الخطيئة مزدوجة .. اتركى باب الشرفة مفتوحا .. وإلا هشمت الزجاج ..
فأسبلت عينيها .. ولم تنطق وتركته وانسابت فى خفة كأنها لاتمشى على الأرض ..
وشرب " صلاح " القهوة ليمنع عن عينيه النوم .. ولكن النوم غلبه .. وفتح عينيه مذعورا والشمس طالعة ..
ونهض من كرسيه الطويل سريعا ، وفتح باب الشرفة بحذر شديد .. وتحرك بخفة إلى الشرفة الطويلة .. ووقف على باب رئيسة الممرضات .. فرآها تركت له الضلفة الزجاجية مفتوحة وردت الضلفة الخشبية قليلا لتسمح له بالدخول ..
وكانت نائمة على سريرها الصغير ، وتغطى جسمها بالبطانية الزرقاء .. وعلى وجهها أثر السهر الطويل ..
وأحس بحركة استيقاظ فى الغرف المجاورة ، وخشى أن يشاهده أحد .. فرجع سريعًا إلى غرفته .. وفى قلبه الحسرة وفى نفسه الكمد ..
وفى الصباح التالى شاهد رواد المستشفى " رئيسة الممرضات " .. تحمل حقيبتها الكبيرة فى يدها .. وخارجة من باب المستشفى للمرة الأخيرة .. لقد تمزق الرداء الذى ارتدته سنوات ووهبت نفسها له ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 30 الصادر فى شهر مارس 1976 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
=======================























لم يفعل شيئًا

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى



       مات " عبد الحليم سرحان " قبل الغروب بساعة .. وكان لموته وقع المفاجأة ، فهو لم يمرض ، ولم يشك علة .. ولم يتردد فى حياته على طبيب ، ولم يدخل مستشفى .. ومع ذلك مات ، ومات بالسكتة وأحدث موته ارتباكا وفزعا بين أهله ..
       ثم تحرك ابنه " توفيق " بعد أن ذهب عنه الروع .. وأخبر أقاربه وأبرق لزوجة أبيه فى " طهطا " وامتلأ البيت بالموجودين فى القاهرة الذين سمعوا بالخبر .. واجتمعوا فى مجلس عائلة ..
       وبعد أخذ ورد ومشاورة بينهم ، استقر رأيهم على نقله إلى بلدته ، ونقله فى هذه الليلة ..
       واتصلوا " بالحانوتى " فى العباسية ، فطلب سبعين جنيها أجر عربة نقل الموتى وحدها .. بخلاف مصاريف أخرى كثيرة .. كصندوق الزنك ، والكفن والتحنيط ، والأتعاب :
       واستكثر أهله المبلغ ، وحالة الأسرة لا تسمح به فى هذه الظروف العصبية .. واحتاروا ماذا يفعلون .. ولأول مرة يشعرون بأن الموت مصيبة .. وكبرى المصائب ..
       وأخيرا وهج خاطر سريع فى ذهن الحاج حسانين التاجر بالأزهر ، وكان من بلدتهم ، ووثيق الصلة بالميت ..
       فقال لهم :
       - انقلوه فى عربتى .. وتوفيق .. ولطفى .. يتبادلان السواقة فى هذه المسافة .. وباقى الأهل يأخذون قطار الصعيد الليلة ليحضروا تشييع الجنازة ..
       واستراح الجميع لهذه الفكرة التى جاءت من وحى الخاطر وأنقذت الموقف الصعب ..
       ولما كان الحاج " حسانين " قد ذكر اسمى كمعاون لتوفيق فى هذه الرحلة .. فقد صمت ولم أعترض .. وكنت أتصور أنهم سيستدعون الحانوتى ، ليغسل الميت ويكفنه ، وبعدها نسافر ..
       ولكننى علمت من تباطئهم عن فعل ذلك ، إنهم سينقلونه على حاله كشخص مريض ، مدثر بالبطانية ، ويجلس وحده فى الكرسى الخلفى ..
       واعترض شيخ كبير من الحاضرين على ذلك .. وكان خبيرا بأحوال الموتى كما يبدو لى .. وقال لهم ..
       - ان نقله كمريض وهو فى وضع الجالس .. ستجرنا إلى متاعب .. لأن العظام ستتصلب بعد ساعتين على الأكثر ، وتتخذ نفس الوضع ، ويكون علينا أن ندفعه فى قبره جالسا ..
       ولاح ابن خاله " نعمان " وهو ينفث دخان سيجارته :
       - سنضعه فى الشنطة ممددا .. مستريحا .. وكانت الفكرة جميلة وسهلة ..
       وبعد أن هدأت الحركة فى الطريق .. دخلت العربة " المرسيدس " فى الشارع ووقفت أمام البيت وأخليت " الشنطة " من كل الأشياء التى كانت فيها ..
       ودون نحيب أو بكاء ، وفى صمت مطبق ..
       نقلنا الميت ووضعناه فى " الشنطة " فى سكون ..
       وتحركنا قبل منتصف الليل .. أنا وتوفيق فى ليل الشتاء المظلم البارد ..
       وكنت أنا الجالس على مقعد القيادة .. واتفقنا على أن أسوق حتى مدينة بنى سويف .. وهناك سيأخذ توفيق مكانى .. وهكذا نتبادل السواقة فى هذا الطريق الطويل الذى يبلغ أكثر من ضعف المسافة بين القاهرة والإسكندرية ..
       ولم أكن أسرع من سبعين كيلومترا فى الساعة ، لأن الظلمة كانت شديدة .. والعربات التى كانت تسير فى الطريق المضاد .. كانت لا تفتأ تغشى أبصارنا بأنوارها القوية .. وكان الطريق فى جملته ضيقا ، وليس كطريق الإسكندرية الزراعى ..
       وكنت متضايقا ، لأنى فوجئت بالأمر دون أن أعد له عدته .. ولم أستطع حتى أن أستأذن وآخذ أجازة من عملى .. وكل ما فعلته هو أنى تركت ورقة صغيرة مع " يحيى " تحمل هذا المعنى ليوصلها لرئيس القسم .. وقد شرحت فيها كل الظروف ..
       وكنت قد عرضت عليهم دفنه فى مقابر الحاج عبد الصمد فى " البساتين " وهو من أهل بلدته ، ويقبل ذلك عن طيب خاطر .. ولكنهم رفضوا لأن زوجته ستظن بهم ظن السوء .. وستتصور بأنهم سموه ودفنوه بعيدا عنها .. ليخفوا جريمتهم .. وستتوالى بعد دفنه بلاغاتها للمحققين .. وعلى الأخص أنه لم يمرض ، ولم يسمع أحد فى طهطا بمرضه ..
       وكنت أحب الميت لطيب أخلاقه .. ولكننى آخذ عليه أنه تزوج بعد موت زوجته الأولى وأم أولاده ، وهو فى سن الشيخوخة .. وأخذت بينه وبين أولاده هذه الفجوة الواسعة ..
       وكان يحب زوجته الجديدة ، بمثل الكره الذى أصبح يشعر به نحو أولاده ، لأنهم وقفوا فى وجهه ، واعترضوا على رغبته ..
       وأصبح يكايدهم بحبه لها ، وولهه بها ، والاستجابة لكل رغباتها ..
       ولم أرها أو أعرف أن كانت تستحق هذا الحب ، ولكننى سمعت أنها صبية وجميلة ، وإن لم تكن من أسرة ذات عراقة فى الصعيد ..
       وكنت أحدد فى ذهنى ملامح الزوجة ، وأنا أتجاوز بالعربة مدينة " الحوامدية " ولم أكن قد توقفت عند أى كشك من أكشاك المرور..
       وكان " توفيق " يدخن بشراهة .. وقد اختاره الحاج " حسانين " ليسوق عربته لأنه يجيد السواقة مثلى ، ويعرف فى ميكانيكا السيارات كمهندس ، لو حصل أى عطل للعربة فى الطريق .. ولأنه كان يحب المرحوم والده ، رغم كل ما حدث بينهما من مشاحنات بسبب الزواج .. ولهذا كان المرحوم ينزل عنده كلما قدم القاهرة فى شأن من شئونه ..
       وكان من الخير لنا وللعربة ألا نصحب معنا شخصا ثالثا ، ويكفينا الميت فى " الشنطة " ..
       وقبل " البدرشين " لم أكن أفكر قط فى أنى أحمل ميتا ورائي فى الحقيبة الخلفية ، ولكن بعد هذه المدينة أخذت أفكر .. واشتغل ذهنى بعنف .. ولم أكن أعرف وقع المخالفة ، ولا أثرها ، ولا كل ما يترتب عليها من غرامة أو عقوبة .. فهذه أول مرة ننقل فيها ميتا فى عربة خاصة ..
       ولكن هذه الفعلة لم تؤذ أحدا .. ولا ستكون السبب فى انتشار الطاعون .. لأن الميت مات بالسكتة .. ولم يكن مريضا بالحمى أو سواها ..
       كنا قد أغلقنا زجاج العربة لشدة البرد ، وابقيت فرجة صغيرة بجانب ذراعى الأيسر ، أشير بها على العربات فى هذه الظلمة .. وكانت الرياح تصفر ، والأشجار تتمايل فروعها ، ومزارع البرسيم تبدو كالبساط الأخضر عن يمين وشمال ..
       وكنا فى خط تكثر فيه القرى المنيرة والمظلمة على الطريق الضيق ..
       وكنا نبتعد عن طريق السكة الحديد ونقترب ، حسب الأحوال .. ولكننى كنت أشعر بالراحة كلما سمعت صفير القطارات ، ودوى عجلاتها على القضبان ، وأزيز الريح فى أسلاك البرق القائمة على الخط ..
       وكان أكثر ما يخيفنى ، هو اللوريات الضخمة المحملة بالأكياس على ارتفاع شاهق ، مارة بجوارنا ، دون أن تحس بوجودنا فأخاف أن تفلت منها الحمولة ، وتنزلق علينا ، وتدفننا تحتها ، قبل دفن الميت ..
       وكنت متيقظا وحذرا إلى أقصى مدى .. لأنى أحمل ميتا فى الخلف .. ولمحت ثعلبا يجتاز الطريق فى سرعة خاطفة ، ويتفادى العربات .. إن كل حى يسعى لمعاشه فى البرد والريح والليل والظلام ..
       وقبل " بنى مزار " وكنت قد هدأت السرعة لمحت امرأة فى سواد على جانب الطريق .. وكانت تشاور لنا .. فتوقفت بعد أن وافق توفيق ، وأركبتها فى الكرسى الخلفى الخالى .. وكانت تحمل على صدرها شيئا ملفوفا بعناية .. وأدركنا بعد أن جلست أنه طفل ..
       ولم نسألها عن وجهتها ..
       وكانت صامتة صمتا أخرس .. ويبدو الطفل ساكنا ، فلم نسمع له صوت بكاء ولا حركة .. وكانت قد لفته فى خرق كثيرة لتحميه من البرد ..
       وعند " سمالوط " طلبت النزول ..
       ونزلت والطفل فى مكانه على صدرها ..
       وقالت بصوت ضعيف :
-      الأجرة .. كم ..؟
-      هذه عربة ملاكى يا ستى ..
-      ملاكى ..؟!
-      أيوه ..
-      كتر خيرك ..
واستدارت فى جانب الطريق لتسير .. فقال لها توفيق وقد أحس بالعطف عليها ، من سوء ما بدا من حالها :
-      انتظرى يا ستى خذى ..
-      ايه دا ..
-      اشترى حلاوة لطفلك ..
-      دا ميت يا بيه .. مات فى الغيط .. ومروحه أدفنه ..
وقال توفيق بصوت خافت :
-      شدى حيلك ..
ثم استدار نحوى وهمس :
-      أنها عربة الموتى ..
وتحرك سواد المرأة فى سواد أشد ، وغابت فى الظلمة ..
-      مات فى الغيط .. كما يموت الدود..
ولم أعلق .. الجمتنى الكآبة ومزقت أوتار حسى ..
وسألنى بعدها توفيق :
-      وهل مات من البرد أم من الجوع ..؟
-      من الجوع .. ألم تر المرأة ..؟
-      وهل هناك حقا انسان يموت من الجوع ..؟
-      نعم .. مات الشيخ الخطيب من بلدنا .. مات من الجوع .. وكان أمام المسجد ..
-      من الجوع ..؟
-      من الجوع .. ولم يسأل مخلوقا طعاما ..
وقد عاقب الله القرية ، فلم ينبت لها زرع ، ولم يحن لها ضرع بعد هذه الفعلة .. قطنها يأكله الدود .. وبرسيمها يغدو هشيما تذروه الرياح .. وأشجارها يابسة لا تورق ولا تزهر قط ..
- ولكن هل شعر أهل القرية بحاله ..؟
- طبعا .. وإلا ما كان الله يعاقبهم .. شعروا بحاله ، ولم ينقذوه من براثن الجوع .. وكان الرجل من عزة النفس ، بحيث لم يقبل أن يذلها لمخلوق ، ولم يسأل أحدا حتى ذوى جسمه ومات ..
وأحسست برعشة رغم أننى أسوق العربة .. ويجب أن أكون فى كامل حواسى ..
ولكن العربة تتحرك وحدها .. وهو شيء يعرفه السائق فى الليل .. فرغم العتمة والبعد عن المدن والقرى والعزب التى على جانب الطريق .. فان العربة كانت تتحرك وحدها ، وكانت تبحر فى بحر لجى من الظلمات تقطعه من حين إلى حين أنوار العربات المضادة ..
وجاء دورى فى الراحة ، وغيرت مكانى ، وأصبح توفيق يسوق بطريقته ..
وبعد " الفكرية " اعترضنا ضابط مرور بموتوسيكله فوقفنا ، وسلط أنوار البطارية على العربة من الخارج وعلى وجهينا من الداخل .. وطلب رخصة القيادة ، فأخرجها له توفيق على مهل .. وأخذ الضابط فى فحصها وأخذت أنا أحدق فى وجهه .. كان شابا طويلا أسمر ، براق العينين هادئا ، يبدو مهندما فى بدلته العسكرية البرتقالية اللون ، رغم ركوب الموتوسيكل وتراب الطريق ..
ولم أكن أعرف السبب لايقافنا وفحص الرخصة ، فان هذه الأشياء ، حسب علمى ، كانت نادرة الحدوث فى خط الصعيد .. ولكن لابد من حدوثه لازعاجنا وارعابنا ، لابد لأننا نحمل ميتا ونخفيه فى  الشنطة .. تلك حكمة الحياة الأزلية ..
حولت بصرى إلى توفيق .. ولم ألاحظ عليه الرعب الذى انتابنى .. فقد أحسست بالعرق على جبينى رغم برد الشتاء .. كان توفيق هادئا ، ساكن الطائر ، وحتى السيجارة التى يتطلبها الموقف لم يشعلها ..
وقال الضابط ، وهو يرد الرخصة لتوفيق ..
-  اعمل معروفا .. ولا داعى للسرعة .. وراءكم عربة اتحطمت بعد " سمالوط " ومات كل من فيها ..
وتحركنا على مهل .. وكنت أنا الذى يسوق .. وجلس توفيق على يمينى وكنت أود لو يغفو .. ينعس قليلا ليستريح .. ويريح أعصابه للجولة المقبلة فإنها كانت الأخيرة .. ولكن ظل صاحيا .. وأخذ يحدثنى عن أحلامه بعد موت والده ..
فسينطلق الآن إلى السعودية .. بعد الأربعين .. ولن يعيقه عائق .. ومن السعودية إلى غيرها وبعد أن يكون ثروة .. سيبنى فيلا لنفسه فى أجمل حى فى القاهرة .. وعمارة للاستغلال ..
وكنت أسمعه ولي مثل أحلامه .. وعيناى وحواسى كلها على الطريق وأحسست بالجوع .. وعرضت على توفيق أن نأكل فى ملوى .. أو ديروط .. ولكنه رفض .. وقال لى :
-      كل أنت ..
ولم يكن من الذوق بالنسبة لحالة الحزن أن آكل أنا ولا يأكل هو .. فتركت الجوع يعضنى بنابه ..
ومررنا بجوار زراعة قصب .. ولمحت على البعد شيئا فى الطريق .. فأرسلت نور الكشاف .. وبصرت .. بحجارة موضوعة فى غير ترتيب ، ورآها توفيق كما رأيتها ..
فقال وهو يخرج مسدسه من جيبه ، وكان يعرف أحوال بلاده أكثر منى :
- قطاع طرق .. وقلل السرعة كأنك ستتوقف .. وفى المنطقة الواسعة من الجسر انحرف إلى اليمين .. وتفادى الحجارة .. ما استطعت .. وأنت تسرع ..
وفعلت ذلك .. أبطأت ثم أسرعت .. ونجوت من الكمين .. وغاظهم ذلك فأطلقوا علينا النار .. ورد عليهم بطلقة واحدة فى الهواء ليشعرهم بأننا مسلحون .. طلقة واحدة ولم يطلق غيرها .. وسمعت بعدها الطلقات من الجانب الآخر .. وأنا أسرع فى سرعة خاطفة ..
وفى جزء من الثانية تلفت نحو " توفيق " فوجدت رأسه قد مال إلى الوراء .. وانتابنى الرعب .. وأضأت النور الداخلى ومددت يدى .. وشاهدت الدم .. وصرخت ..
أصبحت أحمل اثنين فى عربة الموتى الولد والوالد ..
وأمام مركز البوليس ، وكان على الطريق فى أسيوط .. لم أتوقف ..
وظللت أسير وحدى وأنا أصرخ ..
-      انه ما فعل شيئا فلماذا يحدث هذا .. لماذا ..؟
ولما يأتنى الجواب .. وظللت أسير ..
============================ 
نشرت القصة فى مجلة الإذاعة والتليفزيون بالعدد 2135 بتاريخ 14/2/1976 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
===========================













الجبــــــــار

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى



     فى ليلة مظلمة من ليالى الشتاء ، فكر بعض اللصوص الأذكياء فى مغامرة كبرى ليس لها ضريب فى التاريخ ، فكروا فى سرقة نجفة لاتقدر بثمن موضوعة فى مكان آمن ..
     وهى تحفة كبيرة تتلألأ بالثريات والقناديل ، ومدلاة بعقود من الكريستال، ومزدانة بحبات من الزمرد والياقوت والعقيق والمرجان ..
     وتتدلى شامخة فى زهو كل نادر فى الوجود ، تتدلى من قبة مسجد كبير من مساجد السلاطين ..
     وعندما تضاء هذه التحفة بعد الغروب ويغمر المسجد الضياء ، ويهب نسيم الليل ، تتراقص ثرياتها ، وتتماوج قناديلها ، ويمتزج النور الأزرق ، بالأصفر والأحمر ، ولون العناب ..
     ويسجد المصلون فى النور ، وهم يسبحون لله العلى القدير الذى خلق الإنسان .. فصنع بيده مثل هذا الجمال الفتان ..
     وفى ساحة المسجد سمع صوت الشيخ رفعت يتردد فى جنباته من المذياع ..
     ورتل الشيخ عبد الباسط .. وشعيشع .. والمنشاوى القرآن فى صلاة الجمعة ..
     كما أنشد الشيخ طه الفشنى التواشيح ..
     وتحت هذه النجفة جلس الطلبة يراجعون دروسهم .. وقرأ المصلون القرآن واستراح أهل الحى يستنشقون الهواء النقى المصفى فى ليالى الصيف الجميلة ..
     وكان المسجد على رحابة صحنه ، واتساع أرجائه قليل الرواد والمصلين فى الليل والنهار .. لأنه يرتفع عن الطريق بدرجات عالية .. ولأنه يقع فى منطقة تكثر فيها المساجد ، كما أنه يغلق أبوابه بعد صلاة العشاء بنصف ساعة ..
    وبعدها يخيم السكون التام ، والهدوء المطلق على الحى بأجمعه ..
    وفى الشتاء القارس يتحرك تيار الهواء بعنف تحت جدرانه العالية ، ويصبح كحد السيف يقطع الرقاب ..
     ويقوم على خدمة المسجد ، وهو فى الوقت عينه حارسه فى الليل .. عجوز مشلول كان يرقد بعد صلاة العشاء فى قاعة منعزلة تقع فى الزاوية الغربية من المسجد .. وبابها على الباب الكبير ليسمع المشلول وهو راقد ويرى ..
     وقد ظل هذا العجوز المشلول يخدم فى هذا المسجد قرابة خمسين سنة .. خدمه فى صباه وشبابه .. ويافع رجولته .. فلما انشل فى شيخوخته أشفق عليه انسان طيب ممن بيدهم الأمر .. وأشر على أوراقه بأن يبقى خادما للمسجد ما دام حيا ..
     وعاش العجوز يتنفس من هواء المسجد .. فأصبح قطعة منه .
     وكان يعرف كل شبر فى المسجد .. وكل حجر ، وكل عامود ،  وكل سجادة وتحفة ..
     وقبل شلله كان يتحرك فى نشاط وقوة .. ويدور على زوايا المسجد ومحرابه .. ثم يغلق الباب ..
     وبعد أن انشل عينوا له صبيا يأتيه بالطعام والشراب ، ويتحامل عليه إلى دورة المياه ..
     ويبقى الصبى معه إلى ما بعد صلاة العشاء ، ثم يغلق الباب ويترك العجوز وحده إلى الصباح ..
     دخل اللصوص الثلاثة المسجد فى أوقات الصلاة .. وشاهدوا بأعينهم كل ما هو فى حاجة إلى معرفته .. عرفوا فى أى شىء تتعلق النجفة .. ومكان السلم الطويل .. ومتى يغلق البـاب الضخم ومتى يفتح .. وفى أى ساعة من ساعات الليل يبقى العجوز وحده .. ومتى يدخل حجرته لينام وهو آمن .. عرفوا كل شىء .. ورسموا الخطة الجهنمية بإحكام لاثغرة فيه ..
     وكان من تدبيرهم الشيطانى أن يرفعوا النجفة المخطوفة بخطاف يوضع فى السقف ، ويضعوا فى مكانها فى نفس الليلة نجفة أخرى عادية يشترونها بجنيهات لاتزيد على المائة ..
    واشتروها فعلا وأعدوها للمغامرة ..
     وكان لابد من وجود الكهربائى الفنى الذى يخلع هذه النجفة النادرة دون خدش ، ودون أن تسقط مرة واحدة .. ثم يضع فى مكانها النجفة الزائفة ..
     ووجدوا المشقة فى الحصول على هذا الشخص ، فإن مجرد ذكر المـكان ولو على سبيـل التعمية والتضليل .. كان يرعش العامل ويرعبه ..
     وأخيرا وبعد يأسهم ممن أغروه بالمال .. عثروا على من هددوه بالقتل إن لم يرضخ لمشيئتهم ..
     وأخذوه فعاين كل شىء فى الداخل على الطبيعة ..
     وبلغ منهم السرور مبلغه ، لما قال لهم أن العملية ستتم فى يسر ، وفى وقت أقل مما قدروه بحسابهم ..
     وفى الليلة الظلماء .. تحرك أربعة فى سيارة ومعهم نجفة كبيرة وعدد وحبال وبكر ..
      وتحت جدار المسجد صعد اثنان منهم وصليا العشاء مع المصلين ..
وبقى اثنان مع النجفة الزائفة فى العربة .. حتى تأتيهما الإشارة ..
   وبعد أن خرج المصلون من المسجد .. وأغلق الباب وخيم الظلام .. تحرك من فى العربة .. وصعدا السلالم .. وفتح لهما رفاقهما الباب ثم أغلقوه ..
     وعلى ضـوء مصباح واحد .. رفع السلم وصعد العامل الفنى ..
وأخذ يدور ببصره فى سقف المسجد ، وقد رأى كل الثريات تدور مع عينيه .. والسلم الواقف عليه يروح ويجىء ويتطوح ..
     وأحس بالعرق الغزير وبرعشة .. وبمثل الكلابة تدور على عنقه فسقط ما فى يده .. وصرخ .. وأخذ يهبط السلم كما صعد  وهو يرتعش .. فمه يرغى ويزبد بمثل الحمم ..
     ولكمه أحد الأذكياء ليجعله يفيق من غشيته ، ودفعه أمامه ليصعد السلم مرة أخرى ..
     فصعد العامل مستسلما صاغرا ، واللص وراءه وفى يده العدد ..
     وأحس خادم المسجد المشلول بهم وهو فى قاعته الصغيرة .. وسمع الصرخة .. ففتح عينيه وحدق .. وشاهد السلم ومن يصعد فوقه .. فأصابه الفزع من هول المنظر .. إن ما يجرى أمامه لم يخطر بباله ولابال أحد من البشر ..
    وكان الاثنان اللذان فوق السلم قد صعدا إلى قمته .. وهناك دارت بهما الأرض ، وشـعرا بالسلم يتطوح كالمرجيحة ، وهما جزء من أخشابه .. فلم يقويا على الحركة وتخشبا فيه .
   وأخذ المشلول ينظر إلى من على السلم ، ومن تحته فى فزع ، وهو عاجز عن الحركة ، وغاب عنه أنه لايستطيع أن يفعل شيئا .. وكلما رأى حركاتهم ، وأيديهم ترتفع إلى أعلى ، خيل إليه أن أحدهم قد اقترب من النجفة وتجاسر على لمسها وفكها ، فاحتدم غيظه وانفجر غضبه .. وألفى نفسه من هول المنظر الذى أمامه يقف على قدميه ويتحرك ..
     وروع اللصوص الأذكياء بالعجوز المشلول ينهض على قدميه ويصيح فيهم بصوت يرعد :
     ـ لم يبق إلا المسجد .. يا أوغاد ..
     وتضخم جسم المشلول فى نظرهم ، وأصبح ماردا جبارا فى طول السقف ، وعرض عشرة من الرجال .. 
     وصاح أحدهم عندما رآه هكذا ..
     ـ المشلول .. الجبار ..
     وسـقط الذى فوق أعلى درجات السلم مفزوعا بين الموت والحياة ..
     وحملوه سريعا وخرجوا فى الظلام ..
     وفى صلاة الفجر صعد الذى كان مشلولا إلى المئذنة واذن ..
     وما عرف إنسان قصته فقد طواها الزمان ..
================================= 
نشرت بمجلة الثقافة ـ العدد 19 فى أبريل 1975 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " 1977
=================================


















الصمت

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


       شعرت بألم حاد فى أسنانى منذ بداية الشتاء .. وتركته دون علاج حتى ظهرت آثاره على وجهى كله .. وأخيرا ذهبت الى عيادة الدكتور " عزمى " الطبيب القديم ..
       وبعد الفحص .. رأى خلع أسنانى جميعا .. وتركيب أسنان صناعية فى مكانها .. ورضخت متحسرا لأمر الطبيب ..
       وكانت العيادة فى عمارة ضخمة بشارع " شريف " بمدينة القاهرة .. يشغل معظم شققها أطباء .. فتحت شقة الدكتور عزمى مباشرة طبيب .. وفوقه طبيب كذلك .. واللافتات متلاصقة والأبواب متشابهة فى حجمها وطرازها ..
       وتعجب وأنت تلج باب العمارة .. وتركب مصاعدها من كثرة لافتات الأطباء فيها .. كأنما بناها صاحبها ليجمعهم فى مكان واحد ليهون مشقة البحث على المرضى المساكين .. وعلى الأخص الذين يفدون من الريف ..
       وكان الدكتور " عزمى " مرتفع الأجر قليل المرضى .. لأنه وصل إلى مرحلة من العمر يريد فيها أن يستريح بعد أن بلغ سن السبعين .. وكان يشغل فراغه كله ببستان من الورود اشتهر باسمه .. يملكه فى ضواحى القاهرة ..
ولم تكن له أسرة فى القاهرة .. كانت زوجه قد توفيت منذ ثلاثين سنة .. وتركت له بنتا واحدة .. تزوجها طبيب مصرى وهاجر بها إلى الخارج .. وهى تعمل الآن طبيبة فى " أنديانا " بأمريكا ..
ولعله كان يرى صورة ابنته فى الممرضة الوحيدة التى عنده .. وكانت سميرة جميلة وأنيقة وتستقبل مرضاه القليلين بابتسامة مشرقة وصوت حلو ..
وكنت أذهب إلى العيادة حوالى الساعة السابعة من كل مساء .. واقتصر على مرتين فى الأسبوع فقط .. وأجد باب العيادة مغلقا .. وأضغط على الجرس فتفتح لى الممرضة الباب وأدخل .. فأجد العيادة خالية من المرضى .. ويكون الطبيب لم يصل بعد .. فأجلس فى انتظاره ما يقرب من الساعة .. مقلبا البصر فى المجلات الطبية والمصورة .. أو متحدثا مع الممرضة .. حتى يأتى الطبيب ..
وطالت مدة العلاج .. ولأنى كنت أثق فى الطبيب فلم أضق ذرعا بالمشوار وما ألاقيه من عذاب .. المواصلات فى كل زيارة ..
وكانت الممرضة " سميرة " تعاملنى معاملة خاصة .. لأنها تعرف علاقتى القديمة بالدكتور " عزمى " أيام كنا نعمل فى مدينة بنها ..
وبعد أسبوع من ترددى على العيادة .. لاحظت وجود شاب فى الداخل يرتدى قميصا صوفيا .. وبنطلونا رماديا ولا يغيرهما ..
وبمجرد ما تفتح لى الممرضة الباب .. ويسمع وقع أقدامى فى الطرقة الخارجية .. ينهض الشاب ويخرج ..
ويحمر وجهها هى جدا .. كلما استقبلتنى على الباب .. وبدرت منه هو هذه الحركة ..
ولم أسألها عنه طيلة رؤيتى له .. وكنت أراه دائما كلما دخلت .. وفى أثناء غياب الطبيب ..
وأصبحت آلف وجوده ككل شىء أشاهده هناك ..
وغفرت لها تصرفها .. وائتناسها بهذا الشاب .. لأن العيادة موحشة .. وجلوسها بمفردها هذه الساعات الطوال .. مما يحطم الأعصاب ..
***
وكنت أستريح للدكتور " عزمى " فى عمله كطبيب .. وأقدر ما وصل إليه من علم وثقافة .. وأحاول أن أجعله يرجع إلى نشاطه القديم فى مزاولة مهنتة .. ولكنه كان مصمما على الراحة .. ويكتفى بزراعة الورد ..
وكان يسافر فى كل صيف ليزور ابنته ..
ولا شك أنه فى أثناء عمله كطبيب .. وزارع للورد كون ثروة .. وثروة كبيرة اشتهر بها .. وتحدث الناس عنها لأن مصاريفه محدودة ..
وكنت أعرف يقينا أنه لا يلعب القمار قط .. ولا يشرب الخمر إلا فى المناسبات النادرة ..
كما أنه منذ توفيت زوجته لم يفكر فى امرأة أخرى .. وان كان اختياره لهذه الممرضة .. فيه الكثير من التنفيس عن بعض رغباته المكبوته ..
وكانت الممرضة بالنسبة لى أيضا تنفيسا عن آلام الأسنان التى أحس بها .. فقد كنت استريح إلى الحديث معها .. وأنسى الساعات التى انتظر فيها الطبيب ..
وكان بعض المرضى يفدون إلى العيادة .. ثم ينصرفون بعد يأسهم من حضور الطبيب فى هذه الليلة .. على أن يحضروا فى ليلة أخرى .. ولكننى كنت أنتظره مهما طال تأخره .. وأظل فى حديث ودى مع الممرضة حتى نسمع حركة المفتاح فى الباب فنعرف أنه الطبيب ..
***
ولكثرة رؤيتى للشاب الذى كنت أراه معها كلما ولجت من الباب .. قرأت فى عينى السؤال عنه أكثر من مرة .. ولكنها كانت تلوذ بالصمت ولا تفصح ..
وذات مساء سألتها عنه :
ـ لماذا يفر هذا الشاب كالمذعور كلما رآنى يا سميرة ..؟
ـ أنه زوجى .. يا أستاذ أحمد وهو مكسوف منك ..
ـ زوجك ..
ـ أجل ..
ـ أنه يبدو أصغر منك ..
ـ لقد تزوجنا منذ ست سنوات .. ومن وقتها نبحث عن شقة ..
ـ أن كنت قد علقت إتمام الزواج على الشقة .. فلن يتم الزواج قط ..
وضحكت وقالت :
ـ لك الحق .. تصور أن هناك من يطلب ألفين من الجنيهات كمقدم لغرفتين أرضى ..
ـ وهل يشتغل زوجك ..؟
ـ ينتظر التوظف .. أنه دفعة 1973..
ـ ولم عجلتما بالزواج ..؟ كان يجب الانتظار حتى يشتغل .. فالحياة الزوجية ليست مغامرة .. أو نزهة فى بستان .. أنها مسئولية كبيرة ..
ـ إنه يحبنى ..
ـ أطلبى من الدكتور أن يحدث بعض معارفه الكبار ليحصل لك على شقة ..
ـ لقد تحدث فعلا مع أحد أصدقائه بشأن هذا .. ووعد خيرا .. ولكن مضت سنة بلا نتيجة ..
ـ أليس مع زوجك نقود ليدفعها لسمسار أو لص من لصوص الشقق وما أكثرهم ..
ـ أبدا أنه أفقر منى ..
ـ لم يبق إلا أن تسكنى فى بيته أو يقيم فى بيتك ..
ـ لو كان يوجد ما يصلح لهذا.. ما جاء للعيادة كل يوم ..
ولقد كنت غبيا حقا .. ولو أدرك هذا ..
وقدرت الظروف التى تجعل زوجها يأتيها يوميا فى هذا المكان .. لأنه لا يجد مكانا آخر يبادلها فيه عواطفه .. ولهذا يحمر وجهها خجلا كلما فتحت لى باب العيادة المغلق عليهما ..
***
وحدث فى ليلة من ليالى الشتاء الشديدة المطر أن وجدت باب العيادة مفتوحا .. على غير ما ألفت فدخلت .. ولم أجد الممرضة فى الطرقة .. وكانت الحجرات كلها مضاءة وناديت على " سميرة " فلم يرد علىّ أحد ..
ووقفت فى الردهة لحظات .. ثم تصورت أنها ربما كانت تتحدث فى التليفون فى غرفة الطبيب .. ولم تسمعنى ففتحت الباب بحذر وهناك وجدت ما وقف له شعر رأسى ..
فقد وجدت الدكتور ملقى على الأرض .. بجوار كرسيه فى معطفه الأبيض .. ملقى على وجهه والدم يسيل منه .. وانحنيت لألمسه .. وفى هذه اللحظة انقطع النور فى الشقة .. وشملنى ظلام شديد ..
وأصبحت الحجرة مظلمة فى لون الفحم ..
كان الموت والسكون والظلام .. قد جثموا على الحجرة .. وألقوا عليها ظلا كئيبا حالكا ..
واهتزت أعصابى .. واضطربت وأنا أحملق فى الجثة .. وأخذت أحدق وأفتح عينى على سعتها .. لكننى لم أستطع أن أرى من جسم الرجل أو شخصه أكثر من وجهه المقلوب على الأرض ..
أحسست بالرعب القاتل .. وتحركت بهلع .. حتى وجدت الباب الخارجى ..
ونزلت فى الظلام على السلم .. متباطئا أتحسس الدرابزين بعد كل خطوة ..
وبعد أن نزلت ما يقرب طابقين عاد النور إلى العمارة ..
وعندما خرجت من بابها الكبير .. كان عقلى يشتغل .. واستقر على أمر .. وهو أنى لم أدخل شقة الطبيب فى هذه الليلة ولم أر شيئا ..
***
ولكن فى الصباح كان تفكيرى يتجه إلى شىء آخر .. أنى أتردد على الطبيب .. وأسمى مدون فى مفكرته .. لأنه اعتاد تدوين الأسماء حتى لمن يزوره مرة واحدة .. ثم أنه طبيبى .. وأصبحت تربطنى به صلة قوية ومن الجبن .. بل من أقصى درجات الجبن أن أعرف أنه قتل ولا أبلغ عنه ..
ولكن ماذا يجدى التبليغ الآن .. هل أرد إليه حياته لقد مات وطويت صفحته .. ثم من المحتمل جدا أن يكون قد دخل الشقة شخص غيرى .. ورأى الحالة وأبلغ .. فالتبليغ حصل من غيرى ..
ولكن كيف أسكت على حالة رأيتها بعينى وأين ضميرى ..
ولكن الضمير سيجرنى إلى المتاعب .. أتردد على قسم البوليس ..
وبعد ذلك النيابة ثم أصبح شاهدا فى المحكمة .. وسأمر بكل هذه الإجراءات الطويلة المعقدة ..
كل هذا يهون .. وليس من الانسانية أن أترك الرجل الطيب .. ملقى هكذا على الأرض ..
***
وأخذت أفكر فى الفاعل .. الممرضة والشاب .. أتفقا على قتل الطبيب ليسرقاه .. وهى تعرف من طول وجودها معه .. وخدمتها له .. والتصاقا به .. أين يضع نقوده فى خزانة البيت وفى العيادة ..
سرقا ليجدا عش الزوجية بعد أن منعهما الفقر والحرمان من بلوغ الغاية ..
أو فعلها شخص آخر من معارفه أو خدمه يعرف أن الطبيب اعتاد أن يضع ثروته فى بيته .. وقتله ليسرق المفتاح ويستولى على الثروة .. وظل رأسى يدور ..
وما الذى حدث بعد أن تركت باب العيادة مفتوحا .. وهربت فى الظلام .. سيدخل سواى وينتابه الرعب كما انتابنى .. أو يبلغ البوليس .. وسيجدون اسمى مع الأسماء الأخرى فى مفكرة الطبيب .. وقد يلازمنى النحس وسوء الطالع وأكون المريض الوحيد الذى دخل العيادة فى مساء الثلاثاء ..
وعندئذ تكون التهمة قوية ومؤيدة بالأدلة ..
وأحسست بالرعب الذى يشل الأعصاب .. يشل الجسم عن الحركة .. أحسست بجمود الموت .. وبقيت قابعا فى غرفتى أتصبب عرقا .. وألعن الأقدار التى ساقتنى إلى عيادة الطبيب فى هذه الليلة ..
***
ومرت أيام الأربعاء والخميس والجمعة .. وأنا على حالة من الرعب القاتل ..
وفى كل صباح كنت أطالع الصحف جميعا بدقة .. وأحدق فى صفحات الحوادث والوفيات .. وأتمعن فى الصور .. فلم أعثر على خبر عن الدكتور .. ومع ذلك ظل الخوف يلاحقنى ..
وفى مساء السبت .. وفى الساعة التى قدرت فيها وجود الممرضة فى العيادة .. أدرت قرص التليفون من مقهى بعيد .. وأنا ارتعش من الخوف .. وجاءنى الرد رنينا متصلا ..
وفى اليوم التالى أدرت القرص فى نفس الميعاد فسمعت صوتا غير صوت الطبيب .. فأقفلت السكة على التو .. وأنا أتفصد عرقا ..
وظللت عشرة أيام كاملة .. وأنا أتوقع من يطرق بابى فى هدأة الليل ويطلبنى للتحقيق ..
وانقضت الأيام العشرة ولم أشعر بالراحة قط .. كنت أتصور أن اليوم آت لا ريب فيه ..
ولقد أخطأت خطأ كبيرا ..فعندما لم أواجه الحقيقة فى نفس الساعة .. قد سببت لنفسى الرعب المدمر .. فلو أنى وقفت على جثة الطبيب وأبلغت بما حدث .. لانتهى كل أمر بسلام .. ولكننى رأيت الجريمة فلم أتصد لها .. وتركتها تترعرع فى دائرة واسعة .. تركت الجريمة وهربت .. وسبب الهروب القلق وموات الروح .. أننى لا أستحق الحياة ..
وماذا لو سئلت فى التحقيق وتعبت أياما .. وكيف أترك جثة صديق ملقاة على الأرض ..؟
وربما كان فى حالة إغماء ويحتاج لمساعدتى .. واسعافه فى وقتها سيرد إليه حياته ..
أن للموت حرمة رهيبة .. ولهذا يأمر الدين بالاسراع بدفن الجثة .. أما أن تترك وتتعرض للعفن والذباب .. فتلك جريمة لا تغتفر ..
بعد خمسة عشر يوما .. مررت تحت العمارة مرتين .. ورأيت البواب .. ولكنه مشغول بعشرات الداخلين والخارجين .. ولا يعرف منهم أحدا .. ولا يعرفنى .. فأنا واحد من سيل من الناس .. كان يركب المصعد ويخرج منه .. وهو لا يدرى أين يدخل الداخل ويخرج الخارج .. أن الوجوه ممسوحة أمام باصرته .. ممسوحة تماما ..
***
ظللت مضطرب الحواس مشتت الفكر .. وفى كل يوم كانت تنتابنى هواجس جديدة .. لقد أخطأت خطأ مزدوجا عندما هربت من مواجهة الحقيقة .. فلو أخبرت بما رأيت فى وقتها لأمكن الكشف عن الجانى .. أما أن أشاهد الجثة وأهرب .. فتلك هى وصمة العار .. وصمة الخزى .. ستظل تمزق أوتار عقلى مدى الحياة ..
كنت أتحرك فى شوارع القاهرة .. وأنا فى ذهول .. ولا يدرى إنسان ما جرى لى ..
ورغم مضى أكثر من أربعة أشهر على الحادث .. ولكن عقلى ظل مشغولا به .. لم ينسه قط ..
***
رجعت من الإسكندرية بعد أن حاولت أن أريح أعصابى من العذاب ..
وخرجت مع ركاب الأتوبيس .. فى استراحة الطريق الصحراوى .. وجلست فى الشرفة أشرب القهوة ..
ولمحت وأنا جالس .. عربة صغيرة تقف تحت الحاجز .. ويخرج منها شخص .. وانتفض قلبى .. وغامت عيناى .. أنه الدكتور عزمى بلحمه ودمه .. وعندما صعد الدرجات الصغيرة لمحنى .. وتقدم نحوى .. منشرح الصدر .. وعانقته بحرارة .. لأخفى انفعالى .. واضطرابى .. وأمنع نفسى من السقوط على الأرض ..
وانبثق فى عقلى نور باهر من المعرفة جاء فى لحظة .. أدركت منه أننى لم أدخل شقة الدكتور " عزمى " فى تلك الليلة المشئومة .. وإنما دخلت الشقة التى تحتها مباشرة .. والتى تشبهها تماما ..
=========================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 25 فى أكتوبر 1975 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
==========================

      






حدث فى الظلام

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


قطار الليل السريع فى خط الصعيد .. قطار مدون فى الجدول .. لم تتغير مواعيده .. وبقى على حاله منذ عشرات السنين .. يثير الغبار فى وجوه الركاب .. ويعفر ثيابهم ومتاعهم ..
وهو قطار طويل .. وعرباته من الدرجتين الأولى والثانية .. ولا مكان فيه للدرجة الثالثة .. ويقف على المحطات الكبيرة .. المحافظات فقط .. ويطوى الأرض كالعاصفة .. ويثير الزوابع الترابية على خط قديم .. قدم التاريخ .. يمر بالقرى والمزارع والنخيل .. والمنازل المبنية من الطين والطوب والحجر ..
وهو خليط من عربات قديمة وجديدة .. كما أنه يضم خليطا عجيبا من الركاب .. من لابسى الجلاليب والزعابيط والبدل ..
وسواء أكانت الحرب بيننا وبين اسرائيل قائمة أو موقوفة فإن نصف عرباته مظلمة .. وزجاج نوافذه مهشم .. والتراب يعشش على الشبابيك .. ويغطى المقاعد والمساند ..
والقطار يشق الليل كالثعبان الأسود .. ويتلوى فى سيره كما يتلوى .. فما أكثر المنعرجات والقناطر فى الطريق .. وإذا مر على قرية صغيرة .. وضعها سوء الحظ ملاصقة للشريط .. هزها من جذورها .. وكاد يجعلها دكا .. وطار دجاجها .. وجذبت مواشيها مرابطها .. ونبحت كلابها ..
وهو مزدحم فى النهار والليل .. والواقفون فيه أكثر من القاعدين .. وأحيانا يكون ممتلئا من أول محطة يمتلىء من أسوان .. وتشغل رفوفه .. وأركانه وطرقاته ودورات مياهه ..
وعندما يمتلىء من أول محطة .. فإنه لا يتنفس الصعداء فى الطريق أبدا .. فلا ينزل منه راكب .. فى قنا .. ولا سوهاج .. ولا أسيوط ولا المنيا .. ولا بنى سويف .. وإنما يركب دوما ركاب جدد ..
وفى هذا القطار وجدت فتاة مصرية .. كانت تجلس فى مقصورة السيدات فى عربة من عربات الدرجة الثانية .. وفى العربة السابعة على التحديد بترتيب عربات القطار ..
وجدت هذه الفتاة ميتة .. وكان أول من اكتشف الأمر .. كمسارى القطار .. عندما دخل عليها المقصورة بعد أن تحرك القطار من محطة المنيا .. ليفتش على التذاكر ..
وسرى الخبر فى القطار مسرى النار فى الهشيم بعد ثوان معدودة من حديث الكمسارى .. أصبح الخبر على كل لسان .. كأنما أذيع بالميكرفون .. وسبب الهلع المنتظر .. والرعب المجسم .. وأخضلت عيون السيدات بالدموع .. وتطلعت العيون فى كل اتجاه تبحث عن الجانى ..
ولما علم رئيس القطار بالخبر .. دخل المقصورة ووراءه الكمسارى .. ومنعا الجمهور من الاقتراب .. وعلى الضوء الباهت شاهدا الفتاة فى رقدتها .. ولم يلمسا حتى ثوبها .. ليبقيا على بصمات الجانى .. وكل شىء على حاله ..
ورفع الكمسارى خشب النافذة .. لكى يحجب عن الفتاة العيون المتطلعة فى المحطات .. ثم خرج هو ورئيس القطار بعد أن أغلقا عليها الباب .. وخلع رئيس القطار الأكرة ووضعها فى جيبه ..
وكان عقله قد اشتغل منذ تأتى إليه الخبر .. وقرر أن تظل الفتاة فى مكانها من القطار إلى أن يصل المحققون .. وأن يواصل القطار سيره فلا يقف فى أى محطة .. ولا بأس من حجز جميع الركاب ..
***
وقد أشاع وجود الفتاة حالة من الأسى الذى يفطر القلب فى الركاب جميعا .. وخيم الوجوم والصمت .. ووقف جيرانها فى المقصورة يتطلعون إليها من وراء الزجاج ..
كانت شابة لا تجاوز الثانية والعشرين من عمرها ترتدى فستانا بنيا من قطعتين .. وحذاء فى لون الفستان .. وتركت شعرها الغزير الأسود يتموج فى جمال .. وكانت بشرتها بيضاء .. ويبدو عليها الشحوب .. أما عيناها فمسبلتان .. ويغطيهما هدب غزير فى لون شعرها ..
وكان خط أنفها دقيقا جميلا .. والشفتان عليهما الأسى الأخرس .. وقد انفرجتا قليلا كأنما مازالتا تفسحان الطريق لأنفاسها ..
وكان من يراها فى رقدتها .. وفى جمالها الآسر .. تدمع عيناه .. وتشيع فى نفسه الحسرة والكمد .. كيف لم يعن بهذا الجمال ..؟ وكيف ترك لليد الآثمة تعبث به .. وتخمد أنفاسه ..
لم يكن على وجه الفتاة .. ولا على ما ظهر من جسمها أى أثر لجرح .. ولذلك قدر كل من رآها .. أنها خنقت .. ونزل الجانى فى أول محطة ..
ولم يكن أحد يدرى من أية محطة ركبت الفتاة .. وإلى أين هى ذاهبة .. فقد كانت وحيدة وتذكرتها فى داخل جيبها ..
وقال كمسارى القطار أن المقصورة التى تجلس فيها الفتاة كانت كنبة واحدة .. ومخصصة للسيدات .. ولكنه كان يجد بعض الرجال جالسين فيها بسبب الزحام .. وكان كلما رآهم يخرجهم من المقصورة .. ولكنهم كانوا يعودون مرة ثانية بعد أن يوليهم ظهره .. لأنهم اعتادوا على الفوضى وسوء النظام ..
وقال أنه لا يذكر المحطة التى ركبت منها الفتاة .. ولكنه علم على تذكرتها قبل أسيوط .. وكانت فى الديوان سيدة أخرى .. ولكنها لم تكن تحادثها .. ولا يبدو أن بينهما علاقة ما ..
وقال :
أن الاضاءة فى القطار كانت ضعيفة .. وفى بعض الساعات معدومة .. وكان هذا ضيق له وللركاب .. ولعن الهيئة وكل من أدار هذا المرفق من سنة 1948 ويبدو أنها السنة التى توظف فيها .. وكانت نقمته ظاهرة من سوء الحال ..
وقال رئيس القطار لمن تجمع حوله من الركاب .. أنه علم على تذكرة الفتاة .. بعد أسيوط .. وأنه قد بهره جمالها .. وكل ما تتمتع به من حسن .. وعجب لسفرها وحدها .. وكاد الفضول يجعله يسألها :
ـ أليس معك رجل فى هذا الليل ..؟
ولكنه خشى أن يجرح إحساسها .. فلم يوجه إليها السؤال .. وكان يروح ويجىء فى القطار .. وفى كل مرة كان ينظر من الباب الزجاجى إلى مقعدها .. فيراها جالسة ساكنة وعلى وجهها الطهر ..
وقال أنه باحساس باطنى لم يعرف مصدره .. ولا مأتاه .. كان قلقا عليها .. ولذلك كان يلاحظها بعين ساهرة .. ولكن القدر كان أسبق من كل تحوطاته ..
وقال راكب أنه شاهد الفتاة تجلس فى المقصورة الصغيرة .. وكان بجوارها سيدة سمينة فى حوالى الخمسين من عمرها ترتدى السواد .. ولم تكن تحادثها وكانت تأكل برتقالا .. وترمى بقشره على الأرض ..
وقال أنه وجد مكانا خاليا .. وكان تعبا للغاية .. ويكاد يسقط من الإعياء لطول المسافة التى قضاها واقفا .. ولكنه لم يدخل المقصورة ..
ولأمر ما لاحظ الفتاة جيدا .. فوجد أنها كانت ساهمة .. ومستغرقة فى التفكير .. ويبدو عليها القلق بوضوح ..
وفى العربة الخامسة تحدث راكب .. فقال :
" أنه بين دير مواس .. وملوى .. وكان القطار يسرع كالصاروخ .. وكان هو يتنقل بين العربات ليبحث عن دورة مياه غير مشغولة .. لاحظ شابا يخرج مهرولا من مقصورة ولا شك أنها مقصورة الفتاة .. ويندفع أمامه فى الطرقة بحركة الهارب .. وقال أنه كان يرتدى بدلة داكنة وعارى الرأس .. وقد رآه من جانب فلم يتبين ملامحه تماما .. ولكنه إذا عرض عليه الساعة فسيعرفه قطعا ..
وقالت سيدة مسنة ترتدى معطفا ثقيلا .. وتعصب رأسها .. قالت لبعض من حولها من الركاب .. أنها شاهدت الفتاة وهى تتخطى العربات فى خفة الغزال حتى وصلت إلى البوفيه لتشرب .. وقد بهرتها أناقتها وجمالها .. وأنها أحست برغبة شديدة فى التحدث إليها ومؤانستها .. ولكن اعترضها رجل جلف فزاغت منها الفتاة ..
وقال كهل كان يقف فى المقصورة الملاصقة لمقصورة الفتاة :
" أنه كان يقف فى الطرقة عندما دخلت الفتاة العربة .. وكان معها حقيبة واحدة وضعها لها على الرف .. وشكرته بعذوبة وأنه كان يود أن يغير مكانه .. ويجلس معها ليؤنسها لأنه رأى فى تعبير عينيها ما أقلقه .. ولكنه عندما أدرك أن المقصورة مخصصة للسيدات رجع عن عزمه ..
وقال أنه لم يشاهد رجلا دخل على الفتاة المقصورة .. فى الوقت كله الذى ظل فيه ساهرا ..
وقال أن القطار كان مسرعا .. ويثير التراب .. ولأنه يركب من أسوان .. فقد استغرقه النوم فى المسافة بين سوهاج وملوى .. لم يحس بينهما بأنه حى ..
وتساءل وعيناه تترقرقان بالدمع :
ـ من الذى قتل الفتاة .. أنا .. وأنت .. وكل ركاب هذا القطار .. كلنا قتلة .. كلنا قتلة .. ونستحق الشنق ..
واستطرد فى مرارة :
ـ لقد تعذبت المسكينة .. ولو رأيتها عن قرب لقرأت على وجهها الاحتقار لنا جميعا ..
***
شرع الضابط القضائى فى التحقيق .. وبدأ بسؤال ركاب العربة الموجودة فيها مقصورة الفتاة .. كما لحق بالقطار وكيل النيابة والطبيب ..
واستقر الرأى على أن يواصل القطار سيره .. ولا يقف فى أية محطة قبل اتمام التحقيق ..
وقبل محطة الجيزة وقف القطار وقفة طويلة .. ولم ينزل منه أحد ..
ثم صفر القطار صفيرا حادا .. وانطلق ..
 وسرى فى القطار خبر جديد .. جعل الركاب جميعا يرقصون من الفرح ..
فتاة المقصورة لم تمت .. بل كانت فى غيبوبة ..
وبدت الفرحة على الوجوه .. كأن الفتاة أبنة لكل رجل وامرأة .. وأخت لكل شاب ..
***
وفى محطة القاهرة .. وكانت الشمس قد طلعت وأشرقت بنورها .. جعلوها تسير فى المقدمة ..
وكانت الفتاة جميلة وفى قمة فتنتها .. ولكنها كانت شاحبة فقد عانت كثيرا فى الظلام ..
========================= 
نشرت القصة فى مجلة الإذاعة والتليفزيون بالعدد 2130 بتاريخ 10/1/1976 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
=========================  














انفجار

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


تشرق الشمس وتغرب على مستشفى " البساتين " فى مشارف القاهرة .. وهو مستشفى كبير .. أبيض الطلاء .. أقيم على ارتفاع ثلاثة طوابق .. ويحيط به من أمام ومن خلف حديقة مزهرة .. يتريض فيها المرضى الناقهون .. ويستروحون النسمات .. ويقطفون الورود ..
وفى هذه المستشفى يعمل جودة بقسم الجراحة .. ينقل الجرحى من غرفهم إلى غرفة العمليات .. على ظهر العربة ذات العجلات المخصصة لذلك .. ثم يعيدهم إلى غرفهم بعد انتهاء العملية ..
وإذا حدث وكانت المريضة امرأة .. رافقته ممرضة فى هذه الجولة .. لتغطى السيدة باحكام قبل نقلها من سريرها .. حتى لا ينكشف من جسمها شىء لعين الرجل ..
وعلى توالى الأيام والشهور .. أصبحت حركة النقل هذه بالنسبة " لجودة " عملية آلية بحتة .. خالية من كل شعور نفسى .. ومن كل احساس عاطفى ..
فقد ألف العربة التى يحمل عليها المريض .. كما ألف " الكلور فورم " والضمادات .. والقطن الطبى .. وملابس الممرضات والأطباء فى أثناء العمل .. والوجوه المغطاة بالشاش .. والوجوه السافرة .. وبعض هذه الوجوه كانت لاتبقى فى ذاكرته أكثر من ثوان معدودة .. ثم ينساها تماما .. وبعضها لا يذكر ملامحه اطلاقا .. ففى كثير من الأحيان ينصرف وعيه إلى شىء ..لا علاقة له بالمريض الذى ينقله آليا ..
ولما كانت معظم العمليات فى المستشفى تجرى فى ساعات الصباح فإن عمله كان ينتهى فى الساعة الثالثة بعد الظهر .. وبعدها يستريح إلى الصباح فى بيته ..
وفى مدة السنوات الثلاث التى قضاها فى قسم الجراحة بالمستشفى لم يسمع صراخا على ميت .. قد يموت المريض فى البيت بعد خروجه من المستشفى .. ولكن فى المستشفى لم يخرج من غرفة العمليات من قضى نحبه ..
وكان أكثر من ينقلهم من الرجال .. فان جراحة فى الزائدة الدودية .. وفى الكلى .. والبروستاتا .. من نصيب الرجال فى العادة ..
ولكن فى صباح يوم مبكر من أيام الخميس .. تغير الحال .. ونقل مريضة من قسم أمراض النساء لإجراء جراحة عاجلة فى " المرارة " ..
وكان فى الغرفة عند نقلها من السرير كبيرة الممرضات .. وممرضتان .. وأخت المريضة .. وكل هؤلاء تعاونوا فى نقلها من سريرها بخفة وعناية .. ووضعوها فى العربة ..
وعندما أراحوها على ظهر العربة .. غطوا جسمها بملاءة بيضاء .. وكشفوا وجهها .. وشعر " جودة " بهزة لم يشعر بمثلها فى حياته .. فلأول مرة فى حياته يحس بضربات قلبه .. وهو ينظر إلى مريض ..
كان شعوره نحو المرضى السابقين .. مثل احساس الحانوتى .. ينقلهم دون عاطفة .. ودون احساس ..
أما هذه السيدة .. فقد أحس معها بهزة انسيال التيار الكهربائى عندما يصل إلى النخاع .. كان جمالها نادر المثال فى كل ما رآه من النساء حتى الآن .. حتى الثلاثين التى بلغها من عمره ..
رأى الشحوب على وجهها الذى زاد من فتنته .. ورأى الرعشة الخفيفة على شفتيها .. وهى تتمتم راجية اللطف من الله .. ومذكرة أختها بشىء ..
ورأى النظرة المسترخية التى دارت بها فى الوجوه المحيطة بها .. ثم جعلتها تستقر على وجهه هو ..
كل هذا جعله يرتجف .. حسبها ترجوه أن يتلطف بها وهو ينقلها إلى غرفة العمليات .. أو يرجوهم أن يؤجلوا العملية إلى يوم آخر .. فانها تخاف .. وتخاف .. وقد يسمعون كلامه .. وهو الرجل الوحيد فى الغرفة ..
وكان دائما يجر العربة من أمام .. ويجعل " سعدية " الممرضة تساعد من الخلف .. ولكنه فى هذه المرة كان من الخلف .. ودفع العربة برفق وتأن .. وكانت هى مسبلة عينيها ومستسلمه فى سكون ..
وكان فى كل مرة سابقة .. عندما يصل إلى باب غرفة العمليات الخارجى .. وتؤخذ منه المريضة .. ينسى كل شىء .. ولكن فى هذه المرة وقف على الباب ينتظر .. وهو شارد مشتت الذهن حتى نبهته " سعدية " فدفع العربة إلى الخارج .. وهو يحس بطرقة المستشفى الطويلة التى أخذت تتسع وتضيق .. كأنها تطبق بجدرانها على العربة .. مما أرعبه ..
وجلس فى غرفته .. ومرت ساعة .. وساعتان .. وهو فى مكانه كالصنم .. وزملاؤه حوله يثرثرون ولا ينتبهون لشروده واضطرابه ..
ثم دق الجرس ايذانا بانتهاء العملية .. وسحب العربة وحده .. واتجه إلى غرفة العمليات .. وفتح الباب ورأى الوجوه مسودة .. فاعتمد على ساعد العربة ووقف يسحب أنفاسه ..
*** 
ووسدوها على العربة .. مغطاة بالملاءة البيضاء جسمها ووجهها .. غطوها كلها فى هذه المرة ..
مشى بها إلى غرفتها وحده .. وحملها ووضعها على السرير وحده .. وكانت الغرفة خالية .. فشعر برغبة قوية فى أن يكشف وجهها .. ويضع شفتيه على جسدها البارد .. وعندما هم بذلك سمع صرخة أفزعته .. فانتصب .. وخرج يدفع العربة الفارغة وكأنها تحمل جبلا ..
***
وفى البيت لاحظت زوجه الشابة أنه حزين لأول مرة .. لم يكن يعبأ بأى أمر من أمور الحياة اليومية .. لا بالتموين .. ولا بالمواصلات .. ولا بالزحام والاختناق .. فى كل مكان ..
وسألته زوجته :
ـ أمات أحد الناس فى المستشفى اليوم يا جودة ..؟
ـ أبدا ..
ـ امال مالك ..؟
ـ السستر نقلوها مستشفى بور سعيد ..
أسعفته هذه الكذبة فقالها سريعا ..
ـ طيب وأنت مالك فيه غيرها ..
ـ أبدا .. هذه لا تعوض .. وعندما لا تكون هناك سستر فى المستشفى .. لا يكون هناك تمريض ولا مستشفى .. يصبح المستشفى كالسلخانة تماما ..
وكانت تعرف هذا أكثر منه فصمتت ..
وحاولت فى الليل أن تلاطفه كعادتها .. ولكنها لم تجد عنده رغبة .. فتركته وانشغلت برضيعها ..
وكان يود أن يبكى .. ولكنه وجد الدموع متحجرة فى عينيه ..
***
وفى اليوم التالى ذهب إلى المستشفى فى ميعاده .. وكلما تحرك بقدميه فى الطرقة كان يتصور أنه لا يزال يضع سيدة الأمس على العربة ويتحرك بها .. وهى مسبلة عينيها ساكنة ..
وأجريت فى ذلك النهار عملية واحدة .. نقلها " جوده " بتثاقل .. ولاحظت السستر تغير حاله .. وكانت تود أن تحدث الدكتور " صفوت " بما تلاحظه عليه .. ولكنها ردت ذلك إلى شىء حدث فى البيت .. فتركته ..
***
وانقضى أسبوع كامل .. وهو يكتم آلامه وفى كل يوم يمر كانت هذه الآلام تزداد وتتجمع ..
ونقل مريضة إلى غرفة العمليات هو و " سعدية " كعادتها .. وخرجت المريضة تتنفس ..
وبعد ساعة أفاقت من البنج .. ورفت على وجهها الدميم ابتسامة ..
وشاهد جوده هذا وهو يتلوى ..
ثم حمل غيرها .. وغيرها .. وكلهن يخرجن سليمات .. معافات .. دميمات ..
وشعر بحرقة فى نفسه وتقلص فى أمعائه .. الجميلة فتنة النساء .. تذهب .. على يديه وتبقى الدميمات .. يا لسخرية الحياة ..
أصيب باضطراب عصبى حاد .. وشعر بتقلص فى كل أجزاء جسمه .. وكانت يداه تقبضان على كل شىء من أمامه وتضغطان بعنف .. على المرتبة والبطانية وأغطية الفراش .. وكان يود أن يصرخ ليجد من ينقذه من هذه الحالة ..
***
فى صباح يوم غائم عاد بواحدة من النساء من غرفة العمليات .. عاد بها إلى غرفتها .. ونقلها هو وسعدية إلى سريرها .. وخرجت سعدية وبقى وحده فى الغرفة .. ينظر إلى وجه المريضة القبيح .. وشعر بغيظ .. تجمع غيظه وانفجر .. وتقلصت يداه على فراش المريضة ..
كان جسمه كله يتقلص .. وغدت يداه مقابض على المرتبة ..
***
ولم يفتح " جوده " عينيه .. كانت السستر قد دخلت الغرفة سريعا .. وحقنته بمخدر قوى .. قبل أن تصل يداه إلى عنق المريضة ..
========================== 
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 28 فى يناير 1976 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
==========================  





 


الرنين

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


     رن جرس التليفون فى حجرتى بالفندق فى منتصف الليل .. ولم أكن أعرف أحدا فى موسكو .. ولا صلة لى بانسان .. ولذلك تركته يرن .. وبقيت فى الفراش تحت الأغطية الثقيلة ..
     وكنا فى صميم الشتاء والثلج يتساقط ، والبرودة تصل إلى 25 درجة تحت الصفر ..
     ولما طال الرنين تحركت من مكانى ورفعت السماعة ، فوجدت سيدة على الخط وكانت تتكلم الإنجليزية بلكنة أجنبية واضحة ..
     وقلت :
     ـ هالو ..
     ـ هالو ..
     ـ أى خدمة ..
     ـ أى خدمة ..       
     ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
     ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
     ـ ماذا تريدين ..؟
     ـ ماذا تريدين ..؟
     ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟
     ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟
     وهكذا ظلت تردد ورائى كل ما أقوله بلهجة مضحكة ، كانت تنطق الكلمة الإنجليزية خليطا بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية ..
     ومع أنها سحبتنى من الفراش وأطارت النوم من عينى ، ولكن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل الساكن وفى هذه الوحدة أشعرنى بالراحة ، فأنا وحيد فى هذه المدينة الكبيرة ، وحيد فى الفندق .. من غير أنيس ولا رفيق .. وقد قضيت أسبوعين على هذه الحالة القاسية ..
     ولهذا فإن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل هز مشاعرى ..
     كنت أعيش فى حالة كآبة فى داخل الفندق ، ولا أستطيع التجول فى المدينة لشدة البرد القاتل ، وسقوط الثلج ، فإنه من الصعب على شخص لم يتعود على مثل هذه الحياة أن يتجول ..
     كانت درجة البرودة تصل إلى 30 درجة تحت الصفر فى بعض الأيام ولا تقل عن 20 درجة فى معظم الأيام ، ولهذا حبست نفسى فى الفندق ..
     ولم أكن أخرج إلا نادرا فى مشوار سريع إلى المكتبة العامة ، وأعود منه مغطى كلية بنتف الثلج ..
     وفى الليلة التالية ، وفى نفس الساعة عاد الرنين ، تركت الجرس يرن طويلا ثم تناولت السماعة ، وسمعت نفس الصوت يردد ورائى ما أقوله بالحرف الواحد ..
     وقلت فى صوت جاف :
     ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
     ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
     ـ ولا أحب النساء ..
     ـ ولا أحب النساء ..
     ـ شىء عجيب ..
     ـ شىء عجيب ..
     ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
     ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
     ـ أريد أن أنام ..
     ـ أريد أن أنام ..
     ـ سأبلغ إدارة الفندق ..
     ـ سأبلغ إدارة الفندق ..
     ووضعت السماعة وأنا فى أشد حالات الغيظ .. واستمر الحال على هذا المنوال عشرة أيام متصلة ، ومن العجب اننى كنت أضبط الساعة على رنينها .. فى منتصف الليل بالضبط .. وعندما تتلاقى العقارب الثلاثة كنت أسمع الرنين ..
     ومن العجب أننى بعد هذه الأيام العشرة .. أصبحت أحن إلى سماع هذا الصوت ، وأخشى أن ينقطع الرنين .. والإنسان عبد لما تعود عليه .. ويعشق المجهول .. ولقد عشقت صوتها .. كان صوت هذه السيدة جميلا منغما كأنه كروان يغنى على الخط ، كروان يغنى بأعذب الألحان ..
     وأصبحت أتصورها من صوتها شابة بين العشرين والخامسة والعشرين .. رشيقة القوام .. شقراء الشعر دعجاء العينين .. صبوحة الوجه .. ولها على الخد الأيسر شامة بحجم العدسة .. وأسنانها بيضاء تفتر عن ثغر جميل خلق للقبل ..
     وتظل هذه الصورة فى رأسى مجسمة حية تتحرك ..
***  
     وفى الصباح وأنا فى طريقى لتناول طعام الافطار فى نفس الطابق الذى فيه حجرتى ..كنت أنظر إلى الأبواب المفتوحة فى الغرف المجاورة لغرفتى .. وألاحظ النساء على الأخص .. الرائحات والغاديات فى الطرقة .. وأسمع الأصوات ، وأحدق فى الوجوه .. لعلى أهتدى إليها ..
***  
     كان بالغرفة التى على يمين غرفتى ثلاث مضيفات فى شركة الطيران اليابانية .. وكن فى سن متقاربة لا يتجاوزن العشرين .. أنيقات فى زيهن الأزرق وقبعاتهن الصغيرة الزاهية .. وكان نطقهن للإنجليزية بارعا كأنهن إنجليزيات ، فاستبعدتهن تماما من الصورة ..
     ثم شقراء بين بين الألمانية والبولندية .. وكانت تقيم وحدها فى الغرفة التى تلى غرفة اليابانيات .. وكانت جامدة الملامح رصينة ، وما أحسب أنها تفكر فى مثل هذا العبث فاستبعدتها أيضا ..
     وسيدة هندية خمرية اللون ، طويلة الشعر ، تلبس السارى الهندى ، ومعها زوجها يرافقها ويلازمها ملازمة الظل .. وبعد مشقة سمعت صوتها ونطقها بالإنجليزية فاستبعدتها على التو ..
     ثم سيدة روسية نصف .. يعنى فى منتصف العمر .. تشغل الغرفة الرابعة فى نفس الصف ولعلها رسامة جاءت إلى العاصمة فى مهمة عمل .. وهى تتحرك فى ملابس الروسيات الثقيلة ، ومستعدة للثلج وعواصف الشتاء ، وتراها دائما فى معطفها المبطنة بالفرو ووشاحها الصوفى وقبعتها الزرقاء .. تراها دائما فى هذا الزى الكامل فى " الكافتيريا " وفى البهو .. وفى قاعات الاستقبال .. وكانت صارمة الملامح عادة .. ولعلها مهندسة معمار ..
     ولم أسمعها تنطق قط بغير اللغة الروسية فاستبعدتها على الفور ..
     ثم سيدة عجوز وزوجها الكهل .. ومعهما ابنة شابة ومن حوارهم بالإنجليزية عرفت أنهم من الأمريكان فاستبعدت العجوز وابنتها لنطقهن ..
     ثم شابة رأيتها فى الطرقة تتحرك على كرسى بعجل .. وتدفعها أمها .. ولم أسمعها تنطق .. وكانت تقيم هى وأمها فى الحجرة المواجهة لحجرتى .. وكانت الفتاة ضاحكة السن وتحدق بضراوة فى كل الوجوه التى تمر أمامها فى الطرقة بعينين نجلاوين متطلعتين ..
     ثم سيدة جديدة فى مقتبل العمر ، رأيتها لأول مرة تضع المفتاح فى الباب المجاور لباب الفتاة الكسيحة .. ولم أسمعها تنطق بأية لغة وكانت صامتة وقلقة ويبدو على وجهها الأسى ..
     واستبعدت النزلاء من الرجال الكبار والصغار فى الطابق الذى أقيم فيه وفى كل الطوابق .. فإن أصوات الرجال واضحة فى سمعى ومن السهل تمييزها مهما حاولوا تقليد النساء ..
     وهكذا بقيت فى هذا الفندق الضخم أسمع الرنين ولا أهتدى لصاحبته .. وأنتظر " أولجا " لتأخذنى إلى بيت " دستويفسكى " لنطلع على المخطوطات ..
     ولكن " أولجا " حبستها الثلوج فى " تفليس " وبقيت فى الفندق أسمع الرنين ..

    وبعد تفكير طويل ، وبعد النظر فى كل الوجوه ، حصرت العابثة فى فتاة من عاملات الفندق .. وهى التى تعرف رقم التليفون فى غرفتى وتسلى نفسها فى الليل الطويل بهذا العبث ..
***     
     وفى قاعة البريد الملحقة بالفندق .. جلست أكتب رسالة " لأولجا " أعرفها بموقفى وحبسى فى الفندق وأغفر لها تأخيرها .. وعدم استطاعتها الحضور .. لأنى أعرف مقدار ما سقط من الثلوج فى قريتها .. وقلت لها بأنى مضطر للعودة إلى موطنى بعد الثامن عشر من يناير .. إن لم تستطع هى الحضور قبل ذلك .. وأعدها بأن أحضر مرة أخرى فى بشائر الصيف ..
     وقبل أن أضع الرسالة فى المظروف .. وجدت عينين تحدقان فى وجهى من الكرسى المقابل على نفس المائدة ..
     كانت سيدة طويلة نحيفة القوام سوداء الشعر جميلة ناعمة البشرة .. ناعمة البسمة .. وكل ما فيها ناعم رقيق ..
     ولكن الوجه بكل ما فيه من جمال وتألق كان قلقا ..
     والقلق هو الذى جعلها تحدق فى وجهى لأنها قرأت فيه القلق الذى فى نفسها ..
     وتبادلنا بالإنجليزية كلمات قليلة عن الرسائل وطوابع البريد ومتى تفرغ صناديق البريد التى فى داخل الفندق ..
     ودون أن توضح لى حالها تماما أدركت أنها تنتظر رجلا .. وأنا انتظر " أولجا " ..
     والرجل حبيبها ولكن " أولجا " لم تكن حبيبتى .. أولجا مشرفة على بحث أدبى يشغل وقتى وحياتى ..
***      
     وأصبحنا نتقابل عرضا دون اتفاق سابق فى المطعم ، وفى ردهات الفندق وفى الصالة الكبيرة وأمام أبواب المصاعد .. وحدثتنى أنها كانت فى الطابق الثالث فلما خلت غرفة فى الطابق التاسع انتقلت إليها .. لأنها تود أن تمتع نفسها بالتطلع إلى المدينة من هذا الارتفاع الشاهق وترى الثلج المتساقط وهو يغطى الشوارع والميادين ويتراكم على أسلاك التليفون والبرق .. وترى العصافير وسط هذا الجوالثلجى وهى تحط آمنة على أغصان الشجر ..
     وترى العاملات فى الليل يجرفن الثلوج تحت أنوار المصابيح التى غشاها الثلج فغدت تعكس كل الأضواء التى فى قوس قزح ..
     واعتادت أن تستيقظ مبكرة .. كما أفعل .. فنذهب معا إلى " الكافتريا " لتناول طعام الافطار قبل أن يزدحم المكان بالنزلاء .. ونجلس إلى مائدة لا نغيرها ولم يكن بيننا بعد أسبوع من اللقاء المتصل ما يسمى بالحب أو حتى بالصداقة .. وانما كان مجرد ألفة أو لقاء بين غريبين أحسا معا بالأمان فى هذا اللقاء .. وقتل السأم فى محبس الفندق ..
     وكان القلق قد أخذ يتبدد تماما .. سواء أقدم الرجل الذى تنتظره أم تخلف .. فإنها قد زارت موسكو كما تزورها كل عام .. وشبعت منها وفى هذا الكفاية ..
     وكان الحال كذلك بالنسبة لشخصى فسواء أجاءت " أولجا " أم تخلفت فإنى قد اطلعت فى المكتبة على مافيه الكفاية .. وتكفى زيارة واحدة فى الصيف لانهاء البحث جميعه ..
     وفى صباح يوم رأيت الشمس فيه طالعة .. قلت لها :
     ـ الشمس اليوم تغرى بالخروج .. فهل ترافقينى إلى " الجوم " ..
     ـ بكل سرور .. فى أى ساعة تود ذلك ..؟
     ـ بعد الغداء .. والأحسن أن أتلفن لك .. لننزل سويا ..
     ـ هذا أحسن .. وخذ رقم تليفونى ..
     وقلت لها بعد أن دونت الرقم :
     ـ وأنا سأعطيك تليفونى ..
     ـ أنا أعرفه ..
     فحدقت فيها باندهاش ..
     إنها تتكلم الإنجليزية بطلاقة فهل هى التى كانت تدق علىَّ فى الليل وتغير لهجتها لتخفى شخصيتها .. وإذا لم تكن هى فلماذا انقطع الرنين بعد أن التقينا ..؟
     سبحت فى بحر من الغموض .. ومع ذلك فإنه من السهل عليها أن تعرف رقم تليفونى مادامت قد عرفت رقم غرفتى .. وتكفى نظرة سريعة فى دليل الفندق ..
     وتحت تأثير هذه الخواطر ، ازدادت رغبتى فى أن أسمع صوتها فى التليفون لأبدد هواجسى .. فلم أطلبها وطلبتنى هى .. وسمعت صوتها .. كان مختلفا تماما عن الصوت الذى أسمعه فى نصف الليل .. ولكن فيه نفس الغنة .. يا لحيرتى ..
***   
     ذهبنا إلى " الجوم " متلاصقين فى الأتوبيس ولما دخلنا من باب هذه السوق الكبيرة شعرت بالزهو وهى بجانبى بفرائها ووشاحها ورشاقتها وجمال قوامها ..
     وعندما كان الزحام الشديد يفرقنا عن بعض .. كانت تبحث عنى والخوف يطل من عينيها .. فسألتها :
     ـ لماذا الخوف .. لست بالطفل ..
     ـ أخشى أن تتوه .. ولن تجد شخصا يعرف الإنجليزية ويدلك على الطريق إلى الفندق ..
     وكان هذا الخوف يدفعها لأن تلتصق بى عندما كان الجمهور يجرفنا فى ممرات السوق الضيقة .. أصبحت تمسك بيدى فى كل خطوة ..
     واشترينا القليل .. اشترت وشاحا لبنتها .. وعرفت من هذا أنها متزوجة .. ولم أسألها عن زوجها إن كان حيا أم ميتا ..
     وفى مصعد الفندق .. صعدنا وحدنا إلى الطابق التاسع .. وأحسست برغبة شديدة فى أن أقبل عينيها وخديها وثغرها .. وأمرغ وجهى فى صدرها .. وكانت فتاة المصعد لاتحول بيننا وبين فعل ذلك ولا شأن لها بعواطفنا ..
     وعلى باب حجرتها أمسكت بيدها طويلا ثم تركتها .. وكأننى أسحب معها قلبى ..
***  
     وفى نفس الليلة .. وأنا أتناول من عاملة الفندق المفتاح .. وأستدير لأتجه إلى غرفتى فى الطرقة الطويلة .. سمعتها تنادينى بعد بضع خطوات ..
     ـ يا مستر مختار ..
     ـ نعم ..
     ووقفت وحولت وجهى إليها ..
     ـ ترك لك شخص هذه الربطة ..
     ـ لى أنا ..؟!
     ـ أجل .. وقال للمستر مختار فى الغرفة 926 ..
     ونظرت فى الربطة فوجدت فيها زجاجة " فودكا " و " خرطوشة " سجائر " كنت " ..
     فقلت للعاملة :
     ـ هذه ليست لى لأننى لا أدخن ..
     ـ ولكنه تركها لك ..
     ـ أنا لاأعرف أحدا فى هذه المدينة وليس لى صديق فيها على الاطلاق ..
     ـ ولكنها تخصك ..
     وكانت واقفة بجانبى فى هذه اللحظة " فتاة الغرف " المختصة بجناحنا .. فمددت يدى إليها بالربطة ..
     وقلت بالإنجليزية :
     ـ خذى هذه الهدية منى .. مادامت زميلتك تصر على أنها تخصنى ..
     فتناولتها الفتاة مسرورة وتضرجت وجنتاها وحييتهما ودخلت غرفتى .. وأغلقت الباب ..
     وكان الراديو الصغير الموضوع فى حجرتى يذيع موسيقى شجية تهدى الأعصاب .. فسحبته من مكانه ووضعته على منضدة بجانب الفراش .. ودخلت تحت الأغطية ..
***
     وفى أخريات الليل استيقظت على حركة فى داخل الغرفة ..
     ووجدت الفتاة التى أعطيتها الهدية تحرك الراديو من مكانه .. وقالت برقة لما وجدتنى قد استيقظت :
     ـ لقد تركت الراديو مفتوحا ..
     ـ شكرا .. وآسف جدا لقد أزعجت النزلاء ..
     ـ لا عليك .. والآن نم هانئا ..
     وكانت واقفة بالقرب من الفراش وتحدق وتنظر إلى وجهى بحنان .. فأمسكت بيدها برقة .. وتحركت إلى جانبى ..
     ولأول مرة أعرف أن معها مفتاحا آخر لغرفتى ..
=================================

·  نشرت قصة " الرنين " فى مجلة الاذاعة والتليفزيون 3/4/1976 وأعيد نشرها فىكتاب " الباب الآخر " سنة 1977
================================



















الباب الآخر

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


اختارت قطار الساعة الثامنة صباحا الذى لا يقف على المحطات التى فى الطريق .. ويتحرك إلى " الإسكندرية " مباشرة .. كما اختارت مقعدا مفردا فى القطار حتى لا يجلس بجانبها رجل ..
كانت تود أن تذهب إلى مدينة الإسكندرية وتعود فى صباح اليوم التالى .. دون أن يشعر بغيابها عن القاهرة إنسان كما اعتادت أن تفعل ذلك فى المرات السابقة ..
وفى صالة المحطة الخارجية .. وقفت فى زحمة الركاب .. تتطلع إلى اللوحة المضيئة التى تعين رصيف القطار المسافر ..
وكانت ترتدى معطفا كحليا على ثوب من الصوف الغامق محكم النسج ومن أحدث طراز .. وتدير على رأسها وعنقها وشاحا أزرق .. تتقى به برد الصباح فى القاهرة .. ومن احتمال سقوط المطر فى الإسكندرية ..
ومن خارج الوشاح .. بدت خصلات من الشعر الأسود الناعم تتدلى على الجبين المتألق .. وأخذت العينان الواسعتان تتطلعان إلى اللوحة فى بريق يتوهج لحظات ثم ينطفىء فى أسى .. تبعا للجو المحيط كله ..
وكانت الإنفاس رغم البرد الشديد هادئة .. والوجه جميل التقاطيع .. أبيض مستديرا .. والشفة ممتلئة وشهية ..
ووضعت على العينين نظارة شمس أنيقة .. رفعتها وطوتها وهى تفكر .. ثم عادت وردتها إلى أنفها .. بعد أن أدركت أنها لامكان لها فى حقيبة اليد الصغيرة .. ولم تكن تحمل أية حقيبة سواها ..
تعمدت أن تكون خفيفة فى رحلتها وفى تحركها ..
وعندما دخل القطار يتهادى إلى الرصيف .. وجلست على مقعدها المفرد .. شعرت ببعض الارتياح .. كان المقعد فى وسط العربة .. والمسافرون من رجال الأعمال الذين فاتهم قطار السابعة صباحا .. وقد جلسوا يقرءون صحف الصباح .. أو يقلبون أوراقهم الخاصة ..
وأحست بدفء العربة المكيفة .. فأزاحت الوشاح عن رأسها وطوته .. وأخذت تنظر من النافذة عن يمينها ثم خشيت أن يبصرها من الرصيف إنسان تعرفه وهى داخل العربة .. فأسدلت ستار النافذة بحيث ترى هى من يتحرك بالخارج ولا يراها ..
ولما تحرك القطار تنفست الصعداء .. فإن أحدا ممن تعرفهم لم يلتق بها فى الطريق .. وستكون فى الإسكندرية بعد ساعتين وثلث الساعة .. وستعود للقاهرة فى أول قطار يتحرك فى الصباح .. فى الساعة السادسة صباحا ستأخذ أول قطار .. وستكون فى بيتها فى الساعة التاسعة والنصف .. تشرب الشاى على مائدتها كما اعتادت أن تشرب .. وفى الساعة العاشرة ستفتح الباب للشغالة العائدة بعد أجازة يوم قضته عند أهلها ..
وخرج القطار من مساكن " شبرا " إلى مزارع البرسيم والخضرة على الجانبين .. وشعرت براحة أكثر .. ولاحظت أن معظم الرجال الجالسين معها فى العربة فى سن متقاربة .. ويرتدون البدل الصوفية .. ومعهم حقائب خفيفة وضعوها على الرف .. ولم يكن بالعربة على طولها أكثر من أربع سيدات غيرها هى ..
وكانت غالبية الركاب تدخن .. فضايقها هذا بعض الشىء .. وضايقها أكثر أن الرجل الجالس إلى اليسار فى الصف الذى أمامها .. أخذ يدير رأسه إلى الخلف وينظر إليها .. فتجاهلت نظراته .. وأرخت رأسها على مسند المقعد .. وأغمضت عينيها .. كأنها تستكمل حاجتها من النوم ..
وعندما مر عامل البوفيه طلبت فنجانا من القهوة وشربته فى تمهل .. وأعطته ورقة بعشرة قروش فلم يرجع إليها الباقى .. وخجلت أن تطالبه ..
وجاوز القطار طنطا .. وكفر الزيات .. ودمنهور .. والمنظر على الجانبين لا يتغير .. والمزارع هى هى .. العشب الأخضر .. والبيوت .. والمداخن .. والمساكن الشعبية فى خارج المدن .. وقد أسود بياضها وتشقق وانتشر على شرفاتها الغسيل ..
وبعد أن تحرك القطار من محطة " سيدى جابر " شعرت " عفاف " بالخوف .. خافت ألا تجده .. خافت أن يكون مريضا .. خافت أن يكون قد سافر إلى بلدته لسبب طارىء .. خافت من أشياء كثيرة تحدث فى الحياة .. وتمنع من اللقاء ..
كانت تفضل لو جاء إلى القاهرة الواسعة كالمحيط .. ولكنه كان عنيدا .. ولهذا خضعت لرغباته وسافرت .. وسافرت ..
كانت تسافر إليه فى الشهر مرة .. وأحيانا مرتين كلما واتتها الفرصة .. وسنحت الأحوال فى أثناء غياب زوجها بالخارج ..
وفى محطة " مصر " ارتعدت وهى تسير وحدها على الرصيف .. أحست بأن العيون كلها تلاحقها .. وتحدق فيها .. وتعرف وجهتها ..
وركبت " تاكسى " سريعا .. وعلى باب العمارة نزلت وهى نصف شاردة ..
وكانت العمارة على الكورنيش .. والجو باردا .. والشمس وراء السحاب .. ولم تجد البواب فى المدخل .. وركبت المصعد إلى الدور الثامن ..
وفتحت باب الشقة بمفتاح فى حقيبتها .. ودخلت الشقة الصغيرة .. شقة العازب التى رتبتها له .. واختارت أثاثها .. وزينت جدرانها بالصور .. ولكنها كلما فارقتها وبعدت عنها .. عادت الفوضى إلى الشقة .. إلا أنه فى هذا اليوم الذى يعرف فيه أنها قادمة حاول قدر المستطاع تنظيفها .. وترتيب ما بها من أشياء ..
وعندما دخلت الشقة .. وأغلقت عليها الباب شعرت بالراحة .. شعرت بالأمان .. الخوف الذى انتابها فى الطريق ذهب عنها الآن ..
وكان جو البيت كله يوحى بأن أنفاس " رأفت " حبيبها لا تزال تتردد فيه ..
وفتحت " عفاف " النافذة ونظرت إلى البحر .. وتطلعت إلى السماء .. سحب رمادية كثيفة تحجب الشمس مرة أخرى ..
الجو بارد .. وغير مشمس .. ولكنه جميل ..
وأخذت فى حيوية ونشاط تنظف البيت .. وترتبه على مزاجها .. أنها لم تفعل ذلك فى بيتها فى القاهرة ..
هنا تحس بأن كل خلجات جسمها تتحرك وتدفعها إلى العمل فى بهجة .. وهناك تشعر بالضجر والسآمة والملل والفراغ .. وكل هذه الأشياء قاتلة ومخربة للنفس ..
كانت تشعر بالحاجة إلى هذا الحب .. وكانت تسعى إليه بجسمها وروحها .. كانت تقتل السآمة التى تخرب روحها .. كانت تقتل الفراغ ..
كانت تسافر إليه .. وهى تشعر بالفرحة .. لأنها أسعدته .. وهو فى حاجة إليها ..
وبعد أن نظفت الشقة كلها .. ونسقتها .. أشعلت السخان .. وأخذت حماما .. وأحست بعده بالنشاط والبهجة ..
واستلقت على السرير .. وأحست " برأفت " وهو يفتح الباب الخارجى ويدخل .. وظلت متناومة حتى شعرت بأنفاسه على وجهها .. وشفتيه على شفتيها ..
ظلا معا ما بقى من النهار .. وبعد الغروب ناما ..  وفى الليل استيقظت .. وأيقظها الجوع .. وخرجت إلى المطبخ لتعد طعام العشاء ..
أشعلت الموقد وفتحت نافذة المطبخ الوحيدة .. فرأت النافذة المقابلة مفتوحة وهناك شخص يتحرك مثلها فى المطبخ .. كانت هذه النافذة مغلقة كلما جاءت إلى الإسكندرية .. وكانت تجد الباب المقابل لباب " رأفت " دائما مغلقا .. وقال لها " رأفت " فى المرات السابقة أنها شقة أسرة أجرتها لتصيف فيها ولكن منذ سنتين لا يراها تأتى فى صيف ولا شتاء ..
ولكن فى هذه المرة وجدت " عفاف " النافذة المقابلة فى المطبخ مضاءة ومفتوحة .. ورأت شابا يتحرك ثم يطل من النافذة ويحدق فى وجهها .. أنها تعرفه ويعرفها .. وظل ينظر إليها .. وظلت هى واقفة فى مكانها مسمرة .. تنظر إليه فى جمود .. رغم هبوب الريح ..
ظلت واقفة صامتة .. وهى تعرف معنى نظراته الساخرة التى تعريها من قميص نومها ..
كانت الريح تأتى من البحر عاصفة .. وتسمع هياج البحر ودوى الريح .. وكانت تستطيع بإرادتها أن تغلق النافذة ولكنها تركتها مفتوحة .. كانت تستطيع بإرادتها أن تخرس نظراته .. ولكنها وجدت إرادتها مشلولة ..
لأول مرة فى حياتها تشاهد عينين تنظران إليها بوقاحة وقوة .. وهى فى بيت غير بيتها .. وفى فراش غير فراش الزوجية ..
نظرت إلى السماء وهى ترتد عن النافذة فوجدتها ساقطة النجوم حالكة ..
وأعدت المائدة وهى أشبه بالمنومة مغناطيسيا .. كانت تتحرك من غير احساس بكل ما حولها ..
ونهض " رأفت " عن المائدة .. ورفعت ما عليها ..
وجلسا يتحدثان .. ولم يلاحظ شرودها .. وعاد إلى الفراش .. وكان جسمها فى برودة الثلج وروحها ضالة ..
وتناومت حتى استغرق " رأفت " فى النوم .. وظلت " عفاف " وحدها ساهرة تسمع البحر والريح ..
*** 
تمددت بجواره على السرير وهى تشعر بالخوف .. فارقتها حرارة وجوده بجوارها .. وفارقتها أنفاسه .. وشعرت بالخوف والرعب ..
أحست بأنها باردة جامدة متصلبة .. نهضت فى حذر .. كانت الشقة غارقة فى الظلام فأشعلت نور الحمام لكيلا توقظ " رأفت " وإذا استيقظ يتصورها فى الحمام ..
وتحركت بلين وخفة وهى عارية القدمين بقميص نومها .. وفتحت الباب بحذر بعد أن وضعت فى يدها المفتاح .. وأغلقته وراءها بحذر شديد كذلك ..
وقبل أن تضغط على جرس الباب الآخر كان الشاب قد فتح الباب .. وكان يعرف أنها قادمة ولا بد أن تلبى النداء .. كان خيالها المريض يصور لها أنها ستخرسه وتعمى عينيه .. ولكنها كانت تسقط .. وتسقط ..
واحتواها بذراعه فى صمت .. وأغلق الباب ..
========================= 
نشرت القصة فى مجلة الهلال بالعدد رقم 4 فى أبريل سنة 1976 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
========================= 


















 

المسافرة

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى

غادرت فندق " لامرتين " فى مطلع الصبح .. متجها إلى مكتب الشركة .. وكانت السماء مكفهرة وتمطر مطرا لم أر له شبيها فى مدينة " وهران " ..
وكانت المسافة من الفندق إلى مقر شركة الطيران قريبة .. فقطعتها بقدمى .. رغم رداءة الجو وشدة البرد .. لأنى كنت أمسك بيدى حقيبة سفر واحدة .. من اليسير حملها ..
ووجدت أبواب المكتب مغلقة .. فوقفت هناك تحت البواكى أحتمى من المطر والريح .. وكنا فى قلب الشتاء وكانت الحركة فى الشارع قليلة بسبب البرد والمطر .. وكنت أقدر افتتاح المكتب بعد أن تجاوزت الساعة السادسة صباحا .. ولكن لم يأت أحد .. وأخذت أتطلع إلى ما حولى .. وأنظر من خلال الزجاج فربما كل المكتب يفتح من الداخل .. والموظفون فيه يشغلون الدور العلوى من البناية .. ولكن لم أر ولم أسمع من الداخل أية حركة ..
وانتابنى القلق فالمسافة من المكتب إلى المطار تستغرق نصف ساعة كاملة بالسيارة .. وبقى على موعد قيام الطائرة ساعة واحدة .. ولا بد من اجراءات طويلة قبل السفر ..
وشعرت بقلق شديد .. وأخذت أروح وأجىء أمام الباب والأمطار ساقطة بغزارة .. وسمعت حركة أقدام سريعة ورائى فتلفت فوجدت فتاة ترتدى معطف المطر .. وبيدها حقيبة واحدة تتجه نحوى .. وحسبتها موظفة فى المكتب .. ولكنها اتجهت بعينيها الخضراوين إلى الباب المغلق كما فعلت .. ثم وقفت بجوارى ..
وقالت بالفرنسية فى صوت خافت :
ـ المكتب .. لم يفتح بعد ..
ـ أجل .. لم يفتح ..
ـ وليس هنا سوانا ..
ـ قد يأتى الآخرون .. بعد قليل ..
وانحنت وغيرت من وضع الحقيبة على الرصيف .. لتبعدها عن المطر الساقط .. ثم استقامت بظهرها .. وسألتنى :
ـ إلى أين ..؟
وحسبتها تسألنى عن جنسيتى .. فقلت :
ـ مصرى ..
فقالت برقة وعيناها تفصحان عن طيبة نفسها :
ـ أننى أسألك عن وجهتك .. ولم أسألك عن جنسيتك ..
فقلت معتذرا :
ـ القاهرة ..
وكانت تضع على رأسها وخديها وشاحا أزرق خفيفا .. فأعادت احكامه .. وأزاحت عن عينيها خصلة من الشعر بأناملها .. وبدت أمامى بكل تألقها .. وجمال هندامها .. كأجمل النساء .. رغم حالة الطقس التى لم تنل منها .. بل زادتها فتنة .. وكان نور الصباح الذى أشرق .. ينير وجهها الأبيض ويزيده تألقا ..
ورأيت بعض قطرات من المطر على أنفها الدقيق وخديها .. رأيتها تسيل مثل حبات الدر ثم تتساقط وهى حزينة ..
كانت طويلة العود .. رشيقة القوام .. لا تزيد عن الخامسة والعشرين من عمرها .. وقدرت من نطقها للحروف الفرنسية أنها ليست فرنسية خالصة .. وإنما تتكلم بالفرنسية .. لأنها تعرف أنها لغة التفاهم فى مدن الجزائر ..
وظلت واقفة فى مكانها صامتة تتطلع فى سكون .. ولم يظهر عليها ما أنا عليه من القلق والتوتر .. خشية أن أفقد الطائرة ..
وبعد قليل جاء ركاب آخرون .. وأخذوا يتطلعون إلى الباب المغلق ..
وأخيرا وقفت عربة الشركة على الباب .. فصعدنا إليها جميعا فى صمت .. ولم ننتظر فتح المكتب .. مادمنا نحمل تذاكر السفر ..
وجعلت الفتاة تدخل أمامى السيارة لتختار المقعد الذى تستريح فيه .. ولكنى وجدتها بعد أن ركبت لاتزال واقفة فى ممشى العربة تنتظر لتعرف مكانى .. ثم جاءت وجلست بجانبى ..
وأخرج السائق دفتر التذاكر وتقدم نحونا ليحصل أجر المشوار من الركاب ..
ولم تكن هى تتوقع ذلك .. فسألتنى :
ـ ما الذى يعمله ..؟
ـ أنه يحصل أجر الركوب إلى المطار ..
ـ ألا يدخل ضمن التذكرة ..؟
ـ يبدو .. لا ..
ـ سندفع كم ..؟
ـ أربعة دنانير .. واسمحى لى أن أدفع لك .. لأن معى نقودا جزائرية وأريد التخلص منها ..
ـ ولكن معى فرنكات ودولارات كثيرة ..
ـ أنه لا يقبلها ..
وأخرجت الدنانير وهى تبتسم ..
***
وتحركت السيارة والأنوار لا تزال تسطع فى المدينة الصغيرة والضباب يتكاثف والريح تعوى وبلغنا المطار .. ونزلنا سريعا من السيارة ودخلنا الصالة لنحتمى من البرد والمطر ..
وكان قد بقى على قيام الطائرة دقائق قليلة .. ولكن سوء الحالة الجوية أخر السفر ساعة كاملة ..
ولما أصبح السفر مستطاعا .. أقلعت الطائرة والفتاة بجانبى .. ولم أسألها عن اسمها .. مادامت لم تسألنى عن اسمى .. كما لم أوجه إليها أى سؤال يخرج عن الحديث العام فى مختلف الشئون ..
وبعد عشر دقائق من تحليقنا فى الجو .. أخذت الطائرة تتأرجح .. وأضاءت اللوحة التى تشير بربط الحزام .. وشاع فينا الاضطراب والفزع .. وكنا نخرج من السحاب الأسود وندخل فى سحاب أشد سوادا ..
ومن نافذة الطائرة التى عن يميننا لم نتمكن من مشاهدة أى شىء فى السماء .. ولا فى الأرض .. كانت القتامة مطبقة .. والسواد حالكا .. وكأن الشمس لم تطلع بعد وغدا الليل سرمديا ..
وأصفرت الوجوه .. وظهر الخوف على معظم الركاب ..
وكانت الطائرة طويلة وأنيقه والمقاعد فيها مريحة للغاية .. والخدمة .. على قصر المسافة .. ممتازة .. وقدموا لنا الحلوى ثم العصير وكانوا يلبون كل طلباتنا .. ولكن اضطراب الجو أفسد هذا كله ..
وسألتنى الفتاة :
ـ لماذا المضيف فى الطائرة .. ولا توجد المضيفة ..؟
ـ لأن غالبية الركاب من النساء ..
وابتسمت .. ورحنا نتحدث وخفف الحديث من حالة الفزع ..
وسألتنى :
ـ أخائف ..؟
ـ بالطبع ..
ـ وأنت ..؟
ـ مم أخاف ..؟
ـ من الموت بعيدا عن الوطن ..
ـ وماذا فى هذا ..؟ أرض الله جميعا واحدة ..
ـ الأهل .. سيتحملون مصاريف ثقيلة لنقل الجثة ..
ـ سيأكلنا السمك .. لأننا سنسقط فى البحر .. فلا تخف ..
وضحكت .. وعدانى مرحها إلى أقصى مدى .. وتحسن الجو قليلا ففككنا الأحزمة ..
ورأتنى وأنا أطيل وضع يدى على رأسى ..
فسألت وعيناها تبرقان :
ـ ما الذى فى رأسك ..؟
ـ صداع ..
فوضعت يدها فوق يدى وقالت بعذوبة :
ـ سأزيله عندما ننزل ..
ـ كيف ..؟
ـ بالتدليك ..
قالت هذا فى دلال وقد تموج الضوء الباهر فى عينيها .. وخطف كما يخطف الماس ..
ـ وهل تجيدين التدليك ..؟
ـ جدا .. يدى خبيرة .. أنه أحدث فنون العلاج الطبيعى .. وحسبتها تعبث فغيرت مجرى الحديث .. وسألتها :
ـ أجئت وهران كسائحة ..؟
ـ أجل وبقيت فيها ثلاثة أيام ..
ـ أعجبتك ..؟
ـ جدا .. المدينة جميلة .. وهادئة تريح الأعصاب .. ومنظر البحر ساحر ..
ـ وما دامت أعجبتك فلماذا اختصرت المدة ..؟
ـ لأنى مسافرة إلى بلاد كثيرة ..
ـ وحدك ..
ـ وحدى .. لأستطيع أن أتأمل وأفكر .. مع المجموعة تسير كالقطيع ..
ـ هذا حق ..
وأشعلت سيجارة وقالت :
ـ تستطيع أن تدخن .. اختفت الإشارة ..
ـ إننى لا أدخن ..
ـ هذا طيب .. ستنجو من سرطان الرئة ..
وأضافت ضاحكة :
ولكن الناس يدخنون رغم ذلك وسيظلون يدخنون رغم التحذير ..
ـ وأنا .. مع كونى لا أدخن ولكن أحس بوجود السرطان ..
فتلفتت نحوى فى فزع :
ـ أين ..؟
ـ فى المصران الغليظ ..
ـ هذا بسيط .. فلا تخف .. وسأزيله بالتدليك عندما نصل ..
واحمر وجهى وضحكنا من القلب ..
***
ونزلنا فى مطار " الجزائر " وجاءت الحقيبتان .. ودخلنا صالة المطار ..
وشعرت برغبة فى أن أودع الفتاة .. وأصعد وحدى إلى الطابق الثانى .. ولكنى وجدتها مقبلة علىّ .. وتتحرك أثر خطواتى .. ولا تفارقنى لحظة .. ذلك إلى أنى فى سن والدها .. وأعرف الفرنسية .. وهى اللغة التى تعرفها .. وتتكلم بها فى الجزائر ..
وكان هناك قليل من الأجانب فى صالة المطار ولكنها لم تحادث أحدا منهم .. وظلت مرافقة لى ..
وكانت حالة الجو لا تبشر بالخير .. وطائرتها تحلق فى الساعة الثالثة بعد الظهر .. وطائرتى فى الساعة السابعة مساء .. فلدينا وقت طويل قبل السفر ..
ورأينا أن نتخلص من الحقيبتين .. وندعهما فى مخزن الأمانات بالمطار .. فتركناهما هناك ..
وصعدنا إلى الطابق الثانى لنتناول طعام الافطار ..
وكانت الساعة تقترب من التاسعة صباحا .. والجو لا يزال مكفهرا ..
وشربنا القهوة وأكلنا فطيرتين .. ووقفنا فى الشرفة نتطلع إلى السماء والأرض ..
كانت السماء مغطاة بالسحب .. والشمس غائبة .. والأفق رماديا شاحبا .. وبدت الخضرة .. والأشجار الباسقة .. والفيلات البيضاء منثورة على التلال السندسية يغطيها جميعا الرماد .. والريح الشديدة تحرك فروع أشجار الجسور والصفصاف بعنف .. والسماء خالية من الطيور ..
والأفق ساقط .. ولا أحد يشاهد متحركا فى الخارج غير السيارات ..
نزلنا إلى الصالة الأرضية .. ورأيتها تبحث بعينيها عن شىء أدركته ..
فقلت لها فى ابتسامة :
ـ أننى ذاهب إلى هناك أيضا ..
وأشرت إلى دورة المياه فى أقصى الشمال ..
وقفت وسألت فى ضراعة :
وهل هو مكان واحد ..؟
ـ أجل ..
واحمر وجهها جدا .. وتباطأت فى خطوها .. ولأول مرة ألاحظ غريزة الأنثى الضارعة .. فى مثل هذه المواقف وهى تعود إليها فى عنف ..
وتطلق وجهها لما وصلنا إلى هناك .. ورأت الجزء المخصص للسيدات وأنه منفصل تماما .. وعلى الباب رسم لسيدة ..
وخلعت معطفها وناولته لى مع حقيبة يدها ..
فقلت لها :
ـ سأنتظرك على هذه الكنبة ..
وجلست أنتظرها ..
وخرجت فى ثوب سنجابى من قطعة واحدة محلولة الشعر .. متألقة الوجه .. خفيفة الحركة .. ولأول مرة أشاهد جمال ساقيها .. وانسجام قوامها وتناسقه .. بعد أن خلعت المعطف ..
وجلست تمشط شعرها وترتبه بعناية وتكمل زينتها ..
وتركتها لأدخل دورة المياه .. بدورى .. ولما عدت إليها كانت تقلب فى صحيفة " الموند " اشترتها من الكشك ..
وقلت لها :
ـ أمامنا ست ساعات إلى أن يحين ميعاد سفرك .. ألا نذهب إلى المدينة ..؟
فأجابت برقة :
ـ لقد شاهدتها .. وما الذى نفعله فيها فى هذا المطر ..؟ إننا لا نستطيع أن نتجول .. أو نرى شيئا جديدا .. وتستطيع أنت أن تراها بعد سفرى ..
ـ لقد رأيتها ..
ـ إذن نبقى هنا .. ونبحث عن مكان مناسب للتدليك ..
ـ ألا زلت مصرة ..؟
ـ بالطبع ..
ـ لقد خف الصداع .. بل زال ..
ـ ولكنه سيعود .. أما أنا فسأجعله يختفى ..
وأخذت تتطلع إلى رأسى .. وإلى الغصون التى فى وجهى وإلى الخطوط التى رسمها القدر فى مفارقى ..
وكنت أملأ البصر إلى حسنها .. وتأمل فى هذا الجمال الطليق الذى يتحرك فى قلب الدنيا ..
وأعود واسترجع باتريشا وغيرها .. وما جرى فى هذا العالم بعد حرب السويس .. وحرب فيتنام وما يحدث فيه من خطف الطائرات .. وخطف الرجال والنساء .. والتهديد بالقتل والدمار ومانشون والهيبز والتمرد .. وشبح الحرب النووية .. والتمزق .. والضياع بين الشباب .. والجنون المطبق .. ومتى يعود العالم إلى رشده .. ومتى يعود السكون ..
ومتى تسكن العاصفة التى تزأر فى الخارج .. لأخرج مع هذه الفتاة المجهولة الجنسية .. وأتريض فى هذا السندس .. وأسير معها على هذه التلال الزمردية .. واستدفىء بحرارة الشمس .. واتطلع إلى البحر .. وإلى السماء .. وأسمع العصافير تطير آمنة من العاصفة تغنى وتزقزق ..
وأصبحت الصالة الكبيرة .. حتى ونحن نقترب من الضحى .. قليلة الرواد من المسافرين والمودعين بسبب رداءة الجو أما اللوحة فلم تكن تضىء أو تشير إلى أى سفر ..
وظل الجمود يسيطر .. والحركة بطيئة ونهضنا نتطلع إلى كشك الكتب ..
وحملت إليها بعض الروايات الفرنسية .. ولكنها كانت تقول دائما عن كل كتاب :
ـ قرأته ..
فأعيده إلى مكانه آسفا ..
وأخذنا ندور من خلف الزجاج .. ونصعد السلالم وننزل منها .. ونرقب صالة السفر الخالية .. ورجال الجوازات الواقفين فى سكون .. والنساء والرجال الجالسين على الأرائك فى معاطفهم الثقيلة .. ينتظرون تحسن الجو ..
وكف المطر فى منتصف النهار .. ولكن الجو ظل فى لون الرصاص ..
وانتهزنا فرصة انقطاع المطر .. وخرجنا إلى المروج المحيطة بنا ..
وسرنا مسافة طويلة .. ثم جلسنا على العشب فى مكان مرتفع يطل على البحر الأزرق .. وشاهدنا عن قرب المنازل الصغيرة الجميلة وكلها بيضاء متنائرة على التلال الزمردية .. وتكون فى مجموعها منظرا يأخذ بلب المشاهد ويحرك مشاعره .. فيظل مفتونا لا يستطيع أن ينطق ..
وقالت ونحن نسبح معا فى هذا الجمال :
ـ استلق سأمر بيدى على صدغك .. وعنقك وكتفيك لأزيل الصداع ..
وخلعت معطفها لأستلقى عليه .. بعد أن لمست أن الحشائش لا تزال مبلولة ..
وابتسمت وطاوعت .. وقلت لها :
ـ لماذا كل هذه السماحة .. وقد التقينا منذ ساعات قليلة ..؟
ـ أحس بأنى أعرفك منذ وجدت فى هذه الدنيا ..
وحبست أنفاسى وكل مشاعرى واسترخيت وتركت لها رأسى ..
وتحركت يداها فى نعومة وسرعة .. وأحسست كأنى أحلم .. وأن هناك من شق رأسى بمبضع فى براعة وخفة .. وأخرج منه قطعة من الحديد المحمى .. كانت توجعه بأشد الأوجاع .. التى لا يمكن أن يتحملها إنسان ..
وأغلقت عينى ورحت فى غيبوبة .. وفقدت الوعى .. ولكن قبل أن أفقد الوعى تماما .. شعرت بأنفاسها .. على وجهى .. وشعرت بملمس يديها ..
ولا أدرى فى هذه اللحظة أقبلتها أم قبلتنى ..
ولكنى أحسست تماما بوهج الرضاب وحلاوته .. ولما عدنا إلى صالة المطار .. كان السفر مستحيلا فى هذا اليوم واللوحة سوداء صامتة ..
وقالوا لنا أن السفر تأجل على كل الخطوط إلى الغد فى نفس الميعاد ..
***
وتغدينا واسترحنا .. وكان لابد أن نذهب إلى المدينة .. ونبحث عن فندق .. وانطلقنا إلى المدينة فى هدأة الليل بعد أن يئسنا تماما من السفر ..
وكنت أعرف عنوان أستاذ فى الجامعة .. نستطيع أن نقضى الليل عنده .. لنوفر مصاريف الفندق ..
ولما وقفنا على بابه عرفنا أنه سافر إلى المغرب فى أجازة نصف السنة ..
وذهبنا إلى أكثر من فندق .. فوجدنا الغرف جميعها مشغولة ..
وأخيرا عثرنا على فندق .. وحجزنا فيه غرفتين بعد مشقة ..
وانسحب كل منا إلى غرفته .. وأغلق عليه الباب ..
ولم أنم .. ولا أعرف كيف قضت هى الليل فى جو المطر والعواصف ..
وفى الصباح قالت لى .. وأنا أدفع الحساب لكاتب الفندق :
ـ أن أجر الغرب مرتفع جدا .. فلماذا لم نكتف بغرفة واحدة ..؟
ولم أرد عليها .. وكانت حالتى تدل على أننى لم أفهم أو لم أسمع ..
======================= 
نشرت القصة فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
======================= 
الهوان

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


التقيت برشدى زميل الدراسة فى محطة المعادى .. ساعة الغروب .. وهو الذى عرفنى .. فقد أنكرته .. لأنه تغير .. وظهرت عليه أعراض الشيخوخة المبكرة .. وأصبح لا يعنى بهندامه واختيار ملابسه كما ألفته ..
وكان صوته هو الشىء الوحيد الذى ظل على جرسه القديم ..
وسألنى وهو يقترب .. وعلى فمه الفرحة بلقائى بعد فراق طويل :
ـ إلى أين ..؟
ـ إلى محطة باب اللوق .. وأنت ..؟
ـ مثلك .. ولكن الكهرباء مقطوعة منذ ساعتين ..
ونظرت إلى جموع الناس على المحطة ..
ـ لماذا ينتظر هؤلاء إذن ..؟
ـ أنهم دائما ينتظرون ..
وانتظرنا كما ينتظر الناس .. وذهبنا إلى مكتب الناظر .. وسألنا الواقفين بجوارنا .. رجالا ونساء .. فلم نسمع ما يبشر بعودة الكهرباء قبل الصباح ..
واستقر رأينا على أن نذهب إلى محطة الأتوبيس .. أو نركب تاكسيا بالنفر ..
وكان ركوب الأتوبيس مستحيلا لأن نصف ركابه كانوا على جوانبه وسطحه ..
وتاكسى النفر استغل الظروف .. واشتط فى الأجر .. إلى الحد الذى وجدنا فيه أن " التاكسى " العادى يساويه .. بل قد ينقص عنه ..
وركبت وبجوارى " رشدى " وسرنا .. وأصبحت الضاحية الهادئة وراءنا .. وأخذ الطريق الطويل يتلألأ بالأنوار .. بعد الغروب مباشرة .. والجو مازال على برودته .. ولم تفعل الشمس شيئا لتخفف من شدته .. رغم أنها كانت طالعة طول النهار ..
ونظرت إلى " رشدى " وهو صامت وقد غيرته الأعوام .. ومر شريط حياته سريعا .. بالقدر الذى عرفته منذ افترقنا .. توظف .. ثم ترك الوظيفة .. واشتغل بالتجارة فأفلس .. وباع نصيبه فى بيت " بالمنيرة " وسافر إلى بيروت .. وبعدها انقطعت عنى أخباره حتى رأيته اليوم .. وجمعنا التاكسى ..
ونزلنا من " التاكسى " فى ميدان التحرير .. وأظهر رغبته فى دفع الأجرة .. ولكننى كنت أعرف أنه يتظاهر .. ليس فى جيبه أكثر من تذكرة القطار ..
وسرنا فى شارع طلعت حرب .. كما كنا نسير معا منذ سنوات طويلات الأمد .. وقبل أن نقترب من الميدان .. أبدى لى رغبته فى أن أرافقه إلى شقته وهى على خطوات منا ..
ولرغبتى فى معرفة حاله الآن .. رافقته ..
وصعدنا السلالم إلى الدور الخامس فى عمارة قديمة بشارع الانتكخانة ..
وفتح الباب وأنا وراءه .. ولما أصبحنا فى الصالة .. سمعت صوت أنثى فى الداخل .. وكنت أعرف أنه قضى شبابه أعزب .. وخمنت أنه تزوج فى شيخوخته ..
وخرجت علينا من الداخل فتاة لا تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها .. وكانت بملابس البيت .. وأخذت تعاتبه لتأخره ..
فقال لها :
ـ أسألى الأستاذ عن الذى جرى فى المعادى ..
ـ ما الذى جرى ..؟
ـ انقطعت الكهرباء وتعطل المترو ..
ـ وكيف جئتم ..؟
ـ بالتاكسى ..
ولما سمعت لفظة " التاكسى " فتحت عينيها جدا وحدقت فى وجهى .. أدركت من نظرتها أنها تعرف أن رشدى مفلس .. وليس فى طاقته ركوب تاكسى ..
وظللنا نتحدث واقفين فى مكاننا .. ثم جلسنا فى الصالة .. ولاحظت أن قميصها قصير جدا ولا يغطى إلا القليل من فخذيها .. وأن شعرها قصير ومنفوش .. وأن عينيها خضراوان وضيقتان كعينى القطة .. وتدور بهما فى كل اتجاه .. وبشرتها بيضاء وناعمة .. وأظافرها طويلة .. ومطلية بالأحمر الصارخ .. ونفس اللون على شفتيها .. وفى هدبها ..
وبدت لى من الثقل الذى رأيته فى عينيها .. وفى حركتها .. أنها ظلت نائمة حتى فتحنا عليها الباب الخارجى .. فتحركت متثاقلة .. بقميص نومها .. وكل مباذلها كما كانت فى الفراش ..
ولاحظت من بين الأبواب المفتوحة .. أن البيت غير مرتب ولا نظيف .. وأن التراب الناعم يغطى الكراسى والموائد .. والأرفف وأوراق الصحف ..
وعلى الطاولة رواية بوليسية ومجلة مصورة .. وفوقنا فى الجدار .. صورة فوتوغرافية " لرشدى " فى شبابه .. والصورة متآكلة الجوانب .. واطارها من غير زجاج .. فبدت فى حالة يرثى لها من الكآبة ..
وجاءت بالقهوة .. وهى تدخن .. وسألته :
ـ هل جئت بالسجائر ..؟
 أبدا ..
ـ لماذا ..؟
ـ لم تبق معى نقود .. ركبنا تاكسى ..
ـ كذاب لقد سكرت بالجنيه الذى أعطيته لك ..
واحتقن وجهه أمامى .. فإنه لم يكن يحب أن يظهر بهذا المظهر ..
وأخذنا نتحدث فى مختلف الشئون .. حتى اقتربت الساعة من الثامنة مساء .. فاستأذنت لأنصرف .. ولكنه أصر على أن أبقى للعشاء ..
ودخل معها غرفة جانبية وبصرت بها وهى تعطيه النقود .. ونزل ليأتى بالطعام من السوق ..
وأخذت هى تعد المائدة .. وتحدثنى أثناء وضعها الأطباق والأكواب ..
وحدثتنى أنها عرفت " رشدى " منذ سنة بعد أسبوع من طلاقها .. وأنه أواها فى بيته .. وأحبته لهذا .. واحتفظت له بهذا الجميل ..
فأين كانت تسكن وكيف تعيش ..؟
وسألتها :
ـ ألم يعرض عليك الزواج بعد هذه العشرة الطويلة ..؟
ـ أبدا ..
ـ لماذا ..؟
ـ أنه مستريح هكذا ..
ـ وأنت ..
ـ وأنا أيضا مستريحة ..
وبعد أن أتمت وضع أدوات المائدة .. جلست فى مواجهتى .. ولم تفكر فى تسريح شعرها .. أو غسل وجهها .. أو تغيير ثوبها ..
وظلت كما هى كسولة أو على طبيعتها المتمكنة منها .. والمتأصلة فيها ..
ودخل رشدى بالطعام .. فأكلت وشربت معنا وضحكت كثيرا ..
وسألنى رشدى :
ـ فى أى فندق تنزل ..؟ 
ـ فى ناشيونال ..
ـ ولماذا لا تقيم معنا .. عندنا ثلاث غرف ..؟
وقالت هى :
ـ ولماذا الفندق .. وأنت صديق قديم .. وهو وحده ..
وسألتها :
ـ وأنت ..؟
ـ أنا ضيفة .. يا أستاذ .. ويسرنى وجودك معنا .. هات الحقيبة الليلة ..
ـ حاضر ..
وجلسنا نشرب وندخن .. وتركتنا هى .. فتصورت أنها ذهبت لتنام مبكرة ..
ولكنها خرجت علينا متزينة .. وقد ارتدت أجمل فساتينها .. وتعطرت .. وزادت من الألوان على خديها وشفتيها ..
وسلمت وفتحت الباب وخرجت .. ولم يسألها رشدى أين ذاهبة .. فأدركت أنه يعرف وجهتها ..
وذهبت إلى الفندق .. وأحضرت حقيبتى .. وكانت هى لم تعد من الخارج ..
ونمت فى الغرفة التى أعدت لى ..
وفى الصباح .. استيقظت مبكرا .. وفى طريقى إلى دورة المياه .. وجدت على المائدة التى فى الصالة ورقة بخمسة جنيهات مفرودة وفوقها كوب .. 
وكانت هى نائمة فى غرفتها وهو فى فراشه ..
واستيقظ رشدى قبلها .. وخرج إلى الصالة ورأيته وهو يتناول الورقة المالية الموضوعة على المائدة .. وكان وجهه يفيض بالبشر وهو يفعل هذا ..
وقدم لى فنجان الشاى .. وكانت لاتزال نائمة .. وتركته فى البيت .. وخرجت لبعض شئونى ..
ورجعت فى الليل .. ولم تكن فى غرفتها .. وفى الصباح .. وجدت جنيهات موضوعة على المائدة فى نفس المكان ..
وتكرر الأمر بصورة رتيبة ..
وذات ليلة تزينت وتعطرت .. وخرجت أمامه ..
فسألته :
ـ أين تذهب ..؟
ـ لا أدرى .. أنها تقول أنها ذاهبة إلى الحلاق ..
ـ الحلاق كل يوم ..
ـ هكذا النساء ..
ـ ألا تعرف أين تذهب .. ولم تسألها .. لأنك مسرور جدا بالنقود التى تتركها لك على المائدة .. كيف ترضى بهذا الهوان ..؟
اشتغل واطردها ..
ـ من الذى يشغلنى فى هذا السن ..؟
ـ حاول وستجد ..
ـ حاولت كثيرا .. ولم أوفق ..
ـ سأجد أنا لك الوظيفة ..
ووظفته فعلا عند صاحب عمل أعرفه .. ولكنه لم يستمر .. ترك عمله بعد أسبوع واحد .. دون سبب .. ورجع إلى البيت يشرب الخمر ليلا ونهارا ويدخن بنهم ..
وسألته :
ـ لماذا تركت العمل عند الرجل .. هل صدر منه ما يسوء ..؟
ـ أبدا .. الرجل فى غاية الإنسانية .. وأنا السبب .. ليس عندى طاقة على الشغل ..
ـ لقد أخترنا لك عملا بسيطا ..
ـ ولو .. ليس عندى طاقة اطلاقا .. وأنا مريض .. أنا خلقت هكذا ..
وفى أثناء الحديث .. قدمت هى القهوة .. وتركتنا وخرجت .. وتصورتها عائدة بعد منتصف الليل .. تضع له النقود على المائدة .. وهو راض وقانع بهذه الحياة ..
وازددت استياء منه .. وسخطا عليه .. ونهضت وتناولت حقيبتى ..
وسألنى :
ـ خارج ..؟
ـ أجل ..
وسلمت عليه .. وظل هو فى مكانه من المائدة يشرب ويدخن .. ولا يستطيع أن يترك ما فى يده ..
========================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد رقم 20 فى مايو 1975 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
======================== 
    

الصقــــــر

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى

     اشـتهر " الخـط " فى الصـعيد وأصـبح اسـطورة ، واشتهر " زهران " فى رقعة الدلتا وكاد يصبح اسطورة ..
     ولم يكن أحد يدرى كيف استوطن قرية " النخيل " وعاش فيها ، إذ لم يكن له أهل ، ولا بيت فى القرية .
     وعندما دخل القرية لأول مرة ، ومشى فى دروبها ، وكان فى ذلك الوقت فى الثلاثين من عمره ، لم يجد أمامه غير دكان " عبد الحليم " فابتاع علبة سجاير ، وجلس على المصطبة هناك .
     ثم أصبح المالك للبيت الملاصق للدكان . وكان يزرع قطعة الأرض ، ليعيش من غلتها كغيره من الفلاحين . ثم انقطع عن الزراعة ، وأصبح يعيش من طلقات الرصاص ..
     كان الناس يؤجرونه لقتل أعدائهم وغرمائهم نظير أجر قليل .. ثم ارتفع الأجر لما قويت سطوته وذاع صيته .
     وفى مدى سنوات قليلة أصبح الخط البيانى لشهرته يتحرك فى صعود ، ككل فتاك فى الريف .
     وكلما ازداد جبن الناس فى القرية التى يعيش فيها ، والقرى المجاورة لها .. اشتدت سطوته وجبروته ، وطار اسمه فى المنطقة حتى أصبح مكمن رعب الناس جميعا ، وأصبحت الأمهات يخوفن به الأطفال .
     وهو مع كل صفاته .. ولكنه اتخذ لنفسه خطة حمدها له الناس فى القرية .. ذلك أنه ابتعد بجرائمه عن القرية التى يقيم فيها .. فلم يكن يقبل أن يؤجر ليقتل أى شخص من أهلها .. ابتعد عن دائرتها كلية .. وعاشت القرية فى أمان من شره ..
     ولكنه كان يقبل التحرك فى كل ما عداها من القرى ، ويسافر وراء الطريدة .. يركب القطار ، والسيارة ، والخيل ، والبغال والحمير .. وحتى الجمل .
     ويستعمل البندقية والمسدس .. ويصيب من أول طلقة .
     ولم يكن أحد يدرى من أين أوتى براعة التسديد ، كان نادر المثال فى التصويب .. قوى البصر ، ثابت اليد ، رابط الجأش ، يطلق النار وهو على ظهر الفرس ، وهو فى جوف السيارة ، وهو منبطح فى الجرن ، وهو كامن فى المزارع .
     وكان فى صباح اليوم الذى يكون قد أطلق فيه النار بالأمس ، وأزهق روحا بشرية لاذنب لها .. يجلس فى مقهى صغير على " الرياح " يدخن الشيشة ويتحدث فى مرح مع صحبة .. هادىء الأعصاب .. ثابت الجنان .. لاتحركه حتى الزلازل .
     ومن حوله الاتباع من ضعاف النفوس ، وحثالة البشر ، يسبحون بجسـارته ، ويشـيدون بصـفاته ، فيزيدونه صلفا وضراوة .
     ومن المقهى كان يتحرك إلى البيت ، أو إلى الطريدة .
     وكانت الحوادث تحدث وتمضى .. وتطوى صفحاتها ، لأن أحدا لايجرؤ على اتهامه .. جميع الدلائل والقرائن تشير إليه ، ولكن اسمه لايجرى على لسان شاهد فى التحقيق .
     وكلمــا مرت الأيام ماتت أرواح الناس ، وضاعت نفوسهم ، تحت جبروت هذا الشرير .. وتخاذلت قواهم ، وضعفوا ، واستكانوا ، فلم يواجهوا الشر ، ولم يتصدوا له .. وجعلوه يستشرى ويتضخم .
     وجعلهم الرعب لايحرسون فى الليل أجرانهم ولا محاصيلهم ، ولا مواشيهم .. وكثرت حوادث السرقة والسطو .. واضطرب زمام الأمور .. وانخفض المحصول وقل المال ، وكثرت بينهم الدسائس والفتن .
     خيم الرعب فأفسد جو الحياة .
     وحاول نفر من العقلاء فى القرية أن يجعلوا الناس يتنبهون لهذا الشر .. ويستأصلونه من جذوره .
     ولكنهم كانوا يرتدون خائبين ..
     ويقال لهم :
     ـ ما دام يبعد بشره عن القرية .. فلا شأن لنا به ..!
     ـ انه سيتحول اليكم بعد أن يفرغ من سواكم ..
     ـ انه بعيد عنا .. ولا داعى لاثارة غضبه ..!
     هكذا استمر " زهران " يصول ويجول فى الميدان ..
                                      *** 
     ولكن حدث ما هز من جبروته بضعة أيام .. لأمر لاعلاقة له بالجسارة وبطلقات الرصاص ، فقد تقدم ليزوج ابنه " سالم " من فتاة أسرة معروفة فى القرية ، فرده والد الفتاة ، وصرفه بالحسنى .. ويقال انه قال له كلاما أغضبه .
     وكثر اللغط فى القرية بعد الرفض .. وكان الناس يتوقعـون أن يثور " زهران " ويقتل الشيخ صابر والد الفتاة .
     ولكن لم يحدث شىء من ذلك .
     والحادث على بساطته ، ومع أنه يمكن أن يحدث لأى شخص يتقدم للزواج .. فاحتمال الرفض والقبول مألوفين فى مثل هذه الحالات .. ولكنه مع " زهران " بجبروته يتخذ شكلا آخر .. فقد هز الرفض صلفه .. والأمور يأخذ بعضها برقاب بعض ، بالنسبة للشخص الجسور فعندما يميل ميزانه فى شىء يميل فى كل شىء ..
                                       ***   
     فى وقت الظهيرة وكانت شمس يوليو حامية ، انطلق كلب مسعور فى دروب القرية .
     وطارد غلاما صغيرا ، ومزق ثوبه وعلا الصراخ ، وتجمهر الأهالى وراء الكلب بالعصى والنبابيت .. وسمع " زهران " بالخبرثم رآه .. وكان جالسا فى دكان " عبد الحليم " ورأى الناس جميعا تنظر إليه كالمنقذ الوحيد من ضراوة هذا الوحش .. فتناول بندقيته سريعا وجرى وراء الكلب ، الذى أخذ الفلاحون يطاردونه فى العرصة ، وهو يفتح عليهم أنياب وحش كاسر .. وقد انقلب بعد السعار الذى أصابه إلى ضبع .
     وصوب " زهران " بندقيته وأطلق ولكنه أخطأ الكلب .. فتلفت الناس بعضهم إلى بعض بعد أن رأوا الحسرة على وجه الصياد .
     وتقدم الكلب الذى أخطأته الطلقات فى وثبة الليث ففزع الأهالى وانتابهم الرعب .
     وفى هذه اللحظة اطلق غلام فى الخامسة عشرة من عمره النار .. فخر الكلب صريعا .. وذهل الناس ..
      وسأل " زهران " وقد اصفر وجهه :
     ـ من هذا الغلام .. أمن بلدنا ..؟
     ـ أبدا إنه من تلوانه ..
     ـ ابن من ..؟
     ـ انه حسن ابن المرحوم عبد الغنى ..
      فحملق فيه " زهران " وارتعش بدنه وسأل :
     ـ هو .. عبد الغنى له ولد ..
     ـ أجل .. وكان فى بطن أمه .. عندما قتل والده ..
     وانفضت الجموع ، وشعر " زهران " لأول مرة فى حياته بالتخاذل ..
                                           ***    
     وبعد أيام قليلة من حادث الكلب .. تسلق ذلك الغلام حائط المنزل الذى يقيم فيه " زهران " وعرف قاعته .. دفع الباب برجله فى الظلام ، ولما دخل القاعة لم يجد فيها أحدا .. وفتش عنه فى كل مكان فى البيت فلم يجده ، فأدرك أن ذلك الخنزير لاينام فى بيته قط .. ولم يفعل ذلك أبدا منذ أخذ يطلق النار على الناس ..
     كان فى الواقع أكثر منهم جبنا .
     وكان شبح القتلى يطارده فى الليل .. وتوقع القصاص ، ولذلك كان يغير مكانه ، وفى كل ليلة ينام فى جهة .. مرة فى ساقية .. ومرة فى مزرعة ، ومرة أخرى فى جرن ، وأخرى رابعة فى بستان نخيل ..
     ومضت أسابيع .. والغلام الذى ربته أمه منذ شاهد نور الحياة على أن يثأر لأبيه .. لم يكن يشغل تفكيره أمر غير هذا .. ولكنه كان متأنيا يرسم الخطة باحكام وصبر ، ويريد قبل كل شىء أن يمحو من أذهان الناس الهالة التى كونوها عن هذا الشيطان .. فهو رجل عادى .. ككل الناس ويحس بالخوف مثلهم .. ويكون أحيانا أجبن من الكلب .. ويطلق النار .. ويخطىء ويصيب كأى رجل .. ولكنه أحاط نفسه فى براعة بنفر من الأتباع ضخموه .. وضخموه .. وهذا هو مكمن الرعب ..
     وتحرك الغلام ذات ليلة ، ووقف على رأس " زهران " وهو نائم فى بستان فأيقظه بحذائه .. وفتح هذا عينه مرعوبا ..
     وقال له الغلام والرشاش فى يده :
     ـ اننى لست جبانا مثلك حتى أقتلك وأنت على هذه الحالة كما قتلت والدى .. أصح ..
     وتصارع الصقر مع الشرير مواجهة واشتد الصراع وأطلق " زهران " ثلاث رصاصات .. وصرع الصقر الشرير من أول طلقة ..
     وعندما علمت القرية بمصرعه ، انتقل الخبر بسرعة الهشيم إلى كل القرى المجاورة ، فخرجت الجموع كالسيل الهادر ..
     وجروا الجثة على السكة الزراعية .. وانفجر غيظهم ليمزقوها ويشوهوها .. ولكن " الصقر " منعهم وهو يزمجر غضبا ..
     وصاح فيهم :
     ـ للجثة حرمتها .. أيها الجبناء .. حتى ولو كانت للشيطان ..
     ووقف يحرسها حتى دفنت ..
     وحلقت حمامة بيضاء فى الجو .. ولم يكن أحد قد شاهد الحمام يحلق منذ سنين وسنين ..
================================= 
نشرت بمجلة الثقافة المصرية بالعدد 24 فى سبتمبر 1975 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة  1977
=================================  








الجائزة

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


كان منتهى أمانيها منذ اشتغلت فى السينما أن تحصل على جائزة .. كانت الجائزة هى حلمها الأوحد .. الذى تفكر فيه .. فى الليل والنهار .. على صورة جنت بها وسيطرت على مشاعرها وكل مسالك تفكيرها ..
وكانت كلما قابلت شخصا تعرف أن له صلة بالعمل السينمائى تحدثه عن الجائزة .. ومن تحادثه كان ينور لها الطريق ويفتح لها أبواب الأمل .. وينصحها بطرق الوسيلة الفعالة لتحقيق أمانيها وهى الاعلان والاتصال الشخصى ..
وأعلنت فعلا وأعلنت .. ونشرت صورها .. فى كل الصحف والمجلات فى أوضاع فنية ومواقف مثيرة ..
وأخذت تقيم الحفلات فى بيتها للاتصال الشخصى ومعرفة الوجوه القادرة على العطاء فى الوسط الفنى ..
وكان زوجها بعيدا عن هذا الجو .. ولا يعرف إنسانا فيه .. ولكنها أرغمته على أن يحضر هذه الحفلات .. ويرحب بالمدعوين ويقابلهم بالبشاشة ويتحدث عن فنهم ومقدرتهم وعن روائع الأفلام المصرية مع أنه لم يشاهد منها فيلما فى حياته ..
وكان صدره يضيق بهذا الجو .. وكل ما يحيط به .. ولكنه نظرا لطموحها خضع لرغباتها .. وتقبل المهانة وهو يراها تضاحك الرجال وتراقصهم وتتقبل غزلهم المكشوف .. لتحقق غرضها ..
ومر موسم جوائز ثم موسم .. فلم تحصل على الجائزة .. وكادت تجن من الغم .. وتلفت أعصابها .. لأنها كانت قد أعدت العدة باحكام .. وقابلت الكثيرين قبل ظهور النتيجة .. وكل من قابلته وحدثته كان يطمئنها .. ومع هذا فشلت .. وفازت غريمة لها كانت تكرهها من كل قلبها وتجردها من كل موهبة .. ولهذا كانت الصفعة قوية ..
وظلت أياما طويلة حزينة ملتاعة لا تستطيع أن تواجه نفسها فى المرآة .. وصبت كل نقمتها على زوجها المسكين ..
وكان زوجها بعد فشلها مرتين .. يحاول أن يجعلها تنسى جو الجوائز ولكنها كانت ترفض ..
وفى الموسم الجديد نسيت قنوطها وفشلها .. ودب فيها النشاط من جديد .. وأخذت تقابل هذا وذاك ..
وقال لها أحدهم :
ـ الجائزة فى يد إسماعيل بك .. فكلميه ..
ـ ولكنى لا أعرفه .. فكيف أكلمه ..
ـ سأعرفك به ..
ـ هذا جميل لا أنساه لك يا شكرى بيه ..
ـ سأتصل بك غدا أو بعد غد على الأكثر بخصوص هذا ..
ـ شكرا .. شكرا ..
وتمهلت " حسناء " قليلا ثم سألته برقة :
ـ ولكن ما علاقة هذا البيه بالسينما .. لقد خطر فى بالى هذا السؤال فاعذرنى ..
ـ لا تكونى غريرة .. أنت لا تعرفين كيف تجرى الأمور ..
وعرفت " حسناء " إسماعيل بيه .. وأصبحت تلتقى به فى الخارج وتقابله فى بيتها .. وكان رجلا فى حوالى الأربعين من عمره ضخم الجسم أنيقا فى ملبسه ومظهره .. ولكنه ثقيل الظل لا يحسن الحديث مع النساء .. ولا يحرك أوتار قلوبهن .. وقد استثقلته " حسناء " بعد أول لقاء ولكن فى سبيل الحصول على الجائزة كانت تتزين له وتتبختر .. وتظهر المتعة بحديثه .. واللهفة على ساعات لقائه .. وتجعله يدرك بأنها تخصه وحده بهذا اللقاء ..
وكان إسماعيل يتضايق من وجود زوجها فى البيت .. بعد أن شعر بأنه بدأ يحبها .. فقد كانت جميلة أخاذة حلوة الحديث .. رشيقة القوام .. وفى زهرة عمرها .. ولكنها عاطلة المواهب فى التمثيل .. عاطلة تماما ..
***
تعدد اللقاء فى جو البيت وإسماعيل يزداد فى كل يوم غراما بها .. وخشى أن تفلت من يده قبل أن يصل إلى بغيته ..
فقال لها ذات مساء وهو منفرد بها :
ـ نفسى لو نقضى يوما فى الريف ..
ـ أين ..؟
ـ فى العزبة ..
ـ عندك عزبة .. لم أكن أعرف ..؟
ـ وقريبة جدا فى المناشى ..
ـ نزهة جميلة .. ولكن " حسين " لا يرضى أن أذهب وحدى ..
ـ لماذا لقد أصبحت ممثلة كبيرة .. وكيف يفكر هذا التفكير ..
ـ هكذا طبعه ..
ـ اخترعى له أية قصة .. قولى له أنك مسافرة للإسكندرية لتصوير فيلم .. أو لزيارة أختك .. أعرف أن أختك هناك .. أليس كذلك ..؟
ـ أجل  أنها فى الإسكندرية ..
ـ إذن المسألة سهلة ..
ظلت ساهمة مطرقة .. تتعذب .. ثم قالت :
سأحاول ..
***
وفى الصباح المبكر .. دخلت " حسناء " محطة القاهرة .. ثم خرجت منها من الناحية الغربية عن طريق خط الصعيد ..
وكان إسماعيل فى انتظارها بسيارته .. وركبت بجواره خائفة .. ولم تكن تعرف سبب الخوف على التحقيق .. فهذه ليست أول مرة تركب فيها سيارة مع رجل غير زوجها .. ولكن الغرض من هذه النزهة كان واضحا فى ذهنها وكان يرعبها ..
وبعد أن خرجا من زحام شبرا .. وأخذا الطريق الزراعى .. كانت تنظر إلى الأشجار .. وإلى مزارع البرسيم .. والخضر على الجانبين .. ساهمة شاردة النظرة .. فقد عانقت الرجال وقبلوها وقبلتهم ودفعوها إلى الفراش .. ولكن هذا كله كان تمثيلا فى تمثيل .. ولم يكن يصل إلى هذا الحد الذى هى ذاهبة إليه اليوم ..
ولماذا اختار فيلا فى " المناشى " .. لماذا .. أنها حتى هذه اللحظة لم تزل قط وتحترم زوجها وتحبه ..
وفكرت فيما سيقع فى الفيلا .. فكرت أن تدعه يعانقها ويقبلها ويقف عند هذا الحد .. ولن تدعه يتجاوز هذا قط .. ويكفيه هذا للجائزة ..
***
كانت الفيلا .. فى طريق رملى .. وفى مكان منفرد .. ومكونة من طابق واحد .. ولم يكن على بابها غير امرأة الخفير .. وكلب ضخم مربوط بسلسلة ..
وسأل إسماعيل المرأة عن زوجها .. فأخبرته أنه ذهب إلى " قليوب " ..
وحملت المرأة ما فى العربة من طعام وشراب .. ودخلت به الفيلا .. وشغلت بتهيئة المكان للقادمين .. واعداد طعام الغداء ..
وكانت " حسناء " تود مساعدتها فى كل ما تعمله .. ولكنها كفت يدها .. بعد أن أدركت أن هذه الصبية الريفية التى ليس على جسمها غير ثوب واحد تحتقرها .. وتحتقرها من النظرة الساخرة فى عينيها ومن العبارات الغامضة التى تخرج من فمها عفوا .. لا لشىء إلا لأنها جاءت فى صحبة " إسماعيل بيه " كما جاء غيرها من النساء من قبل ليقضين الليل .. فى هذا المكان بعيدا عن العيون ..
ظلت نظرة الاحتقار فى عين الصبية الريفية .. تطاردها كلما التقت بها .. وتلسع وجدانها وكيانها ..
وبعد أن دارت " حسناء " حول الفيلا وشاهدت غرفها وأثاثها .. وأعجبت بكل ما رأته فيها ..
جلست فى الصالة تشرب الشاى مع إسماعيل وتحادثه .. وأخذ يقص عليها لماذا اختار هذا الموقع الجميل للفيلا .. وكيف هو مريح للأعصاب .. وكيف يشعر بأن الحياة بكل ثقلها ترفع عن كاهله كلما جاء إلى هنا .. وأنه يخلق من جديد ..
وكانت امرأة الخفير فى أثناء حديثه تقدم طبقا من الفاكهة وترفع غيره .. وتديم النظر إلى حسناء وهى تفعل هذا .. وفى عينيها نظرة الاحتقار ثابتة ..
وكانت حسناء تود أن تقول لإسماعيل أن يطرد هذه المرأة فى هذا اليوم بالذات .. لأن نظرتها تثير أعصابها .. كانت تود أن تقول له هذا .. ولكنها لم تجرؤ على ذلك ..
وظلت المرأة رائحة وغادية فى داخل الفيلا وخارجها .. أنها مسيطرة تماما .. وراسخة القدم .. أما هى فدخيلة .. وجاءت لساعة عابرة .. كما تجىء كل ساقطة ..
أن هذه المرأة الصبية أجيرة عنده .. ولكنها قد ترده مع كل ما فى يده من سلطان .. إذا طلب منها شيئا لا تحبه .. لأن لها ارادتها القوية .. أما هى فلا ارادة لها .. وكذبت على زوجها لتحقق حلما .. فلماذا لا يكون لها إرادة مثل هذه المرأة الفقيرة ذات الثوب الواحد ..؟
ظل وجود هذه المرأة يفسد عليها جمال المكان .. ويجعلهالا تنصت لكلمات الغزل التى أخذ إسماعيل يصبها فى أذنها .. وعندما لف ذراعه حول خصرها وشدها إليه ليقبلها ..
نفرت منه وردته فى عنف ..
فسألها فى لطف وهو يكتم غضبه :
ـ مالك ..؟
ـ أبدا .. ولكن لا يصح هذا أمام الخادمة .. وهى رايحة وجاية ..
ـ أنها ليست خادمة يا ستى .. أنها امرأة الخفير ..
وغاظها رده أكثر وأكثر .. ولكنها تمالكت نفسها وتذكرت الجائزة فعادت إلى هدوئها ..
ومدت مائدة الغداء .. فتغديا وشربا القهوة .. وطلبت منه " حسناء " أن تستريح ساعة واحدة كما تعودت فى بيتها ..
ودخلت غرفة النوم وحدها .. وخلعت فستانها .. وتمددت على الفراش .. وأخذها النعاس .. وكانت تخشى أن يدخل عليها الغرفة ويراها فى قميص نومها .. ولكنه لم يفعل ..
واستيقظت بعد العصر وخرجت .. فوجدته جالسا فى الشرفة يحادث امرأة الخفير .. وقريبا منه يربض الكلب ..
وكانت الفيلا ساكنة .. وليس حولها بيوت .. وكان الفلاحون على مبعدة فرسخ يعملون بجوار النهر ..
وجلست " حسناء " بجواره .. تشرب عصير البرتقال .. وتتحدث .. وهى من حين إلى حين .. تنظر إلى قرص الشمس وهو يتدلى من الأفق الغربى ..
وقالت وهى تنظر إلى الكلب الرابض تحت قدمى إسماعيل :
ـ هيا قبل الليل ..
ـ إلى أين ..؟
ـ نروح ..
ـ لقد جئنا لنقضى الليل هنا ..
كان صوته يرن كالناقوس ..
ـ جئنا لنقضى النهار ..
ـ النهار والليل .. والليل أجمل .. فأرجوك .. أنها ليلة العمر ..
ـ لا أستطيع .. وإذا كنت تريد البقاء سآخذ العربة وحدى ..
ـ لو تحركت سأطلق عليك الكلب ..
قال هذا بصرامة .. وأوجعها بكلمات قاسية تلقتها وهى مذهولة وترقرق فى عينيها الدمع ..
 لقد جاءت برجليها إلى بيته .. فكيف لا تسمع منه هذه الألفاظ الجارحة .. ظلت ساكنة ولم تكن تقدر أن الموقف سيتطور إلى هذا الحد بمثل هذه السرعة .. ورأى دموعها فأخذ يسترضيها وهدأت .. وأحسا بالبرد .. فدخلا إلى الصالة .. يستمعان إلى الموسيقى والغناء من الراديو ..
وأعدت امرأة الخفير العشاء .. فتعشيا وشربا ..
ودخلت " حسناء " غرفة النوم وحدها .. وهى تقدر أنه سينام فى غرفة أخرى .. ولكنه دخل عليها وهى بين اليقظة والنوم .. ورغم كل ما رسمته فى ذهنها من خطط للمقاومة .. ولكنها لم تستطع أن تقاوم .. وكانت تتصور أنها لو قاومت وصرخت سيخنقها دون أن يسمع صراخها إنسان .. لفرط السكون المخيم على المكان ..
                                  ***        
وذات ليلة وفى فراشها حلمت " حسناء " حلما مروعا أفزعها وجعلها تستيقظ والدموع لا تزال تسيل على خديها .. وعجبت لمن يبكى فى الحلم ..
حلمت بأنها لم تفز بالجائزة .. وأنها سقطت بسيارتها فى قاع النيل .. ولم يتحرك لانتشالها أحد ..
ولما دارت بعينها فى الغرفة وجدت جريدة الصباح على المنضدة .. جاءت بها الخادمة كالعادة .. ووضعتها فى نفس المكان ..
ونظرت إليها " حسناء " طويلا .. ولم تستطع لفرط اضطرابها أن تمد إليها يدها ..
======================= 
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة بالعدد 2168 بتاريخ 12/5/1976 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
======================= 


 

  

الرسام الجوال

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


كان يمر أمامى فى ساعة معينة من النهار لا يتأخر ولا يتقدم عنها دقيقة واحدة .. وفى يده اليمنى محفظة طويلة يمسك بها مسترخية على مد ذراعه ..
كان يتحرك بخطو واسع بين صفوف الكراسى التى على الكورنيش فى محطة الرمل بالإسكندرية ..
وكنت أتصور أنه يبحث عن شخص بعينه بين الموائد لأنه لم يكن يحادث أحدا .. ولا يجلس إلى مائدة ..
ثم أدركت من اللوحة الطويلة ومن الفرشاة التى تطل من المحفظة أنه رسام .. ولكنى لم أشاهده يرسم أحدا على الاطلاق ..
وكان طويل الساق نحيفا .. ولذا كان خطوه واسعا إلى الحد الذى يروعك .. فقد كان يطوى مقاهى الكورنيش فى المنطقة من محطة الرمل إلى القهوة التجارية فى زمن لا يزيد على الثلث ساعة .. رغم الزحام الشديد المعروف فى الصيف .. وتراه رافعا قامته وفاتحا صدره كأنه يحارب الريح ..
وعندما يمشى تكون عيناه .. وهى شديدة البريق .. على خط ثابت .. ويكون عنقه قد مال قليلا إلى يسار .. ويكون خداه قد تكسرا .. وارتفع منهما خط بارز تحت عينيه .. وهو دوما يحرك شفتيه ويقول كلاما وهو يتحرك .. ولكن لا يسمعه ولا يفهمه إنسان ..
وهو يتحرك رائحا غاديا فى الساعة التى يشتد فيها زحام المقاهى فى الصباح .. وهى عادة من العاشرة إلى الواحدة ظهرا .. عندما تمتلىء الكراسى والموائد بتلك الفئة من الناس .. الذين لا يذهبون إلى البحر ويرضون بتلك الجلسة لظروف حالهم ..
ويتحرك معه فى نفس الأمكنة .. باعة الفول السودانى واللب وأمواس الحلاقة وماسحو الأحذية .. والحواة .. والنشالون .. وقارئو البخت .. الذين ينتقلون من القاهرة إلى الإسكندرية فى موسم الصيف .. بنظام دقيق محكم ..
ويبرز الرسام من بينهم جميعا بخفة حركته وسرعته .. وأنه لا يضايق جالسا فى المقهى .. ولا واقفا فى انتظار الأتوبيس .. أنه يمر كالطيف ..
وهو يرتدى بدلة واحدة لا يغيرها .. بدلة بنية اللون داكنة .. لا أثر فيها لفعل المكواة .. وتحسبه عندما تراها لاصقة بجسمه الناحل أنه ينام بها ..
وفى خلال تسع سنوات متصلة رأيته على الكورنيش .. وما أحسبه بارح الإسكندرية فى خلالها أبدا ..
ثم رأيته فجأة فى القاهرة .. فى الصيف والشتاء .. يتحرك أمامى فى المقهى الذى أجلس فيه ..
ولم يكن على حاله الأول .. ظهر عليه الكبر .. وتغضن وجهه الطويل .. وظهرت العروق البارزة على الجبهة .. كما ظهر الشيب فى عارضيه .. وذقنه الصغير ..
أما خطوه .. فظل كما هو واسعا سريعا ..
وكان يشاهدنى أجلس إلى مائدة لا أغيرها فى المقهى .. وأمامى الكتب .. وكان كلما مر بجانبى يحبس من خطوه قليلا ..
وفى كل يوم يرمينى بنظرة جانبية وهو عابر ..
وذات مرة شاهد أمامى نسخة بالإنجليزية من كتاب " الطاحونة الحمراء " للكاتب الفرنسى بيبر لامور Pierre la more  فوقف ومد يده نحو الكتاب .. وقال :
ـ تسمح ..
ـ تفضل ..
وتناول الكتاب .. وتأمل غلافه .. ثم وضعه مكانه ..
فقلت له :
ـ خذه لتقرأه ..
فقال بدماثة :
ـ لقد قرأته بالفرنسية ..
ـ بالفرنسية تكون قرأت لغة المؤلف .. وهذا أحسن من كل ترجمة ..
ـ أظن المؤلف يكتب باللغتين الفرنسية والإنجليزية .. لأنه انتقل بعد الحرب إلى أمريكا ..
وأعجبتنى ثقافته .. وتطلعت إليه فى دهشة .. وقلت له فى سماحة :
ـ تفضل واسترح لتشرب شيئا ..
فجلس وطوى المحفظة على حجره ..
وقلت لأواصل حبل الحديث :
ـ جميل أن تقرأ بالفرنسية .. فجيلنا كله يقرأ بالإنجليزية ..
فقال فى فخر :
ـ لقد عشت فى فرنسا عشر سنوات كاملة ..
ـ أكنت تعمل هناك ..؟
ـ ذهبت لأعيش وأرسم .. ولقد عشت سنوات طويلة نابضة بالحياة ..
وطفق يتحدث ويروى لى جانبا من حياته فى باريس ..
ثم نهض ليكمل جولته على المقاهى ..
واستراح إلىّ لما علم اهتمامى بالفنون .. وأصبح كلما جاء إلى المقهى ووجدنى فى مكانى يجلس دون استئذان ..
وكان يسر جدا عندما أحدثه عن هنرى تولوز .. ورامبرانت .. ورافائيل .. وميكائيل انجلو .. وأبدى اعجابى الشديد بالفنانين محمود سعيد .. ومحمود مختار ..
وتفتحت نفسه لى .. وأخذ يقص علىّ سبب سفره إلى باريس .. وكيف عشق " موديلا " فى القاهرة وسافر بها إلى باريس .. وكان وقتها فى الثانية والعشرين من عمره ووحيد أبويه فأخذ يصرف بجنون .. اشترى لها سيارة فاخرة وأخذا يطوفان بها فى كل أرجاء أوربا ..
وكان يقود بجنون الشباب وطيشه .. فى سرعة خاطفة .. فانقلبت بهما السيارة وماتت هى وعاش هو ..
وكان موتها فاجعة له .. لأنه كان يحبها بجنون وانتابته بعدها حالة من الاكتئاب النفسى فاجتوى كل شىء .. وكره الحياة .. كانت الصدمة قوبة لا تتحملها أعصابه الضعيفة ..
وأفاق من الصدمة فى القاهرة على رغبة شديدة للنساء .. كان يبحث عن بديلة لها .. فانغمس بينهن .. كان يرسمهن عاريات وكاسيات .. ويأتى له العملاء بالكثير منهن .. فيختار من بينهن من يرسمها .. ومن يتخذها عشيقة .. ليوم .. لشهر .. فاذا اجتواها .. بدلها بغيرها ..
ولكن صورة تلك التى ماتت فى باريس .. كانت تبرز فجأة .. فيعود إلى اكتئابه .. وخلل أعصابه .. وينقطع عن النساء ..
وفى فترة انقطاعه عن النساء .. اجتمعت عليه صحبة كانت تعرف مقدار الثروة التى ورثها عن أبيه ومقدار ما فى طبعه من كرم .. واستغلت ضعف ارادته فأخذ يصرف على هذه الصحبة فى الملاهى والمواخير .. حتى بدد ثروته فى أقل من ثلاث سنوات ..
وأصبح بعدها من غير أنيس ولا صديق ..
وسألته وأنا أقرأ الجوع فى عينيه :
ـ لماذا لم يعنك أصدقاؤك الذين عاشرتهم .. ويعرفون حالك ..؟
ـ إنهم يهربون منى .. وأنا أهرب منهم ..
ولماذا لا تبحث عن عمل ..؟
ـ ومن الذى يوظفنى .. وأنا على هذه الحالة التى تراها ..
وظلت الصورة أمامى قاتمة مروعة .. فنان ضال وجائع .. وسط ثمانية ملايين من الآدميين .. ليس بينهم إنسان ..
وقال لى ذات يوم .. وهو يحدق فى ملامح وجهى :
ـ نفسى أرسمك ..
فقلت مغتبطا :
ـ شكرا .. وأنا يسعدنى أن أرى فنك ..
ولما كنت متشوقا لأن أعرف أين يسكن .. فقد اتفقنا على أن يكون الرسم فى بيته ..
***
مشيت بجانبه إلى منزل قديم من أربعة طوابق بشارع " الكرداسى " بعابدين .. وكان سكنه فى الدور العلوى .. وفى غرفة عارية فى السطح ..
كانت الغرفة صغيرة ومقبضة .. وليس بها غير سرير حديدى مفرد .. فوقه مرتبة قديمة .. وفوق هذه بطانية سوداء نصف مطوية ..
ثم كرسى واحد .. ومنضدة صغيرة .. وكتب عربية وافرنجية ملقاة فى ركن ..
ولوحة واحدة معلقة على الحائط لفتاة مصرية بيضاء ترتدى بلوزة خضراء وهى فى وضع المتأمل وبدا وجه الفتاة شاحبا .. وخداها يرفان ..
وتفهم من انفراج شفتيها قليلا .. أنها تود أن تقول شيئا لتريح نفسها من هذا الكظم .. ولكنها لا تستطيع .. وكان هناك فى الركن الأيمن .. وفى مواجهة النافذة الوحيدة التى فى الغرفة .. لوحة خشبية بجانبها أدوات الرسم .. وكان الغبار الدقيق يكسو هذا جميعه ..
وجلست على المرتبة مسترخيا .. أتأمل هذا الفقر .. الذى يصرخ فى وجه الكون كله ..
وكنا فى الصيف والجو حار .. فتركنا باب الغرفة مفتوحا ليتحرك الهواء فى الداخل .. كلما هب من النافذة ..
ولقد شاهدت من قبل .. غرفا كثيرة فى أحياء فقيرة .. ولكننى لم أشعر بكآبة وبشىء ثقيل يحط على صدرى .. كما شعرت وأنا فى داخل هذه الغرفة .. كان جوها مقبضا للغاية .. وقد علمت منه أن ايجارها لا يتعدى خمسين قرشا فى الشهر .. وقد دفع شهرا واحدا منذ سكن .. ولم يدفع غيره ..!
وقلت له وأنا أنظر إلى الخارج من الباب المفتوح :
ـ عندما نبدأ العمل .. الأحسن أن تنقل اللوحة إلى الخارج ..
ـ فكرت فى هذا فعلا نظرا لحالة الجو ..
ولم أكن متحمسا للرسم بقدر شغفى بأن اكتشف فى كل يوم عن أسرار حياته ..
وقال :
ـ يحسن أن نبدأ العمل .. عندما ينسحب ضوء الشمس .. ونستمر فيه إلى أن يسقط الظلام ..
ـ كما ترى .. وتستطيع أن تخرج هذه اللمبة .. تمدها بسلك ..
ـ لا داعى لذلك .. فأعصابى لا تحتمل العمل أكثر من ساعة زمنية ..
كان نظرى .. وهو يتكلم على السطح وكان أعلى الأسطح .. ولم يكن يكشفه غير نافذة وحيدة فى منزل مقابل .. منزل سقفه غير مسور .. ولا يتحرك فوقه ساكن .. فلو كانت هناك كراسى لسحبناها وجلسنا فى الخارج .. ولكن لم يكن هناك غير كرسى واحد ..
وتحولت الشمس إلى المغيب .. وسقط شعاعها الأصفر ودخل من الباب يغشى عيوننا .. وتحرك ورد الباب ..
وبعد دقيقة واحدة .. رأيت معصما أبيض .. فى بياض العاج ونصاعته .. يدفع صينية عليها فنجانان من القهوة .. ونهض سريعا وتناول الصينية والباب موارب على حاله ..
مضت الحركة سريعة .. بحيث لم ألاحظ من حمل الصينية ودفعها برفق .. من انسحب بعد ذلك برفق أكثر .. بعد أن امتدت إلى الصينية يد الرسام ..
شربت القهوة بتمهل وأنا أفكر فى اليد التى حملتها إلىّ ولم أجد الفرصة لشكرها ..
واتفقنا على أن أجىء فى الغد للعمل .. قبل الغروب بساعة ..
وهبطت السلالم وهو معى .. وكنت أنظر إلى الأبواب المغلقة فى الشقق الثمانى .. وأحاول أن استشف من بينها جميعا الساعد الذى حرك مشاعرى ..
وعلى السلم الأخير ودعته .. على أن أجىء فى الساعة السادسة من مساء اليوم التالى لنبدأ الرسم ..
***
ولما جئت فى الميعاد .. وجدت غرفته قد نظفت ونسقت .. وأزيلت عنها الأتربة وقصاصات الورق .. وفتحت نافذتها ودخل الهواء النقى .. وأصبح جو الغرفة مقبولا لى ..
وكان الرسام يرتدى قميصا مفتوحا قصير الأكمام على بنطلون بنى .. ويبدو فى قمة نشاطه وحيويته .. تلمع عيناه وتتهلل أساريره ..
وسمعت النقر المألوف على الباب .. وامتد الساعد .. ودخلت صينية القهوة .. فتعجبت كيف أحست بوجودى بمثل هذه السرعة ..
وسألته :
ـ هل اعتدت أن تشرب قهوتك فى مثل هذه الساعة ..؟
ـ إننى لا أشرب القهوة .. ومزاجى فى الشاى ..
ـ لمن هذه إذن ..؟
ـ لك أنت ..
وترددت ثم تشجعت وسألته :
ـ ومن الذى يرسلها ..؟
ـ الست تحت ..
ـ هل أنت متزوج ..؟
ـ أبدا .. بعد المرحومة .. لم أتزوج قط ..
وتجهم وجهه .. وعاد إلى انقباضه .. فأسفت لأننى حركت أشجانه القديمة .. ورأيت أن أغير مجرى الحديث لأخفف عنه .. فسألته :
ـ أظنك لا تعانى من المواصلات .. وتحمد الله سبحانه وتعالى الذى وفقك إلى السكن فى وسط المدينة .. لتقطع كل مشاويرك بقدميك ..
ـ أننى ما وضعت قدمى فى أتوبيس ولا ترام .. منذ عشرين سنة .. لا فى القاهرة .. ولا فى الإسكندرية ..
ـ أرحت نفسك من عذاب السعير ..
وتصورته وهو يذرع الشوارع بخطوه الواسع .. فتبسمت .. وتبسم هو وعاد إلى طبعه الهادىء .. ثم استغرق فى التأمل .. وسألنى :
ـ هل تحس بالميل فى الشوارع ..؟
ـ ماذا تقصد بالميل ..
ولمعت عيناه ..
ـ أحس وأنا أسير فى شارع عماد الدين .. بشىء غريب .. عند عمارات الخديوى .. شعرت بميل شديد .. وكانت العمارة التى فى مواجهتى تميل بكل طوابقها .. وتكاد تطبق على كل من يسير فى الشارع وتطمره تحت الركام .. وكانت على يمينى قهوة نجيب الريحانى فجلست على رصيف المقهى الخارجى .. وشربت كوبا من الماء وأنا أنظر إلى نوافذ العمارات .. وبعد أقل من دقيقة عاد كل شىء كما كان ..
وكان يتكلم بحماسة شديدة .. وعيناه تبرقان وأسارير وجهه كلها تتدفق بالدم ..
وسألته :
ـ وهل لاحظت هذا لأول مرة ..؟ فى اعتقادى أن هناك بركة قديمة تحت هذا الحى كله وبنيت فوقها العمارات .. فلا عجب أن تحس بالميل ..
فتهللت أسارير وجهه أكثر وأردف :
ـ ولكنى أرى هذا الميل فى غير هذا الشارع .. أراه دائما وأنا أمشى .. وفى ساعة الظهر على الخصوص .. ومرة أحسست بهول مثل هول الساعة .. وجريت إلى البيت فى نفس واحد .. وكنت أتصبب عرقا فى عز الشتاء .. ألم تشاهد أنت هذه الظاهرة ..؟ وكان السؤال محرجا لى .. فقلت لأجاريه :
ـ طبعا نشعر بالاختناق فى الشوارع وبالميل .. وكل من يتحرك على قدمين يشعر بهذا ..
ورثيت لحاله وتلف أعصابه .. وزادنى هذا عطفا عليه ..
وقال بصوت خفيض :
ـ مرة كنت فى المقهى الذى تكتب فيه .. وأحسست بمن يحملنى على بساط الريح .. فى ثانية كنت فى البيت ..
وشعرت بالخوف من تطور حاله .. فقلت له :
ـ ألا نبدأ فى الرسم ..؟
ـ حالا .. سأخرج اللوحة إلى السطح ..
وخرجنا إلى السطح فى الظل .. وأحسست بطراوة الهواء ولينه ..
وجلست على الكرسى الوحيد .. وبدأ يحرك فرشاته ..
ومن أول جلسة أدركت أنه فنان موهوب ليس له ضريب .. وأن بلوته جاءت من الظلم الذى يحس به دوما يطبق عليه ليخنقه .. وجره الإحساس بالظلم .. وكظمه إلى الخبل .. والإحساس بالظلم يجر إلى الخبل وما هو شر منه ويدفع إلى التمرد .. والضياع .. وتحت عذاب البشرية من شبح القنابل النووية وقنابل الكوبالت .. ظهر الهيبيز .. وخطف الطائرات .. وظهرت الدعارة والرقيق الأبيض .. وظهر التفسخ وهوس النساء ..
كان التفكير فى كل هذه الأشياء غير مجد .. وشعر الرسام بالتعب فانسحبت ..
***
وذات مرة كنا على السطح كالعادة .. وكان الرسام يرسم فى حماسة .. وسمعت تصفيقا خفيفا وصوتا نسائيا ناعما يأتى من السلم .. فترك هو الفرشاة ونزل ..
وعاد يحمل عصير الليمون فى دورق وكوبين من البللور .. فقلت له :
ـ ما هذا .. ولماذا تتعب الناس ..؟
ـ لا شأن لى بهذا .. الست تعرفك .. وكنت جارهم فى الحلمية ..
ـ أنا ..؟
ـ أجل .. وفى شارع الأمير بشير .. وكانوا يقيمون فى المنزل المقابل .. وعندما رأتك السيدة قالت لى .. أليس هذا هو الأستاذ عبد المنعم .. فقلت لها نعم أنه هو .. وسرت كثيرا .. وهى الآن تحييك ..
وفكرت كثيرا فى شارع الأمير بشير .. الشارع طويل والمنازل المقابلة كثيرة فمن هى يا ترى ..
***
وصعدت كعادتى إلى غرفة الرسام .. فى يوم شديد الحرارة .. وقرعت باب غرفته فلم أجده .. وحسبته نائما .. فعاودت الطرق بشدة ..
وسمعت بعد هذا صوتا نسائيا من تحت يقول :
ـ الأستاذ شريف لم يأت من يومين ..
فهبطت الدرج .. واستقبلتنى الست " حسنية " سافرة هذه المرة .. وراء فرجة الباب .. كانت قد تعدت الخمسين .. ولكن جمالها الباهر لم ينطفىء بعد .. ظل مضيئا .. وكان من ورائها ابنتها " جمالات " الساعد الذى يحمل القهوة .. والذى كان فى شارع الأمير بشير فى مريلة الحضانة .. ولم أكن أعرف فى أية كلية هى الآن .. ورأيت نظرة المعرفة فى عينيها رغم مرور كل هذه السنين .. وشعرت بخفقان فى قلبى .. وبالروح والريحان من الأم وابنتها .. ولم أسأل الكبيرة هل الأب موجود أم ذهب كما يذهب كل شىء فى الحياة ..
ولكن نظرة من الفتاة ألجمتنى ..
كانت المقادير قد غيرت مجرى حياتى .. وبعدت عنهم .. وسواء أسعدت أم شقيت .. فأنا بعيد .. وبعيد .. بسعادتى وشقائى ..
وقلت للست :
ـ ربما سافر مرة أخرى إلى باريس ..
فقالت بعذوبة :
ـ ربما .. تفضل .. واسترح من السلم ..
ـ شكرا ..
وتركت السيدة التى كنت أود أن أقبل يدها ولكن منعنى الحياء ..
وهبطت السلالم وأنا على يقين بأن الرسام سيعود إلى بيتها .. لأنها الملجأ الوحيد ..
==========================
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة بالعدد 217 بتاريخ 26/5/1976 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
========================     


   
الســباك

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


     اشتهر محمد السباك فى حينا بالحلمية الجديدة كأحسن عامل يزاول حرفة السباكة فى المنطقة ، وكان يعمل فى دكان صغير بجوار مسجد " قيسون " ويعاونه صبى يحمل عنه الصندوق الخشبى الموضوع فيه الأدوات اللازمة للعمل ويتعلم منه الصنعة على مدى السنين ..
     وكان محمد السباك دقيقا فى عمله ، وفى مواعيده ، وهو شىء نادر الحدوث فى عمال هذه الحرفة . ولذلك أحبه الجمهور وكثرت عليه الطلبات إلى حد يفوق كل التصورات ، واشتهر اسمه فخرج من الحلمية الجديدة .. إلى القلعة ثم السيدة زينب .. فعابدين .. ثم تناقل فى سرعة البرق فشمل كل الأحياء وكان يعجب ويقول :
     ـ يا ناس .. كيف ألبى كل هذه الطلبات ..
     كان يستقبل الناس بالبشاشة .. وهى شىء أصيل فى طبعه ، ومن صفاته الجميلة .. ويحدد للطلبات زمنا وجدولا ..
     ولم يكن مع كل هذه الشهرة الواسعة يشتط فى الأجر .. كان يطلب الأجر المناسب ، الأجر الذى يشعر معه الزبون بالراحة ..
     وكان يملك يدا سحرية .. فلا شىء عنده لايمكن اصلاحه .. فالسيفون الذى ينز باستمرار .. وقد تعطل وفقد كل دلائل الحياة .. يعيده جديدا فى لمسة من يد ساحر ..
     وتعجب وأنت تراه مكبا على عمله فى صبر ودقة .. وقد انحنى على الشىء يتأمله أولا ورأسه يرتب ما يلزم .. ثم يناوله الصبى الأدوات واحدة وراء الأخرى وهو فى استغراق عجيب ..
     وتراه يتغير لونه ويتفصد جبينه بالعرق إذا استعصى عليه شىء ثم لاتلبث الخاطرة الجـديدة المنقذة للموقف أن تطوف برأسه .. فيمد يده
ويحرك أنامله .. ويأتى بالأعاجيب .. انه مبتكر وفنان عديم النظير ..
     ولم يكن عمله يقف عند السيفون .. والحنفية .. والدش .. والمحبس وماسورة المياة .. فقد امتد بذكائه إلى كل جديد .. فعندما جاء البوتاجاز عرف دقائقه .. وأخذ فى اصلاحه .. وكذلك فعل مع السخان ..
     واضطر لكثرة تجولاته .. ولأن المواصلات فى القاهرة رديئة على طول الخط وفى كل الساعات .. ولا تسعفه فى تحركاته .. اضطر أن يشترى موتوسيكلا .. وبعد شهر واحد عرف كل ما فى عدة الموتوسيكل من دقائق وأصبح يصلحه بيده إذا تعطل ..
     وانتقل من الموتوسيكل إلى السيارة عن هواية ورغبة ..
     وكان يضحك عندما يقف أمامه أحد الزبائن بسيارته ويقول له :
     ـ والنبى تشوف العربية .. مالها .. يا أسطى محمد ..
     ـ هو أنا ميكانيكى .. يا بيه ..
     ـ أنت أحسن من كل ميكانيكى ..
     ـ حاضر ..
     ويرفع غطاء الموتور ويحدق ..
     ثم يرفع رأسه ..
     ـ طيب .. يا على بيه .. اتركها شوية .. لما أخلص مما فى يدى أولا ..
 ـ عشت يا أسطى محمد ..   
     كان جميع الزبائن يتمنون له طول العمر .. لأنه الوحيد فى مستوى نظرهم الذى يخلصهم من كثير من المآزق .. ويريحهم من كثير من المتاعب ..
     ولم يكن يحب المساومة .. ولا كان أحد من زبائنه يساومه .. فهم يعرفون طباعه جيدا ..
     وعندما بدأ العمل فى السد تحايل عليه أحد المقاولين بكل طرق الاغراء وأخذه إلى أسوان مع مجموعة عماله .. وهناك أتى محمد السباك بالمعجزات .. واشتهر بين المهندسين والخبراء .. حتى أنهم كانوا عند كل موقف صعب يقولون :
     ـ هاتوا .. محمد السباك ..
     وعندما أنهى المقاول عمله فى السد .. أسند إليه عمل كبير فى سيناء فاصطحب معه محمد السباك ..
     ولما اشتعلت نيران الحرب السريعة فى سنة 1976 .. كان محمد السباك فى قلب سيناء .. وأسر مع من أسر ..
     ولما علم الإسرائيليون من بعض الأسرى بخصائص محمد السباك .. فى السباكة والميكانيكا .. وكل الأشياء الى لها آلات وعدد .. سحبوه ليصلح لهم سريعا ما تعطل من سياراتهم ودباباتهم التى جروها وراء الخطوط لتعود إلى المعركة من جديد ..
     فقال لهم بثبات وشجاعة :
     ـ أنا عامل بناء .. ولا أعرف شيئا فى الميكانيكا أو السباكة ..
     ـ ولكن اسمك .. محمد السباك .. وكل رفاقك ينادونك بهذا الاسم ..
     ـ هذا لقب .. وهل يكون محمد النجار .. نجارا .. هذا لقب ..
     ـ لا داعى لهذا المكر .. نحن نعرف صنعتك .. وإذا لم تستجب لرغباتنا سترى ما ينزل بك من عقاب ..
     ـ افعلوا .. ما تشاءون ..
     وعذبوه بدنيا ونفسيا .. وحاولوا معه بكل الوسائل .. أن يجعلوه يصلح لهم أى شىء .. ولكنه رفض باصرار ..
     وأخيرا تشاوروا فيما يفعلونه ..
     وقرروا تهديده بقطع ذراعه إن لم يرضخ لطلبهم ..
     ولما سمع بذلك .. قال لهم فى هدوء :
     ـ اقطعوا .. فلا ذراع لى وأنا فى الأسر .. لا ذراع على الاطلاق ..
     وتشاور ضباطهم فى الأمر .. وقال أحدهم :
     ـ إن محمد السباك مشهور فى مصر كلها .. وقطع ذراعه سيجعلنا معرة بين الأمم .. والتعذيب وصمة عار تبقى فى جبين الأمة وتلطخها بالوحل إلى الأبد .. والأحسن من هذا أن نشل ذراعه اليمنى عن العمل ..
     ـ كيف ..؟
     ـ نترك هذا للأطباء ..
     ـ ولماذا لا نقطع ذراعه ..بسبب أنه أصيب فى الحرب بقذيفة .. وقد اقتضت العملية بتر ذراعه ..
     ـ لقد تسلمناه مع رفاقه سليما .. والأكاذيب لا تعيش ..
     وفعلا أدخلوه المستشفى .. وخرج منه مشلول الذراع اليمنى عن كل حركة ..
     وأطلق الأسرى .. وعاد محمد السباك إلى القاهرة مشلول الذراع ولكنه لم ييأس من هذه العاهة .. ولم يتوقف عن العمل .. فقد أخذ يمرن ذراعه اليسرى على كل عمل كان يعمله بذراعه اليمنى .. وفى أقل من ثلاثة أشهر كانت يده اليسرى تقوم بكل ما يريده منها ..
ومضى محمد السباك فى عمله كأنه ما شلت له ذراع .. ولدقته المتناهية فيما يقوم به وابتكاره .. أغرته شركة من شركات الطيران ليعمل فيها .. براتب كبير .. فقبل وأصبح يعمل فى جسم دقيق حساس .. فى جسم من الألمنيوم بدورات المياه فى الطائرات ..
     وانتقل من الحلمية الجديدة .. إلى مصر الجديدة .. ليكون قريبا من المطار .. وفرح بهذا الانتقال .. لأنه انتقل إلى مسكن أحدث وأجمل وأصبح يعيش هو وأسرته فى الهواء الطلق وفى جو صحى ..
     ولكنه وجد الفساد أمامه والفوضى والدسائس .. فانتابه القرف وساءت حالته النفسية وأصبح للمال الكثير فى يده طعم العلقم ..
     وكانت عربة الشركة تنقله من البيت إلى المطار .. ومن المطار إلى البيت ولا يجد أمامه الفرصة للمشى على قدميه .. فترهل وتضاعف وزنه ..
     وللجو الكئيب المقبض الذى يعيش فيه ولمحاربته فى رزقه بالدس والوقيعة أصبح احساسه بذراعه المشلولة يتضاعف من يوم إلى يوم .. حتى بلغ به إلى حالة الخجل من نفسه كعاجز ..
     وتصور الناس ينظرون إليه جميعا كلما خطا خطوة فى الطريق ..
     وفى المطار .. وفى ممر الطائرات .. وفى وجوه المسافرين ..
     وكان يشعر بكآبة قاتلة ..
     وحل به المرض .. وأصبح يعمل يوما .. ويمرض ثلاثة ..
***  
     كانت الشركة تعد طائرة ضخمة لسفر كبير .. ووجدوا بها خللا فى دورة المياة يتطلب الاصلاح السريع .. وبحثوا عن محمد السباك فلم يجدوه ثم علموا أنه مريض فى البيت .. فاحتاروا ماذا يصنعون .. فلا بد من الكشف على دورات المياة فى الطائرة قبل سفرها لتكون سليمة مائة فى المائة .. ولا أحد يصلح لهذا العمل السريع سواه .. فمن المحتم استدعاؤه مهما كانت حالته .. وأرسلوا إليه عربة وجاءت به فعلا ..
     ودخل من باب المطار ..
     وسأل وهو جالس تحت البرج كما يجلس السلطان :
     ـ أين الطائرة ..؟
     ـ هناك فى الممر رقم ..
     ـ هاتوها هنا ..
     ـ كيف هذا يا أسطى محمد .. أنها على مبعدة فراسخ .. وكم يتكلف نقلها ..
     ـ هاتوها هنا .. وإلا سأرجع إلى بيتى .. أنا مريض ..
     ـ الطيارة سيركبها ...
     ـ أعرف هذا .. وهو لا يرضى بعذابى .. لأنه انسان ..
     ـ سنحملك إليها .. فى أحسن العربات ..
     ـ هاتوها هنا .. وإلا سأعود إلى بيتى .. أنا مريض ..
     أراد أن ينتقم ويشعرهم بمكانته .. لأول مرة فى حياته معهم يشعرهم بأنه يمتلك زمام الموقف .. أنه قادر على إملاء رغباته ..
     كان يشعر بحرجهم وحيرتهم .. فمن الذى يمر بيده السحرية على معدن الطائرة سواه ..
     وهبوا .. يأتون بالطائرة .. وجلس فى مكانه ينتظرها ..
     جلس فى مكانه يرقب الشمس وهى ترسل أول أشعتها الذهبية فى بداية الشروق .. ترسل أشعتها على رمال المطار .. وعلى الممرات وعلى أجنحة الطائرات الجاثمة على الأرض .. جاثمة فى سكون فى صباح الشتاء ..
     وأحس بأزيز طائرة واحدة .. تتحرك فى الممر .. وبصر بها من بعيد تتحرك ببطء .. كانت ضخمة وجبارة .. تتحرك ببطء على الأرض .. تتحرك ببطء شديد وتتهادى .. ودارت ودخلت فى ممر آخر .. ثم اتجهت إليه تقترب منه .. تقترب منه وحده .. جاءت إليه وأصبحت تحت قدميه ..
     وأحس بفرحة غامرة .. بانتصاره وصرخ ..
     ولم يشعر بنفسه وهو يحرك ذراعه المشلولة .. وجدها تشير إلى الطائرة .. وتطوق رفاقه وهم يعانقونه ..
     كانت فرحتهم أضعاف فرحته .. فيا له من جبار بعد أن عادت إليه يده اليمنى ..




=====================================
نشرت فى مجلة الثقافة بالعدد 35 الصادر فى شهر أغسطس 1976 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
=====================================

   


علاقة إنسانية

قصة الأديب المصرى الراحل محمود البدوى


قرأت " ناهد " الإعلان فى الجريدة .. وترددت كثيرا فى الاتصال بصاحبه .. ظلت جالسة بجانب التليفون وهى تفكر .. بعد أن نقلت الأرقام الستة فى ورقة صغيرة .. وأخيرا حركت القرص وهى تشعر برعشة يدها ورجفة .. لم تجد فى نفسها الجرأة على محادثة رجل لا تعرفه .. وطافت بها الذكرى فتندت عيناها بالدموع وظلت جالسة فى مكانها شاردة تبكى ..
لم يكن فى البيت أحد سواها .. كانت وحيدة منذ وفاة زوجها .. وفيما عدا الشغالة التى تأتى مرتين فى الأسبوع لتنظف الشقة .. وفيما عدا الزيارة العابرة لجاراتها وقريبة لها على المدى البعيد .. فإنه لم يكن يؤنس وحدتها انسان ..
كانت تشعر بالوحدة تجثم على قلبها .. وبكآبة الحياة ..
ولأنها تعرف الفرنسية فقد جربت العمل فى ثلاث جهات مختلفة لها اتصال بالجمهور ولكنها أخفقت فى المرات الثلاث وصرفت النظر عن المسألة كلية ..
ولكن هذا الإعلان الجديد .. حرك فيها الرغبة من جديد ..
وفى العصر أدارت القرص .. وجاءها صوت رجل فيه بعض الخشونة ..
وغالبت نبرات صوتها عدة ثوان ثم سألت بصوت خفيض :
ـ حضرتك صاحب الإعلان المنشور اليوم ..؟
ـ نعم ..
ـ وتطلب مديرة منزل ..
ـ أجل ..
ـ أستطيع أنا القيام بهذا العمل .. أهناك من كلمك قبلى ..؟
ـ أبدا .. حضرتك .. أول من تكلم ..
ـ طيب .. حضرتك ساكن فى أية جهة ..؟
ـ فى شارع شمبليون ..
ـ سمعت باسم الشارع ولكنى لا أعرف موقعه تماما ..
وأخذ يصف لها الشارع والمنطقة جيدا وأعطاها العنوان بدقة .. وسألها :
ـ متى ستشرفين ..؟
ـ غدا فى الساعة التاسعة صباحا ..
***
وفى الساعة التاسعة تماما كانت تضغط الجرس ..
وفتح لها " فهمى " الباب بنفسه .. واستقبلها ببشاشة .. ودخلت وجلست ..
وطالعها السكون المطلق .. كانت تقدر وجود الأبناء فى البيت .. ولكنها لم تجد فى داخل الشقة سواه ..
وأجلسها على كنبة فى الصالة .. وجلس قبالتها دقيقة كاملة وذهنه يحدثه بأن صوتها فى التليفون لم ينبىء بكل ما فيها من حسن .. كانت ترتدى فستانا أسمر من قطعة واحدة .. وتلبس فى رجليها جوربا من لونه .. وكان وجهها البديع القسمات يتألق فى بياض ناصع .. وأضفى عليه الحزن شحوبا خفيفا زاد من حلاوته .. وكان قوامها رشيقا وسنها يتجاوز الأربعين بقليل .. ولكن ملامح وجهها بدت فى نضارة وغضارة بنت العشرين .. لم يكن على وجهها أى أثر للتجاعيد .. وكانت عروق شفتيها مكتنزة بالدم .. وعيناها تتألقان فى بريق وجمال ..
وقال فى دماثة بعد أن قدم لها القهوة :
ـ تحبى تشوفى الشقة ..؟
ـ شكرا ..
ونهض ومشت وراءه .. خائفة ..
وفتح لها غرفة الجلوس .. وغرفة المائدة وغرفة النوم .. ووقفت فى هذه الغرفة على بابها ولم تدخل .. دارت عيناها فى الغرفة من بعيد .. ـ غرفة جميلة .. وكل الغرف جميلة ..
كان المطبخ ممتلئا بأدوات المطبخ ومنسقا .. ومتسعا .. وسرها ذلك جدا ..
وقال لها بعد أن رجعا إلى الصالة :
ـ كل شىء على حاله من أيام المرحومة ..
وسألت برقة :
ـ الست ماتت من زمان ..؟
ـ من سنة ..
ـ الله يرحمها ..
ـ أعجبتك الشقة ..؟
ـ جميلة جدا ..
ـ طيب متى تشرفين ..؟
ـ من بكرة ..
ـ المرتب 30 جنيه مقبول ..
ـ لا يهم المبلغ زاد أو نقص .. المهم أنى حاسة أن حضرتك طيب ..
ـ شكرا .. هذا من كرم أخلاقك ..
ـ سأحضر من الغد .. وأرجو قبل أن نبدأ أن أوضح أمرا ..
ـ تفضلى ..
ـ حضرتك ذكرت فى الاعلان إقامة كاملة .. وأنا لا أستطيع ذلك ..
ـ لماذا ..؟ عندك أولاد .. تسهرين عليهم ..؟
ـ أبدا .. وإنما لم أتعود على المبيت خارج بيتى ..
ـ كما تحبين .. وحضرتك ساكنه فى أية جهة ..؟
ـ فى منشية البكرى ..
ـ أليس هذا مشوارا متعبا ..؟
ـ سأركب مواصلة واحدة .. المترو .. وأنزل فى معروف ..
ـ ما دمت ترغبين فى ذلك .. فأنا طوع أمرك .. المهم أن نتعشى سويا .. أما النوم فعلى راحتك ..
ـ شكرا .. وشىء آخر .. وأرجو ألا تتضايق .. لن أنزل إلى السوق .. وأقف فى طوابير الجمعية .. أو أمام دكان جزار أو خضرى ..
ـ ومن قال ذلك يا هانم .. أن هذه الأشياء كلها تأتى إلى بابك .. كما كان كل شىء أيام المرحومة ..
ومع أن الاشتراطات كلها عرضت .. والاتفاق تم على كل شىء .. وآن لها أن تنهض .. ولكنها ظلت جالسة تتفرس فى ملامحه .. لتتأكد من حسن نواياه ..
كان مهذبا فى مجلسه .. تبدو عليه الوداعة .. فوق الستين .. سمينا .. ليس بالقصير ولا بالطويل .. قمحى اللون .. لا يضع نظارة على وجهه المستدير الضاحك .. وشعر رأسه يبدو فى غزارة وقد خطه الشيب ..
وكان صوته خافتا ولكنه خشن .. ويضع ساقا فوق ساق ويدخن بشراهة .. وضحكته ليس فيها جلجلة ..
كل ذلك لاحظته " ناهد " وهى جالسة مع الرجل الذى ستدير بيته من الغد ..
ونزلت ناهد من الطابق التاسع فى المصعد الصغير الذى خافت أن تركبه وحدها وهى طالعة .. لأن بابه كان مخلخلا .. وعندما صعد بها اهتز .. فعادت به إلى الدور الأرضى .. ولم تصعد ثانية إلا ومعها صبى البواب ..
***
عندما رجعت " ناهد " إلى بيتها كان فى عزمها أن ترتب بيتها وتعد نفسها للعمل فى بيت الرجل منذ الصباح .. ولكنها وجدت نفسها تجلس جامدة بجانب النافذة المطلة على الطريق وهى تفكر فى الأمر وتعاود التفكير .. ما الذى يقصده الرجل بمديرة منزل وهو يعيش وحده .. أية إدارة ستكون هذه .. ولماذا تذهب إلى بيت رجل يعيش وحده .. وتضع نفسها فى موضع الشبهة .. وماذا سيقول الناس عنها حتى وإن كان الرجل ملاكا .. كيف يضمها مع الرجل أربعة جدران .. وفى الطابق التاسع بين السماء والأرض .. وحتى لو صرخت لن يسمع صراخها إنسان ..
بعد تفكير طويل استقر رأيها على أن تبقى كما هى .. وتدير أمر معاشها على وجه آخر ..
ولكن فى الصباح التالى أخذت تقول لنفسها إن ثلاثين جنيها فى الشهر ليست بالشىء القليل بالنسبة لامرأة مثلها ليس عندها شهادات ولا دراسات ..
إن المبلغ يساوى معاش امرأة أرملة موظف كبير فلماذا ترفض هذا بحماقة ..؟
غيرت ملابسها وتأنقت وازينت وخرجت لتركب المترو وهى تشعر بنشاط من فتح أمامه باب جديد من أبواب الأمل ..
***
ركبت المصعد وحدها .. شعرت بالاطمئنان .. وفتح هو الباب .. وكان يرتدى بدلة كاملة .. وحيته ودخلت مباشرة إلى المطبخ تعد له الافطار ..
وهيأت له مائدة طيبة بعد أن وجدت كل الحاجات فى المطبخ .. البيض .. والمربى .. والزبد واللبن ..
لم يمد يده إلى الطعام إلا بعد أن أكلت معه وشاركته فى كل الأطباق .. وشعرت براحة وأحست بعينيها تخضلان بالدمع ولكنها حبست عبراتها ..
وفى الساعة العاشرة صباحا تركها فى البيت ونزل إلى الشارع .. وكانت تتصور أنه ذاهب لعمله .. ولكنها علمت أنه على المعاش منذ سنتين ..
ورجع إلى البيت فى ساعة الغداء .. وتغدت معه .. واستأذن ليستريح فى غرفته .. وقال لها :
ـ فى استطاعتك أن تستريحى فى أية غرفة تختارينها للساعة الخامسة ولا يزعجك أحد .. فأنا قليل الزوار ..
واستراحت فعلا على كنبة فى غرفة الطعام أعدتها لنفسها بعناية ..
ولكنها لم تنم ظلت متيقظة .. حتى أحست بأنه ينهض فأعدت له القهوة ..
وجلس معها قليلا .. ثم حياها وخرج إلى المقهى الذى اعتاد أن يلاقى فيه أصحابه .. وعاد فى الساعة الثامنة للعشاء ..
ولاحظت فى اليوم الأول أنه منظم .. وكل الأشياء تأتى إلى شقته .. اللبن والخضر .. واللحوم .. أما الفاكهة فينقيها بنفسه ويحملها معه .. كما يحمل كل المعلبات التى توضع فى الثلاجة ..
وفى الساعة التاسعة ليلا .. خرجت " ناهد " إلى بيتها ..
ومر اليوم الأول فى هدوء وراحة ..
وكذلك مر الأسبوع ..
ولاحظ " فهمى " أن " ناهد " نشطة بطبعها ومنظمة ولها طريقة فريدة فى معاملة الناس حتى أحبها كل من يأتى له باللبن والخبز والخضر ..
وكان يسمع حوارهم معها على الباب .. وسرورهم عندما تطلب شيئا اضافيا ..
ـ حاضر .. يا ست .. حالا ..
وبدت الألفة واضحة بينها وبينهم .. وكانوا يعرفون أنها تكون موجودة بعد الساعة الثامنة صباحا .. فأصبحوا يأتون بعد هذه الساعة .. لتأخذ هى منهم الأشياء بيدها الرخصة .. ويسمعون كلمة الشكر العذبة تخرج من فمها .. فى نغمة موسيقية جميلة ..
بعد شهرين اثنين .. كان " فهمى " ينظر إليها بحنان .. يخاف أن تتركه ..
شعر بألم موجع لمجرد التفكير فى ذلك ..!
ـ أنها تعنى ببيته وثيابه وطعامه عناية ليس بعدها لمستزيد .. فما الذى سيحدث لو ملت كما تمل النساء .. ملت عشرته وخرجت ولم ترجع .. أن هذا كثير الحدوث وعلى الأخص فى هذه الأيام .. حيث الأعصاب تالفة من القلق .. والمغريات المادية كثيرة وفى متناول اليد ..
ورغم هذا القلق .. ورغم الخوف من مجرد التفكير فى أنها ستذهب ..
ولكن الأيام كانت تنسج حولهما ألفة وعواطف تفصحان عن مشاعر متجانسة ..
كان يشعر بالشوق إذا غابت عن البيت فى يوم الجمعة .. وهو اليوم الذى اختارته لراحتها .. كان يشعر بالشوق والفراغ .. وأن حيطان البيت تصرخ وتناديها ..
كان هذا اليوم يمر كئيبا وثقيلا عليه .. فيعمد فيه إلى النوم وأن لم يكن فى حاجة إليه ..
فى صباح يوم من أيام السبت دق جرس التليفون وكان هو فى الحمام .. وكانت هى فى المطبخ .. وسمع الجرس ولم تسمعه .. فخرج من الحمام بملابسه الداخلية وخرجت هى من المطبخ فرأته على هذه الحالة .. فتغير لونها وقالت بجفاء :
ـ أظن لا يصح أن تخرج من الحمام بهذه الحالة .. وأنت تعرف أن هناك سيدة غريبة فى البيت ..
ـ آسف ياهانم .. لم أكن أقدر خروجك من المطبخ .. وأنا اعتبرك أختا ..
ـ وهل تظهر على أختك بهذه الملابس ..؟
ـ أنا آسف يا ستى .. آسف ..
ـ خلاص أنا ماشية ..
ـ يا ستى حرام .. انها غلطة بسيطة .. جاءت عفوا .. والناس بتمشى بالفانيلا والسروال فى الشارع ..
ـ الناس .. ولكنك رجل مهذب .. والمسألة تختلف ..
ولم تزد على ذلك .. ولاحظت ما هو عليه من عذاب بسبب فعلته التى جاءت من غير قصد .. حركة عفوية جاءت دون تقدير للعواقب ..
وعندما همت بوضع حاجاتها فى حقيبتها .. أخذ يسترضيها وهو يكاد يبكى .. فأشفقت عليه وسامحته ..
وقبل هذه الحادثة التى جاءت عفوا .. كان حذرا معها إلى أقصى مدى .. ففى الساعة التى تسترخى فيها فى حجرة المائدة .. كان يظل محبوسا فى غرفته إلى أن يحس بأنها نهضت وكذلك عندما تغير ثوبها برداء البيت .. وعندما تكون فى الحمام .. كان حذرا معها ويشعر بوجع أعصابه وطنين أذنيه وهو يحبس رغباته فى التطلع .. يحبس النداء الغريزى بمعايير السلوك ..
وفى فترة الاسترخاء والتى تقضيها فى الحجرة التى خصصتها لراحتها .. كانت تقارن بينه وبين المرحوم زوجها ..
زوجها كان يحلق ذقنه بالماء البارد .. وهذا يستعمل الماء الساخن .. وزوجها كان يفطر بأى شىء بيضة واحدة .. قطعة جبن .. ويخرج سريعا إلى عمله وهذا يأكل ببطء ويظل ساعات يقرأ صحيفة الصباح التى كان يطويها زوجها فى خمس دقائق .. وزوجها نحيف .. أعصابه مرهفة .. وهذا ممتلىء الجسم ضاحك لا يعبأ بشىء فى الوجود ..
ولكن من هذه المقارنة بين صفات وصفات .. لطيف المعشر .. وقد أنقذها من ارتباك مالى كان سيقع حتما .. فكيف تدفع أجرة بيتها وتبقى التليفون وتلبس وتعيش بايرادها من زوجها الذى لا يتجاوز سبعة عشر جنيها فى الشهر ..
***
ومرت الأيام .. وهى تنسج حولهما خيوطا .. وتقربهما من بعض أكثر وأكثر ..
وذات يوم سألها وهى مروحة :
ـ كم تدفعين ايجار الشقة ..؟
ـ عشرة جنيهات ..
لم لا تؤجرينها مفروشة .. وتستفيدين من هذا المبلغ ..؟
ـ وأين أعيش ..؟
ـ يا ستى هذا بيتك .. وتستريحين من المشوار كل يوم ..
وظلت صامتة ..
فسألها :
ـ ألا تطمئنين إلىّ بعد هذه العشرة الطويلة ..؟
ـ اطمئن .. ولكن لم أنم قط خارج بيتى ..
ـ لقد كنت قبل بيتك فى بيت والدك .. والمسألة عادة لا أكثر .. جربى أن تنامى هنا ليلة واحدة ..
وحدقت فيه بقوة تتفرس فى ملامحه ..
***
وفى اليوم التالى ظلت مترددة .. ثم أغلقت باب وشبابيك شقتها جيدا وهى خارجة فى الصباح ..
وفى ساعة انصرافها من بيت " فهمى " لم تنصرف .. وسره هذا .. وكان الجو صيفا .. ولا يحتاج لكثرة أغطية فهيأت لنفسها سريرا مريحا فى غرفة الطعام .. ولكنه لم يرض بهذا ففى الصباح التالى اشترى لها سريرا جديدا ودولابا من السوق واختار لها غرفة الطعام لتصبح غرفتها .. ونقل مائدة الطعام إلى الصالة ..
وأسعدتها هذه الحركة .. وأصبحت تشعر بأن البيت بيتها .. وأجرت شقتها التى فى منشية البكرى مفروشة ..
***
فى صباح يوم .. شعرت بالرغبة فى الاستحمام .. ولكن كيف تستحم وهو موجود .. وانتظرت إلى أن خرج ودخلت الحمام .. وأشعلت السخان .. وخلعت ملابسها ووقفت عارية .. لأول مرة تتعرى فى بيت غير بيتها .. شعرت برجفة .. ربما يرجع لأنه نسى شيئا .. ويجدها فى الحمام .. وكيف تخرج عليه بشعر مبلل ووجنات ندية .. وقميص تبدو فيه نصف عارية ..
***
كانت فى بيتها تبقى فى الحمام طويلا .. وتستمتع وهى مسترخية فى البانيو بالماء الساخن يغمر جسمها .. وتشعر بكل مسام جسمها تتفتح وتنتعش .. كانت تشعر بالراحة .. وهدوء الأعصاب .. بعد كل حمام طويل .. ولكنها الآن وهنا لا تستطيع أن تفعل ماكانت تفعله هناك ..
استقبلت الماء الحار ودلكت جسمها سريعا .. ثم جففته وأخذت تلبس ملابسها على عجل .. كانت تتوقع قدومه .. وهكذا صور لها خوفها الشديد .. كانت أشبه بالعذراء التى تتقوقع حول نفسها وتتقوقع ولا تظهر فتنتها لأى رجل ..
وفى مساء يوم بعد العشاء .. وكان الجو شتويا ممطرا .. لم يخرج فهمى إلى المقهى .. وأحس برغبته فى أن يقول شيئا .. ولكنه تردد .. وأخيرا قال لها :
ـ فكرت يا ناهد بعد هذه العشرة الطويلة فى شىء .. وأرجو أن توافقينى عليه ..
ـ ما هو ..؟
ـ ان نتزوج ..
ـ بعد المرحوم .. أبدا ..
كان يتوقع ابتهاجها وفوجىء برفضها ..
وقال لها بهدوء :
ـ وأنا أيضا كانت لى مرحومة .. ولكن الأيام كفيلة بالنسيان .. وتقبل الحياة الجديدة ..
ـ أبدا .. هذا لن أنساه ..
فتألم .. ولكنه كتم عواطفه .. وقال لنفسه سأعاود طرق الباب ولكن بلين .. وظل كلما وجد الجو مناسبا للكلام يحدثها فى الأمر .. وكانت هى تفكر مثل تفكيره ولكنها تكتم عواطفها وتقول لنفسها ماذا يضيرنى لو تزوجته .. وأصبحت فى حماية رجل طيب .. يحمينى من ألسنة السوء .. وما أقرأه فى عيون الجيران .. وهل هناك من يتصور أن هناك علاقة شريفة بين رجل وامرأة ينامان فى بيت واحد وتحت سقف واحد ..
ماذا يضيرنى لو وافقت على زواجه .. لن أخسر شيئا اطلاقا ..
وهيأت نفسها للموافقة ..
فلما جرى الأمر على لسانه ..
قالت وهى تنكس رأسها إلى الأرض :
ـ موافقة على الزواج .. بشرط أن تكون العلاقة بيننا علاقة انسانية ..
فنظر إليها مبهوتا .. ولكن كتم دهشته فى دهاء .. وقال :
ـ موافق يا ستى موافق ..
وعجبت لموافقته السريعة .. وخشيت ألا يكون قد فهم قصدها .. وأرادت أن توضح له الأمر بدقة .. ولكن خجلت من النطق بها باللغة العربية .. فقالت بالفرنسية ما معناه :
ـ يعنى أنه لا يكون بيننا أى اتصال جسدى ..
ـ يا ستى موافق .. وهل الأزواج فى هذه الأيام يتصلون لقد دمرتهم الحياة ..
وضحكا .. وقالت له :
ـ ولكنك أنت لم تدمر ..
ـ سأدمر نفسى لأجلك ..
كانت روحه المرحة تربطها به أكثر وأكثر من أى شىء آخر .. أكثر من طيبته وأمانته ..
لقد مرت عليها أيام حزن سوداء .. وتريد الآن أن ترى الأيام الضاحكة فى براءة وطهارة .. لن تخون زوجها فى قبره قط لن تخونه أبدا ..
***
فى عصر اليوم التالى تم الزواج بشاهد من أصدقائه وشاهد من أهلها .. وكان يود أن يقضى معها أسبوعا فى الإسكندرية ولكنها رفضت .. وقالت :
إن الزحام هناك يخنقنى .. لقد ماتت الإسكندرية فى نظرى منذ عشر سنوات ماتت تماما.. وليس فيها أى بهجة لمصطاف ..
ـ نذهب إلى مرسى مطروح ..
ـ أبدا .. يكفى أن نذهب الليلة إلى السينما ..
وذهبا إلى السينما .. وعادا فى منتصف الليل .. ونام كل منهما فى غرفته ولم يغير الزواج شيئا فى نظام البيت .. ولكن تحركات " فهمى " تغيرت فقد اكتفى بجولة فى الصباح لمقابلة أصدقائه .. وفى المساء كان يبقى مع " ناهد " فى الشقة .. أو يخرجان معا إلى السينما أو فى جولة قصيرة للسوق ..
وكان هو الذى يحصل لها ايجار شقتها المفروشة فى منشية البكرى ..
وفتح لها بالمبلغ المتجمع حسابا فى البنك بعد أن أضاف إليه من عنده .. وقد أثلج قلبها ذلك لأنه فاجأها به ..
وضمن أنه فعل هذا ليفتح قلبها إلى تغيير علاقتها الزوجية معه ..
ولكنها وجدته لا يطلب منها شيئا لا تصريحا ولا تلميحا .. ويحييها فى الصباح منشرح الصدر عندما يراها خارجة من غرفتها .. ولأنه يستيقظ قبلها يكون قد أعد الشاى .. وتخجل هى عندما تراه يسبقها فى البكور ويفعل هذا ..
ولأنها اعتادت أن تستحم يوميا منذ حياتها مع المرحوم .. لم تستطع أن تقلع عن هذه العادة أو تخفف منها ..
ولكن كانت تخرج أمام " فهمى " من الحمام بكامل ملابسها وقد غطت حتى رأسها ..
كانت تعرف أن الخروج من الحمام بالشعر المبلل والخدود الوردية .. والأفخاذ العارية .. يثير الرجل .. وهى لا تحب أن تثيره .. وتكون سببا فى أمر يقطع صلتها به ..
لقد اتفقا وسيظل الاتفاق سرمديا ..
فى صباح يوم .. وهما يتناولان الافطار .. قال لها بصوت خافت :
ـ ألا تخافين من النوم وحدك ..؟ بعد الذى حدث لمدام رأفت .. هل سمعت صراخها الليلة ..؟
ـ سمعت .. ولكن اللصوص هربوا بعد صراخها ..
ـ ويوجد لصوص آخرون لا يهربون .. وقد يكون الصراخ سببا فى القتل .. أن اللص مجنون .. وهو يبحث دائما فى غرفة الزوجة عن الحلى والجواهر ..
فأرجوك لا تسببى لى القلق .. أنا أخاف عليك وأصبحت مسئولا عنك كزوج ..
ـ ماذا تريد ..؟
ـ تنامين فى غرفتى ..
ـ سأنقل السرير ..
ونقلته فعلا .. وأصبحت تنام فى الجانب الشرقى .. وهو فى الجانب الغربى ..
وكانت تدخل الفراش بقميص طويل .. وتغطى جسمها بملاءة حتى فى الليالى الحارة ..
وزاده هذا توترا .. ولكنه كان يملك القدرة على ضبط أعصابه .. وكبح رغباته ..
منذ انتقلت إلى غرفته أصبحت تنام بعين وتفتح عينا .. وتستيقظ قبله وتذهب إلى الحمام قبله .. وتعد الشاى والافطار ..
***
فى بكور الصباح .. كان فهمى جالسا فى الصالة يقرأ جريدة الصباح .. وتنبه على صراخها فى المطبخ فأسرع إلى هناك فوجد النار مشتعلة فى فوطة كانت ترفع بها حلة اللبن .. ولاضطرابها عندما ألقت بالفوطة إلى الأرض .. كادت النار أن تمسك بطرف ثوبها الطويل .. فخرق فهمى ثوبها سريعا .. وحملها وهى مغمى عليها بقميص نومها إلى الفراش ..
وقالت له بعد أن أفاقت ووجدت نفسها فى سريره :
ـ هذه عملية اغتصاب .. ولن تتكرر ..
فلم يرد وظل صامتا .. ولكنه كان مبتهجا للغاية .. لأن القوقعة أخذت تتفتح ..
==========================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 37 الصادر فى شهر اكتوبر 1971 وأعيد نشرها فى كتاب " الباب الآخر " سنة 1977
=========================







اسم القصة                       رقم الصفحة
الخطوط الثلاثة  ....................  2                         
الشبابيك    ....................     12
النداء الصامت   ..........          22
لم يفعل شيئا  ................. ..   27
الجبار   ..........   .....  .       32
الصمت ............. .....          38
حدث فى الظلام   ..........         57
انفجار     ..................        62
الرنين   ............   ..           67
الباب الآخر  ........ .............  76
المسافرة   ......................   82
الهوان    ...............           90
الصقر   .......................... 101
الجائزة   ........................  108
الرسام الجوال .........            124
السباك  ..............             130
علاقة انسانية  .........           133






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق